بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
دِيَةُ الخطأ وَالتَّغْلِيظُ فِيهَا.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دِيَةُ الخطأ أَخْمَاسًا» أَيْ تُؤْخَذُ أَوْ تَجِبُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (عِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ بِلَفْظِ وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ بَدَلَ بَنِي لَبُونٍ وَإِسْنَادُ الْأَوَّلِ أَقْوَى) أَيْ مِنْ إسْنَادِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّ خِشْفَ بْنَ مَالِكٍ الطَّائِيَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ إنَّهُ رَجُلٌ مَجْهُولٌ.
وَفِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ اعْتَرَضَ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى الدَّارَقُطْنِيِّ، وَقَالَ إنَّ جَعْلَهُ لِبَنِي اللَّبُونِ غَلَطٌ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالصَّحِيحُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ جَعَلَ أَحَدَ أَخْمَاسِهَا بَنِي الْمَخَاضِ لَا كَمَا تَوَهَّمَ شَيْخُنَا الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الخطأ تُؤْخَذُ أَخْمَاسًا كَمَا ذُكِرَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَإِلَى أَنَّ الْخَامِسَ بَنُو لَبُونٍ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ بَنُو مَخَاضٍ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَرْبَعَةِ وَذَهَبَ الْهَادِي وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهَا تُؤْخَذُ أَرْبَاعًا بِإِسْقَاطِ بَنِي اللَّبُونِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِحَدِيثٍ لَمْ يُثْبِتْهُ الْحُفَّاظُ وَذَهَبُوا إلَى أَنَّهَا أَرْبَاعٌ مُطْلَقًا وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ والخطأ، فَقَالُوا: إنَّهَا فِي الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ تَكُونُ أَثْلَاثًا كَمَا فِي الخطأ.
وَأَمَّا التَّغْلِيظُ فِي الدِّيَةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَنْ قُتِلَ فِي الْحَرَمِ بِدِيَةٍ وَثُلُثٍ تَغْلِيظًا وَثَبَتَ عَنْ جَمَاعَةٍ الْقَوْلُ بِذَلِكَ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ.
(وَأَخْرَجَهُ) أَيْ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ (ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا) عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ (وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْمَرْفُوعِ) .
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَفَعَهُ «الدِّيَةُ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» (وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ) إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِّيَةُ ثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسْنَانِ فِي الزَّكَاةِ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنا أَعْتَى» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ فَأَلِفٍ مَقْصُورَةٍ اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنْ الْعُتُوِّ، وَهُوَ التَّجَبُّرُ (النَّاسِ عَلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مَنْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ لِذَحْلِ) بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الثَّأْرُ وَطَلَبُ الْمُكَافَأَةِ بِجِنَايَةٍ جُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ غَيْرِهِ (الْجَاهِلِيَّةِ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ) .
الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ أَزْيَدُ فِي الْعُتُوِّ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُتَاةِ:
الْأَوَّلُ: مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ فَمَعْصِيَةُ قَتْلِهِ تَزِيدُ عَلَى مَعْصِيَةِ مَنْ قَتَلَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ لِحَرَمِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
(الشرح)
لِأَنَّهُ انتهك حرمة الحرم؛ لأنه جناية وزيادة, جنايتان: الأولى: القتل, والثانية: كونه في الحرم وانتهك حرمة الحرم.
(المتن)
وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي غُزَاةِ الْفَتْحِ فِي رَجُلٍ قَتَلَ بِالْمُزْدَلِفَةِ إلَّا أَنَّ السَّبَبَ لَا يُخَصُّ بِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْإِضَافَةُ عَهْدِيَّةٌ وَالْمَعْهُودُ حَرَمُ مَكَّةَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى التَّغْلِيظِ فِي الدِّيَةِ عَلَى مَنْ وَقَعَ مِنْهُ قَتْلُ الْخَطَإِ فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ مَحْرَمًا مِنْ النَّسَبِ، أَوْ قَتَلَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَالَ: لِأَنَّ الصَّحَابَةَ غَلَّظُوا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.
وَأَخْرَجَ السُّدِّيُّ عَنْ مُرَّةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَهُمُّ بِسَيِّئَةٍ فَتُكْتَبَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ رَجُلًا لَوْ هَمَّ بَعْدُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ إلَّا أَذَاقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ»، وَقَدْ رَفَعَهُ فِي رِوَايَةٍ.
قُلْت: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الظَّرْفَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج/ 25] مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِ الْإِرَادَةِ بَلْ بِالْإِلْحَادِ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِرَادَةُ فِي غَيْرِهِ وَالْآيَةُ مُحْتَمَلَةٌ.
وَوَرَدَ فِي التَّغْلِيظِ فِي الدِّيَةِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ قَتْلِ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ فَتَكُونَ دِمَاءٌ فِي غَيْرِ ضَغِينَةٍ، وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.
وَالثَّانِي: مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ أَيْ مَنْ كَانَ لَهُ دَمٌ عِنْدَ شَخْصٍ فَيَقْتُلُ رَجُلًا آخَرَ غَيْرَ مَنْ عِنْدَهُ لَهُ الدَّمُ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مُشَارَكَةٌ فِي الْقَتْلِ أَوْ لَا.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (أَوْ قَتَلَ لِذَحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الذَّحْلِ، وَهُوَ الْعَدَاوَةُ أَيْضًا، وَقَدْ فَسَّرَ الْحَدِيثَ حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعْتَى النَّاسِ مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ طَلَبَ بِدَمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بَصَّرَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تُبْصِرْ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
(الشرح)
يَعْنِي: كذب في الرؤيا قَالَ: رأيت كذا وكذا وهو لم يرى, في الحديث الآخر: «إنَّ مِن أعظم الفِرَى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يُري عينه ما لم ترَ» والفرية: الكذب, يَعْنِي: أشد الكذب هو الكذب في الرؤيا, يقول: رأيت كذا ورأيت كذا وهو كاذب.