بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
[الشَّهَادَة عَلَى مَا استيقن وبالاستفاضة]
(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ: تَرَى الشَّمْسَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ». أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ) لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ مَشْمُولٍ ضَعَّفَهُ النَّسَائِيّ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَمْ يُرْوَ مِنْ وَجْهٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا عَلَى مَا يَعْلَمُهُ عِلْمًا يَقِينًا كَمَا تُعْلَمُ الشَّمْسُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالظَّنِّ فَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ فَلَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى صَوْتٍ فَلَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِ ذَلِكَ الصَّوْتِ وَرُؤْيَةِ الْمُصَوِّتِ أَوْ التَّعْرِيفِ بِالْمُصَوِّتِ بِعَدْلَيْنِ.
(الشرح)
يَعْنِي لَابُدَّ من رؤية المصوت؛ لِأَنَّ الصوت وحده قَدْ يكفي, قَدْ يكون تسكين تسجيل أو يسمع هاتف من بعيد لا يكفي, لَابُدَّ أن يراه؛ لِأَنَّ الأصوات قَدْ تختلف, اشهد اسمع صوت فلان قَدْ يشتبه قَدْ يكون فلان يشتبه صوت فلان فيشتبه عَلَى الإنسان, فلا يكفي كون يسمع صوته بالهاتف أو المسجل لَابُدَّ أن يراه.
(المتن)
أَوْ عَدْلٍ عِنْدَ مَنْ يَكْتَفِي بِهِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ فَإِنَّهَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالظَّنِّ. وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الظَّنِّ بِقَوْلِهِ: (بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَنْسَابِ وَالرَّضَاعِ الْمُسْتَفِيضِ، وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ) وَذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ فِي ثُبُوتِ الرَّضَاعِ، وَثُبُوتُهُ إنَّمَا هُوَ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثًا عَلَى رُؤْيَةِ الرَّضَاعِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ، فَإِنَّ مِنْ لَازِمِ الرَّضَاعِ ثُبُوتَ النَّسَبِ، وَأَمَّا ثُبُوتُ الرَّضَاعَةِ نَفْسِهَا بِالِاسْتِفَاضَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ صَرِيحِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ الرَّضَاعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا عِنْدَ مَنْ وَقَعَ لَهُ. وَحَدُّ الِاسْتِفَاضَةِ عِنْدَ الْهَادَوِيَّةِ شُهْرَةٌ فِي الْمَحَلَّةِ تُثْمِرُ ظَنًّا أَوْ عِلْمًا، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِالشُّهْرَةِ فِي الْمَذْكُورَةِ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى التَّحْقِيقِ بِالنَّسَبِ لِتَعَذُّرِ التَّحَقُّقِ فِيهِ فِي الْأَغْلَبِ.
وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِالْمَوْتِ الْقَدِيمِ مَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ عَلَيْهِ، وَحَدَّهُ الْبَعْضُ بِخَمْسِينَ سَنَةً وَقِيلَ أَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ فِيهِ التَّحْقِيقُ. وَإِلَى الْعَمَلِ بِالشُّهْرَةِ فِي النَّسَبِ ذَهَبَ الْهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَمِثْلُهُ الْمَوْتُ كَذَلِكَ ذَهَبَتْ إلَيْهِ الْهَادَوِيَّةُ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ.
(الشرح)
لِأَنَّهُ لا يمكن أن يتحقق بنفسه, ما يمكن إِذَا كَانَ هَذَا الرضاع رضع من هَذِهِ المرأة قبل خمسين سنة, كيف يستطيع أن يعرف أَنَّهُ رآه يرضع من المرضعة؟ ما يمكن هَذَا, لكن هَذَا معلوم عَنْد الخاصة والعامة مشتهر, كَذَلِكَ معلوم فلان بن فلان ما يمكن أن يعرفوا نسبه أَنَّهُ ولد عَلَى فراش أبيه, هَذَا صعب مضى عَلَيْهِ سنين طويلة كَذَلِكَ الموت القديم, هُوَ ما شهد فلان مات, لكن مشهور عِنْد النَّاس أَنَّهُ قَدْ مات قبل خمسين سنة, مستفيض هَذَا, هَذَا يَقُولُ اشهد عَلَى موت القديم والرضاع والنسب المستفيض.
