شعار الموقع

شرح كتاب الجهاد من سبل السلام_15

00:00
00:00
تحميل
69

بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:

(المتن)

قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:

لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.

وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إلَّا مُسْلِمًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ, وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِزِيَادَةٍ: «لَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ» وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».

قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ» قَالَ مَالِكٌ وَقَدْ أَجْلَى يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ أَيْضًا: وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ دِينٍ وَالْمَجُوسُ بِخُصُوصِهِمْ حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا عَرَفْت. وَأَمَّا حَقِيقَةُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَقَالَ مَجْدُ الدِّينِ فِي الْقَامُوسِ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا أَحَاطَ بِهِ بَحْرُ الْهِنْدِ وَبَحْرُ الشَّامِ ثُمَّ دِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ، أَوْ مَا بَيْنَ عَدَنَ أَبْيَنُ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ طُولًا. وَمِنْ جُدَّةَ إلَى أَطْرَافِ رِيفِ الْعِرَاقِ عَرْضًا انْتَهَى.

وَأُضِيفَتْ إلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَوْطَانَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَأَوْطَانَ أَسْلَافِهِمْ وَهِيَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ. وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحَادِيثُ مِنْ وُجُوبِ إخْرَاجِ مَنْ لَهُ دِينٌ غَيْرَ الْإِسْلَامِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَالْهَادَوِيَّةَ خَصُّوا ذَلِكَ بِالْحِجَازِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ سَأَلَ مَنْ يُعْطِي الْجِزْيَةَ أَنْ يُعْطِيَهَا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْحِجَازِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا كُلُّهَا.

وَفِي الْقَامُوسِ: الْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالطَّائِفُ وَمَخَالِيفُهَا فَإِنَّهَا حُجِزَتْ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ أَوْ بَيْنَ نَجْدٍ وَالسَّرَاةِ أَوْ لِأَنَّهَا اُحْتُجِزَتْ بِالْحِرَارِ الْخَمْسِ حَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ وَرَاقِمٍ وَلَيْلَى وَشُورَانَ وَالنَّارِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَجْلَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْيَمَنِ وَقَدْ كَانَتْ لَهَا ذِمَّةٌ وَلَيْسَ الْيَمَنُ بِحِجَازٍ فَلَا يُجْلِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْيَمَنِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مَقَامِهِمْ بِالْيَمَنِ, قُلْت: لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَاضِيَةَ فِيهَا الْأَمْرُ بِإِخْرَاجِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ, وَالْحِجَازُ بَعْضُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.

وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْأَمْرُ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ الْحِجَازِ وَهُوَ بَعْضُ مُسَمَّى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَالْحُكْمُ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا بِحُكْمٍ لَا يُعَارِضُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا كُلِّهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ كَمَا قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُ الْعَامَّ وَهَذَا نَظِيرُهُ وَلَيْسَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ كَمَا وَهَمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَغَايَةُ مَا أَفَادَهُ حَدِيثُ أَبِي عُبَيْدَةَ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ فِي إخْرَاجِهِمْ مِنْ الْحِجَازِ لِأَنَّهُ دَخَلَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ الْحِجَازِ تَحْتَ الْأَمْرِ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ أَفْرَدَ بِالْأَمْرِ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ لَا أَنَّهُ تَخْصِيصٌ أَوْ نَسْخٌ وَكَيْفَ وَقَدْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ.

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَا يَبْقَيْنَ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ» وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا أَجْلَاهُمْ مِنْ الْيَمَنِ فَلَيْسَ تَرْكُ إجْلَائِهِمْ بِدَلِيلٍ فَإِنَّ أَعْذَارَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ تَرَكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إجْلَاءَ أَهْلِ الْحِجَاز مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ إجْلَائِهِمْ لِشَغْلِهِ بِجِهَادِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُجْلَوْنَ بَلْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُمْ فِي الْيَمَنِ بِقَوْلِهِ لِمُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيًّا» فَهَذَا كَانَ قَبْلَ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ وَفَاتِهِ كَمَا عَرَفْت. فَالْحَقُّ وُجُوبُ إجْلَائِهِمْ مِنْ الْيَمَنِ لِوُضُوحِ دَلِيلِهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ تَقْرِيرَهُمْ فِي الْيَمَنِ قَدْ صَارَ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا لَا يَنْهَضُ عَلَى دَفْعِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ السُّكُوتَ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَمْرٍ وَقَعَ مِنْ الْآحَادِ أَوْ مِنْ خَلِيفَةٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا وَقَعَ، وَلَا عَلَى جَوَازِ مَا تُرِكَ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْوَاقِعُ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا لِمُنْكَرٍ وَسَكَتُوا وَلَمْ يَدُلَّ سُكُوتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ ثَلَاثٌ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ أَوْ الْقَلْبِ وَانْتِفَاءُ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ بِالْقَلْبِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَدُلُّ سُكُوتُهُ عَلَى تَقْرِيرِهِ لِمَا وَقَعَ حَتَّى يُقَالَ قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا إذْ لَا يَثْبُتُ أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ السَّاكِتُ إذَا عُلِمَ رِضَاهُ حَتَّى يُقَالَ رِضَاهُ بِالْوَاقِعِ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ.

وَبِهَذَا يُعْرَفُ بُطْلَانُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَدْ حَرَّرَ هَذَا فِي رَدِّ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ مَعَ وُضُوحِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ فَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فَالْعَجَبُ مِمَّنْ قَالَ: وَمِثْلُهُ قَدْ يُفِيدُ الْقَطْعَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ حَدِيثَ الْأَمْرِ بِالْإِخْرَاجِ كَانَ عِنْدَ سُكُوتِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِإِخْرَاجِهِمْ عِنْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجِزْيَةُ فُرِضَتْ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ عِنْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ فَكَيْفَ يَتِمُّ هَذَا، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ أَجْلَى أَهْلَ نَجْرَانَ وَقَدْ كَانَ صَالَحَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَالٍ وَاسِعٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَهُوَ جِزْيَةٌ. وَالتَّكَلُّفُ لِتَقْوِيمِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ وَرَدُّ مَا وَرَدَ مِنْ النُّصُوصِ بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ مِمَّا يُطِيلُ تَعَجُّبَ النَّاظِرِ الْمُنْصِفِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنْ التَّرَدُّدِ مُسَافِرِينَ إلَى الْحِجَازِ وَلَا يَمْكُثُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ: إلَّا مَكَّةَ وَحَرَمَهَا فَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُ كَافِرٍ مِنْ دُخُولِهَا بِحَالٍ. فَإِنْ دَخَلَ فِي خُفْيَةٍ وَجَبَ إخْرَاجُهُ فَإِنْ مَاتَ وَدُفِنَ فِيهِ نُبِشَ وَأُخْرِجَ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَحُجَّتُهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}[التوبة/ 28].

قُلْت: وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْبَانِيَانِ هُمْ الْمَجُوسُ وَالْمَجُوسُ حُكْمُهُمْ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِحَدِيثِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» فَيَجِبُ إخْرَاجُهُمْ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ وَمِنْ كُلِّ مَحَلٍّ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَعَلَى فَرْضِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَجُوسٍ فَالدَّلِيلُ عَلَى إخْرَاجِهِمْ دُخُولُهُمْ تَحْتَ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ».

(وَعَنْهُ) أَيْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ, (مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفْ) الْإِيجَافُ مِنْ الْوَجْفِ وَهُوَ السَّيْرُ السَّرِيعُ (عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) الرِّكَابُ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْإِبِلُ (فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ) بِالرَّاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بِزِنَةِ غُرَابٍ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْخَيْلِ (وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

بَنُو النَّضِيرِ قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ وَادَعَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قُدُومِهِ إلَى الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ لَا يُحَارِبُوهُ وَأَنْ لَا يُعِينُوا عَلَيْهِ عَدُوَّهُ وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ وَنَخِيلُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ فَنَكَثُوا الْعَهْدَ وَسَارَ مَعَهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إلَى قُرَيْشٍ فَحَالَفَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَاقِعَةِ بَدْرٍ كَمَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ قِصَّةِ أُحُدٍ وَبِئْرِ مَعُونَةَ " وَخَرَجَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ رَجُلَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ مِنْ بَنِي عَامِر فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ لَهُمْ فَتَمَالَئُوا عَلَى إلْقَاءِ صَخْرَةٍ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْجِدَارِ وَقَامَ بِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشِ بْنِ كَعْبٍ فَأَتَاهُ الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ فَقَامَ مُظْهِرًا أَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ لَا تَبْرَحُوا وَرَجَعَ مُسْرِعًا إلَى الْمَدِينَةِ فَاسْتَبْطَأَهُ أَصْحَابُهُ فَأُخْبِرُوا أَنَّهُ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ فَلَحِقُوا بِهِ فَأَمَرَ بِحَرْبِهِمْ وَالْمَسِيرَ إلَيْهِمْ فَتَحَصَّنُوا فَأَمَرَ بِقَطْعِ النَّخْلِ وَالتَّحْرِيقِ وَحَاصَرَهُمْ سِتَّ لَيَالٍ، وَكَانَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بَعَثُوا إلَيْهِمْ أَنْ اُثْبُتُوا أَوْ تَمْنَعُوا فَإِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ فَتَرَبَّصُوا فَقَذَفَ اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ، فَسَأَلُوا أَنْ يُجْلَوْا مِنْ أَرْضِهِمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ فَصُولِحُوا عَلَى ذَلِكَ إلَّا الْحَلَقَةَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ فَقَافٌ وَهِيَ السِّلَاحُ فَخَرَجُوا إلَى أَذْرَعَاتَ وَأَرْيِحَاءَ مِنْ الشَّامِ وَآخَرُونَ إلَى الْحِيرَةِ وَلَحِقَ آلَ أَبِي الْحَقِيق وَآلَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ بِخَيْبَرَ وَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ أُجْلِيَ مِنْ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لأَوَّلِ الْحَشْرِ}[الحشر/ 2].

وَالْحَشْرُ الثَّانِي مِنْ خَيْبَرَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}[الحشر/ 6].

الْفَيْءُ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: إنَّهُ لَا خُمُسَ فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ لِأَنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْمَدِينَةِ فَمَشَوْا إلَيْهَا مُشَاةً غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رَكِبَ جَمَلًا أَوْ حِمَارًا وَلَمْ تَنَلْ أَصْحَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشَقَّةٌ فِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: (كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ) أَيْ مِمَّا اسْتَبَقَاهُ لِنَفْسِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَعْزِلُ لَهُمْ نَفَقَةَ سَنَةٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ يُنْفِقُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَلَا يَتِمُّ عَلَيْهِ السَّنَةُ وَلِهَذَا تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عَلَى شَعِيرٍ اسْتَدَانَهُ لِأَهْلِهِ.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ ادِّخَارِ قُوتِ سَنَةٍ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الِادِّخَارِ مِمَّا يَسْتَغِلُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَرْضِهِ, وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ السُّوقِ وَيَدَّخِرَهُ فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ ضِيقِ الطَّعَامِ لَمْ يَجُزْ بَلْ يَشْتَرِي مَا لَا يَحْصُلُ بِهِ تَضْيِيقٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَقُوتِ أَيَّامٍ أَوْ شَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ سَعَةٍ اشْتَرَى قُوتَ السَّنَةِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد