بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا وَأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ» مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ, «عَلَيَّ» أَيْ يَهْجُمُ عَلَيَّ أَحَدٌ بِغَيْرِ شُعُورٍ, «فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ» تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ فَاطِمَةَ وَحُكْمِ مَا أَفَادَهُ، وَلَا وَجْهَ لِإِعَادَةِ الْمُصَنِّفِ لَهُ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالِانْقِطَاعِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ، فَقَالَ لَا يَصِحُّ، وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ رَأَيْت أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ يَعْجَبُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ هَذَا, ثُمَّ قَالَ أَيُّ سُنَّةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا، وَقَالَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا إنَّمَا هِيَ عِدَّةُ الْحُرَّةِ عَنْ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ أَمَةٌ خَرَجَتْ عَنْ الرِّقِّ إلَى الْحُرِّيَّةِ، وَقَالَ الْمُنْذِرُ فِي إسْنَادِ حَدِيثِ عَمْرٍو مَطْرُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو رَجَاءٍ الْوَرَّاقُ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَهُ عِلَّةٌ ثَالِثَةٌ هِيَ الِاضْطِرَابُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَقَدْ رَوَى خِلَاسٌ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَ رِوَايَةِ قَبِيصَةَ عَنْ عَمْرٍو وَلَكِنَّ خِلَاسَ بْنَ عَمْرٍو قَدْ تَكَلَّمَ فِي حَدِيثِهِ كَانَ ابْنُ مَعِينٍ لَا يَعْبَأُ بِحَدِيثِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ يُقَالُ إنَّهَا كِتَابٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةُ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ ذَهَبَ إلَى مَا أَفَادَهُ حَدِيثُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ وَالنَّاصِرُ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَآخَرُونَ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَلَا مُطَلَّقَةً فَلَيْسَ إلَّا اسْتِبْرَاءُ رَحِمِهَا وَذَلِكَ بِحَيْضَةٍ تَشْبِيهًا بِالْأَمَةِ يَمُوتُ عَنْهَا سَيِّدُهَا وَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَلَهَا السُّكْنَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ حُرَّةٌ وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَلَا بِأَمَةٍ فَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْأَمَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَبْرَأَ رَحِمُهَا بِعِدَّةِ الْحَرَائِرِ، قُلْنَا إذَا كَانَ الْمُرَادُ الِاسْتِبْرَاءُ كَفَتْ حَيْضَةٌ إذْ بِهَا يَتَحَقَّقُ براءة الرحم.
وَقَالَ قَوْمٌ: عِدَّتُهَا نِصْفُ عِدَّةِ الْحُرَّةِ تَشْبِيهًا لَهَا بِالْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ وَسَيَأْتِي، وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ عِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ تَشْبِيهًا بِعِدَّةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءَ بِحَيْضَةٍ وَعَلَى الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ وَالْجَامِعُ زَوَالُ الْمِلْكِ.
قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُجْتَهِدِ سَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا أَيْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ، فَأَمَّا مَنْ شَبَّهَهَا بِالزَّوْجَةِ الْأَمَةِ فَضَعِيفٌ وَأَضْعَفُ مِنْهُ مَنْ شَبَّهَهَا بِعِدَّةِ الْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ انْتَهَى.
قُلْت: وَقَدْ عَرَفْت مَا فِي حَدِيثِ عَمْرٍو مِنْ الْمَقَالِ فَالْأَقْرَبُ قَوْلُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْحُكْمِ وَعَدَمُ حَبْسِهَا عَنْ الْأَزْوَاجِ، وَاسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «إنَّمَا الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ» أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي قِصَّةٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالْقِصَّةُ هِيَ مَا أَفَادَهُ سِيَاقُ الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ، وَقَدْ جَادَلَهَا فِي ذَلِكَ نَاسٌ، وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ صَدَقْتُمْ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الْأَقْرَاءُ؟ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ مَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِنَا إلَّا وَهُوَ يَقُولُ هَذَا, يُرِيدُ الَّذِي قَالَتْ عَائِشَةُ انْتَهَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخَلَفُهَا مَعَ الِاتِّفَاقِ أَنَّ الْقُرْءَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة/228] أَحَدُهُمَا لَا مَجْمُوعُهُمَا إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْأَحَدِ الْمُرَادُ مِنْهُمَا فِيهَا فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أَدْرَكْت عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْأَطْهَارُ.
(الشرح)
في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة/228].
(المتن)
مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ يَدُلُّ لِذَلِكَ الْكِتَابُ وَاللِّسَانُ أَيْ اللُّغَةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}[الطلاق/1] ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «ثُمَّ تَطْهُرُ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ».
