بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
«إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[شَرْط الْحَاكِم الِاجْتِهَاد]
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ ") أَيْ إذَا أَرَادَ الْحُكْمَ لِقَوْلِهِ(فَاجْتَهَدَ) فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ قَبْلَ الْحُكْمِ(ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ فَإِذَا حَكَمَ وَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ).
(الشرح)
يَعْنِي إِذَا أراد أن يحكم وَهَذَا له نظائر «إِذَا دخل أحدكم المسجد فلقدم رجله اليمنى», يَعْنِي إِذَا أراد, «إِذَا دخل الخلاء فيقل: بسم الله», يَعْنِي إِذَا أراد, ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}[النحل/98].
يَعْنِي إِذَا أردت قراءة الْقُرْآن, ولَيْسَ المعنى أَنَّهُ بَعْدَ القراءة تستعيذ, كَذَلِكَ إِذَا اجتهد الحاكم فأصاب يَعْنِي إِذَا أراد أن يحكم فَإِنَّهُ يجتهد, فالاجتهاد مقدم عَلَى الحكم.
(المتن)
أَيْ لَمْ يُوَافِقْ مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْحُكْمِ(" فَلَهُ أَجْرٌ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ قَدْ يُصِيبُهُ مَنْ أَعْمَلَ بِفِكْرِهِ وَتَتَبَّعَ الْأَدِلَّةَ وَوَفَّقَهُ اللَّهُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ.
وَاَلَّذِي لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ هُوَ مَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ. وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مُجْتَهِدًا.
(الشرح)
ومن العلماء من قَالَ: إِن المصيب متعدد وأن كُلّ مجتهد مصيب, هَذِهِ مسألة أصولية, لكن هَذَا مرجوح, الصواب أن المصيب واحد, وأن الْحَقِّ واحد لا يتعدد.
(المتن)
قَالَ الشَّارِحُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ أَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ قَالَ: وَلَكِنَّهُ يُعَزُّ وُجُودُهُ بَلْ كَادَ يُعْدَمُ بِالْكُلِّيَّةِ وَمَعَ تَعَذُّرِهِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ.
(الشرح)
نعم قليل لكن لَيْسَ بمعتذر.
(المتن)
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ أُصُولَ إمَامِهِ وَأَدِلَّتَهُ وَيُنْزِلُ أَحْكَامَهُ عَلَيْهَا فِيمَا لَمْ يَجِدْهُ مَنْصُوصًا مِنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْ قُلْت: وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْبُطْلَانِ.
وَإِنْ تَطَابَقَ عَلَيْهِ الْأَعْيَانُ وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ دَعْوَى تَعَذُّرِ الِاجْتِهَادِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ بِإِرْشَادِ النُّقَّادِ إلَى تَيْسِيرِ الِاجْتِهَادِ بِمَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَمَا أَرَى هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي تَطَابَقَتْ عَلَيْهَا الْأَنْظَارُ إلَّا مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ أَعْنِي الْمُدَّعِينَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى وَالْمُقَرِّرِينَ لَهَا.
(الشرح)
يَعْنِي يَقُولُونَ: لا يوجد مجتهد.
(المتن)
- مُجْتَهِدُونَ يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يُمْكِنُهُ بِهَا الِاسْتِنْبَاطَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَرَفَهُ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ قَاضِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَكَّةَ وَلَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَاضِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَمَنِ وَلَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَاضِيه فِيهَا وَعَامِلُهُ عَلَيْهَا وَلَا شُرَيْحٌ قَاضِي عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْكُوفَةِ.
وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ الشَّارِحِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَيْ الْمُقَلِّدِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ وَأَنْ يَتَحَقَّقَ أُصُولَهُ وَأَدِلَّتَهُ أَيْ وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ أُصُولَ إمَامِهِ وَأَدِلَّتَهُ وَيُنْزِلُ أَحْكَامَهُ عَلَيْهَا فِيمَا لَمْ يَجِدْهُ مَنْصُوصًا مِنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي حُكِمَ بِكَيْدُودَةِ عَدَمِهِ بِالْكُلِّيَّةِ.
(الشرح)
كيدودة يَعْنِي قوله: يكاد يعدم.
(المتن)
وَسَمَّاهُ مُتَعَذِّرًا فَهَلَّا جَعَلَ هَذَا الْمُقَلِّدُ إمَامَهُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِوَضًا عَنْ إمَامِهِ وَتَتَبَّعَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِوَضًا عَنْ تَتَبُّعِ نُصُوصِ إمَامِهِ وَالْعِبَارَاتُ كُلُّهَا أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ فَهَلَّا اسْتَبْدَلَ بِأَلْفَاظِ إمَامِهِ وَمَعَانِيهَا أَلْفَاظَ الشَّارِعِ وَمَعَانِيهَا وَنَزَّلَ الْأَحْكَامَ عَلَيْهَا إذَا لَمْ يَجِدْ نَصًّا شَرْعِيًّا عِوَضًا عَنْ تَنْزِيلِهَا عَنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِيمَا لَمْ يَجِدْهُ مَنْصُوصًا تَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ الشُّيُوخِ وَالْأَصْحَابِ وَتَفَهُّمِ مَرَامِهِمْ، وَالتَّفْتِيشِ عَنْ كَلَامِهِمْ.
(الشرح)
اللي يكون مجتهد في المذهب يستطيع أن يكون مجتهد في النصوص, لا يجتهد في مذهب إمامه يكون مجتهد في النصوص, ولا ينزل المسألة عَلَى نصوص إمامه؛ بَلْ ينزلها عَلَى النصوص الشرعية.
(المتن)
وَمِنْ الْمَعْلُومِ يَقِينًا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَبُ إلَى الْأَفْهَامِ وَأَدْنَى إلَى إصَابَةِ الْمَرَامِ.
(الشرح)
يَعْنِي المطلوب.
(المتن)
فَإِنَّهُ أَبْلَغُ الْكَلَامِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَعْذَبُهُ فِي الْأَفْوَاهِ وَالْأَسْمَاعِ.
(الشرح)
يَعْنِي كلام الله وكلام رسوله.
(المتن)
وَأَقْرَبُهُ إلَى الْفَهْمِ وَالِانْتِفَاعِ، وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إلَّا جُلْمُودُ الطِّبَاعِ وَمَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِي النَّفْعِ وَالِانْتِفَاعِ. وَالْأَفْهَامُ الَّتِي فَهِمَ بِهَا الصَّحَابَةُ الْكَلَامَ الْإِلَهِيَّ، وَالْخِطَابَ النَّبَوِيَّ هِيَ كَأَفْهَامِنَا، وَأَحْلَامُهُمْ كَأَحْلَامِنَا، إذْ لَوْ كَانَتْ الْأَفْهَامُ مُتَفَاوِتَةً تَفَاوُتًا يَسْقُطُ مَعَهُ فَهْمُ الْعِبَارَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ لَمَا كُنَّا مُكَلَّفِينَ وَلَا مَأْمُورِينَ وَلَا مَنْهِيِّينَ لَا اجْتِهَادًا وَلَا تَقْلِيدًا أَمَّا الْأَوَّلُ " فَلِاسْتِحَالَتِهِ "، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّا لَا نُقَلِّدُ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا التَّقْلِيدُ، وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ فَهْمِ الدَّلِيلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جَوَازِهِ لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ.
(الشرح)
عل كُلّ حال طال استطراده.
(المتن)
فَهَذَا الْفَهْمُ الَّذِي فَهِمْنَا بِهِ هَذَا الدَّلِيلَ نَفْهَمُ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ مِنْ كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ شَهِدَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِمَّنْ فِي عَصْرِهِ وَأَوْعَى لِكَلَامِهِ.
(الشرح)
يشير إِلَى الحديث «رب مبلغ أوعى من سامع, ورب حامل فقه إِلَى من هُوَ أفقه منه, ورب حامل فقه لَيْسَ بفقيه».
(المتن)
حَيْثُ قَالَ: «فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَفْقَهُ مِنْ سَامِعٍ» وَفِي لَفْظٍ: " أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ " وَالْكَلَامُ قَدْ وَفَّيْنَاهُ حَقَّهُ فِي الرِّسَالَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَعْرِفُهُ الْقُضَاةُ كِتَابَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي كَتَبَهُ إلَى أَبِي مُوسَى الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ.
