بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
وَعَنْ «سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ قَالَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا» أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ سُنَّةٌ؟ قَالَ سُنَّةٌ، وَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيٌّ, وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ مَعْمُولٌ بِهَا لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ عدلٍ, قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاَلَّذِي يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ سَعِيدٍ سُنَّةٌ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(الشرح)
لِأَنَّهَا تنصرف إِلَى سنة النَّبِيِّ r.
(المتن)
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ لَعَلَّهُ أَرَادَ سُنَّةَ عُمَرَ، فَإِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَكَيْفَ يَقُولُهُ السَّائِلُ سُنَّةٌ وَيُرِيدُ سُؤَالَهُ عَنْ سُنَّةِ عُمَرَ هَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
(الشرح)
إِلَّا إذا وُجدت قرينة, كَانَ هناك خلافة عمر والكلام السابق يدل عَلَى ذلك يمكن يُحمل عليها, سنة الخليفة الراشد, سنة أبي بكر أو سنة عمر؛ إذا وُجدت قرينة وإلا فالأصل أَنَّه نفي السنة حتى نصل لسنة النَّبِيِّ r.
(المتن)
وَهَلْ سَأَلَ السَّائِلُ إلَّا عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَالَ جَمَاعَةٌ إنَّهُ إذَا قَالَ الرَّاوِي مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ, وَأَمَّا بَعْدَ سُؤَالِ الرَّاوِي، فَلَا يُرِيدُ السَّائِلُ إلَّا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا يُجِيبُ الْمُجِيبُ إلَّا عَنْهَا عَنْ سُنَّةِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَ عَمَّا هُوَ حُجَّةٌ، وَهُوَ سُنَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا» وَأَمَّا دَعْوَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ وَهَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِيهِ وَتَبِعَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى الْوَهْمِ، فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ وَسَيَأْتِي كِتَابُ عُمَرَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَجْنَادِ أَنْ يُنْفِقُوا، أَوْ يُطَلِّقُوا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ فَسْخُ الزَّوْجِيَّةِ عِنْدَ إعْسَارِ الزَّوْجِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: ثُبُوتُ الْفَسْخِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ, وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا ذُكِرَ وَبِحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ» تَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ وَبِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابِلِ الِاسْتِمْتَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّاشِزَ لَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَإِذَا لَمْ تَجِبْ النَّفَقَةُ سَقَطَ الِاسْتِمْتَاعُ فَوَجَبَ الْخِيَارُ لِلزَّوْجَةِ وَبِأَنَّهُمْ قَدْ أَوْجَبُوا عَلَى السَّيِّدِ بَيْعَ مَمْلُوكِهِ إذَا عَجَزَ عَنْ إنْفَاقِهِ فَإِيجَابُ فِرَاقِ الزَّوْجَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ كَسْبَهَا لَيْسَ مُسْتَحَقًّا لِلزَّوْجِ كَاسْتِحْقَاقِ السَّيِّدِ لِكَسْبِ عَبْدِهِ وَبِأَنَّهُ قَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ، وَالضَّرَرُ الْوَاقِعُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ أَعْظَمُ مِنْ الضَّرَرِ الْوَاقِعِ بِكَوْنِ الزَّوْجِ غَنِيًّا وَبِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ}[الطلاق/6] ، وَقَالَ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة/229] وَأَيُّ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ وَأَيُّ ضَرَرٍ أَشَدُّ مِنْ تَرْكِهَا بِغَيْرِ نَفَقَةٍ.
وَالثَّانِي: مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا فَسْخَ بِالْإِعْسَارِ عَنْ النَّفَقَةِ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا}[الطلاق/7] قَالُوا: وَإِذَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ النَّفَقَةَ فِي هَذَا الْحَالِ، فَقَدْ تَرَكَ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَكَنِهِ وَبِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا طَلَبَ أَزْوَاجُهُ مِنْهُ النَّفَقَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَوَجَأَ أَعْنَاقَهُمَا وَكِلَاهُمَا يَقُولُ أَتَسْأَلَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ» الْحَدِيثَ.
