بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
الْفِئَةُ الْبَاغِيَة.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ, تَمَامُهُ فِي مُسْلِمٍ "يَدْعُوهُمْ إلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إلَى النَّارِ" قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ بِهَذَا، وَهُوَ مِنْ أَصَحِّ الْحَدِيثِ، وَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ: لَا مَطْعَنَ فِي صِحَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ صَحِيحٍ لَرَدَّهُ مُعَاوِيَةُ، وَإِنَّمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ, وَلَوْ كَانَ فِيهِ شَكٌّ لَرَدَّهُ وَأَنْكَرَهُ.
(الشرح)
يَعْنِي: تأول معاوية, لما قيل له: إن النَّبِيِّ r قَالَ: «عمارًا تقتله الفئة الباغية» وأنت قتلته فدل عَلَى أنكم الفئة الباغية, قَالَ: لا, اللي قتله هو من أتى بِهِ, تأول ولم يُنكر الحديث.
(المتن)
حَتَّى أَجَابَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ حَمْزَةَ.
وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّلْخِيصِ وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ فِي نَقْلِهِ مِنْ أَنَّهُ نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ خَلَّادٍ فِي الْعِلَلِ أَنَّهُ حَكَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ طَرِيقًا لَيْسَ فِيهَا طَرِيقٌ صَحِيحٌ. وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ مَعِينٍ وَابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَمْ يَصِحَّ، فَقَدْ أَجَابَ السَّيِّدُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْوَزِيرُ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ: الِاسْتِرْوَاحُ إلَى ذِكْرِ هَذَا الْخِلَافِ السَّاقِطِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِبُطْلَانِهِ مِنْ مِثْلِ ابْنِ حَجَرٍ عَصَبِيَّةٌ شَنِيعَةٌ، فَأَمَّا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَلَمْ يَعْرِفْ هَذَا الشَّأْنَ، وَقَدْ ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ فِي التَّذْكِرَةِ كَثْرَةَ خَطَئِهِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ، فَهُوَ أَجْهَلُ وَأَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَنْتَهِضَ لِمُعَارَضَةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَفُرْسَانِهِ وَحُفَّاظِهِ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالْحُمَيْدِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ كَامِلًا أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالذَّهَبِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبَرْقَانِيُّ وَأَمْثَالُهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ جُمْلَةٌ مِنْهُمْ تَوَاتُرَهُ وَصِحَّتَهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي آخَرِ تَذْكِرَتِهِ وَالْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ لَهُ وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ الْمَعْرُوفِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ عَنْهُمْ خِلَافًا فِي ذَلِكَ, وَأَمَّا الذَّهَبِيُّ فَإِنَّهُ حَقَّقَ صِحَّةَ دَعْوَاهُ بِمَا أَوْرَدَهُ مِنْ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ الْجَمَّةِ. وَالْمَنْعُ مِنْ الصِّحَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَصَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ صَنِيعُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بَلْ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَلَا حَيَاءَ. انْتَهَى.
(الشرح)
كلام فيهِ قوة وفيه شدة.
فإن قيل: (...).
الحافظ ليس متعصب رَحِمَهُ اللهُ.
فإن قيل: (فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ حَمْزَةَ) كأنه يرد عَلَيْهِمْ؟.
نعم, كأنه يرد عَلَيْهِمْ.