وَفِي حَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ يُمْسِكْ» وَتَلَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ}[الطلاق/1] «لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ، أَوْ فِي قَبْلِ عِدَّتِهِنَّ» قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَا شَكَكْت فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعِدَّةَ الطُّهْرُ دُونَ الْحَيْضِ وَقَرَأَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا وَحِينَئِذٍ يَسْتَقْبِلُ عِدَّتَهَا فَلَوْ طَلُقَتْ حَائِضًا لَمْ تَكُنْ مُسْتَقْبِلَةَ عِدَّتِهَا إلَّا بَعْدَ الْحَيْضِ.
وَأَمَّا اللِّسَانُ، فَهُوَ أَنَّ الْقُرْءَ اسْمٌ مَعْنَاهُ الْحَبْسُ تَقُولُ الْعَرَبُ هُوَ يُقْرِئُ الْمَاءَ فِي حَوْضِهِ وَفِي سِقَائِهِ وَتَقُولُ يُقْرِئُ الطَّعَامَ فِي شَدْقِهِ يَعْنِي يَحْبِسُ الطَّعَامَ فِيهِ وَتَقُولُ إذَا حَبَسَ الشَّيْءَ أَقْرَأَهُ أَيْ أَخْبَأَهُ، وَقَالَ الْأَعْشَى:
أَفِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ *** تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
مُورِثَةٍ عِزًّا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ *** لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
فَالْقُرْءُ فِي الْبَيْتِ بِمَعْنَى الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ أَطْهَارَهُنَّ فِي غُزَاتِهِ وَآثَرَهَا عَلَيْهِنَّ أَيْ آثَرَ الْغَزْوَ عَلَى الْقُعُودِ فَضَاعَتْ قُرُوءُ نِسَائِهِ بِلَا جِمَاعٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى أَنَّهَا الْحَيْضُ وَبِهِ قَالَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَحْمَدُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كُنْت أَقُولُ إنَّهَا الْأَطْهَارُ، وَأَنَا الْيَوْمُ أَذْهَبُ إلَى أَنَّهَا الْحَيْضُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ الْقُرْءُ فِي لِسَانِ الشَّارِعِ إلَّا فِي الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}[البقرة/ 228]، وَهَذَا هُوَ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ فِي الرَّحِمِ هُوَ أَحَدُهُمَا وَبِهَذَا فَسَّرَهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الطُّهْرُ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» وَسَيَأْتِي.
وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّ الْآيَةَ أَفَادَتْ تَحْرِيمَ كِتْمَانِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ، وَهُوَ الْحَيْضُ، أَوْ الْحَبَلُ، أَوْ كِلَاهُمَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَيْضَ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ تَحْرِيمَ كِتْمَانِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْحَيْضُ، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ الْأَطْهَارُ، فَإِنَّهَا تَنْقَضِي بِالطَّعْنِ فِي الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ، أَوْ الثَّالِثَةِ فَكِتْمَانُ الْحَيْضِ يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ مَعْرِفَةِ انْقِضَاءِ الطُّهْرِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ الْعِدَّةُ فَتَكُونُ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ أَظْهَرَ وَعَنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ لَفْظَهُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِتَنْتَظِرَ عِدَادَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنْ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا ثُمَّ لِتَدَعَ الصَّلَاةَ ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ وَلْتُصَلِّ»، وَهَذِهِ رِوَايَةُ نَافِعٍ، وَنَافِعٌ أَحْفَظُ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ الرَّاوِي لِذَلِكَ اللَّفْظِ، هَذَا حَاصِلُ مَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنْ رَدِّهِ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.
وَعَنْ الْحَدِيثِ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَرَدَ بِحَيْضَةٍ، وَهُوَ النَّصُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْعِدَّةِ أَنَّ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ قَضَاءً لِحَقِّ الزَّوْجِ فَاخْتَصَّتْ بِزَمَانِ حَقِّهِ، وَهُوَ الطُّهْرُ وَبِأَنَّهَا تَتَكَرَّرُ فَيُعْلَمُ فِيهَا الْبَرَاءَةُ بِوَاسِطَةِ الْحَيْضِ بِخِلَافِ الِاسْتِبْرَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ أَكْثَرَ الِاسْتِدْلَالَ الْمُتَنَازِعُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ كُلٌّ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَغَايَةُ مَا أَفَادَتْ الْأَدِلَّةُ أَنَّهُ أُطْلِقَ الْقُرْءُ عَلَى الْحَيْضِ وَأُطْلِقَ عَلَى الطُّهْرِ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ مُحْتَمَلٌ كَمَا عَرَفْت، فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا فَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ وَلَكِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ مَجَازٌ فِي الطُّهْرِ، أَوْ الْعَكْسُ.
قَالَ الْأَكْثَرُونَ بِالْأَوَّلِ، وَقَالَ الْأَقَلُّونَ بِالثَّانِي فَالْأَوَّلُونَ يَحْمِلُونَهُ فِي الْآيَةِ عَلَى الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ وَالْأَقَلُّونَ عَلَى الطُّهْرِ، وَلَا يَنْهَضُ دَلِيلٌ عَلَى تَعَيُّنِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ غَايَةَ الْمَوْجُودِ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِعْمَالُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ, وَلِلْمَجَازِ عَلَامَاتٌ مِنْ التَّبَادُرِ.
