بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(الشرح)
فإن قيل: (...)؟.
أخوه من الأب والأم من النسب وهو رضع من امرأة غير أمه ولها بنت فهي أخته من الرضاع.
(المتن)
(وَعَنْهَا) أَيْ عَنْ عَائِشَةَ, (أَنَّ أَفْلَحَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَفَاءٍ آخِرُهُ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: مَوْلًى لِأُمِّ سَلَمَةَ (أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ) بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ وَعَيْنٍ وَسِينٍ مُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ: «جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْحِجَابِ قَالَتْ فَأَبَيْت أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْته بِاَلَّذِي صَنَعْته فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ، وَقَالَ إنَّهُ عَمُّك الْأَوَّلُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
اسْمُ أَبِي الْقُعَيْسِ وَائِلُ بْنُ أَفْلَحَ الْأَشْعَرِيُّ، وَقِيلَ اسْمُهُ الْجَعْدُ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ أَخُوهُ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَ أَبِيهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا أَعْلَمُ لِأَبِي الْقُعَيْسِ ذِكْرًا إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّضَاعِ فِي حَقِّ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ وَأَقَارِبِهِ كَالْمُرْضِعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ اللَّبَنِ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا كَالْجَدِّ لَمَّا كَانَ سَبَبَ وَلَدِ الْوَلَدِ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ وَلَدِ الْوَلَدِ لَهُ لِتَعَلُّقِهِ بِوَلَدِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحُكْمِ: اللِّقَاحُ وَاحِدٌ. أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
فَإِنَّ الْوَطْءَ يُدِرُّ اللَّبَنَ فَلِلرَّجُلِ مِنْهُ نَصِيبٌ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد زِيَادَةُ تَصْرِيحٍ حَيْثُ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ أَفْلَحُ فَاسْتَتَرْت مِنْهُ، فَقَالَ أَتَسْتَتِرِينَ مِنِّي، وَأَنَا عَمُّك قُلْت مِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي قُلْت إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ» الْحَدِيثَ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَعَائِشَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد وَأَتْبَاعُهُ، فَقَالُوا: لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ لِلرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ إنَّمَا هُوَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي اللَّبَنُ مِنْهَا قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}[النساء/23] وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا مَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْأُمَّهَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُنَّ لَيْسَ كَذَلِكَ ثُمَّ إنْ دَلَّ بِمَفْهُومِهِ فَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ مُطَّرِحٍ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ اسْتَدَلُّوا بِفَتْوَى جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَطَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْبَحْثَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَقَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالْوَاضِحُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
(وَعَنْهَا) أَيْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
يُقْرَأُ بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ تُرِيدُ أَنَّ النَّسْخَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ تَأَخَّرَ إنْزَالُهُ جِدًّا حَتَّى إنَّهُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَأُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَيَجْعَلُهَا قُرْآنًا مَتْلُوًّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ لِقُرْبِ عَهْدِهِ فَلَمَّا بَلَغَهُمْ النَّسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتْلَى، وَهَذَا مِنْ نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ النَّسْخِ، فَإِنَّهُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ مِثْلُ عَشْرُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ.
وَالثَّانِي: نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ كَخَمْسِ رَضَعَاتٍ وَكَالشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا.
وَالثَّالِثُ: نَسْخُ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، وَهُوَ كَثِيرٌ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}[البقرة/234] الْآيَةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى مَا أَفَادَهُ هُوَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْآحَادِ، وَلَا هُوَ حَدِيثٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْوِهِ حَدِيثًا مَرْدُودٌ بِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ قُرْآنِيَّتُهُ وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، فَقَدْ رَوَتْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَقَدْ عَمِلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ فَعَمِلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَعَمِلَ بِهِ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي "صِيَامِ الْكَفَّارَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ"، وَعَمِلَ مَالِكٌ فِي فَرْضِ الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}[النساء/12] مِنْ أُمٍّ, وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَالْعَمَلُ بِحَدِيثِ الْبَابِ هَذَا لَا عُذْرَ عَنْهُ وَلِذَا اخْتَرْنَا الْعَمَلَ بِهِ فِيمَا سَلَفَ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ, أَيْ قِيلَ: لَهُ تَزَوَّجْهَا «فَقَالَ إنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
اُخْتُلِفَ فِي اسْمِ ابْنَةِ حَمْزَةَ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ لَيْسَ فِيهَا مَا يُجْزَمُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ ابْنَةُ أَخِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ رَضَعَ مِنْ ثُوَيْبَةَ أَمَةِ أَبِي لَهَبٍ، وَقَدْ كَانَتْ أَرْضَعَتْ عَمَّهُ حَمْزَةَ وَأَحْكَامُ الرَّضَاعِ هِيَ حُرْمَةُ التَّنَاكُحِ وَجَوَازُ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ وَالْمُسَافَرَةِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ التَّوَارُثِ وَوُجُوبِ الْإِنْفَاقِ وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّسَبِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» يُرَادُ بِهِ تَشْبِيهُهُ بِهِ فِي التَّحْرِيمِ, ثُمَّ التَّحْرِيمُ وَنَحْوُهُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمُرْضِعِ، فَإِنَّ أَقَارِبَهُ أَقَارِبُ لِلرَّضِيعِ, وَأَمَّا أَقَارِبُ الرَّضِيعِ مَا عَدَا أَوْلَادَهُ، فَلَا عَلَاقَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرْضِعِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ لهم.