بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ, قَالُوا: وَجَاحِدُ الْعَارِيَّةِ خَائِنٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا عَامٌّ لِكُلِّ خَائِنٍ وَلَكِنَّهُ مُخَصَّصٌ بِجَاحِدِ الْعَارِيَّةِ وَبِكَوْنِ الْقَطْعِ فِيمَنْ جَحَدَ الْعَارِيَّةَ لَا غَيْرِهِ مِنْ الْخَوَنَةِ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يُخَصُّ لِلْقَطْعِ بِمَنْ اسْتَعَارَ عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ مُخَادِعًا لِلْمُسْتَعَارِ مِنْهُ ثُمَّ تَصَرَّفَ فِي الْعَارِيَّةِ وَأَنْكَرَهَا لَمَّا طُولِبَ بِهَا قَالَ: فَإِنَّ هَذَا لَا يُقْطَعُ بِمُجَرَّدِ الْخِيَانَةِ بَلْ لِمُشَارَكَةِ السَّارِقِ فِي أَخْذِ الْمَالِ خُفْيَةً. وَالْحَدِيثُ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ لِعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَقَدْ صَحَّحَهُ مَنْ سَمِعْت؛ وَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْخَائِنَ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْخَائِنِ الَّذِي يُضْمِرُ مَا لَا يُظْهِرُهُ فِي نَفْسِهِ، وَالْخَائِنُ هُنَا هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ خُفْيَةً مِنْ مَالِكِهِ مَعَ إظْهَارِهِ لَهُ النَّصِيحَةَ وَالْحِفْظَ, وَالْخَائِنُ أَعَمُّ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ الْخِيَانَةُ فِي غَيْرِ الْمَالِ، وَمِنْهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ وَهِيَ مُسَارَقَةُ النَّاظِرِ بِطَرَفِهِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ النظر إليهُ.
(الشرح)
طرف: يَعْنِي رمش العين, ومنه الخيانة في الدين لقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}[التحريم/10], قَالَ العلماء: خانتهما في الدين وليس في العِرض لِأَنّ الله صان الرسل والأنبياء عن الخيانة, فهذه الخيانة في الدين لا في العِرض, فالخيانة عامة تكون في الدين, وتكون في المال, ويُستثنى من هذا جحد العارية فَإِنَّهُ دل النص عَلَى أَنَّه يُقطع بها.
(المتن)
وَالْمُنْتَهِبُ الْمُغِيرُ مِنْ النُّهْبَةِ وَهِيَ الْغَارَةُ وَالسَّلْبُ وَكَأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا مَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ, وَالْمُخْتَلِسُ السَّالِبُ مَنْ اخْتَلَسَهُ إذَا سَلَبَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَرْطِيَّةِ أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ فِي حِرْزٍ، فَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلنَّاصِرِ وَالْخَوَارِجِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِعَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيلِ بِاشْتِرَاطِهِ مِنْ السُّنَّةِ وَلِإِطْلَاقِ الْآيَةِ.
(الشرح)
هذا كأنه رواية عن الإمام أحمد, والمشهور من مذهب الإمام أحمد كقول الجمهور: أَنَّه لابد من اشتراط الحرز وهو قول جمهور العلماء.
(المتن)
وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى اشْتِرَاطِهِ مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ إذْ مَفْهُومُهُ لُزُومُ الْقَطْعِ فِيمَا أُخِذَ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ وَهُوَ مَا كَانَ عَنْ خُفْيَةٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ وَلَا تَثْبُتُ بِهِ قَاعِدَةٌ يُقَيَّدُ بِهَا الْقُرْآنُ وَيُؤَيِّدُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ مَنْ أَخَذَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ», «وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَجْحَدُ مَا تَسْتَعِيرُهُ»؛ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْحِرْزُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَفْهُومِ السَّرِقَةِ لُغَةً.
(الشرح)
كأن الشارح يميل إِلَى القول بعدم اشتراط الحرز, والصواب: اشتراط الحرز معروف هذا.