(الشرح)
التبادر: لعله من التبادر للذهن يَعْنِي.
(المتن)
وَصِحَّةِ النَّفْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وغيره، وَلَا ظُهُورَ لَهَا هُنَا، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّهُ الْحَيْضُ وَاسْتَوْفَى الْمَقَالَ.
قَالَ السَّيِّدُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَقْهَرْنَا دَلِيلُهُ إلَى تَعْيِينِ مَا قَالَهُ, وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْض.
(الشرح)
عَلَى كل حال الخلاف شديد كما سمعتم والأقرب أن المراد بها الحيض.
(المتن)
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ مَرْفُوعًا وَضَعَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَقُرْؤُهَا حَيْضَتَانِ»، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ لَا يُعْرَفُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَخَالَفُوهُ فَاتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ لِمَا عَرَفْته، فَلَا يَتِمُّ بِهِ الِاسْتِدْلَال لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ هُنَا عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ تُخَالِفُ الْحُرَّةَ فَتَبِينُ عَلَى الزَّوْجِ بِطَلْقَتَيْنِ وَتَكُونُ عِدَّتُهَا قُرْأَيْنِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أَقْوَاهَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ مِنْ أَنَّ طَلَاقَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ سَوَاءٌ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَأَدِلَّةُ التَّفْرِقَةِ كُلُّهَا غَيْرُ نَاهِضَةٍ، وَقَدْ سَرَدَهَا فِي الشَّرْحِ، فَلَا حَاجَةَ بِالْإِطَالَةِ بِذِكْرِهَا مَعَ عَدَمِ نُهُوضِ دَلِيلِ قَوْلٍ مِنْهَا عِنْدَنَا.
وَأَمَّا عِدَّتُهَا فَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِيهَا فَذَهَبَتْ الظَّاهِرِيَّةُ إلَى أَنَّهَا كَعِدَّةِ الْحُرَّةِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَنَا الْعِدَدَ فِي الْكِتَابِ، فَقَالَ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}[البقرة/228].
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة/234].
وَقَالَ: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق/4]، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ أَبَاحَ لَنَا الْإِمَاءَ أَنَّ عَلَيْهِنَّ الْعِدَدَ الْمَذْكُورَاتِ وَمَا فَرَّقَ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ حُرَّةٍ، وَلَا أَمَةٍ فِي ذَلِكَ {وَمَا كَانَ رَبُّك نَسِيًّا}[مريم/64].
وَتُعُقِّبَ اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَاتِ بِأَنَّهَا كُلَّهَا فِي الزَّوْجَاتِ الْحَرَائِرِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}[البقرة/229] فِي حَقِّ الْحَرَائِرِ، فَإِنَّ افْتِدَاءَ الْأَمَةِ إلَى سَيِّدِهَا لَا إلَيْهَا وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}[البقرة/230] فَجَعَلَ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ.
وَفِي الْأَمَةِ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِسَيِّدِهَا وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة/234] وَالْأَمَةُ لَا فِعْلَ لَهَا فِي نَفْسِهَا قُلْت لَكِنَّهَا إذَا لَمْ تَدْخُلْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَا تَثْبُتُ فِيهَا سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلَا إجْمَاعٌ، وَلَا قِيَاسٌ نَاهِضٌ هُنَا فَمَاذَا يَكُونُ حُكْمُهَا فِي عِدَّتِهَا فَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا زَوْجَةٌ شَرْعًا قَطْعًا، فَإِنَّ الشَّارِعَ قَسَمَ لَنَا مَنْ أُحِلَّ لَنَا وَطْؤُهَا إلَى زَوْجَةٍ، أَوْ مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِ: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}[المؤمنون/6].
وَهَذِهِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لَيْسَتْ مِلْكَ يَمِينٍ قَطْعًا فَهِيَ زَوْجَةٌ فَتَشْمَلُهَا الْآيَاتُ وَخُرُوجُهَا عَنْ حُكْمِ الْحَرَائِرِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الِافْتِدَاءِ وَالْعَقْدِ وَالْفِعْلِ بِالْمَعْرُوفِ فِي نَفْسِهَا لَا يُنَافِي دُخُولَهَا فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ أُخَرُ تَعَلَّقَ الْحَقُّ فِيهَا بِالسَّيِّدِ كَمَا يَتَعَلَّقُ فِي الْحُرَّةِ الصَّغِيرَةِ بِالْوَلِيِّ فَالرَّاجِحُ أَنَّهَا كَالْحُرَّةِ تَطْلِيقًا وَعِدَّةً.
(الشرح)
هذا ما رجحه الشارح, لَكِنْ الأصول والأدلة دلت عَلَى أن الإماء يتنصف في حقها, قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}[النساء/25], تنصف مثلًا الحد فكذلك العدة.