بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
[النَّهْي عَنْ عقوق الْوَالِدَيْنِ]
(وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْأُمَّهَاتُ جَمْعُ أُمَّهَةٍ لُغَةٌ فِي الْأُمِّ وَلَا تُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ بِخِلَافِ أُمٍّ فَإِنَّهَا تَعُمُّ.
(الشرح)
تعم أم الحيوان وأم البهائم, أم الأمهات خاص بالآدميات العاقلات, وَأَمَّا كلمة أم تشمل العاقلات كالآدميات وتشمل غير العاقلات كالبهائم أم البهائم.
(المتن)
وَإِنَّمَا خُصَّتْ الْأُمُّ هُنَا إظْهَارًا لِعِظَمِ حَقِّهَا وَإِلَّا فَالْأَبُ مُحَرَّمٌ عُقُوقُهُ، وَضَابِطُ الْعُقُوقِ الْمُحَرَّمِ كَمَا نُقِلَ خُلَاصَتُهُ عَنْ الْبُلْقِينِيِّ وَهُوَ أَنْ يَحْصُلُ مِنْ الْوَلَدِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا إيذَاءٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ عُرْفًا, فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا مَا إذَا حَصَلَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ فَخَالَفَهُمَا بِمَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ مُخَالَفَتُهُ عُقُوقًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُقُوقًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَثَلًا عَلَى الْأَبَوَيْنِ دَيْنٌ لِلْوَلَدِ أَوْ حَقٌّ شَرْعِيٌّ فَرَافَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُقُوقًا كَمَا «وَقَعَ مِنْ بَعْضِ أَوْلَادِ الصَّحَابَةِ شِكَايَةُ الْأَبِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي احْتِيَاجِهِ لِمَالِهِ فَلَمْ يَعُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِكَايَتَهُ عُقُوقًا».
قُلْت: فِي هَذَا تَأَمُّلٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» دَلِيلٌ عَلَى نَهْيِهِ عَنْ مَنْعِ أَبِيهِ عَنْ مَالِهِ وَعَنْ شِكَايَتِهِ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الضَّابِطِ: فَعَلَى هَذَا، الْعُقُوقُ أَنْ يُؤْذِيَ الْوَلَدُ أَحَدَ أَبَوَيْهِ بِمَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِ أَبَوَيْهِ كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ كَبِيرَةً، أَوْ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ فِيمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَوْفُ عَلَى الْوَلَدِ مِنْ فَوَاتِ نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، أَوْ مُخَالَفَتُهُمَا فِي سَفَرٍ يَشُقُّ عَلَيْهِمَا وَلَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى الْوَلَدِ أَوْ فِي غَيْبَةٍ طَوِيلَةٍ فِيمَا لَيْسَ لِطَلَبِ عِلْمٍ نَافِعٍ أَوْ كَسْبٍ، أَوْ تَرْكِ تَعْظِيمٍ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقُمْ إلَيْهِ أَوْ قَطَّبَ فِي وَجْهِهِ فَإِنَّ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ الْغَيْرِ مَعْصِيَةً فَهُوَ عُقُوقٌ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ.
(الشرح)
عَلَى كُلّ حال هُوَ مثل ما ذكر الصنعاني قول البلقيني أَنَّهُ له أن يشكي والديه هَذَا لَيْسَ بجيد, لاشك أن هَذَا من العقوق, الرَّسُوْل يَقُولُ: «أنت ومالك لأبيك», ابن يشكي أباه؟ أبوه رباه وَهُوَ سبب في وجوده, وأنفق عَلَيْهِ وتعب ثُمَّ يشتكي لاشك أن هَذَا من العقوق.