(المتن)
فَإِنْ صَحَّ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ فَالْمَسْأَلَةُ كَمَا تَرَى وَالْأَصْلُ عَدَمُ الشَّرْطِ وَأَنَا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأَتَوَقَّفُ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ.
(الشرح)
يَعْنِي: كأنه لم يتبين له ولكنه تبين لغيره.
(المتن)
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» هُوَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ جُمَّارُ النَّخْلِ وَهُوَ شَحْمُهُ الَّذِي فِي وَسَطِ النَّخْلِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ, (رَوَاهُ الْمَذْكُورُونَ) وَهُمْ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ (وَصَحَّحَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ) كَمَا صَحَّحَا مَا قَبْلَهُ قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: الْحَدِيثُ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالثَّمَرُ الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مُعَلَّقًا فِي النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يُجَذَّ وَيُحَرَّزَ وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: حَوَائِطُ الْمَدِينَةِ لَيْسَتْ بِحِرْزٍ وَأَكْثَرُهَا تَدْخُلُ مِنْ جَوَانِبِهَا، وَالثَّمَرُ اسْمٌ جَامِعٍ لِلرَّطْبِ وَالْيَابِسِ مِنْ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا فِي الْبَدْرِ الْمُنِيرِ وَأَمَّا الْكُثَرُ فَوَقَعَ تَفْسِيرُهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ بِالْجُمَّارِ، وَالْجُمَّارُ بِالْجِيمِ آخِرُهُ رَاءٌ بِزِنَةِ زَمَانٍ، وَهُوَ شَحْمُ النَّخْلِ الَّذِي فِي وَسَطِ النَّخْلَةِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْمُنْبِتِ لَهُ أَوْ قَدْ جُذَّ, وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُجْتَهِدِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ فِي طَعَامٍ وَلَا فِيمَا أَصْلُهُ مُبَاحٌ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَعُمْدَتُهُ فِي مَنْعِهِ الْقَطْعَ فِي الطَّعَامِ الرَّطْبِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي كُلِّ مُحَرَّزٍ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى أَصْلِهِ بَاقِيًا وَقَدْ جُذَّ سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُهُ مُبَاحًا كَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِ أَوْ لَا، وَقَالُوا: لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ أُخْرِجَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ عَدَمِ إحْرَازِ حَوَائِطِهَا فَتَرْكُ الْقَطْعِ لِعَدَمِ الْحِرْزِ فَإِذَا أُحْرِزَتْ الْحَوَائِطُ كَانَتْ كَغَيْرِهَا, والله أعلم.
(الشرح)
المهم أَنَّه يأخذ من الحرز, والحرز يختلف فكل شيء بحسبه, الحرز النقود لابد أن يكون مقفل عليه بالأقفال, حرز مثلًا الغُنم تكون مثلًا في حظيرة مغلق عليها, حرز الخشب وغيره كذلك يكون في محل مغلق عليه يناسبه, كل شيء بحسبه, حرز الدراهم ليست كحرز الغُنم والخشب وحرز الحديد, الدراهم لابد أن يأخذها من مكان مقفل, صناديق أو أبواب يكسرها ويأخذها, كذلك حرز السيارة, السيارة إذا كانت مغلقة ثم كسرها هذا حرز, ولو كانت في الشارع لِأَنَّهَا محرزة الآن, لَكِنْ إذا وجدها مفتوحة وتركها صاحبها مفتوحة الأبواب والزجاج صار هذا ما فيهِ حرز, كذلك الغُنم إذا كانت متروكة في مكان ثم أخذ منها لا يكون حرز, لَكِنْ لو كانت في حوش والأبواب مغلقة ثم تسلق عليها وأخرجها هذا أخذها من الحرز, كذلك الحديد والخشب يكون محروز في مكان ومستودع ثم كسر المستودع وتسلق وأخرجها هذا من الحرز, لَكِنْ لو كانت في الشارع وأخذها ما يكون هذا حرز, والدراهم كذلك لابد تكون محرزة لَكِنْ إذا وجد الباب مفتوح وتُرك الصندوق مفتوح وجاء وجد الدراهم وأخذها هذا ليس حرز.