شعار الموقع

شرح كتاب الحدود من سبل السلام_3

00:00
00:00
تحميل
46

بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:

(المتن)

قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:

الرَّجْم فِي كِتَابِ اللَّهِ.

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى إذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ» بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ, «أَوْ الِاعْتِرَافُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ أَوْ الِاعْتِرَافُ وَقَدْ قَرَأْنَاهَا: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ».

(الشرح)

«الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زنيا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نكالًا من الله والله عزيزٌ حكيم» هَذِه الآية نُسخ لفظها وبقي حكمها, سبب الرجم؟ «إذا زنيا».

(المتن)

وَبُيِّنَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ النَّسَائِيّ مَحَلُّهَا مِنْ السُّورَةِ وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ؛ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ؛ وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: «إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتهَا بِيَدِي» وَهَذَا الْقِسْمُ مِنْ نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ، وَقَدْ عَدَّهُ الْأُصُولِيُّونَ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ النَّسْخِ.

(الشرح)

وهذه الرواية فيها إشكال قول عمر: «لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتهَا بِيَدِي» كيف يكتبها بيده وقد نُسخت؟ قد يقال لو صح: يُحمل عَلَى أنها تفسير لا عَلَى أن تلاوتها تُقرأ, والبعض يحمله عَلَى أَنَّه يكتبها بيانًا للناس في غير المصحف يَعْنِي؛ لِأَنَّهَا نُسخ لفظها فلا تُكتب مع الْقُرْآن.

(المتن)

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا إذَا وُجِدَتْ الْمَرْأَةُ الْخَالِيَةُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ السَّيِّدِ حُبْلَى وَلَمْ تُذْكَرْ شُبْهَةٌ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْحَدُّ بِالْحَبَلِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ.

وَقَالَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحَدُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ اعْتِرَافٍ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَاسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ قَالَهُ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْإِجْمَاعِ.

قُلْت: لَا يَخْفَى أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الْإِجْمَاعُ لَا مَا يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ.

(الشرح)

والإجماع يحتاج إِلَى نص من رسول الله r, ما يكون هناك إجماع إِلَّا بنص.

(...) الجن لهم أحكام وإن كَانُوا مكلفين هم غير الإنس, الجن أرواح خفيفة والإنس جسمٌ ورح, وهناك اختلاف بين الجن والإنس.

(المتن)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا» بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ فَمُثَلَّثَةٍ فَرَاءٍ فَمُوَحَّدَةٍ التَّعْنِيفُ لَفْظًا وَمَعْنًى: «ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ, فِيهِ مَسَائِلُ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ: «فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا» أَنَّهُ إذَا عَلِمَ السَّيِّدُ بِزِنَى أَمَتِهِ جَلَدَهَا وَإِنْ لَمْ تَقُمْ شَهَادَةٌ وَذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ إذَا تَبَيَّنَ زِنَاهَا بِمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ أَوْ الْإِقْرَارُ، وَالشَّهَادَةُ تُقَامُ عِنْدَ الْحَاكِمِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ؛ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: تُقَامُ عِنْدَ السَّيِّدِ. وَفِي قَوْلِهِ: «فَلْيَجْلِدْهَا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وِلَايَةَ جَلْدِ الْأَمَةِ إلَى سَيِّدِهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الزَّمَانِ إمَامٌ وَإِلَّا فَالْحُدُودُ إلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى، وَالْمُرَادُ بِالْجَلْدِ الْحَدُّ الْمَعْرُوفُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}[النساء/ 25].

(الشرح)

المراد: خمسين جلدة.

(المتن)

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: «وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا» وَرَدَ فِي لَفْظِ النَّسَائِيّ وَلَا يُعَنِّفْهَا وَهُوَ بِمَعْنَى مَا هُنَا، وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ الْجَمْعِ لَهَا بَيْنَ الْعُقُوبَةِ بِالتَّعْنِيفِ وَالْجَلْدِ، وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَقْنَعُ بِالتَّعْنِيفِ دُونَ الْجَلْدِ فَقَدْ أَبْعَدَ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يُعَزَّرُ بِالتَّعْنِيفِ وَاللَّوْمِ وَإِنَّمَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِمَنْ صَدَرَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إلَى الْإِمَامِ لِلتَّحْذِيرِ وَالتَّخْوِيفِ، فَإِذَا رُفِعَ وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَفَاهُ.