(الشرح)
شرح ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين وأطال فِيهِ, كتاب عمر بن أبي موسى.
(المتن)
قَالَ الشَّيْخُ إِسْحَاقَ: هُوَ أَجَلُّ كِتَابٍ فَإِنَّهُ بَيَّنَ آدَابَ الْقُضَاةِ وَصِفَةَ الْحُكْمِ وَكَيْفِيَّةَ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِنْبَاطَ الْقِيَاسِ وَلَفْظُهُ " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، فَعَلَيْك بِالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ، فَافْهَمْ إذَا أَدْلَى إلَيْك الرَّجُلُ الْحُجَّةَ فَاقْضِ إذَا فَهِمْت، وَأَمْضِ إذَا قَضَيْت. فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ لَهُ. آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِك وَمَجْلِسِك وَقَضَائِك حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك، وَلَا يَيْأَسُ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك.
الْبَيِّنَةُ عَلَى مِنْ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا.
وَمَنْ ادَّعَى حَقًّا غَائِبًا أَوْ بَيِّنَةً فَاضْرِبْ لَهُ أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَتِهِ أَعْطَيْته حَقَّهُ، وَإِلَّا اسْتَحْلَلْت عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ وَأَجْلَى لِلْعَمَى وَلَا يَمْنَعْك قَضَاءٌ قَضَيْت فِيهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْت فِيهِ عَقْلَك وَهُدِيت فِيهِ لِرُشْدِك أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ.
الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِك مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ اعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ، وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْمِدْ إلَى أَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ. الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ، أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ قَرَابَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ.
وَادْرَأْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَانِ وَإِيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ، وَالتَّنَكُّرَ عِنْدَ الْخُصُومَاتِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَ مَوَاطِنِ الْحَقِّ، يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْأَجْرَ، وَيُحْسِنُ بِهِ الذِّكْرَ، فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ تَخَلَّقَ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ شَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعِبَادِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا؛ فَمَا ظَنُّك بِثَوَابٍ مِنْ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ، وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ وَالسَّلَامُ اهـ ".
(الشرح)
كلام عظيم, كتاب عظيم كتبه إِلَى أبي موسى الأشعري, وتأمله والنظر فِيهِ؛ فِيهِ معاني عظيمة, ولهذا شرحه ابن القيم رحمه الله وأطال في هَذَا, والقضاة يرجعون إليه.
(المتن)
وَلِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عَهْدٍ عَهِدَهُ إلَى الْأَشْتَرِ لَمَّا وَلِي مِصْرَ فِيهِ عِدَّةُ مَصَالِحَ وَآدَابَ وَمَوَاعِظَ وَحِكَمٌ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّهْجِ لَمْ أَنْقُلْهُ لِشُهْرَتِهِ.
(الشرح)
نهج البلاغة يمكن.
(المتن)
وَقَدْ أَخَذَ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَنْقُضُ الْقَاضِي حُكْمَهُ إذَا أَخْطَأَ وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إحْدَاهُمَا فَقَالَتْ: هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِك وَقَالَتْ الْأُخْرَى إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِك فَتَحَاكَمَتَا إلَى دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا إلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا نِصْفَيْنِ فَقَالَتْ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُك اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى».
(الشرح)
لِأَنَّ الكبرى تقول: اقسمه اثنين, أعطني النصف وأعطها النصف؛ لِأَنَّهَا ليست أمه, أمه قالت: لا خلاص سأعطيها هُوَ ابنها.
(المتن)
وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ: قَوْلٌ إنَّهُ يَنْقُضُهُ إذَا أَخْطَأَ، وَالْآخَرُ لَا يَنْقُضُهُ لِحَدِيثِ " وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ".
(الشرح)
والصواب أَنَّهُ ينقض إِذَا تبين له بنفسه, الرجوع إِلَى الْحَقِّ كما قَالَ عمر في كتابه: الرجوع إِلَى الْحَقِّ خير من التمادي في الباطل إِذَا تبين له, هُوَ بنفسه ينقضه؛ بَلْ إِن غيره مثل إِذَا كَانَ محكمة عليا فوقه ينقضون حكم الحاكم إذا خالف نصًا أو إجماعًا, وَهَذَا هُوَ المعروف الآن, إِذَا خالف نص أو إجماع ينقض الحكم, أَمَّا إذا لَمْ يخالف نص ولا إجماع فَإِنَّهُ له اجتهاده يردون إِلَى القاضي نفسه, صار عندهم رأي ولا كذا يردونه إِلَى القاضي نفسه, فَإِن اقتنعوا وَإِلَّا تمسك بحكمه, أَمَّا إِذَا خالف نص أو إجماع فَإِنَّهُ ينقض؛ لِأَنَّهُ تبين بطلانه, وَهَذَا معروف عِنْد العلماء, يَقُولُونَ: لا ينقض حكم الحاكم إِلَّا إِذَا خالف نصًا أو أجماعًا.
أَمَّا هُوَ نفسه القاضي تبين له أن حكمه جانب الصواب ينقضه, يَجِبُ عَلَيْهِ أن ينقضه ويرجع إِلَى غيره, يرجع إِلَى ما تبين له, وعمر رضي الله عنه في الميراث في المشركة جاء الأخوة للأب مَعَ الأخوة لأم, وَشرك بينهم, ثُمَّ وقعت القضية مرة أخرى فاجتهد رضي الله عنه فرأى ألا يشرك بينهم, فقيل له: شركت بينهم في القضية الأولى, قَالَ: ذاك عَلَى ما قضينا وذاك عَلَى ما نقضي.
(المتن)
قُلْت: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ: أَخْطَأَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ الْحَقِّ وَهَذَا الْخَطَأُ لَا يُعْلَمْ إلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْكَلَامُ فِي الْخَطَإِ الَّذِي يَظْهَرُ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَدَمِ اسْتِكْمَالِ شَرَائِطِ الْحُكْمِ أَوْ نَحْوِهِ.
(الشرح)
فيما يظهر له.
(المتن)
[لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ]
(وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) النَّهْيُ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَتَرْجَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَهُ بِبَابِ كَرَاهَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ. وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ بِبَابِ هَلْ يَقْضِي الْقَاضِي أَوْ يُفْتِي الْمُفْتِي وَهُوَ غَضْبَانُ؟ وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِالْكَرَاهَةِ فِي ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا حَمَلُوهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ نَظَرًا إلَى الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِذَلِكَ وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَتَّبَ النَّهْيَ عَلَى الْغَضَبِ وَالْغَضَبُ بِنَفْسِهِ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ لِمَنْعِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا هُوَ مَظِنَّةٌ لِحُصُولِهِ وَهُوَ تَشْوِيشُ الْفِكْرِ وَمَشْغَلَةُ الْقَلْبِ عَنْ اسْتِيفَاءِ مَا يَجِبُ مِنْ النَّظَرِ وَحُصُولِ هَذَا قَدْ يُفْضِي إلَى الْخَطَأ عَنْ الصَّوَابِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ مَعَ كُلِّ غَضَبٍ وَمَعَ كُلِّ إنْسَانٍ فَإِنْ أَفْضَى الْغَضَبُ إلَى عَدَمِ تَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ فَلَا كَلَامَ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ.
(الشرح)
نعم هَذَا يختلف باختلاف الغضب, إِذَا كَانَ الغضب يؤثر عَلَيْهِ عَلَى القضية, في سماع الدعوى؛ فَإِن عَلَيْهِ ألا يحكم, أَمَّا إِذَا كَانَ غضب خفيف وَهُوَ يستوعب الحكم والقضية؛ فهذا لا بأس, المقصود أن هَذَا يختلف باختلاف الحكام اختلاف الحالات, قَدْ يكون غضب شديد بحيث أَنَّهُ لا يستطيع أن يستوفي حجة الخصوم, فهذا لا يجوز له أن يحكم, أَمَّا إِذَا كَانَ غضب خفيف ويستوعب هَذَا غضب خفيف ولا يؤثر فهذا محل اجتهاد.