(المتن)
قُلْت: وَلَا يَخْفَى أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ عَدَمَ صِحَّتِهِ وَلَيْسَ لَهُ هُوَ قَدْحٌ فِي صِحَّتِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّهُ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَنْتَهِضَ لِمُعَارَضَةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَفُرْسَانِهِ وَحُفَّاظِهِ فَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عَنْ نَقْلِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا قَالَهُ السَّيِّدُ مُحَمَّدٌ أَيْضًا إنَّهُ قَدْ رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ الْإِمَامُ الثِّقَةُ الْحَافِظُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ إنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ سَمِعَهُ عَنْهُ يَعْقُوبُ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ. ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ عَمَّارٍ فِي النُّبَلَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَكَانَ يَرَى الضَّرْبَ عَلَى رِوَايَاتِ الضِّعَافِ وَالْمُنْكَرَاتِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَإِلَّا فَغَايَتُهُ أَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ عَنْ أَحْمَدَ الْقَوْلَانِ فَيُطْرَحُ. وَفِي تَصْحِيحِ غَيْرِهِ مَا يُغْنِي عَنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى, وَأَمَّا الْحِكَايَةُ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ وَابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، فَإِنَّهُ رَوَاهَا الْمُصَنِّفُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ وَلَمْ يَنْسُبْهَا إلَى رَاوٍ فَيَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ مُعَاوِيَةُ وَمَنْ فِي حِزْبِهِ وَالْفِئَةَ الْمُحِقَّةَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ فِي صُحْبَتِهِ وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذَا الْقَوْلِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ كَالْعَامِرِيِّ وَغَيْرِهِ وَأَوْضَحْنَاهُ فِي الرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَدْرِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ» هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ وَكَأَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَوْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُهُ: «كَيْفَ حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا» أَيْ لَا يُتَمَّمُ قَتْلُ مَنْ كَانَ جَرِيحًا مِنْ الْبُغَاةِ «وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا، وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا، وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهَا», رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ فَوَهِمَ؛ لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ كَوْثَرَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَمُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَرَاءٍ بْنَ حَكِيمٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ مِنْ طُرُقٍ مَوْقُوفًا.
(الشرح)
يَعْنِي: العمدة عَلَى الموقوف لا عَلَى المرفوع.
(المتن)
أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْحَاكِمُ, فِي الْمِيزَانِ كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ عَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ، وَهُوَ كُوفِيٌّ نَزَلَ حَلَبَ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَحَادِيثُهُ بَوَاطِيلُ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
فِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: جَوَازُ قِتَالِ الْبُغَاةِ، وَهُوَ إجْمَاعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}[الحجرات/9] قُلْت وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْوُجُوبِ.
(الشرح)
الْأَمْرِ للوجوب هذا الأصل فيهِ؛ إِلَّا بصارف.
(المتن)
وَبِهِ قَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَلَكِنْ شَرَطُوا ظَنَّ الْغَلَبَةِ وَعِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قِتَالَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ قَالُوا: لِمَا يَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الضَّرَرِ مِنْهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَوَّلًا قَبْلَ قِتَالِهِمْ دُعَاؤُهُمْ إلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْبَغْيِ وَتَكْرِيرُ الدُّعَاءِ كَمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْخَوَارِجِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا فَارَقُوهُ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ آلَافٍ وَبَقِيَ أَرْبَعَةٌ أَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا.
(الشرح)
النصف رجعوا, يُرسل إليهم من يبين لهم خطأهم لعلهم يرجعون عن رأيهم.
(المتن)
وَأَصَرُّوا عَلَى فِرَاقِهِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ " كُونُوا حَيْثُ شِئْتُمْ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا تَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا، وَلَا تَقْطَعُوا سَبِيلًا، وَلَا تَظْلِمُوا أَحَدًا " فَقَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَقَرُوا بَطْنَ سُرِّيَّتِهِ وَهِيَ حُبْلَى.
(الشرح)
من عدوانهم, قتلوا الصحابي وبقروا بطن سُريته؛ أمته, وأخرجوا الولد منها.
(المتن)
وَأَخْرَجُوا مَا فِي بَطْنِهَا فَبَلَغَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَفِيدُونَا بِقَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، فَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ فَأَذِنَ حِينَئِذٍ فِي قِتَالِهِمْ وَهِيَ رِوَايَاتٌ ثَابِتَةٌ سَاقَهَا الْمُصَنِّفُ فِي فَتْحِ الْبَارِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا، وَهُوَ مِنْ أَجْهَزَ عَلَى الْجَرِيحِ وَجَهَزَ أَيْ بَتَّ قَتْلَهُ وَأَسْرَعَهُ وَتَمَّمَ عَلَيْهِ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ: «وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا» .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْجَمَلِ "إذَا ظَهَرْتُمْ عَلَى الْقَوْمِ، فَلَا تَطْلُبُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَانْظُرُوا مَا حُضِرَتْ بِهِ الْحَرْبُ مِنْ آلَتِهِ فَاقْبِضُوهُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا مُنْقَطِعٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا وَلَمْ يَسْلُبْ قَتِيلًا وَدَلَّ الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ أَسِيرُ الْبُغَاةِ قَالُوا: وَهَذَا خَاصٌّ بِالْبُغَاةِ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِهِمْ عَنْ الْمُحَارَبَةِ.
