بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِك قَالَ: عِنْدِي آخَرُ قَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ» أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُد وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَالْحَاكِمُ بِتَقْدِيمِ الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَلَدِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ تَقْدِيمُ الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: اخْتَلَفَ عَلَيَّ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَالثَّوْرِيُّ فَقَدَّمَ يَحْيَى الزَّوْجَةَ عَلَى الْوَلَدِ وَقَدَّمَ سُفْيَانُ الْوَلَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بَلْ يَكُونَانِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا تَكَلَّمَ ثَلَاثًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي إعَادَتِهِ قَدَّمَ الْوَلَدَ مَرَّةً وَمَرَّةً قَدَّمَ الزَّوْجَةَ فَصَارَا سَوَاءً.
قُلْت: هَذَا حَمْلٌ بَعِيدٌ فَلَيْسَ تَكْرِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَقُولُهُ ثَلَاثًا بِمُطَّرِدٍ بَلْ عَدَمُ التَّكْرِيرِ غَالِبٌ، وَإِنَّمَا يُكَرِّرُ إذَا لَمْ يُفْهَمْ عَنْهُ وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَابُ سُؤَالٍ لَا يَجْرِي فِيهِ التَّكْرِيرُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِفَهْمِ السَّائِلِ لِلْجَوَابِ ثُمَّ رِوَايَةُ جَابِرٍ الَّتِي لَا تَرَدُّدَ فِيهَا تُقَوِّي رِوَايَةَ تَقْدِيمِ الْأَهْلِ وَالْحَدِيثُ قَدْ تَقَدَّمَ.
وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى إنْفَاقِ الْإِنْسَانِ مَا عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَدَّخِرُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي الْآخَرِ بَعْدَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ: أَنْتَ أَعْلَمُ وَلَمْ يَقُلْ ادَّخِرْ لِحَاجَتِك، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ.
وَعَنْ بَهْزِ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ فَزَايٍ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ حَكِيمٍ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ، صَحَابِيٌّ تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّك قُلْت: ثُمَّ مَنْ قَالَ: أُمَّك قُلْت: ثُمَّ مَنْ قَالَ: أُمَّك قُلْت: ثُمَّ مَنْ قَالَ: أَبَاك ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْأُمِّ بِالْبِرِّ وَأَحَقِّيَّتَهَا بِهِ من الْأَبِ.
(الشرح)
«ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» يَعْنِي: بر الأقرب فالأقرب, بر يبر, من فعل يفعل, وأصلها برر.
فإن قيل: قوله: فيهِ حث عَلَى إنفاق الإنسان ما عنده؟.
أخذه من قوله: «أنت أعلم» يَعْنِي: ظاهره أَنَّه يَجِبُ الإنفاق وأنه لا يبقي شَيْئًا ولا يدخر وَلَكِن النصوص دلت عَلَى أَنَّه له أن يدخر, والزكاة ما وجبت إِلَّا في أموالٍ تبقى, وما جاء في حديث: «يا اِبْن آدم إنك إن تبذل الفضل خيرٌ لك وإن تُمسكه شرٌ لك ولا تُلام عَلَى كفاف» والفضل: هو ما زاد عن الحاجة.