بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
بَابُ الْحِضَانَةِ.
بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَصْدَرٌ مِنْ حَضَنَ الصَّبِيَّ حَضْنًا وَحِضَانَةً جَعَلَهُ فِي حِضْنِهِ أَوْ رَبَّاهُ فَاحْتَضَنَهُ وَالْحِضْنُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهُوَ مَا دُونَ الْإِبْطِ إلَى الْكَشْحِ وَالصَّدْرِ، أَوْ الْعَضُدَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَجَانِبُ الشَّيْءِ، أَوْ نَاحِيَتُهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ, وَفِي الشَّرْعِ حِفْظُ مَنْ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهِ وَتَرْبِيَتُهُ وَوِقَايَتُهُ عَمَّا يُهْلِكُهُ، أَوْ يَضُرُّهُ.
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَوَقَعَ بِضَمِّهَا فِي نُسْخَةٍ، وَهُوَ غَلَطٌ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا كَانَتْ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً» بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ، وَقَدْ يُضَمُّ وَيُقَالُ الْإِعَاءُ الظَّرْفُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ, «وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً» هُوَ كَكِسَاءٍ جِلْدُ السَّخْلَةِ إذَا أَجْذَعَ يَكُونُ لِلْمَاءِ وَاللَّبَنِ كَمَا فِيهِ أَيْضًا, «وَحِجْرِي» بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُثَلَّثَةٍ فَجِيمٍ فَرَاءٍ حِضْنُ الْإِنْسَانِ.
(الشرح)
ويقال: حَجري, حُجري, حِجري.
(المتن)
«لَهُ حِوَاءً» بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ بِزِنَةِ كِسَاءٍ أَيْضًا اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي يَحْوِي الشَّيْءَ أَيْ يَضُمُّهُ وَيَجْمَعُهُ «وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِحِضَانَةِ وَلَدِهَا إذَا أَرَادَ الْأَبُ انْتِزَاعَهُ مِنْهَا، وَقَدْ ذَكَرَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ صِفَاتٍ اخْتَصَّتْ بِهَا تَقْتَضِي اسْتِحْقَاقَهَا وَأَوْلَوِيَّتَهَا بِحِضَانَةِ وَلَدِهَا وَأَقَرَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَحَكَمَ لَهَا.
فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، وَأَنَّ الْعِلَلَ وَالْمَعَانِيَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.
وَالْحُكْمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَقَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "رِيحُهَا وَفِرَاشُهَا وَحَرُّهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْك حَتَّى يَشُبَّ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ" وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي قِصَّةٍ.
وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ إذَا نَكَحَتْ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ الْحِضَانَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَابْنُ حَزْمٍ إلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْحِضَانَةِ بِالنِّكَاحِ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ عِنْدَ وَالِدَتِهِ وَهِيَ مُزَوَّجَةٌ وَكَذَا أُمُّ سَلَمَةَ تَزَوَّجَتْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ وَلَدُهَا فِي كَفَالَتِهَا وَكَذَا ابْنَةُ حَمْزَةَ قَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا وَهِيَ مُزَوَّجَةٌ قَالَ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ فِيهِ مَقَالٌ، فَإِنَّهُ صَحِيفَةٌ يُرِيدُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيفَةٌ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَبِلَهُ الْأَئِمَّةُ وَعَمِلُوا بِهِ. الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْحُمَيْدِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَمْثَالُهُمْ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْقَدْحِ فِيهِ, وَأَمَّا مَا اُحْتُجَّ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ دَلِيلًا إلَّا مَعَ طَلَبِ مَنْ تَنْتَقِلُ إلَيْهِ الْحِضَانَةُ وَمُنَازَعَتِهِ, وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ طَلَبِهِ، فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ لِلْأُمِّ الْمُزَوَّجَةِ أَنْ تَقُومَ بِوَلَدِهَا وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ حَصَلَ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ، فَلَا دَلِيلَ فِيمَا ذَكَرَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَاحِدَةُ حَبَّاتِ الْعِنَبِ «فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوك، وَهَذِهِ أُمُّك فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْت: فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ بِنَفْسِهِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأَبِ, وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ قَلِيلَةٌ إلَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ الصَّبِيُّ عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَحَدُّ التَّخْيِيرِ مِنْ السَّبْعِ سِنِينَ.
وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ، وَقَالُوا: الْأُمُّ أَوْلَى بِهِ إلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا اسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ فَالْأَبُ أَوْلَى بِالذَّكَرِ وَالْأُمُّ أَوْلَى بِالْأُنْثَى وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ إلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ لَكِنَّهُ قَالَ إنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ، أَوْ أُنْثَى قِيلَ: حَتَّى يَبْلُغَ, وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفَاصِيلُ بِلَا دَلِيلٍ.
وَاسْتَدَلَّ نُفَاةُ التَّخْيِيرِ بِعُمُومِ حَدِيثِ «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الِاخْتِيَارُ إلَى الصَّغِيرِ مَا كَانَتْ أَحَقَّ بِهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَامًّا فِي الْأَزْمِنَةِ أَوْ مُطْلَقًا فِيهَا فَحَدِيثُ التَّخْيِيرِ يُخَصِّصُهُ، أَوْ يُقَيِّدُهُ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ الصَّبِيُّ أَحَدَ أَبَوَيْهِ فَقِيلَ: يَكُونُ لِلْأُمِّ بِلَا قُرْعَةٍ؛ لِأَنَّ الْحِضَانَةَ حَقٌّ لَهَا، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ عَنْهَا بِاخْتِيَارِهِ، فَإِذَا لَمْ يُخَيَّرْ بَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ وَقِيلَ: وَهُوَ الْأَقْوَى دَلِيلًا إنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا إذْ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْعَةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَهِمَا، فَقَالَ الرَّجُلُ مَنْ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ وَلَدِي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَرْ أَيَّهمَا شِئْت فَاخْتَارَ أُمَّهُ فَذَهَبَتْ بِهِ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَظَاهِرُهُ تَقْدِيمُ الْقُرْعَةِ عَلَى الِاخْتِيَارِ لَكِنْ قُدِّمَ الِاخْتِيَارُ عَلَيْهَا لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ إنَّ التَّخْيِيرَ وَالْقُرْعَةَ لَا يَكُونَانِ إلَّا إذَا حَصَلَتْ بِهِ مَصْلَحَةُ الْوَلَدِ فَلَوْ كَانَتْ الْأُمُّ أَصَوْنَ مِنْ الْأَبِ وَأَغْيَرَ مِنْهُ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى قُرْعَةٍ، وَلَا اخْتِيَارِ الصَّبِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّهُ ضَعِيفُ الْقَوْلِ يُؤْثِرُ الْبَطَالَةَ وَاللَّعِبَ، فَإِذَا اخْتَارَ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا الْتِفَاتَ إلَى اخْتِيَارِهِ وَكَانَ عِنْدَ مَنْ هُوَ أَنْفَعُ لَهُ، وَلَا تَحْتَمِلُ الشَّرِيعَةُ غَيْرَ هَذَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
وَاَللَّهُ يَقُولُ: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}[التحريم/6]، فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ تَتْرُكُهُ فِي الْمَكْتَبِ أَوْ تُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ وَالصَّبِيُّ يُؤْثِرُ اللَّعِبَ وَمُعَاشَرَةَ أَقْرَانِهِ وَأَبُوهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا أَحَقُّ بِهِ، وَلَا تَخْيِيرَ، وَلَا قُرْعَةَ وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ انْتَهَى, وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ.
(الشرح)
هذا كلام حسن, وهذا معروف من نصوص الشريعة, أَنَّه يُقدم من تكون المصلحة للطفل عنده, إذا كانت المصلحة عند الأم قُدمت, وإذا كانت عند الأب قُدم, لَكِنْ هذا إذا لم يظهر أيهما أصون للطفل وأحفظ للطفل, وكلٌ منهما صالح في نفسه هنا يأتي التخيير, أما إذا ثبت أن أحدهما لا يصلح للحضانة فَإِنَّهُ لا يكون عنده, المقصود من الحضانة: مصلحة الطفل.
فإن قيل: (...)؟.
في هَذِه الحالة الحاكم الشرعي ينظر هل تنتقل الحضانة إِلَى أم الأم, ثم الخالة وهكذا, هَذِه ينظر فيها الحاكم الشرعي.