بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
حَقّ الْمَمْلُوكِ فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلْمَمْلُوكِ وَالْمَمْلُوكَةِ عَلَى السَّيِّدِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى مَا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ وَكِسْوَتِهِ وَظَاهِرُهُ مُطْلَقُ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَلَا يَجِبَانِ مِنْ عَيْنِ مَا يَأْكُلُهُ السَّيِّدُ وَيَلْبَسُهُ وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ بِالْأَمْرِ بِإِطْعَامِهِمْ مِمَّا يَطْعَمُ وَكِسْوَتِهِمْ مِمَّا يَلْبَسُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، وَلَوْلَا مَا قِيلَ: مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى هَذَا لَاحْتَمَلَ أَنَّ هَذَا يُقَيِّدُ مُطْلَقَ حَدِيثِ الْكِتَابِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُهُ السَّيِّدُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا يُطِيقُهُ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ أَيْضًا.
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ قَالَ أَنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمْت وَتَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَيْت» الْحَدِيثَ وَتَقَدَّمَ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ بِتَمَامِهِ وَنَسَبَهُ إلَى أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَأَنَّهُ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَجِّ بِطُولِهِ قَالَ فِي ذِكْرِ النِّسَاءِ: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِلزَّوْجَةِ كَمَا دَلَّتْ لَهُ الْآيَةُ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ.
وَقَوْلُهُ: بِالْمَعْرُوفِ إعْلَامٌ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا مَا تُعُورِفَ مِنْ إنْفَاقِ كُلٍّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا}[الطلاق/7].
ثُمَّ الْوَاجِبُ لَهَا طَعَامٌ مَصْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَفَقَةٌ، وَلَا تَجِبُ الْقِيمَةُ إلَّا بِرِضَا مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ.
(الشرح)
يَعْنِي: لا يعطيها دراهم إنما يعطيها طعام, يشتري خبز أو كذا, ما يعطيها دراهم يقول: اشتري إلا إذا اتفقا عَلَى ذلك, الأصل اللي يأتي بالنفقة هو يشتري, يشتري الطعام ويأتي بِهِ للبيت.
(المتن)
وَقَدْ طَوَّلَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ وَاخْتَارَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّهُ قَالَ مَا لَفْظُهُ: وَأَمَّا فَرْضُ الدَّرَاهِمِ، فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا التَّابِعِينَ، وَلَا تَابِعِيهِمْ، وَلَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا غَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَالرَّقِيقِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ فَرْضُ الدَّرَاهِمِ بَلْ الْمَعْرُوفُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ أَنْ يَكْسُوَهُمْ مِمَّا يَلْبَسُ وَيُطْعِمَهُمْ مِمَّا يَأْكُلُ وَلَيْسَتْ الدَّرَاهِمُ مِنْ الْوَاجِبِ، وَلَا عِوَضُهُ، وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ وَلَمْ يَمْلِكْ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ إنَّمَا تَجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً لَمْ تَصِحَّ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ وَالْقَرِيبِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ تُجْعَلُ عِوَضًا عَنْ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ إمَّا الْبُرُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، أَوْ الْمُقْتَاتُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَكَيْفَ يُجْبَرُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ مِنْ غَيْرِ رِضَا وَلَا إجْبَارِ الشَّرْعِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِ الْأَئِمَّةِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَكِنْ إنْ اتَّفَقَ الْمُنْفِقُ وَالْمُنْفَقُ عَلَيْهِ جَازَ بِاتِّفَاقِهِمَا, عَلَى أَنَّ فِي اعْتِيَاضِ الزَّوْجَةِ عَنْ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لَهَا نِزَاعًا مَعْرُوفًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: «أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ».
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ لِمَنْ يَقُوتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ آثِمًا إلَّا عَلَى تَرْكِهِ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ بُولِغَ هُنَا فِي إثْمِهِ بِأَنْ جُعِلَ ذَلِكَ الْإِثْمُ كَافِيًا فِي هَلَاكِهِ عَنْ كُلِّ إثْمٍ سِوَاهُ.
وَاَلَّذِينَ يَقُوتُهُمْ وَيَمْلِكُ قُوتَهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ وَعَبِيدُهُ عَلَى مَا سَلَفَ تَفْصِيلُهُ, وَلَفْظُ مُسْلِمٍ خَاصٌّ بِقُوتِ الْمَمَالِيكِ وَلَفْظُ النَّسَائِيّ عَامٌّ.