(الشرح)

يَعْنِي: من ارتكب ما يوجب الحد فَإِن من علم ينظر في حاله كأهل الحي لهم أن يؤدبوه فيما بينهم ويعنفوه ويوبخوه ويتوبوه ويكتفون بهذا, أما إذا رُفع للحاكم ووصل للقاضي فلابد من إقامة الحد, وإذا أُقيم عليه الحد فلا يُعنف؛ لِأَنّ الحد وحده طهارة والتوبة طهارة, وإذا رُفع القضية للحاكم ووصلت للحاكم فلا شفاعة ولابد من إقامة الحد, للحديث: «إذا رُفعت الحدود إِلَى الحاكم فلعن الله الشافع والمشفع فيهِ» ليس هناك شفاعة, لَكِنْ قبل ذلك إذا أحب يُعفى عنه إِذا كَانَ سُرق منه وأحب أن يعفو عنه فقبل أن يصل للحاكم, أما إذا رُفع للحاكم فلابد من إقامة الحد.

وجاء هذا في قصة صفوان الذي سُرق إزارٌ له قيمته ثلاثة دراهم فرُفع إِلَى النَّبِيِّ r فأمر بقطع يده, فَقَالَ صفوان: «يا رسول الله عفوت عنه, قَالَ: هلا كَانَ ذلك قبل أن تأتيني» يَعْنِي: هلا كَانَ العفو قبل أن تصل إليَ, والرسول هو السلطان, فقبل أن تصل للحاكم لا بأس, وفي الحديث الآخر: «تعافوا الحدود فيما بينكم فإذا وصلت الحدود إِلَى الحاكم فلعن الله الشافع والمشفع فيهِ».

فإذا ارتكب ما يوجب الحد ورأى أهل الحي أن يُنصح ويوعظ أو يوبخ ويُعنف, أو أيضًا كذلك يؤدبوه فيما بينهم في مكان معين بضربات أو جلدات فيما بينهم ويكفي هذا ولا يُرفع إِلَى الحاكم فهذا كافي, وإذا رأوا أن يُرفع إلى الحاكم فيُرفع إِلَى الحاكم وليس هناك تعنيف ولا كلام بعد هذا.

(المتن)

وَيُؤَيِّدُ هَذَا «نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبِّهِ الَّذِي أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ وَقَالَ: وَلَا تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» وَفِي قَوْلِهِ: «ثُمَّ إنْ زَنَتْ إلَى آخِرِهِ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ إذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الزِّنَى بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَأَمَّا إذَا زَنَى مِرَارًا مِنْ دُونِ تَخَلُّلِ إقَامَةِ الْحَدِّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ.

(الشرح)

هذا حد واحد إذا تكرر الزنا مرة واثنين وثلاثة ولم يُحد فحدٌ واحد له, أما إذا زنا ثم جُلد, ثم زنا مرة ثانية يُجلد, مثل من كرر الجماع في نهار رمضان, صائم كرر الجماع في يومٍ واحد ثلاث مرات أربع مرات فحدٌ واحد, لَكِنْ لو كفر وعتق في أول النهار ثم زنا في آخر النهار عليه كفارة ثانية, لَكِنْ إذا تكرر ولم يكفر فكفارة واحدة, فكذلك الزاني إذا تكرر ولم يقام عليه الحد فحدٌ واحد, فَإِن أُقيم عليه الحد ثم زنا فحدٌ آخر.

(المتن)

وَيُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: «فَلْيَبِعْهَا» أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا الْحَدُّ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: الْأَرْجَحُ أَنَّهُ يَجْلِدُهَا قَبْلَ الْبَيْعِ ثُمَّ يَبِيعُهَا، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُتْرَكُ وَلَا يَقُومُ الْبَيْعُ مَقَامَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ وُجُوبُ بَيْعِ السَّيِّدِ لِلْأَمَةِ، وَأَنَّ إمْسَاكَ مَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ مُحَرَّمٌ، وَهَذَا قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ؛ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَمَلَ الْفُقَهَاءُ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحَضِّ عَلَى مُبَاعَدَةِ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الزِّنَى لِئَلَّا يُظَنَّ بِالسَّيِّدِ الرِّضَا بِذَلِكَ فَيَكُونُ دَيُّوثًا، وَقَدْ ثَبَتَ الْوَعِيدُ عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِالدِّيَاثَةِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِرَاقُ الزَّانِيَةِ لِأَنَّ لَفْظَ "أَمَةِ أَحَدِكُمْ" عَامٌّ لِمَنْ يَطَؤُهَا مَالِكُهَا وَمَنْ لَا يَطَؤُهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ مُجَرَّدَ الزِّنَى مُوجِبًا لِلْفِرَاقِ إذْ لَوْ كَانَ مُوجِبًا لَهُ لَوَجَبَ فِرَاقُهَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ بَلْ لَمْ يُوجِبْهُ إلَّا فِي الثَّالِثَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ فِرَاقِهَا بِالْبَيْعِ كَمَا قَالَهُ دَاوُد وَأَتْبَاعُهُ.

