بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
وَعَنْهَا؛ أَيْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَتِي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا؟ قَالَ: لا» بِضَمِّ الْحَاءِ, تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْكُحْلِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَا تُكَحِّلُهَا لِلتَّدَاوِي فَمَنْ قَالَ إنَّهُ تُمْنَعُ الْحَادَّةُ مِنْ الْكُحْلِ بِالْإِثْمِدِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الزِّينَةُ، فَأَمَّا الْكُحْلُ التُّوتِيَاءُ وَالْعَنْزَرُوتُ وَنَحْوُهُمَا، فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا زِينَةَ فِيهِ بَلْ يُصِحُّ الْعَيْنَ يَرُدُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهَا سَأَلَتْ عَنْ كُحْلٍ تُدَاوِي بِهِ الْعَيْنَ لَا عَنْ كُحْلِ الْإِثْمِدِ بِخُصُوصِهِ إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّ الْكُحْلَ إذَا أُطْلِقَ لَا يَتَبَادَرُ إلَّا إلَيْهِ.
(الشرح)
ظاهر الحديث المطلق من الكحل؛ لا, فالأقرب والله أعلم كل ما يسمى كحل.
(المتن)
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «طَلُقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُذَّ» بِالْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الْقَطْعُ الْمُسْتَأْصِلُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ, وَفِي النِّهَايَةِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ صِرَامُ النَّخْلِ، وَهُوَ قَطْعُ ثَمَرِهَا «فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَلْ جُذِّي نَخْلَك، فَإِنَّك عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي بَابِ جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ كَمَا بَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِزِيَادَةٍ طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلَاثًا.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ مِنْ مَنْزِلِهَا فِي النَّهَارِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِلْحَاجَةِ وَالْعُذْرِ لَيْلًا وَنَهَارًا كَالْخَوْفِ وَخَشْيَةِ انْهِدَامِ الْمَنْزِلِ وَيَجُوزُ إخْرَاجُهَا إذَا تَأَذَّتْ بِالْجِيرَانِ، أَوْ تَأَذَّوْا بِهَا أَذًى شَدِيدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}[الطلاق/1].
وَفَسَّرَ الْفَاحِشَةَ بِالْبَذَاءَةِ عَلَى الْأَحْمَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إلَى جَوَازِ خُرُوجِهَا نَهَارًا مُطْلَقًا دُونَ اللَّيْلِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَقِيَاسًا عَلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عُلِّلَ فِيهِ جَوَازُ الْخُرُوجِ بِرَجَاءِ أَنْ تَصَّدَّقَ، أَوْ تَفْعَلَ مَعْرُوفًا، وَهَذَا عُذْرٌ فِي الْخُرُوجِ. وَأَمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّمَا رَجَاءُ فِعْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ يُرْجَى فِي كُلِّ خُرُوجٍ فِي الْغَالِبِ, وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ مِنْ التَّمْرِ عِنْدَ جِدَادِهِ وَاسْتِحْبَابِ التَّعْرِيضِ لِصَاحِبِهِ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَالتَّذْكِيرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْبِرِّ.
(وَعَنْ فُرَيْعَةَ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ شَهِدَتْ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَلَهَا رِوَايَةٌ بِنْتِ مَالِكٍ «أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ قَالَتْ فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ، وَلَا نَفَقَةً، فَقَالَ نَعَمْ فَلَمَّا كُنْت فِي الْحُجْرَةِ نَادَانِي، فَقَالَ اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ قَالَتْ فَاعْتَدَدْت فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا قَالَتْ فَقَضَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عُثْمَانُ».
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالذُّهْلِيُّ بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ, وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ أَخْرَجُوهُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عَجْرَةَ عَنْ الْفُرَيْعَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَأَعَلَّهُ عَبْدُ الْحَقِّ تَبَعًا لِابْنِ حَزْمٍ بِجَهَالَةِ حَالِ زَيْنَبَ وَبِأَنَّ سَعْدَ بْنَ إِسْحَاقَ غَيْرُ مَشْهُورِ الْعَدَالَةِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ زَيْنَبَ هَذِهِ مِنْ التَّابِعِيَّاتِ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي سَعِيدٍ رَوَى عَنْهَا سَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَذَكَرَهَا ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ كَعْبِ بْنُ عَجْرَةَ فَهِيَ امْرَأَةٌ تَابِعِيَّةٌ تَحْتَ صَحَابِيٍّ ثُمَّ رَوَى عَنْهَا الثِّقَاتُ وَلَمْ يُطْعَنْ فِيهَا بِحَرْفٍ وَسَعْدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَرَوَى عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي بَيْتِهَا الَّذِي نَوَتْ فِيهِ الْعِدَّةَ، وَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَفِي ذَلِكَ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ وَآثَارٍ عَنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَالَ بِهَذَا أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَالدَّلِيلُ حَدِيثُ الْفُرَيْعَةِ وَلَمْ يَطْعَنْ فِيهِ أَحَدٌ، وَلَا فِي رُوَاتِهِ إلَّا مَا عَرَفْت، وَقَدْ دُفِعَ.
وَيَجِبُ لَهَا السُّكْنَى فِي مَالِ زَوْجِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ}[البقرة/240] وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ نُسِخَ فِيهَا اسْتِمْرَارُ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ حَوْلًا فَالسُّكْنَى بَاقٍ حُكْمُهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ، وَقَدْ قَرَّرَ الشَّافِعِيُّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ بِمَا فِيهِ تَطْوِيلٌ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّهُ لَا سُكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا, رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُفْتِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِالْخُرُوجِ فِي عِدَّتِهَا.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلَمْ يَقُلْ تَعْتَدُّ فِي بَيْتِهَا فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ, وَمِثْلُهُ أَخْرَجَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمِثْلُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْهَادِي، فَقَالَ لَا تَجِبُ لَهَا السُّكْنَى وَيَجِبُ أَنْ لَا تَبِيتَ إلَّا فِي مَنْزِلِهَا. وَدَلِيلُهُمْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ السُّكْنَى.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ حَدِيثُ الْفُرَيْعَةِ وَبِالْكِتَابِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنَّ حَدِيثَ الْفُرَيْعَةِ صَرَّحَتْ فِيهِ أَنَّ الْبَيْتَ لَيْسَ لِزَوْجِهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي مَاتَ وَهِيَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ، أَوْ لَا.
(الشرح)
هو قَالَ: «امكثي في بيتك», استأذنت أن تخرج فنادها قَالَ: «امكثي في بيتك».
(المتن)
وَقَدْ أَطَالَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَفَرَّعُ مِنْ إثْبَاتِ السُّكْنَى وَهَلْ تَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ مِنْ رَأْسِ التَّرِكَةِ، أَوْ لَا؟ وَهَلْ تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهَا لِلضَّرُورَةِ، أَوْ لَا؟ وَذَكَرَ خِلَافًا كَثِيرًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلتَّطْوِيلِ بِنَقْلِهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ إذْ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْفُرُوعِ دَلِيلٌ نَاهِضٌ؛ والله تعالى أعلم.
(الشرح)
هَذِه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم هل لها نفقة أو كسوة المتوفى عنها؟ والأقرب: أن لها السكنى والنفقة لِأَنّ الحديث صريح, قَالَ: «اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» وإذا سكنت فلابد لها من نفقة, ما يقال: هي تنفق عَلَى نفسها.