ولو كَانَ واحد جار لك أو قريب صليت وياه من عشرين سنة, ومعروف هَذَا ابن فلان, وَقَالَ: تشهد أني فلان بن فلان, تقول: أَشْهَدُ, يقال له: أنت رأيته ولد عَلَى فراش أبيه؟ قَالَ: لا ما رأيته, لكن هَذَا مستفيض عِنْد النَّاس؛ أن هَذَا فلان بن فلان, لكن ما رأيت بعيني, ما رأيت أَنَّهُ ولد عَلَى فراش أبيه.
(المتن)
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ضَابِطِ مَا تُفِيدُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالِاسْتِفَاضَةِ فَيَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي النَّسَبِ قَطْعًا، وَالْوِلَادَةِ وَفِي الْمَوْتِ وَالْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ وَالْوِلَايَةِ وَالْوَقْفِ وَالْعَزْلِ وَالنِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ وَالتَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرُّشْدِ وَالسَّفَهِ وَذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَبَلَّغَهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا وَهِيَ مُسْتَوْفَاةٌ فِي قَوَاعِدِ الْعَلَائِيِّ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
[الْقَضَاء باليمين والشاهد]
(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِي إسْنَادِهِ كَذَا قَالَ لَكِنَّهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ: سَأَلْت مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: لَمْ يَسْمَعْهُ عِنْدِي عَمْرٌو مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَاوِيَةً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ قَدْ سَمِعَ عَمْرٌو مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِدَّةَ أَحَادِيثَ وَسَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَا يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا. وَسَمِعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ وَلَهُ شَوَاهِدُ.
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُهُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ عَنْ أَبِيهِ هُوَ صَحِيحٌ وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ عَنْ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ سَرَدَ الشَّارِحُ أَسْمَاءَهُمْ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاهِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ وَالْهَادَوِيَّةِ وَمَالِكٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَعُمْدَتُهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ، وَالْيَمِينُ، وَإِنْ كَانَ حَاصِلُهَا تَأْكِيدُ الدَّعْوَى لَكِنْ يَعْظُمُ شَأْنُهَا فَإِنَّهَا إشْهَادٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ كَمَا يَقُولُ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ الدَّعْوَى لَكَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ صِدْقَهُ فَلَمَّا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الْعَظِيمَةِ هَابَهَا الْمُؤْمِنُ بِإِيمَانِهِ وَعَظَمَةِ شَأْنِ اللَّهِ عِنْدَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ كَاذِبًا وَهَابَهَا الْفَاجِرُ لِمَا يَرَاهُ مِنْ تَعْجِيلِ عُقُوبَةِ اللَّهِ لِمَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً فَلَمَّا كَانَ لِلْيَمِينِ هَذَا الشَّأْنُ صَلُحَتْ لِلْهُجُومِ عَلَى الْحُكْمِ كَشَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَقَدْ اُعْتُبِرَتْ الْأَيْمَانُ فَقَطْ فِي اللِّعَانِ وَفِي الْقَسَامَةِ فِي مَقَامِ الشُّهُودِ.
وَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}[الطلاق/2].
وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}[البقرة/282].
قَالُوا وَهَذَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ وَيُفِيدُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَزِيَادَةُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ تَكُونُ نَسْخًا لِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.
وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ يَصِحُّ نَسْخُهُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ» وَأُجِيب بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ صَحِيحٌ يُعْمَلُ بِهِمَا فِي مَنْطُوقِهِمَا فَإِنَّ مَفْهُومَ أَحَدِهِمَا لَا يُقَاوِمُ مَنْطُوقَ الْآخَرِ.
هَذَا وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ سَلَمَةُ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ عَمْرٌو (فِي الْحُقُوقِ) يُرِيدُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ الرَّاوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ خَصَّ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ، وَالْيَمِينَ بِالْحُقُوقِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا خَاصٌّ بِالْأَمْوَالِ دُونَ غَيْرِهَا فَإِنَّ الرَّاوِيَ وَقَفَهُ عَلَيْهَا وَالْخَاصُّ لَا يَتَعَدَّى بِهِ مَحَلُّهُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَاقْتِضَاءُ الْعُمُومِ مِنْهُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ فِعْلٍ وَالْفِعْلُ لَا عُمُومَ لَهُ ا. هـ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إلَّا الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ لِلْإِجْمَاعِ أَنَّهُمَا لَا يَثْبُتَانِ بِذَلِكَ.
(الشرح)
نعم الحد ما يكفي واحد لَابُدَّ من اثنين لإقامة حد السرقة, وحد الشرب, وَأَمَّا حد الزنا لَابُدَّ فِيهِ من أربعة شهود.