(الشرح)

داود الظاهري, الظاهرية يرون الوجوب, وَلَكِن الظاهرية معهم الدليل واضح؛ لان القاعدة الأصولية: الأصل في الأوامر الوجوب, لَكِنْ الجمهور يفرقون بين الأوامر يقولون: إذا كَانت المسألة من الآداب فَإِنَّهُ يُحمل عَلَى الإرشاد والندب, وإذا كانت المسألة في الأحكام يُحمل عَلَى الوجوب, والظاهرية لا يفرقون والأصل: أن الأوامر للوجوب, وقول الظاهرية قولٌ قوي.

(المتن)

وَهَذَا الْإِيجَابُ لَا لِمُجَرَّدِ الزِّنَى بَلْ لِتَكْرِيرِهِ لِئَلَّا يُظَنَّ بِالسَّيِّدِ الرِّضَا بِذَلِكَ فَيَتَّصِفُ بِالصِّفَةِ الْقَبِيحَةِ، وَيَجْرِي هَذَا الْحُكْمُ فِي الزَّوْجَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ طَلَاقُهَا وَفِرَاقُهَا لِأَجْلِ الزِّنَى بَلْ إنْ تَكَرَّرَ مِنْهَا وَجَبَ لِمَا عَرَفْت؛ قَالُوا: وَإِنَّمَا أُمِرَ بِبَيْعِهَا فِي الثَّالِثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا قَرِيبًا، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَسِيلَةِ إلَى تَكْثِيرِ أَوْلَادِ الزِّنَى قَالَ: وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا سَلَفَ لَهُ مِنْ الْأُمَّةِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ: فَكَيْفَ يَجِبُ بَيْعُ مَا لَهُ قِيمَةٌ خَطِيرَةٌ بِالْحَقِيرِ انْتَهَى.

(الشرح)

هذا معارضة للنص.

(المتن)

قُلْت: وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مَعَ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ وَلَمْ يَأْتِ الْقَائِلُ بِالِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ الْإِيجَابِ قَوْلُهُ: وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ قُلْنَا: وَثَبَتَ هُنَا مُخَصِّصٌ لِذَلِكَ النَّهْيِ وَهُوَ هَذَا الْأَمْرُ.

(الشرح)

هو ليس بإضاعة, هذا بيع ومعاوضة.

(المتن)

وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الشَّيْءِ الثَّمِينِ بِالشَّيْءِ الْحَقِيرِ إذَا كَانَ الْبَائِعُ عَالِمًا بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ جَاهِلًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَوْلُهُ: وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَسِيلَةِ إلَى تَكْثِيرِ أَوْلَادِ الزِّنَى فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِبَيْعِهَا قَطْعٌ لِذَلِكَ إذْ لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِتَرْكِهَا لَهُ وَلَيْسَ فِي بَيْعِهَا مَا يُصَيِّرُهَا تَارِكَةً لَهُ وَقَدْ قِيلَ فِي وَجْهِ الْحُكْمِ فِي الْأَمْرِ بِبَيْعِهَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوَانِعِ الزِّنَى إنَّهُ جَوَازٌ أَنْ تُسْتَغْنَى عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَتَعْلَمَ بِأَنَّ إخْرَاجَهَا مِنْ مِلْكِ السَّيِّدِ الْأَوَّلِ بِسَبَبِ الزِّنَى فَتَتْرُكُهُ خَشْيَةً مِنْ تَنَقُّلِهَا عِنْدَ الْمُلَّاكِ أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ يُعِفُّهَا بِالتَّسَرِّي لَهَا أَوْ بِتَزْوِيجِهَا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُعَرِّفَ الْمُشْتَرِيَ بِسَبَبِ بَيْعِهَا لِئَلَّا يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» فَإِنَّ الزِّنَى عَيْبٌ وَلِذَا أُمِرَ بِالْحَطِّ مِنْ الْقِيمَةِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِبَيَانِ عَيْبِهَا ثُمَّ هَذَا الْعَيْبُ لَيْسَ مَعْلُومًا ثُبُوتُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ فَقَدْ يَتُوبُ الْفَاجِرُ وَيَفْجُرُ الْبَارُّ، وَكَوْنُهُ قَدْ وَقَعَ مِنْهَا وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ قَدْ صَيَّرَهُ كَغَيْرِ الْوَاقِعِ.

(الشرح)

لِأَنّ الحد طهارة كما في حديث عبادة لما ذكر البيعة قَالَ: «من أصاب من ذلك شَيْئًا فعوقب بِهِ فهو كفارةٌ له ومن أصاب من ذلك شَيْئًا فستره الله فهو إِلَى الله إن شاء الله عذبه وإن شاء عفا عنه».

