بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
[بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ]
[البركة فِي الْعُمْر بصلة الرحم]
بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ الْبِرُّ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ التَّوَسُّعُ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ. وَالْبَرُّ بِفَتْحِهَا الْمُتَوَسِّعُ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالصِّلَةُ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ مَصْدَرُ وَصَلَهُ كَوَعَدَهُ عِدَةً. فِي النِّهَايَةِ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْأَقْرَبِينَ مِنْ ذَوِي النَّسَبِ وَالْأَصْهَارِ وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ وَالرِّعَايَةِ لِأَحْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ إنْ تَعَدَّوْا وَأَسَاءُوا وَضِدُّ ذَلِكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ. اهـ
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ) مُغَيَّرٌ صِيغَتَهُ أَيْ يَبْسُطُ اللَّهُ (لَهُ فِي رِزْقِهِ) أَيْ يُوَسِّعُ لَهُ فِيهِ (وَأَنْ يُنْسَأَ) مِثْلُهُ فِي ضَبْطِهِ. بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مُخَفَّفَةً أَيْ يُؤَخَّرَ لَهُ (فِي أَثَرِهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ فَرَاءٍ أَيْ أَجَلِهِ (فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ) وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا «صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ» .
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إنَّ الصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ اللَّهُ بِهِمَا فِي الْعُمُرِ وَيَدْفَعُ بِهِمَا مِيتَةُ السُّوءِ» وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ: قَالَ ابْنُ التِّينِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَيْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مُعَارَضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[النحل/61].
قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ كِنَايَةٌ عَنْ الْبَرَكَةِ فِي الْعُمُرِ بِسَبَبِ التَّوْفِيقِ إلَى الطَّاعَةِ وَعِمَارَةِ وَقْتِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ وَصِيَانَتِهِ عَنْ تَضْيِيعِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا مَا جَاءَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقَاصَرَ أَعْمَارُ أُمَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَعْمَارِ مَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَيَبْقَى بَعْدَهُ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّوْفِيقِ الْعِلْمُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ بِتَأْلِيفٍ وَنَحْوِهِ وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ عَلَيْهِ، وَالْخَلَفُ الصَّالِحُ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالْعُمْرِ، وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ اللَّهِ كَأَنْ يُقَالَ لِلْمَلَكِ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَصِلُ أَوْ يَقْطَعُ فَاَلَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَاَلَّذِي يُقَالُ مَثَلًا إنَّ عُمْرَ فُلَانٍ مِائَةٌ إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ، وَإِنْ قَطَعَهَا فَسِتُّونَ وَقَدْ سَبَقَ مَثَلًا فِي عِلْمِ الْمَلَكِ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد/39] وَالْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي عِلْمِ الْمَلَكِ وَمَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ؛ وَأَمَّا الَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا مَحْوَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ.
وَيُقَالُ لَهُ الْقَضَاءُ الْمُبْرَمُ وَيُقَالُ لِلْأَوَّلِ الْقَضَاءُ الْمُعَلَّقُ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ فَإِنَّ الْأَثَرَ مَا يَتْبَعُ الشَّيْءَ فَإِذَا أُخِّرَ حَسُنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الذِّكْرِ الْحَسَنِ بَعْدَ فَقْدِ الْمَذْكُورِ وَرَجَّحَهُ الطِّيبِيُّ. وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الْفَائِقِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ «ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ أُنْسِئَ لَهُ فِي أَجَلِهِ؟ فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ زِيَادَةً فِي عُمْرِهِ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف/34] وَلَكِنَّ الرَّجُلَ تَكُونُ لَهُ الذُّرِّيَّةُ الصَّالِحَةُ يَدْعُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ» وَأَخْرَجَهُ فِي الْكَبِيرِ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى.
وَجَزَمَ ابْنُ فُورَكٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِزِيَادَةِ الْعُمْرِ نَفْيُ الْآفَاتِ عَنْ صَاحِبِ الْبِرِّ فِي فَهْمِهِ وَعَقْلِهِ. قَالَ غَيْرُهُ: فِي أَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ وَفِي عِلْمِهِ وَرِزْقِهِ. وَلِابْنِ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ كَلَامٌ يَقْضِي بِأَنَّ مُدَّةَ حَيَاةِ الْعَبْدِ وَعُمْرِهِ هِيَ مَهْمَا كَانَ قَلْبُهُ مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ ذَاكِرًا لَهُ مُطِيعًا غَيْرَ عَاصٍ فَهَذِهِ هِيَ عُمْرُهُ وَمَتَى أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ حَيَاةِ عُمْرِهِ فَعَلَى هَذَا مَعْنَى أَنَّهُ يُنْسَأُ لَهُ فِي أَجَلِهِ أَيْ يُعَمِّرُ اللَّهُ قَلْبَهُ بِذِكْرِهِ وَأَوْقَاتَهُ بِطَاعَتِهِ وَيَأْتِي تَحْقِيقُ صِلَةِ الرَّحِمِ.
[الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا وَبِمَاذَا تُوصَل]
فِي شَرْحِ قَوْلِهِ (وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» - يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ يَرْفَعُهُ «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا أَخَّرَ اللَّهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ.
(الشرح)
إِذَا أساء إِلَى والده أو قتل والده اجتمع فِيهِ أمران, فِيهِ قطيعة الرحم والقتل, نسأل الله العافية.
(المتن)
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ «إنَّ أَعْمَالَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ» وَأَخْرَجَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى «إنَّ الرَّحْمَةَ لَا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ» وَأَخْرُج الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «إنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ مُغْلَقَةٌ دُونَ قَاطِعِ الرَّحِمِ» وَاعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا فَقِيلَ: هِيَ الرَّحِمُ الَّتِي يَحْرُمُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا حَرُمَ عَلَى الْآخَرِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَلَا أَوْلَادُ الْأَخْوَالِ.
وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا فِي النِّكَاحِ لِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ التَّقَاطُعِ. وَقِيلَ هُوَ مَنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِمِيرَاثٍ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ثُمَّ أَدْنَاك أَدْنَاك " وَقِيلَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ قَرَابَةٌ سَوَاءٌ كَانَ يَرِثُهُ أَوْ لَا.
ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ وَأَدْنَاهَا تَرْكُ الْمُهَاجَرَةِ وَصِلَتُهَا بِالْكَلَامِ وَلَوْ بِالسَّلَامِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَةِ وَالْحَاجَةِ فَمِنْهَا وَاجِبٌ وَمِنْهَا مُسْتَحَبٌّ فَلَوْ وَصَلَ بَعْضَ الصِّلَةِ وَلَمْ يَصِلْ غَايَتَهَا لَمْ يُسَمَّ قَاطِعًا وَلَوْ قَصَّرَ عَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي لَهُ: لَمْ يُسَمَّ وَاصِلًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرَّحِمُ الَّتِي تُوصَلُ الرَّحِمُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ فَالْعَامَّةُ رَحِمُ الدِّينِ، وَتَجِبُ صِلَتُهَا بِالتَّوَادُدِ وَالتَّنَاصُحِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ. وَالرَّحِمُ الْخَاصَّةُ تَزِيدُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ وَتَفَقُّدِ حَالِهِ وَالتَّغَافُلِ عَنْ زَلَّتِهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: الْمَعْنَى الْجَامِعُ إيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِنْ الْخَيْرِ وَدَفْنُ مَا أَمْكَنَ مِنْ الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ فَتَجِبُ الْمُقَاطَعَةُ لَهُمْ إذَا لَمْ تَنْفَعْ الْمَوْعِظَةُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْصُلُ الْقَطِيعَةُ لِلرَّحِمِ فَقَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: تَكُونُ بِالْإِسَاءَةِ إلَى الرَّحِمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَكُونُ بِتَرْكِ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ آمِرَةٌ بِالصِّلَةِ نَاهِيَةٌ عَنْ الْقَطِيعَةِ فَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَالصِّلَةُ نَوْعٌ مِنْ الْإِحْسَانِ كَمَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَالْقَطِيعَةُ ضِدُّهَا وَهِيَ تَرْكُ الْإِحْسَانِ.
وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الصِّلَةَ إنَّمَا هِيَ مَا كَانَ لِلْقَاطِعِ صِلَةُ رَحِمِهِ وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ قَطَعَتْ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهِيَ رِوَايَةٌ فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِهِ: الْمُرَادُ الْكَامِلَةُ فِي الصِّلَةِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْوَاصِلِ وَمَنْ يُعْتَدُّ بِصِلَتِهِ مَنْ يُكَافِئُ صَاحِبَهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ وَلَكِنَّهُ مَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: لَا يَلُومُ مِنْ نَفْيِ الْوَصْلِ ثُبُوتُ الْقَطْعِ فَهُمْ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ وَاصِلٌ وَمُكَافِئٌ وَقَاطِعٌ، فَالْوَاصِلُ هُوَ الَّذِي يَتَفَضَّلُ وَلَا يُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ، وَالْمُكَافِئُ هُوَ الَّذِي لَا يَزِيدُ فِي الْإِعْطَاءِ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ، وَالْقَاطِعُ الَّذِي لَا يُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَفَضَّلُ.
قَالَ الشَّارِحُ: وَبِالْأَوْلَى مَنْ يُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَفَضَّلُ أَنَّهُ قَاطِعٌ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَكَمَا تَقَعُ الْمُكَافَأَةُ بِالصِّلَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَذَلِكَ تَقَعُ بِالْمُقَاطَعَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمَنْ بَدَأَ فَهُوَ الْقَاطِعُ فَإِنْ جُوزِيَ سُمِّيَ مَنْ جَازَاهُ مُكَافِئًا.