جاء رجل إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يا رسول الله إِن أبي يريد أن يجتاح مالي؟ قَالَ: «أنت ومالك لأبيك», وإن كَانَ الأب لا يجوز له أن يأخذ من مال ابنه شيء يضره أو يعطيه لولد آخر, وَإِنَّمَا له أن يأخذ ما زاد عَنْ حاجة الولد له أن يأخذه وإن كَانَ تركه أولى, لكن لَيْسَ له أن يأخذ من مال ابنه؛ حَتَّى يجعله يضطر أَنَّهُ يحتاج أو يسأل النَّاس, لكن ما زاد عَنْ الحاجة فلا بأس, أو كَذَلِكَ يأخذ من ولد ويعطي ولد آخر؛ لِأَنَّ هَذَا يسبب العقوق, يأخذ من هَذَا ويعطي هَذَا, هَذَا ممنوع, في حالتين: الحالة الأولى: أن يأخذ ما زاد عَنْ حاجته. الحالة الثانية: أن يأخذ, لكن لو فعل هَذَا لَيْسَ للإبن أن يرفعه إِلَى الحاكم وأن يشتكيه, عَلَيْهِ أن يصبر وأن يتحمل.
(المتن)
قَوْلُهُ " وَوَأْدَ الْبَنَاتِ " بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ دَفْنُ الْبِنْتِ حَيَّةً وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَخَصَّ الْبَنَاتَ؛ لِأَنَّهُ الْوَاقِعُ مِنْ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَرَاهِيَةً لَهُنَّ. يُقَالُ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ التَّيْمِيُّ وَكَانَ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَقْتُلُ أَوْلَادَهُ مُطْلَقًا خَشْيَةَ الْفَاقَةِ وَالنَّفَقَةِ.
وَقَوْلُهُ " مَنْعًا وَهَاتِ " الْمَنْعُ مَصْدَرٌ مِنْ مَنَعَ يَمْنَعُ وَالْمُرَادُ مَنْعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ لَا يُمْنَعَ وَهَاتِ فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ طَلَبَهُ.
وَقَوْلُهُ «وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ» يُرْوَى بِغَيْرِ تَنْوِينٍ حِكَايَةً لِلَفْظِ الْفِعْلِ. وَرُوِيَ مُنَوَّنًا وَهِيَ رِوَايَةٌ فِي الْبُخَارِيِّ، قِيلًا وَقَالًا، عَلَى النَّقْلِ مِنْ الْفِعْلِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ.
وَالْمُرَادُ بِهِ نَقْلُ الْكَلَامِ الَّذِي يَسْمَعُهُ إلَى غَيْرِهِ فَيَقُولُ قِيلَ كَذَا وَكَذَا بِغَيْرِ تَعْيِينِ الْقَائِلِ وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي الْمُتَكَلِّمَ وَلِكَوْنِهِ قَدْ يَتَضَمَّنُ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ وَالْكَذِبَ وَلَاسِيَّمَا مَعَ الْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْهُ، وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ ثَلَاثَةٌ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ لِلْقَوْلِ نَقُولُ قُلْت قَوْلًا وَقِيلَا.
وَفِي الْحَدِيثِ الْإِشَارَةُ إلَى كَرَاهَةِ كَثْرَةِ الْكَلَامِ.
ثَانِيهَا: إرَادَةُ حِكَايَةِ أَقَاوِيلِ النَّاسِ وَالْبَحْثِ عَنْهَا لِتُخْبِرَ عَنْهَا فَتَقُولَ: قَالَ فُلَانٌ: كَذَا وَقِيلَ لَهُ كَذَا.
وَالنَّهْيُ عَنْهُ إمَّا لِلزَّجْرِ عَنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَإِمَّا لِمَا يَكْرَهُهُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ فِي حِكَايَةِ الِاخْتِلَافِ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَأْمَنُ مِنْ الزَّلَلِ، وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ يَنْقُلُ بِغَيْرِ تَثَبُّتٍ فِي نَقْلِهِ لِمَا يَسْمَعُهُ وَلَا يَحْتَاطُ لَهُ؛ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. قُلْت: وَيَحْتَمِلُ إرَادَةَ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ.