(المتن)

وَلِهَذَا نَهَى عَنْ التَّعْنِيفِ لَهَا وَبَيَانُ عَيْبِهَا قَدْ يَكُونُ مِنْ التَّعْنِيفِ وَهَلْ يُنْدَبُ لَهُ ذِكْرُ سَبَبِ بَيْعِهَا فَلَعَلَّهُ يُنْدَبُ وَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْمُنَاصَحَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي إطْلَاقِ الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْأَمَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أُحْصِنَتْ أَوْ لَا، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}[النساء/25] دَلِيلٌ عَلَى شَرْطِيَّةِ الْإِحْصَانِ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ شُرِطَ لِلتَّنْصِيفِ فِي جَلْدِ الْمُحْصَنَةِ مِنْ الْإِمَاءِ وَأَنَّ عَلَيْهَا نِصْفَ الْجَلْدِ لَا الرَّجْمَ إذْ لَا يَتَنَصَّفُ.

(الشرح)

الرجم ما يتنصف, الجلد هو الذي يتنصف.

(المتن)

فَيَكُونُ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ فِي الْآيَةِ وَصَرَّحَ بِتَفْصِيلِ الْإِطْلَاقِ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدَّ مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُنَّ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ" رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ مِنْ الْعَبِيدِ إلَّا مَنْ أُحْصِنَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَكِنَّهُ يُؤَيِّدُ كَلَامَ الْجُمْهُورِ إطْلَاقُ الْحَدِيثِ الْآتِي.

وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد, وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مَوْقُوفٌ, وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا وَقَدْ غَفَلَ الْحَاكِمُ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدُ الشَّيْخَيْنِ وَاسْتَدْرَكَهُ عَلَيْهِمَا.

قُلْت: يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ لِكَوْنِ مُسْلِمٍ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ رَفْعُهُ, وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنْ إقَامَةِ الْمُلَّاكِ الْحَدَّ عَلَى الْمَمَالِيكِ إلَّا أَنَّ هَذَا يَعُمُّ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ وَدَلَّ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا أُحْصِنُوا أَوْ لَا، وَعَلَى أَنَّ إقَامَتَهُ إلَى الْمَالِكِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى؛ وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ؛ فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إنَّ حَدَّهَا إلَى سَيِّدِهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: حَدُّهَا إلَى الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا عَبْدًا لِمَالِكِهَا فَأَمْرُهَا إلَى السَّيِّدِ؛ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي السَّيِّدِ شَرْطُ صَلَاحِيَّةٍ وَلَا غَيْرِهَا؛ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: يُقِيمُهُ السَّيِّدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ إلَّا بِالصِّغَارِ، وَفِي تَسْلِيطِهِ عَلَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَمَالِيكِهِ مُنَافَاةٌ لِذَلِكَ؛ ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ لِلسَّيِّدِ إقَامَةَ حَدِّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَقَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ بِلَا دَلِيلٍ نَاهِضٍ؛ وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ: "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَطَعَ يَدَ غُلَامٍ لَهُ سَرَقَ، وَجَلَدَ عَبْدًا لَهُ زَنَى، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَهُمَا إلَى الْوَالِي".

وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ بِسَنَدِهِ: «أَنَّ عَبْدًا لِبَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ سَرَقَ وَاعْتَرَفَ فَأَمَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ فَقُطِعَتْ يَدُهُ» وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِمَا إلَى الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ "أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّتْ جَارِيَةً لَهَا زَنَتْ" وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: "أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَجْلِدُ وَلِيدَتَهَا خَمْسِينَ إذَا زَنَتْ" وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِ إلَّا الْإِمَامُ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ إمَامٌ أَقَامَهُ السَّيِّدُ.

وَذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ مُطْلَقًا إلَّا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهُ.

وَقَدْ اسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَقُولُ: الزَّكَاةُ وَالْحُدُودُ وَالْفَيْءُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الطَّحَاوِيِّ: وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: بَلْ خَالَفَهُ السُّلْطَانُ قَالَ: اثْنَا عَشَرَ نَفْسًا مِنْ الصَّحَابَةِ: وَقَدْ سَمِعْت مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَكَفَى بِهِ رَدًّا عَلَى الطَّحَاوِيِّ؛ وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْت بَقَايَا الْأَنْصَارِ وَهُمْ يَضْرِبُونَ الْوَلِيدَةَ مِنْ وَلَائِدِهِمْ فِي مَجَالِسِهِمْ إذَا زَنَتْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَأْمُرُ بِهِ وَأَبُو بَرْزَةَ يَحُدُّ وَلِيدَتَهُ.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد