بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في سبل السلام:
بَابُ الْجِزْيَةِ وَالْهُدْنَةِ.
الْأَظْهَرُ فِي الْجِزْيَةِ أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْإِجْزَاءِ لِأَنَّهَا تَكْفِي مَنْ تُوضَعُ عَلَيْهِ فِي عِصْمَةِ دَمِهِ (وَالْهُدْنَةُ) هِيَ مُتَارَكَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِمَصْلَحَةٍ وَمَشْرُوعِيَّةُ الْجِزْيَةِ سَنَةَ تِسْعٍ عَلَى الْأَظْهَرِ وَقِيلَ سَنَةِ ثَمَانٍ.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا يَعْنِي الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلَهُ طَرِيقٌ فِي الْمُوَطَّأِ فِيهَا انْقِطَاعٌ, وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ شِهَابٍ إنَّمَا أَخَذَ حَدِيثَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ حَسَنُ الْمُرْسَلِ فَهَذَا هُوَ الِانْقِطَاعُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ.
(الشرح)
مرسلٌ حسن, يَعْنِي: من أحسن المراسيل مراسيل سعيد بْنُ المسيب, وأما غيره من مراسيل الزهري وغيره ضعيفة منقطعة, لَكِنْ مراسيل سعيد بْنُ مسيب هي من أحسن المراسيل؛ لِأَنَّهَا وُجدت متصلة يروي عن أبي هريرة وغيره.
(المتن)
وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ».
(الشرح)
هذا يدل عَلَى أن المستقر عند الصحابة أَنَّه ما تؤخذ الجزية إِلَّا من أهل الكتاب, لو كانت تؤخذ من كل كافر ما توقف عمر, توقف عمر حتى شهد له عبد الرحمن بْنُ عوف أن النَّبِيِّ r أخذها, فدل عَلَى أن الصحابة يرون أن الجزية لا تؤخذ إِلَّا من أهل الكتاب ولهذا توقف عمر ولو كانت تؤخذ من كل كافر لما توقف.
(المتن)
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْت لَهُ: مَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيكُمْ قَالَ: شَرًّا، قُلْت: مَهْ، قَالَ: الْإِسْلَامُ أَوْ الْقَتْلُ» قَالَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَبِلَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَتَرَكُوا مَا سَمِعْت أنا, قُلْت: لِأَنَّ رِوَايَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْصُولَةٌ وَصَحِيحَةٌ وَرِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ عَنْ مَجُوسِيٍّ لَا تُقْبَلُ اتِّفَاقًا: وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْعَلَاءِ الْحَضْرَمِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ بِلَفْظِ «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ مَعَ فَارِسَ وَقَالَ فِيهِ «فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ» وَكَانَ أَهْلُ فَارِس مَجُوسًا. فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ عُمُومًا وَمِنْ أَهْلِ هَجَرَ خُصُوصًا كَمَا دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي امْتِنَاعِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَأْيَ الصَّحَابَةِ أَنْ لَا تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُخِذَتْ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ, فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَغْلَبِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّهَا إنَّمَا قُبِلَتْ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا أُخِذَتْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْكِتَابِ وَمِنْ الْمَجُوسِ بِالسُّنَّةِ انْتَهَى, قُلْت: قَدَّمْنَا لَك أَنَّ الْحَقَّ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ.
(الشرح)
كأن الصنعاني يرجح قول مالك.
(المتن)
كَمَا دَلَّ لَهُ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ, وَيَدُلُّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ قَوْلُهُ.
(الشرح)
ليسوا أهل كتاب لَكِنْ أُلحقوا بهم, قيل: لهم شبهة كتاب, المهم: تؤخذ الجزية من أهل الكتاب بالقرآن, وتؤخذ الجزية من المجوس بالسنة وما عداهم يبقى؛ هذا الذي عليه الجمهور والصحابة.
(المتن)
(وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ) هُوَ أَبُو عَمْرٍو عَاصِمُ بْنُ عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَدَوِيُّ الْقُرَشِيُّ. وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ وَكَانَ وَسِيمًا جَسِيمًا خَيِّرًا فَاضِلًا شَاعِرًا، مَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ قَبْلَ مَوْتِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ؛ وَهُوَ جَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِأُمِّهِ رَوَى عَنْهُ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ (عَنْ أَنَسٍ) أَيْ ابْنِ مَالِكٍ (وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ) أَيْ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ الْقُرَشِيِّ الْمَكِّيِّ، سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرَهُمْ (أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرِ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الْكَافِ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَدَالٌ مُهْمَلَةٌ فَرَاءٌ (دَوْمَةِ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَدَوْمَةُ الْجَنْدَلِ اسْمُ مَحَلٍّ «فَأَخَذُوهُ وَأَتَوْا بِهِ فَحَقَنَ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد, قَالَ الْخَطَّابِيُّ أُكَيْدِرُ دَوْمَةَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ يُقَالُ إنَّهُ مِنْ غَسَّانَ, فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْعَرَبِ كَجَوَازِهِ مِنْ الْعَجَمِ انْتَهَى.
قُلْت: فَهُوَ مِنْ أَدِلَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِدًا مِنْ تَبُوكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا فِي آخِرِ غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَقَالَ لِخَالِدٍ «إنَّك تَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ، فَمَضَى خَالِدٌ حَتَّى إذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمُبْصِرِ الْعَيْنِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ أَقَامَ وَجَاءَتْ بَقَرُ الْوَحْشِ حَتَّى حَكَّتْ قُرُونَهَا بِبَابِ الْقَصْرِ فَخَرَجَ إلَيْهَا أُكَيْدِرُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ خَاصَّتِهِ فَتَلَقَّتْهُمْ جُنْدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذُوا أُكَيْدِرَ وَقَتَلُوا أَخَاهُ حَسَّانَ فَحَقَنَ رَسُولُ اللَّهِ دَمَهُ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا وَاسْتَلَبَ خَالِدٌ مِنْ حَسَّانَ قَبَاءَ دِيبَاجٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ وَبَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَازَ خَالِدٌ أُكَيْدِرَ مِنْ الْقَتْلِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ، فَفَعَلَ، وَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفَيْ بَعِيرٍ وَثَمَانِمِائَةِ رَأْسٍ وَأَلْفَيْ دِرْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ رُمْحٍ فَعَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ خَالِصًا ثُمَّ قَسَمَ الْغَنِيمَةَ الْحَدِيثَ».
(الشرح)
قَالَ: الصفي: ما كَانَ يأخذه رئيس الجيش, يَعْنِي: ما اصطفاه لنفسه.
(المتن)
وَفِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ خَالِدٌ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَى فَأَقَرَّهُ عَلَى الْجِزْيَةِ.
(الشرح)
فيهِ: الرد عَلَى أبي حنيفة الذي يقول: أَنَّه ما تؤخذ الجزية من العرب, (تَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ) يَعْنِي: البقر الوحشي.