قَالُوا: فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَضْرِبَانِ بِنْتَيْهِمَا بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَتَاهُ النَّفَقَةَ الَّتِي لَا يَجِدُهَا فَلَوْ كَانَ الْفَسْخُ لَهُمَا وَهُمَا طَالِبَتَانِ لِلْحَقِّ لَمْ يُقِرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّيْخَيْنِ عَلَى مَا فَعَلَا وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ لَهُمَا أَنْ تُطَالِبَنَا مَعَ الْإِعْسَارِ حَتَّى يَثْبُتَ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَسْخِ وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ الْمُعْسِرُ بِلَا رَيْبٍ وَلَمْ يُخْبِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخَ، وَلَا فَسَخَ أَحَدٌ قَالُوا: وَلِأَنَّهَا لَوْ مَرِضَتْ الزَّوْجَةُ وَطَالَ مَرَضُهَا حَتَّى تَعَذَّرَ عَلَى الزَّوْجِ جِمَاعُهَا لَوَجَبَتْ نَفَقَتُهَا وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ الْفَسْخِ وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ. فَدَلَّ أَنَّ الْإِنْفَاقَ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا قُلْتُمْ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ كِيسِهِ وَحَدِيثُهُ الْآخَرِ لَعَلَّهُ مِثْلُهُ وَحَدِيثُ سَعِيدٍ مُرْسَلٌ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى سُقُوطِ الْوُجُوبِ عَنْ الزَّوْجِ وَبِهِ نَقُولُ. وَأَمَّا الْفَسْخُ، فَهُوَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ تُطَالِبُ بِهِ، وَبِأَنَّ قِصَّةَ أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَرْبَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْتُمْ هِيَ كَالْآيَةِ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُنَّ سَأَلْنَ الطَّلَاقَ، أَوْ الْفَسْخَ, وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ لَا يَسْمَحْنَ بِفِرَاقِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَلَا دَلِيلَ فِي الْقِصَّةِ.
وَأَمَّا إقْرَارُهُ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى ضَرْبِهِمَا فَلِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ لِلْآبَاءِ تَأْدِيبَ الْأَبْنَاءِ إذَا أَتَوْا مَا لَا يَنْبَغِي. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَرِّطْ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ فَلَعَلَّهُنَّ طَلَبْنَ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فَتَخْرُجُ الْقِصَّةُ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَأَمَّا الْمُعْسِرُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَبَتْ الْفَسْخَ، أَوْ الطَّلَاقَ لِإِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ وَمَنَعَهَا عَنْ ذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ حُجَّةً بَلْ كَانَ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ كَرِجَالِهِنَّ يَصْبِرْنَ عَلَى ضَنْكِ الْعَيْشِ وَتَعَسُّرِهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ: إنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ كُنَّ يُرِدْنَ الْآخِرَةَ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُنَّ الدُّنْيَا فَلَمْ يَكُنَّ يُبَالِينَ بِعُسْرِ أَزْوَاجِهِنَّ, وَأَمَّا نِسَاءُ الْيَوْمِ، فَإِنَّمَا يَتَزَوَّجْنَ رَجَاءَ الدُّنْيَا مِنْ الْأَزْوَاجِ وَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ مِنْ مَرَاسِيلِهِ وَأَئِمَّةُ الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ الْعَمَلَ بِهَا كَمَا سَلَفَ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعِ الَّذِي عَاضَدَهُ مُرْسَلُ سَعِيدٍ، وَلَوْ فُرِضَ سُقُوطُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ غُنْيَةً عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْبَسُ الزَّوْجُ إذَا أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ حَتَّى يَجِدَ مَا يُنْفِقُ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَنْبَرِيِّ، وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ يُحْبَسُ لِلتَّكَسُّبِ وَالْقَوْلَانِ مُشْكِلَانِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ الْغَدَاءُ فِي وَقْتِهِ وَالْعِشَاءُ فِي وَقْتِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ فِي وَقْتِهِ فَالْحَبْسُ إنْ كَانَ فِي خِلَالِ وُجُوبِ الْوَاجِبِ، فَهُوَ مَانِعٌ عَنْهُ فَيَعُودُ عَلَى الْغَرَضِ الْمُرَادِ بِالنَّقْضِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَلَا وُجُوبَ فَكَيْفَ يُحْبَسُ لِغَيْرِ وَاجِبٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ صَارَ كَالدَّيْنِ، وَلَا يُحْبَسُ لَهُ مَعَ ظُهُورِ الْإِعْسَارِ اتِّفَاقًا.
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد لِمَرْأَةٍ سَأَلَتْهُ عَنْ إعْسَارِ زَوْجِهَا، فَقَالَ ذَهَبَ نَاسٌ إلَى أَنَّهُ يُكَلَّفُ السَّعْيَ وَالِاكْتِسَابَ, وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهَا تُؤْمَرُ الْمَرْأَةُ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِسَابِ فَلَمْ تَفْهَمْ مِنْهُ الْجَوَابَ فَأَعَادَتْ السُّؤَالَ، وَهُوَ يُجِبْهَا ثُمَّ قَالَ يَا هَذِهِ قَدْ أَجَبْتُك وَلَسْت قَاضِيًا فَأَقْضِي، وَلَا سُلْطَانًا فَأَمْضِي، وَلَا زَوْجًا فَأُرْضِي وَظَاهِرُ كَلَامِهِ الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَكُونُ قَوْلًا رَابِعًا.
الْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً وَزَوْجُهَا مُعْسِرٌ كُلِّفَتْ الْإِنْفَاقَ عَلَى زَوْجِهَا، وَلَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}[البقرة/ 233]، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ, وَرُدَّ بِأَنَّ الْآيَةَ سَاقَهَا فِي نَفَقَةِ الْمَوْلُودِ الصَّغِيرِ وَلَعَلَّهُ لَا يَرَى التَّخْصِيصَ بِالسِّيَاقِ.
الْقَوْلُ السَّادِسُ: لِابْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا تَزَوَّجَتْ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ، أَوْ كَانَ مُوسِرًا ثُمَّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَإِنَّهُ لَا فَسْخَ لَهَا وَإِلَّا كَانَ لَهَا الْفَسْخُ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ عِلْمَهَا بِعُسْرَتِهِ وَلَكِنْ حَيْثُ كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ تَزَوُّجِهِ ثُمَّ أَعْسَرَ لِلْجَائِحَةِ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ عَدَمِ ثُبُوتِ الْفَسْخِ لَهَا.
وَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ عَرَفْت أَنَّ أَقْوَاهَا دَلِيلًا وَأَكْثَرَهَا قَائِلًا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْفَسْخِ فِي تَأْجِيلِهِ بِالنَّفَقَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُؤَجَّلُ شَهْرًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَالَ حَمَّادٌ: سَنَةً وَقِيلَ: شَهْرًا، أَوْ شَهْرَيْنِ.
قُلْت: وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّعْيِينِ بَلْ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّضَرُّرُ الَّذِي يُعْلَمُ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّطْلِيقُ قَالَ تُرَافِعُهُ الزَّوْجَةُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُنْفِقَ أَوْ يُطَلِّقَ, وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَسْخٌ تُرَافِعُهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَثْبُتَ الْإِعْسَارُ ثُمَّ تَفْسَخُ هِيَ وَقِيلَ: تُرَافِعُهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُجْبِرَهُ عَلَى الطَّلَاقِ، أَوْ يَفْسَخَ عَلَيْهِ، أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي الْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَ، أَوْ أَذِنَ فِي الْفَسْخِ، فَهُوَ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ، وَلَا رَجْعَةَ لَهُ، وَإِنْ أَيْسَرَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ طَلَّقَ كَانَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَهُ فِيهِ الرَّجْعَةُ.
(الشرح)
كلها أقوال مرجوحة والصواب القول الأول, وقد أطال الشارح في هذا والأمر سهل.
(المتن)
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ أَنْ يَأْخُذُوهُمْ بِأَنْ يُنْفِقُوا، أَوْ يُطَلِّقُوا، فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا حَبَسُوا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ وَجْهِ هَذَا الرَّأْيِ مِنْ عُمَرَ، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ عِنْدَهُ لَا تَسْقُطُ بِالْمَطْلِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ وَعَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْأَزْوَاجِ الْإِنْفَاقُ، أَوْ الطَّلَاقُ.