وَدَلَّ الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا وَظَاهِرُهُ، وَلَوْ كَانَ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ قَالَ: لِأَنَّ الْقَصْدَ دَفْعُهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ وَقَعَ.
وَذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْهَارِبَ إلَى فِئَةٍ يُقْتَلُ إذْ لَا يُؤْمَنُ عَوْدُهُ وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: «وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهَا» أَيْ لَا يُغْنَمُ فَيُقْسَمُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ أَمْوَالَ الْبُغَاةِ لَا تُغْنَمُ، وَإِنْ أُجْلِبُوا بِهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَأُيِّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ» وَقَدْ صَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَأْخُذْ سَلَبًا فَأَخْرَجَ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ لَا يَأْخُذُ سَلَبًا وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْبَصْرَةِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا.
وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ شَهِدْت يَوْمَ صِفِّينَ وَكَانُوا لَا يُجْهِزُونَ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يَقْتُلُونَ مُوَلِّيًا، وَلَا يَسْلُبُونَ قَتِيلًا, وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُغْنَمُ مَا أُجْلِبُوا بِهِ مِنْ مَالٍ وَآلَةِ حَرْبٍ وَيُخْمَسُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ: لَكُمْ الْمُعَسْكَرُ وَمَا حَوَى وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهَا لَا تُغْنَمُ وَبِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عَلِيٍّ مِمَّا يُوَافِقُ الْحَدِيثَ أَكْثَرُ وَأَقْوَى طَرِيقًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: يُؤْخَذُ مِنْ إطْلَاقِ قَوْلِهِ «وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا» أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ الْبُغَاةُ مَا أَتْلَفُوهُ فِي الْقِتَالِ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ يَحْيَى وَالْحَنَفِيَّةُ وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات/ 9] وَلَمْ يَذْكُرْ ضَمَانًا وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ هَاجَتْ الْفِتْنَةُ الْأُولَى فَأَدْرَكَتْ الْفِتْنَةُ رِجَالًا ذَوِي عَدَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ شَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا وَبَلَغْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنْ يُهْدَرَ أَمْرُ الْفِتْنَةِ، وَلَا يُقَامُ فِيهَا عَلَى رَجُلٍ قَاتِلٍ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ قِصَاصٌ فِيمَنْ قَتَلَ، وَلَا حَدَّ فِي سِبَاءِ امْرَأَةٍ سُبِيَتْ، وَلَا يُرَى عَلَيْهَا حَدٌّ، وَلَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا مُلَاعَنَةٌ، وَلَا يُرَى أَنْ يَقْذِفَهَا أَحَدٌ إلَّا جُلِدَ الْحَدَّ وَيُرَى أَنْ تُرَدَّ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بَعْدَ أَنْ تَعْتَدَّ فَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ زَوْجِهَا الْآخَرِ وَيُرَى أَنْ يَرِثَهَا زَوْجُهَا, قُلْت: وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا، فَإِنَّهُ مُقَوٍّ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَدِمَاءَهُمْ مَعْصُومَةٌ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَحُكِيَ عَنْ الْهَادَوِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِمَّنْ قَتَلَ مِنْ الْبُغَاةِ وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ نَحْوِ {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}[الإسراء/ 33].
وَحَدِيثِ «مَنْ اعْتَبَطَ مُسْلِمًا بِقَتْلٍ عَنْ بَيِّنَةٍ، فَهُوَ قَوَدٌ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا عُمُومَاتٌ خُصَّتْ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
(الشرح)
الصواب: أَنَّه إذا انفض القتال ما أحد يطالب بشيء, لا سفك الدم ولا بمال ولا بشيء, ولا يُجهز عَلَى الجريح, ولا يُطلب المولي, انتهت خلاص الحرب, إذا انتهت الحرب ما أحد يطالب بشيء لِأَنّ هَذِه الأمور انحصرت داخل الحرب فإذا انتهت فلا, وليسوا كفار ليعاملوا معاملة الكفار.