بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
بَابُ التَّعْزِيرِ وَحُكْمِ الصَّائِلِ.
التَّعْزِيرُ: مَصْدَرُ عَزَّرَ مِنْ الْعَزْرِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الرَّدُّ وَالْمَنْعُ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ تَأْدِيبٌ عَلَى ذَنْبٍ لَا حَدَّ فِيهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحُدُودِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَتَعْزِيرُ ذَوِي الْهَيْئَاتِ أَخَفُّ، وَيَسْتَوُونَ فِي الْحُدُودِ مَعَ النَّاسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّفَاعَةُ دُونَ الْحُدُودِ.
وَالثَّالِثُ: التَّالِفُ بِهِ مَضْمُونٌ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَدْ فَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالتَّأْدِيبِ وَلَا يَتِمُّ لَهُمْ الْفَرْقُ، وَيُسَمَّى تَعْزِيرًا لِدَفْعِهِ وَرَدِّهِ عَنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ، وَيَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ الْفَاعِلِ.
وَقَوْلُهُ: (وَحُكْمُ الصَّائِلِ) الصَّائِلُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَالَ عَلَى قَرْنِهِ إذَا سَطَا عَلَيْهِ وَاسْتَطَالَ.
(الشرح)
قِرنه: يَعْنِي مماثل له, مثل إنسان صال عَلَى إنسان يريد نفسه أو ماله أو أهله.
(المتن)
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يُجْلَدُ» رُوِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَعْلُومِ وَمَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ وَمَجْزُومًا عَلَى النَّهْيِ وَمَرْفُوعًا عَلَى النَّفْيِ «فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَفِي رِوَايَةٍ: «عَشْرَ جَلَدَاتٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا عُقُوبَةَ فَوْقَ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ» وَالْمُرَادُ بِحُدُودِ اللَّهِ مَا عَيَّنَ الشَّارِعُ فِيهِ عَدَدًا مِنْ الضَّرْبِ أَوْ عُقُوبَةً مَخْصُوصَةً كَالْقَطْعِ وَالرَّجْمِ وَهَذَانِ دَاخِلَانِ فِي عُمُومِ حُدُودِ اللَّهِ خَارِجَانِ عَمَّا فِيهِ السِّيَاقُ إذْ السِّيَاقُ فِي الضَّرْبِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَحَدِّ الْمُحَارِبِ وَحَدِّ الْقَذْفِ بِالزِّنَى وَالْقَتْلِ فِي الرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ هَلْ يُسَمَّى حَدًّا أَمْ لَا؟ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ جَحْدِ الْعَارِيَّةِ وَاللِّوَاطِ وَإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ وَتَحْمِيلِ الْمَرْأَةِ الْفَحْلَ مِنْ الْبَهَائِمِ عَلَيْهَا وَالسِّحَاقِ وَأَكْلِ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالسِّحْرِ وَالْقَذْفِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ تَكَاسُلًا وَالْأَكْلِ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُسَمَّى حَدًّا أَوْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ يُسَمَّى حَدًّا أَجَازَ الزِّيَادَةَ فِي التَّعْزِيرِ عَلَيْهَا عَلَى الْعَشَرَةِ الْأَسْوَاطِ؛ وَمَنْ قَالَ لَا يُسَمَّى لَمْ يُجِزْهُ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْعَمَلِ بِحَدِيثِ الْبَابِ، فَذَهَبَ إلَى الْأَخْذِ بِهِ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَآخَرُونَ إلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَكِنْ لَا يَبْلُغُ أَدْنَى الْحُدُودِ.
وَذَهَبَ الْقَاسِمُ وَالْهَادِي إلَى أَنَّهُ يَكُونُ التَّعْزِيرُ فِي كُلِّ حَدٍّ دُونَ حَدِّ جِنْسِهِ لِمَا يَأْتِي مِنْ فِعْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قُلْت: لَا دَلِيلَ لَهُمْ إلَّا فِعْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ مَنْ وُجِدَ مَعَ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ زِنًى مِائَةَ سَوْطٍ إلَّا سَوْطَيْنِ، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ مَنْ نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ مِائَةَ سَوْطٍ, وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِعْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ وَلَا يُقَاوِمُ النَّصَّ الصَّحِيحَ.
(الشرح)
إذا لم يوجد في المسألة دليل فقول الصحابة حجة عَلَى الصحيح, قول الصحابي حجة إذا لم يخالفه غيره وليس في المسألة دليل فهو حجة.
(المتن)
وَأَنَّ مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ لَا يَتِمُّ لَهُمْ دَلِيلًا وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الْحَدِيثُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ.
(الشرح)
هذا عجيب من المؤلف, الصحابة هم الذين عرفوا التنزيل ورووا التنزيل وشاهدوا التنزيل مع النَّبِيِّ r, وكانوا يسألون النَّبِيِّ r عما أشكل عَلَيْهِمْ ويعرفون معاني النصوص, كيف ما يكون حجة قولهم؟.
(المتن)
كَمَا أَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ مُعْتَذِرًا لَوْ بَلَغَ الْخَبَرُ الشَّافِعِيَّ لَقَالَ بِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي.
وَمِثْلُهُ قَالَ الدَّاوُدِيُّ مُعْتَذِرًا لِمَالِكٍ لَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا هَذَا الْحَدِيثُ فَرَأَى الْعُقُوبَةَ بِقَدْرِ الذَّنْبِ, وَلَوْ بَلَغَهُ مَا عَدَلَ عَنْهُ فَيَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا الْحُدُودَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ, وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ لَا تَخْلُو عَنْ مَقَالٍ.
وَالْإِقَالَةُ هِيَ مُوَافَقَةُ الْبَائِعِ عَلَى نَقْضِ الْبَيْعِ.
(الشرح)
إذا اشترى شخص سلعة ثم بدا له أن يرد السلعة فله أن يُقيله البائع وله أن يُلزمه بالسلعة, إذا باعا السلعة ثم تفرقا تم البيع, فإذا أراد المشتري أن يرد السعة ليس له ذلك إِلَّا إذا وافق البائع وأقاله فهذا فيهِ فضل وأجر, في حديث: «من أقال مسلمًا بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» والأصل أن البيع لازم.
(المتن)
وَأَقِيلُوا هُنَا مَأْخُوذٌ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا مُوَافَقَةُ ذِي الْهَيْئَةِ عَلَى تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ لَهُ أَوْ تَخْفِيفِهَا، وَفَسَّرَ الشَّافِعِيُّ ذَوِي الْهَيْئَاتِ بِاَلَّذِينَ لَا يُعْرَفُونَ بِالشَّرِّ فَيَزِلُّ أَحَدُهُمْ الزَّلَّةَ.
(الشرح)
والإنسان مستور معروف عنه الخير ومعروف عنه السِتر ثم حصل له زلة أو هفوة هذا من ذوي الهيئات وتُخفف عنه العقوبة أو التعزير.
(المتن)
وَالْعَثَرَاتُ جَمْعُ عَثْرَةٍ وَالْمُرَادُ هُنَا الزَّلَّةُ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ وَالثَّانِي مَنْ إذَا أَذْنَبَ تَابَ، وَفِي عَثَرَاتِهِمْ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الصَّغَائِرُ وَالثَّانِي أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ يَزِلُّ فِيهَا مُطِيعٌ وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي: أَقِيلُوا لِلْأَئِمَّةِ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ إلَيْهِمْ التَّعْزِيرُ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِهَادُ فِي اخْتِيَارِ الْأَصْلَحِ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ النَّاسِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَعَاصِي.
(الشرح)
يَعْنِي: يجتهد في تحديد التعزير.
(المتن)
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ التَّعْزِيرُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ إلَّا لِثَلَاثَةٍ: الْأَبُ فَإِنَّ لَهُ تَعْزِيرَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لِلتَّعْلِيمِ وَالزَّجْرِ عَنْ سَيِّئِ الْأَخْلَاقِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأُمَّ فِي مَسْأَلَةِ زَمَنِ الصِّبَا فِي كَفَالَتِهِ لَهَا ذَلِكَ وَلِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالضَّرْبِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ لِلْأَبِ تَعْزِيرُ الْبَالِغِ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا.
وَالثَّانِي: السَّيِّدُ يُعَزِّرُ رَقِيقَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْأَصَحِّ.
وَالثَّالِثُ: الزَّوْجُ لَهُ تَعْزِيرُ زَوْجَتِهِ فِي أَمْرِ النُّشُوزِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهَلْ لَهُ ضَرْبُهَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا؟ الظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكْفِ فِيهَا الزَّجْرُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَالزَّوْجُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُكَلَّفُ بِالْإِنْكَارِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ أَوْ الْجَنَانِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلَانِ.
(الشرح)
فإن قيل: ما السبب في الجلد؟.
هذا خاتم يختم للناس وزور فعزره.
فإن قيل: وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِعْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ وَلَا يُقَاوِمُ النَّصَّ الصَّحِيحَ؟.
هذا إن كَانَ في نص, أما إذا لم يكن فيهِ نص فقول الصحابي حجة, وَكَذَلِكَ أيضًا لا يعارضه قول صحابي آخر فَإِن تعارضا تساقطا ويُرجع لأصول الشريعة.