(المتن)
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْغَضَبِ وَلَا بَيْنَ أَسْبَابِهِ. وَخَصَّهُ الْبَغَوِيّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِمَا إذَا كَانَ الْغَضَبُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْغَضَبَ لِلَّهِ يُؤْمَنُ مَعَهُ مِنْ التَّعَدِّي بِخِلَافِ الْغَضَبِ لِلنَّفْسِ، وَاسْتَبْعَدَهُ جَمَاعَةٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ نَهَى عَنْ الْحُكْمِ مَعَهُ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ فِي النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، وَأَنَّ جَعْلَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ صَارِفَةٌ إلَى الْكَرَاهِيَةِ بَعِيدٌ.
(الشرح)
النهي الأصل فِيهِ التحريم, والصواب أَنَّهُ لا فرق بين غضب وغضب, المهم تأثير هَذَا الغضب عَلَى الحكم, إذا كَانَ له تأثير عَلَى الحكم فلا يحكم, وإن كَانَ غضب خفيف ولا يؤثر عَلَى الحكم فلا بأس.
(المتن)
وَأَمَّا حُكْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْغَضْبَةِ فِي قِصَّةِ الزُّبَيْرِ فَلَمَّا عَلِمَ مِنْ أَنَّ عِصْمَتَهُ مَانِعَةٌ عَنْ إخْرَاجِ الْغَصْبِ لَهُ عَنْ الْحَقِّ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَيْضًا عَدَمُ نُفُوذِ الْحُكْمِ مَعَ غَضَبِهِ.
(الشرح)
الرَّسُوْل معصوم أَمَّا غيره فلا.
(المتن)
إذْ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَالتَّفْرِقَةَ بَيْنَ النَّهْيِ لِلذَّاتِ وَالنَّهْيِ لِلْوَصْفِ.
(الشرح)
يَعْنِي الرجل الَّذِي اعترض عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما حكم للزبير وجاره الأنصاري كَانَ المطر يأتي لأصحاب المزارع الأول يأخذه ثُمَّ الثاني بعده, حصل بين الزبير وبين جاره الأنصاري يَعْنِي كلام, مر الماء عَلَى الزبير قَالَ جاره: سرح الماء, قَالَ: لا, انتظر, تحاكما إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «اسقي يا زبير ثُمَّ أرسل الماء إِلَى جارك», وَلَمْ يستوفي حكمه جعل هَذَا بينهم, فغضب الأنصاري فَقَالَ: أن كَانَ ابن عمتك؟ فَلَمَّا أغضب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم استوفى الحكم للزبير, قَالَ: «اسق يا زبير واحبس الماء؛ حَتَّى يرجع إِلَى الجدر ثُمَّ أرسله إِلَى جارك», أعطاه حقه كامل لما أغضبه الأنصاري, وَهَذَا الأنصاري اختلف قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ منافق, وَقِيلَ: حمله الغضب عَلَى ذَلِكَ, وحمله النزاع والخصام, فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم عَنْ أن يحيف أو يؤثر عَلَيْهِ الغضب, أَمَّا غيره فلا عصمة له.
(المتن)
كَمَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ غَيْرُ وَاضِحٍ كَمَا قُرِّرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ.
(الشرح)
إِذَا كَانَ النهي يعود إِلَى الذات أو إِلَى الوصف, قَالُوا: إِذَا عاد إِلَى الذات فَهُوَ للتحريم, وَإِذَا كَانَ لا يعود إِلَى ذات المنهي عنه فلا.
(المتن)
وَقَدْ أُلْحِقَ بِالْغَضَبِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ الْمُفْرِطَانِ لِمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ تَفَرَّدَ بِهِ الْقَاسِمُ الْعُمَرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي إلَّا وَهُوَ شَبْعَانُ رَيَّانُ» وَكَذَلِكَ أُلْحِقَ بِهِ.
(الشرح)
يلحق بِهِ ولو كَانَ الحديث ضعيف؛ لِأَنَّ المعنى يقتضيه, يحلق لأجل العلة الَّتِي من أجلها نهي القاضي عَنْ الحكم غضبان, العلة موجودة, وَهِيَ التشويش بالجوع والعطش والنعاس ولو لَمْ يصح الحديث.
