بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ.
(وَعَنْهُ) أَيْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ» بَيَّنَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد بِلَفْظِ " مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا " وَتَقَدَّمَ (وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ) وَبَيَّنَ شِبْهَ الْعَمْدِ بِقَوْلِهِ: (وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ) النَّزْوُ بِفَتْحِ النُّونِ فَزَايٍ فَوَاوٍ أَيْ يَثِبُ (الشَّيْطَانُ فَتَكُونَ دِمَاءٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي غَيْرِ ضَغِينَةٍ، وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ), أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَضَعَّفَهُ, وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ وَلَمْ يُضَعِّفْهُ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْجِرَاحُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ بِسِلَاحٍ بَلْ بِحَجَرٍ، أَوْ عَصًا أَوْ نَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا قَوَدَ فِيهِ، وَأَنَّهُ شِبْهُ الْعَمْدِ فَيَلْزَمُ فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ تَكُونُ أَثْلَاثًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَأَنَّهَا أَرْبَاعٌ عِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَنَّهَا تَكُونُ أَخْمَاسًا كَمَا أَفَادَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَاضِي فِي الخطأ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ قَالَ بِهِ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَغَيْرُهُمْ, وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ الْحَقُّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» بَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ دِرْهَمًا.
(رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَرَجَّحَ النَّسَائِيّ وَأَبُو حَاتِمٍ إرْسَالَهُ) وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَ هَذَا, وَإِنَّمَا رَجَّحَ النَّسَائِيّ وَأَبُو حَاتِمٍ إرْسَالَهُ لِمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَيْمُونٍ رَاوِيَهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا قَالَ لَنَا فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَقُولُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى.
قُلْت: وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ وَكَوْنُهُ قَالَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً كَافٍ فِي الرَّفْعِ، فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا لَحَكَمَ بِرَفْعِ الْحَدِيثِ فَإِرْسَالُهُ مِرَارًا لَا يَقْدَحُ فِي رَفْعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّهَا عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ.
(الشرح)
وهذا يمكن يتمشى عَلَى مذهب الأصوليين والفقهاء, المحدثين القدماء قد يرجحون إرساله.
(المتن)
وَاسْتَدَلَّ لَهُ فِي الْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: لِقَوْلِ عَلِيٍّ بِهِ، وَهُوَ تَوْقِيفٌ انْتَهَى, إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَطَّرِدْ هَذَا فِيمَا يَنْقُلُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلْ تَارَةً يَقُولُ مِثْلَ هَذَا وَتَارَةً يَقُولُ إنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ اجْتِهَادٌ، وَلَا يَلْزَمُنَا وَدَعْوَى التَّوْقِيفِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ إذْ مِثْلُ هَذَا فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ مَسْرَحٌ.
(وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ اسْمُهُ رِفَاعَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ فَرَاءٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَيَاءِ النِّسْبَةِ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي ابْنِي، فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت ابْنِي وَأَشْهَدُ بِهِ قَالَ: أَمَا إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ», رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ, وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ «لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ», وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ تُعَضِّدُهُ.
وَالْجِنَايَةُ الذَّنْبُ، أَوْ مَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْعِقَابَ، أَوْ الْقِصَاصَ.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ أَحَدٌ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا كَالْأَبِ وَالْوَلَدِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ أَجْنَبِيًّا فَالْجَانِي يُطْلَبُ وَحْدَهُ بِجِنَايَتِهِ، وَلَا يُطَالَبُ بِجِنَايَتِهِ غَيْرُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الإسراء/ 15].
فَإِنْ قُلْت قَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ بِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةَ فِي جِنَايَةِ الْخَطَإِ وَالْقَسَامَةِ.
قُلْت: هَذَا مُخَصَّصٌ مِنْ الْحُكْمِ الْعَامِّ وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ تَحَمُّلِ الْجِنَايَةِ بَلْ مِنْ بَابِ التَّعَاضُدِ وَالتَّنَاصُرِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.