بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
[تَحْرِيم الشُّرْبِ قَائِمًا]
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) وَتَمَامُهُ " فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ " مِنْ الْقَيْءِ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا يَشْرَبُ قَائِمًا فَقَالَ: مَهْ قَالَ لِمَهْ؟ فَقَالَ أَيَسُرُّك أَنْ يَشْرَبَ مَعَك الْهِرُّ؟ قَالَ لَا. قَالَ قَدْ شَرِبَ مَعَك مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ» وَفِيهِ رَاوٍ لَا يُعْرَفُ وَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الشُّرْبِ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي النَّهْيِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى وَآخَرُونَ إلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، كَأَنَّهُمْ صَرَفُوهُ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «سَقَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ» وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَرِبَ قَائِمًا، وَقَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْت» فَيَكُونُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا لِكَوْنِ النَّهْيِ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلْيَسْتَقِئْ فَإِنَّهُ نُقِلَ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقْيِئَ وَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الْأَمْرَ أَيْضًا عَلَى النَّدْبِ.
[الْبَدْءُ بِالْيَمِينِ فِي التنعل]
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ أَيْ نَعْلَهُ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ. وَلْتَكُنْ الْيَمِينُ أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ إلَى قَوْلِهِ بِالشِّمَالِ وَأَخْرَجَ بَاقِيَهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد) ظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَلَكِنَّهُ ادَّعَى الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْبُدَاءَةُ بِالْيَمِينِ مَشْرُوعَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِفَضْلِ الْيَمِينِ حِسًّا فِي الْقُوَّةِ وَشَرْعًا فِي النَّدْبِ فِي تَقْدِيمِهَا.
قَالَ الْحَلِيمِيُّ إنَّمَا يَبْدَأُ بِالشِّمَالِ عِنْدَ الْخَلْعِ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ كَرَامَةٌ؛ لِأَنَّهُ وِقَايَةٌ لِلْبَدَنِ فَلَمَّا كَانَتْ الْيَمِينُ أَكْرَمَ مِنْ الْيُسْرَى بُدِئَ بِهَا فِي اللُّبْسِ وَأُخِّرَتْ فِي النَّزْعِ لِتَكُونَ الْكَرَامَةُ لَهَا أَدُومَ وَحِصَّتُهَا مِنْهَا أَكْثَرَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ بَدَأَ فِي الِانْتِعَالِ بِالْيُسْرَى أَسَاءَ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَلَكِنْ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ نَعْلَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَنْبَغِي أَنْ تُنْزَعَ النَّعْلُ مِنْ الْيُسْرَى وَيُبْدَأُ بِالْيَمِينِ، وَلَعَلَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ لَهُ الْخَلْعُ إذَا بَدَأَ بِالْيُسْرَى ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ لُبْسُهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَشْرُوعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِانْتِعَالِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «اسْتَكْثِرُوا مِنْ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ» أَيْ يُشْبِهُ الرَّاكِبَ فِي خِفَّةِ الْمَشَقَّةِ وَقِلَّةِ النَّصَبِ وَسَلَامَةِ الرِّجْلِ مِنْ أَذَى الطَّرِيقِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ إذَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْإِيجَابِ فَهُوَ لِلِاسْتِحْبَابِ.
[لَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ]
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلْيُنْعِلْهُمَا» بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ مِنْ أَنْعَلَ كَمَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ وَضَمِيرُ التَّثْنِيَةِ لِلرِّجْلَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمَا ذِكْرٌ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا مِنْ النَّعْلِ (جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا) أَيْ النَّعْلَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " أَوْ لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا. وَهُوَ لِلْقَدَمَيْنِ (جَمِيعًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ عَنْ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ. وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْكَرَاهَةِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْقَرِينَةَ حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعِ نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَشَى فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى يُصْلِحَهَا» إلَّا أَنَّهُ رَجَّحَ الْبُخَارِيُّ وَقْفَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ رَزِينٌ عَنْهَا قَالَتْ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَعِلُ قَائِمًا وَيَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ» وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ النَّهْيِ، فَقَالَ قَوْمٌ عِلَّتُهُ أَنَّ النِّعَالَ شُرِعَتْ لِوِقَايَةِ الرِّجْلِ عَمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ شَوْكٍ وَنَحْوِهِ فَإِذَا انْفَرَدَتْ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ احْتَاجَ الْمَاشِي أَنْ يَتَوَقَّى لِإِحْدَى رِجْلَيْهِ مَا لَا يَتَوَقَّى لِلْأُخْرَى فَيَخْرُجُ لِذَلِكَ عَنْ سَجِيَّةِ مِشْيَتِهِ وَلَا يَأْمَنُ مَعَ ذَلِكَ الْعِثَارَ. وَقِيلَ إنَّهَا مِشْيَةُ الشَّيْطَانِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ الْكَرَاهَةُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّهْرَةِ فِي الْمُلَابِسِ وَقَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُصْلِحَهَا» وَتَقَدَّمَ مَا يُعَارِضُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَيُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ.
وَقَدْ أُلْحِقَ بِالنَّعْلَيْنِ كُلُّ لِبَاسٍ شَفْعٌ كَالْخُفَّيْنِ وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَا خُفٍّ وَاحِدٍ» وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَكَذَا إخْرَاجُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْكُمِّ دُونَ الْأُخْرَى وَالِارْتِدَاءُ عَلَى أَحَدِ الْمَنْكِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ (قُلْت) وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ وَلَمْ تُعْلَمُ الْعِلَّةُ حَتَّى يُلْحَقَ بِالْأَصْلِ فَالْأَوْلَى الِاقْتِصَارُ عَلَى مَحَلِّ النَّصِّ.