(المتن)
كُلُّ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَيُشَوِّشُ الْفِكْرَ مِنْ غَلَبَةِ النُّعَاسِ أَوْ الْهَمِّ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ نَحْوِهَا.
[الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِب]
(وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا تَقَاضَى إلَيْك رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ فَسَوْفَ تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِي» قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَمَا زِلْت قَاضِيًا بَعْدُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) الْحَدِيثَ أَخْرَجُوهُ مِنْ طُرُقٍ أَحْسَنُهَا رِوَايَةُ الْبَزَّارِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي إسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ أَبِي الْمِقْدَامِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ فَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْهُ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي مِنْ سَمِعَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَوْلَا هَذَا الْمُبْهَمُ وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ تَشْهَدُ لَهُ وَيَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ الْآتِي.
وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ قَوْلُهُ (وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَوَّلًا ثُمَّ يَسْمَعَ جَوَابَ الْمُجِيبِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْنِي الْحُكْمَ عَلَى سَمَاعِ دَعْوَى الْمُدَّعِي قَبْلَ جَوَابِ الْمُجِيبِ فَإِنْ حَكَمَ قَبْلَ سَمَاعِ الْإِجَابَةِ عَمْدًا بَطَلَ قَضَاؤُهُ وَكَانَ قَدْحًا فِي عَدَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأٌ لَمْ يَكُنْ قَادِحًا وَأَعَادَ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ وَهَذَا حَيْثُ أَجَابَ الْخَصْمُ، فَإِنْ سَكَتَ عَنْ الْإِجَابَةِ أَوْ قَالَ لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ فَفِي الْبَحْرِ عَنْ الْإِمَامِ يَحْيَى وَمَالِكٍ يَحْكُمُ عَلَيْهِ لِتَصْرِيحِهِ بِالتَّمَرُّدِ إنْ شَاءَ حَبَسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ وَقِيلَ بَلْ يَلْزَمُهُ الْحَقُّ بِسُكُوتِهِ إذْ الْإِجَابَةُ تَجِبُ فَوْرًا فَإِذَا سَكَتَ كَانَ كَنُكُولِهِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ النُّكُولَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْيَمِينِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُ، وَقِيلَ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ التَّمَرُّدَ كَافٍ فِي جَوَازِ الْحُكْمِ إذْ الْحُكْمُ شُرِعَ لِفَصْلِ الشِّجَارِ، وَدَفْعِ الضِّرَارِ، وَهَذَا حَاصِلٌ مَا فِي الْبَحْرِ. قِيلَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَائِبِ فَمَنْ أَجَازَ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ أَجَازَ الْحُكْمَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ عَنْ الْإِجَابَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عَدَمِ الْإِجَابَةِ؛ وَفِي الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ جَائِزًا لَمْ يَكُنْ الْحُضُورُ عَلَيْهِ وَاجِبًا وَلِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ حَتَّى يَسْمَعَ لَهُ كَلَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْغَائِبُ لَا يُسْمَعُ لَهُ جَوَابٌ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي يَحْكُمُ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ هِنْدَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ مُسْتَوْفًى.
(الشرح)
هند حينما قالت للنبي: إِن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني فهل عليّ جناح أن آخذ من ماله, قَالَ: «خذي من ماله ما يكفيك», هَلْ هَذَا حكم ولا فتوى؟ العلماء قَالُوا: حكم قَالُوا: هَذَا حكم عَلَى الغائب؛ لِأَنَّ أبا سفيان غائب, ومنهم من قَالَ: هَذَا فتوى ولَيْسَ بحكم محل نظر.
(المتن)
وَهَذَا مَذْهَبُ الْهَادَوِيَّةِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَحَمَلُوا حَدِيثَ عَلِيٍّ هَذَا عَلَى الْحَاضِرِ، وَقَالُوا: الْغَائِبُ لَا يَفُوتُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَإِنَّهُ إذَا حَضَرَ كَانَتْ حُجَّتُهُ قَائِمَةً وَتُسْمَعُ وَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا وَلَوْ أَدَّى إلَى نَقْضِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْم الْمَشْرُوطِ.