وَقَوْلُهُ " وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ " هُوَ السُّؤَالُ لِلْمَالِ أَوْ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ مِنْ الْمَسَائِلِ أَوْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ مَسْأَلَةُ الْمَالِ وَقَدْ نَهَى عَنْ الْأُغْلُوطَاتِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَهِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي يُغَلَّطُ بِهَا الْعُلَمَاءُ لِيَزِلُّوا فَيَنْتِجُ بِذَلِكَ شَرٌّ وَفِتْنَةٌ. وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا لِكَوْنِهَا غَيْرَ نَافِعَةٍ فِي الدِّينِ وَلَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ إلَّا فِيمَا لَا يَنْفَعُ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ السَّلَفِ كَرَاهَةُ تَكَلُّفِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا عَادَةً أَوْ يَنْدُرُ وُقُوعُهَا جِدًّا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنَطُّعِ وَالْقَوْلِ بِالظَّنِّ الَّذِي لَا يَخْلُو صَاحِبُهُ عَنْ الْخَطَأِ. وَقِيلَ كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةُ سُؤَالِ إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ عَنْ تَفَاصِيلِ حَالِهِ وَكَانَ مِمَّا يَكْرَهُهُ الْمَسْئُولُ.
[التشديد فِي إضاعة الْمَال]
وَقَوْلُهُ " وَإِضَاعَةَ الْمَالِ " الْمُتَبَادَرُ مِنْ الْإِضَاعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ دِينِيٍّ وَلَا دُنْيَوِيٍّ وَقِيلَ هُوَ الْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ. وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي الْحَرَامِ وَرَجَّحَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ مَا أُنْفِقَ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الْمَأْذُونِ فِيهَا شَرْعًا سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَالَ قِيَامًا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَفِي التَّبْذِيرِ تَفْوِيتُ تِلْكَ الْمَصَالِحِ إمَّا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي كَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: الْإِنْفَاقُ فِي الْوُجُوهِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ.
الثَّانِي: الْإِنْفَاقُ فِي الْوُجُوهِ الْمَحْمُودَةِ شَرْعًا وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ مَطْلُوبًا مَا لَمْ يُفَوِّتُ حَقًّا آخَرَ أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْفَقِ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: الْإِنْفَاقُ فِي الْمُبَاحَاتِ.
وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ وَبِقَدْرِ مَالِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِإِضَاعَةٍ وَلَا إسْرَافٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِهِ عُرْفًا فَإِنْ كَانَ لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ إمَّا حَاضِرَةً أَوْ مُتَوَقَّعَةً فَذَلِكَ لَيْسَ بِإِسْرَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إسْرَافٌ، قَالَ: ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إسْرَافٌ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَقَالَ فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ: هُوَ حَرَامٌ وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ وَجَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْغَارِمِ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: إنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الْمَالِ بِالصَّدَقَةِ قَالَ: وَيُكْرَهُ كَثْرَةُ إنْفَاقِهِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا وَقَعَ نَادِرًا لِحَادِثٍ كَضَيْفٍ أَوْ عِيدٍ أَوْ وَلِيمَةٍ. وَالِاتِّفَاقُ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِنْفَاقِ فِي الْبِنَاءِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَلَا سِيَّمَا إنْ انْضَافَ إلَى ذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي الزَّخْرَفَةِ وَكَذَلِكَ احْتِمَالُ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي الْمُبَايَعَاتِ بِلَا سَبَبٍ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ. وَأَمَّا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْمَلَاذِّ الْمُبَاحَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ اخْتِلَافٍ وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان/67] أَنَّ الزَّائِدَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْمُنْفِقِ إسْرَافٌ. وَمَنْ بَذَلَ مَالًا كَثِيرًا فِي عَرَضٍ يَسِيرٍ.
(الشرح)
يَعْنِي في سلعة يسيرة.
(المتن)
وَمَنْ بَذَلَ مَالًا كَثِيرًا فِي عَرَضٍ يَسِيرٍ فَإِنَّهُ يَعُدُّهُ الْعُقَلَاءُ مُضَيِّعًا انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الزَّكَاةِ.
[بِرّ الْوَالِدَيْنِ يَقْدَم عَلَى فروض الكفايات]
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إرْضَاءِ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ وَتَحْرِيمِ إسْخَاطِهِمَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ مَرْضَاةُ اللَّهِ وَالثَّانِيَ فِيهِ سَخَطُهُ فَيُقَدِّمُ رِضَاهُمَا عَلَى فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاك؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ».
(الشرح)
وَهَذَا دَلِيل عَلَى أن استئذان الوالدين في الجهاد إِذَا لَمْ يتعين مقدم؛ لِأَنَّ بر الوالدين فرض والجهاد هنا مستحب, لكن إِذَا تعين الجهاد كأن إِذَا ذَهَبَ لغزو بلد أو وقف في الصف أو استنفر الإمام, هنا صار فرض عين.
(المتن)
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ هَاجَرْت قَالَ: هَلْ لَك أَهْلٌ بِالْيَمَنِ؟ فَقَالَ: أَبَوَايَ قَالَ أَذِنَا لَك؟ قَالَ لَا قَالَ فَارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا فَإِنْ أَذِنَا لَك فَجَاهِدْ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا» وَفِي إسْنَادِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْجِهَادِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالْأَمِيرِ حُسَيْنٍ ذَكَرَهُ فِي الشِّفَاءِ وَالشَّافِعِيُّ فَقَالُوا: يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْجِهَادِ إذَا لَمْ يَرْضَ الْأَبَوَانِ إلَّا فَرْضَ الْعَيْنِ. كَالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا الْأَبَوَانِ بِالْإِجْمَاعِ. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالْمَنْدُوبِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْأَبَوَانِ مَا لَمْ يَتَضَرَّرَا بِسَبَبِ فَقَدْ الْوَلَدِ، وَحَمَلُوا الْأَحَادِيثَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتْبَعُ رِضَاهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ سَخَطُ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان/15].
قُلْت الْآيَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا إذَا حَمَلَاهُ عَلَى الشِّرْكِ وَمِثْلُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُطِيعُهُمَا فِي تَرْكِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالْعَيْنِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ خَصَّصَ فَرْضَ الْعَيْنِ وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ حَقُّ الْأَبِ وَحَقُّ الْأُمِّ فَحَقُّ الْأُمِّ مُقَدَّمٌ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صُحْبَتِي قَالَ أُمُّك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ أَبُوك» فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى تَقْدِيمِ رِضَا الْأُمِّ عَلَى رِضَا الْأَبِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِ مَا لِلْأَبِ، قَالَ: وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِصُعُوبَةِ الْحَمْلِ ثُمَّ الْوَضْعِ ثُمَّ الرَّضَاعِ.
قُلْت وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}[الأحقاف/15] وَمِثْلُهَا {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}[لقمان/14] قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْأُمَّ تَفْضُلُ عَلَى الْأَبِ فِي الْبِرِّ وَنَقَلَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَخِ وَالْجَدِّ مَنْ أَحَقُّ بِبِرِّهِ مِنْهُمَا؟ فَقَالَ الْقَاضِي: الْأَكْثَرُ الْجَدُّ وَجَزَمَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَيُقَدِّمُ مَنْ أَدْلَى بِسَبَبَيْنِ عَلَى مَنْ أَدْلَى بِسَبَبٍ ثُمَّ الْقَرَابَةَ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ وَيُقَدِّمُ مِنْهُمْ الْمَحَارِمَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ ثُمَّ الْعَصَبَاتِ ثُمَّ الْمُصَاهَرَةَ ثُمَّ الْوَلَاءَ ثُمَّ الْجَارَ.
وَأَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْبِرُّ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَوَرَدَ فِي تَقْدِيمِ الزَّوْجِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ «سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ قَالَ: زَوْجُهَا قُلْت: فَعَلَى الرَّجُلِ: قَالَ أُمُّهُ» وَلَعَلَّ مِثْلَ هَذَا مَخْصُوصٌ بِمَا إذَا حَصَلَ التَّضَرُّرُ لِلْوَالِدَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ حَقُّهُمَا عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
[حَقّ الجار أَنْ يحب لأخيه مَا يحب لنفسه]
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْحَدِيثُ وَقَعَ فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ بِالشَّكِّ فِي قَوْلِهِ لِأَخِيهِ أَوْ لِجَارِهِ. وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ لِأَخِيهِ بِغَيْرِ شَكٍّ. الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ حَقِّ الْجَارِ وَالْأَخِ وَفِيهِ نَفْيُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ لَهُمَا مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَتَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، إذْ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِيمَانِ، وَأُطْلِقَ الْمَحْبُوبُ وَلَمْ يُعَيَّنْ. وَقَدْ عَيَّنَهُ مَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ «حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْمُرَادُ: مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا قَدْ يُعَدُّ مِنْ الصَّعْبِ الْمُمْتَنِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ مَعْنَاهُ لَا يَكْمُلُ إيمَانُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ فِي الْإِسْلَامِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْرِ. وَالْقِيَامُ بِذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُحِبَّ لَهُ مِثْلَ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهَا بِحَيْثُ لَا تُنْقِصُ النِّعْمَةُ عَلَى أَخِيهِ شَيْئًا مِنْ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ سَهْلٌ عَلَى الْقَلْبِ السَّلِيمِ وَإِنَّمَا يَعْسُرُ عَلَى الْقَلْبِ الدَّغِلِ. عَافَانَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا أَجْمَعِينَ. ا. هـ.
هَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْأَخِ. وَرِوَايَةُ الْجَارِ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالصِّدِّيقِ وَالْعَدُوِّ وَالْقَرِيبِ وَالْأَجْنَبِيِّ وَالْأَقْرَبِ جِوَارًا وَالْأَبْعَدِ فَمَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الْمُوجِبَةُ لِمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُ فَهُوَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَمَنْ كَانَ فِيهِ أَكْثَرُهَا فَهُوَ لَاحِقٌ بِهِ وَهَلُمَّ جَرًّا إلَى الْخَصْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَيُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ بِحَسَبِ حَالِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ جَارٌ مُسْلِمٌ لَهُ رَحِمٌ لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَالرَّحِمِ وَالْجِوَارِ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ ذَبَحَ شَاةً فَأَهْدَى مِنْهَا لِجَارِهِ الْيَهُودِيِّ. فَإِنْ كَانَ الْجَارُ أَخًا أَحَبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَحَبَّ لَهُ الدُّخُولَ فِي الْإِيمَانِ مَعَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ: حِفْظُ حَقِّ الْجَارِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْإِضْرَارُ بِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ» قَالَ: وَيَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَارِ الصَّالِحِ وَغَيْرِهِ.
وَاَلَّذِي يَشْمَلُ الْجَمِيعَ إرَادَةُ الْخَيْرِ وَمَوْعِظَتُهُ بِالْحُسْنَى وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْهِدَايَةِ وَتَرْكُ الْإِضْرَارِ لَهُ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ الْإِضْرَارُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَاَلَّذِي يَخُصُّ الصَّالِحَ هُوَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرَ الصَّالِحِ كَفُّهُ عَنْ الْأَذَى وَأَمْرُهُ بِالْحُسْنَى عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَالْكَافِرُ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ بِرِفْقٍ.
وَالْفَاسِقُ يَعِظُهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ بِالرِّفْقِ وَيَسْتُرُ عَلَيْهِ زَلَلَهُ وَيَنْهَاهُ بِالرِّفْقِ فَإِنْ نَفَعَ وَإِلَّا هَجَرَهُ قَاصِدًا تَأْدِيبَهُ بِذَلِكَ مَعَ إعْلَامِهِ بِالسَّبَبِ لِيَكُفَّ. وَيُقَدِّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ بَابًا كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي قَالَ: إلَى أَقْرَبِهِمَا بَابًا» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْأَقْرَبَ بَابًا يَرَى مَا يَدْخُلُ بَيْتَ جَارِهِ مِنْ هَدِيَّةٍ وَغَيْرِهَا فَيَتَشَوَّفُ لَهُ بِخِلَافِ الْأَبْعَدِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ حَدَّ الْجَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَجَاءَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَهُوَ جَارٌ " وَقِيلَ: مَنْ صَلَّى مَعَك صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ جَارٌ.
والله أعلم وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيّنَا محمد.