شعار الموقع

شرح كتاب الجنايات من سبل السلام_14

00:00
00:00
تحميل
47

بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:

(المتن)

قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:

ثُبُوتِ الْقَتْلِ بِالْقَسَامَةِ.

وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي قِصَّةِ الْهَاشِمِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَفِيهَا " أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلْقَاتِلِ اخْتَرْ مِنَّا إحْدَى ثَلَاثٍ إنْ شِئْت أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّك قَتَلْت صَاحِبَنَا خَطَأً، وَإِنْ شِئْت حَلَفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِك أَنَّك لَمْ تَقْتُلْهُ، وَإِنْ أَبَيْت قَتَلْنَاك بِهِ", وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْقَتْلِ بِالْقَسَامَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ الْقَسَامَةَ إلَّا الْجَمَاهِيرُ.

(الشرح)

يَعْنِي: القسامة مختلف فيها, الجمهور يعملون بها, وبعض العلماء كالإمام أحمد وغيره لا يعملون بالقسامة, مخالفة للأصل, الأصل أن المدعي لا يحلف وإنما يطالب بالبينة, وَإِنَّمَا الذي يحلف المدعى عليه, لَكِنْ لما كَانَ المدعي عنده لوث وهي بينة ضعيفة قوي جانبه بالحلف.

(المتن)

 كَمَا قَرَّرْنَاهُ عَنْهُمْ وَذَهَبَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو قِلَابَةَ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَالنَّاصِرُ إلَى عَدَمِ شَرْعِيَّتِهَا لِمُخَالَفَتِهَا الْأُصُولَ الْمُتَقَرِّرَةَ شَرْعًا فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبِأَنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إثْبَاتِ الدِّمَاءِ وَبِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ عَلَى مَا عُلِمَ قَطْعًا، أَوْ شُوهِدَ حِسًّا " وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َلمْ يَحْكُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ حُكْمًا جَاهِلِيًّا فَتَلَطَّفَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرِيَهُمْ كَيْفَ لَا يَجْرِي الْحُكْمُ بِهَا عَلَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ.

وَبَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَحْضُرْ وَلَمْ نُشَاهِدْ؟ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْحَلِفَ فِي الْقَسَامَةِ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا وَشَرْعُهُ بَلْ عَدَلَ إلَى قَوْلِهِ: «يَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ قَالُوا لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ» فَلَمْ يُوجِبْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وَيُبَيِّنْ لَهُمْ أَنْ لَيْسَ لَكُمْ إلَّا الْيَمِينُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا مُسْلِمِينَ كَانُوا، أَوْ غَيْرَهُمْ بَلْ عَدَلَ إلَى إعْطَاءِ الدِّيَةِ مِنْ عِنْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا لَبَيَّنَ وَجْهَهُ لَهُمْ بَلْ تَقْرِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا حَلِفَ إلَّا عَلَى شَيْءٍ مُشَاهَدٍ مَرْئِيٍّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا حَلِفَ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ لِلْإِجَابَةِ عَنْ خُصُومِهِمْ فِي دَعْوَاهُمْ فَالْقِصَّةُ مُنَادِيَةٌ بِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مَخْرَجَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَهَذَا أَقْوَى دَلِيلٍ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَإِنَّمَا تَلَطَّفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهَذَا التَّدْرِيجِ الْمُنَادِي بِعَدَمِ ثُبُوتِهَا شَرْعًا وَأَقَرَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ لَا يَحْلِفُونَ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَهُ، وَلَا شَاهَدُوهُ، وَلَا حَضَرُوهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ وَبِذَا تَعْرِفُ بُطْلَانَ الْقَوْلِ بِأَنَّ فِي الْقِصَّةِ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ إذْ لَا حُكْمَ فِيهَا أَصْلًا, وَبُطْلَانُ الْجَوَابِ عَنْ كَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِلْأُصُولِ بِأَنَّهَا مُخَصَّصَةٌ مِنْ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ لِلْقَسَامَةِ سُنَّةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا مُنْفَرِدَةً مُخَصِّصَةً لِلْأُصُولِ كَسَائِرِ الْمُخَصِّصَاتِ لِلْحَاجَةِ إلَى شَرْعِيَّتِهَا حِيَاطَةً لِحِفْظِ الدِّمَاءِ وَرَدْعِ الْمُعْتَدِينَ.

(الشرح)

هذا هو الصواب؛ لِأَنّ النَّبِيِّ r قَالَ: «تحلفون خمسين يمينًا وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا, قَالَ: تبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟» هذا دليل عَلَى أن النَّبِيِّ r حكم بالقسامة, هذا من العجيب من كلام الأحناف وغيرهم الذين يقولون: مخالفة للنصوص, الرسول حكم بهذا, وهذا واضح في أنها مشروعة وأن هذا هو الحكم الشرعي.

(المتن)

وَوَجْهُ بُطْلَانِهِ أَنَّهُ فَرَّعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِهَا عَنْ الشَّارِعِ فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهَا لَكَانَ هَذَا جَوَابًا حَسَنًا. وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَضَى بِهَا بَيْنَ نَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ» فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ الْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْضِ بِهَا فِيهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَقَدْ عَرَفْت مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الدِّيَةَ الْقَاتِلُ لَا الْعَاقِلَةُ كَمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ أَنَّهَا مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ عَاقِلَتِهِ، أَوْ يَحْلِفَ خَمْسُونَ مِنْ قَوْمِك، أَوْ تُقْتَلَ وَهُنَا فِي قِصَّةِ خَيْبَرَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ لَمْ يَحْلِفُوا وَلَمْ يُسَلِّمُوا دِيَةً وَلَمْ يُطْلَبْ مِنْهُمْ الْحَلِفُ.

وَلَيْسَ هَذَا قَدْحًا فِي رِوَايَةِ الرَّاوِي مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ فِي اسْتِنْبَاطِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَفَادَ حَدِيثُهُ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ خَيْبَرَ وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ قَضَاءٌ.

وَعَدَمُ صِحَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ جَائِزٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا رِوَايَتُهُ لِلْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ، أَوْ بِمَعْنَاهُ هِيَ الَّتِي يَتَعَيَّنُ قَبُولُهَا. .

وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي الزِّنَادِ "قَتَلْنَا بِالْقَسَامَةِ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ إنِّي لَأَرَى أَنَّهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ فَمَا اخْتَلَفَ مِنْهُمْ اثْنَانِ"، فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي إنَّمَا نَقَلَهُ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ كَمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ وَإِلَّا فَأَبُو الزِّنَادِ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ رَأَى عَشَرَةً مِنْ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَنْ أَلْفٍ انْتَهَى.

قُلْت: لَا يَخْفَى أَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِمَا رَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ لِثُبُوتِ مَا رَوَاهُ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ الْفَقِيهِ الثِّقَةِ، وَإِنَّمَا دَلَّسَ أَبُو الزِّنَادِ بِقَوْلِهِ قَتَلْنَا وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ قَتَلَ مَعْشَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُمْ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ غَايَتَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَنْ خَارِجَةَ فِعْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً، وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ فِعْلِ عُمَرَ بِالْقَسَامَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ عَنْهُ فِي الْقَتْلِ بِهَا إنَّمَا نِزَاعُنَا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ.

(الشرح)

الحاصل: وهو الصواب أن القسامة ثابتة وأنها مستثناة, والنبي r حكم بها والأحاديث صحيحة في هذا ولا إشكال فيها في الصحيحين وغيرهما, فقول الأحناف ومن معهم أنها لا يُعمل بها ليس بوجيه, الصواب: العمل بها, وما ذهب إليه الجمهور من العمل بالقسامة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد