بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
لَا يَحِلُّ ضَرْبُ الْوَجْهِ فِي حَدٍّ وَلَا غَيْرِهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ ضَرْبُ الْوَجْهِ فِي حَدٍّ وَلَا غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَا يُضْرَبُ الْمَحْدُودُ فِي الْمَرَاقِّ وَالْمَذَاكِيرِ لِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْ فِي أَعْضَائِهِ، وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ، وَاتَّقِ وَجْهَهُ وَمَذَاكِيرَهُ, وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ الْمَرَاقِّ وَالْمَذَاكِيرِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مَعَ ضَرْبِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي ضَرْبِهِ فِي الرَّأْسِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ فِيهِ إذْ هُوَ غَيْرُ مَأْمُونٍ.
(الشرح)
الصواب: أَنَّه لا يضرب الرأس أيضًا, لا يضرب الرأس ولا الوجه.
(المتن)
وَذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ إلَى جَوَازِ ضَرْبِهِ فِيهِ قَالُوا: لِقَوْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْجَلَّادِ "اضْرِبْ الرَّأْسَ" وَلِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "اضْرِبْ الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِيهِ" أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَفِيهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ.
(الشرح)
الصواب: أَنَّه لا يصح عن علي ولا عن أبي بكر الْأَمْرِ بضرب الرأس.
(المتن)
وَذَهَبَ مَالِكٌ أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ إلَّا فِي رَأْسِهِ.
فَائِدَةٌ: فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُحْثَى عَلَيْهِ التُّرَابُ وَيُبَكَّتَ فَلَمَّا وَلَّى شَرَعَ الْقَوْمُ يَسُبُّونَهُ وَيَدْعُونَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ الْقَائِلُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُولُوا هَذَا وَلَكِنْ قُولُوا: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ» وَأَوْجَبَ الْمَازِرِيُّ التَّثْرِيبَ وَالتَّبْكِيتَ.
وَأَمَّا صِفَةُ سَوْطِ الضَّرْبِ فَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مُرْسَلًا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَجْلِدَ رَجُلًا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ خَلِقٍ. فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ فَقَالَ دُونَ هَذَا» فَيَكُونُ بَيْنَ الْجَدِيدِ وَالْخَلْقِ.
(الشرح)
يَعْنِي: السوط يكون متوسط لا يكون السوط جديد قوي ولا يكون ضعيف.
(المتن)
وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "سَوْطُ الْحَدِّ بَيْنَ سَوْطَيْنِ وَضَرْبُهُ بَيْنَ ضَرْبَتَيْنِ" قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: السَّوْطُ هُوَ الْمُتَّخَذُ مِنْ سُيُورٍ تُلْوَى وَتُلَفُّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ, وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إسْنَادِهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ ضَعِيفٌ مِنْ قَبْلِ حِفْظِهِ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَابْنُ السَّكَنِ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَلَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ, وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ وَالْكُلُّ مُتَعَاضِدَةٌ وَقَدْ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ، فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ "أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ، فَقَالَ: أَخْرِجَاهُ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ اضْرِبَاهُ" وَأَسْنَدَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَيْهِ فَسَارَّهُ، فَقَالَ: يَا قُنْبُرُ أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ" وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ.
وَإِلَى عَدَمِ جَوَازِ إقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْمَسْجِدِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْكُوفِيُّونَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ. وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّعْبِيُّ إلَى جَوَازِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ دَلِيلًا وَكَأَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَقَوْلُ مَنْ نَزَّهَ الْمَسْجِدَ أَوْلَى يُرِيدُ قَوْلَ الْأَوَّلِينَ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إلَّا مِنْ تَمْرٍ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ تَسْمِيَةِ نَبِيذِ التَّمْرِ خَمْرًا عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ.
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ, وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا.
لَا يُقَالُ: إنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَنَسٍ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ إخْبَارٌ عَمَّا كَانَ مِنْ الشَّرَابِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَلَامَ عُمَرَ لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدٌ بِالْمَدِينَةِ وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَمَّا يَشْرَبُهُ النَّاسُ مُطْلَقًا وَقَوْلُهُ: «وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» إشَارَةٌ إلَى وَجْهِ التَّسْمِيَةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَطَ الْعَقْلَ وَغَطَّاهُ يُسَمَّى خَمْرًا لُغَةً سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا الْحَدِيثُ الْآتِي:
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.