شعار الموقع

شرح كتاب الجامع من سبل السلام_11

00:00
00:00
تحميل
46

بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ

الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(المتن)

قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:

[التحذير مِنْ حب الدنيا والانشغال عَنْ طاعة اللَّه]

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْكِبَيَّ) يُرْوَى بِالْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْكَافِ مَجْمَعُ الْكَتِفِ وَالْعَضُدِ (فَقَالَ «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: إذَا أَمْسَيْت فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْت فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِك لِسَقَمِك وَمِنْ حَيَاتِك لِمَوْتِك " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ) الْغَرِيبُ مَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ يَأْوِيهِ وَلَا سَكَنَ يَأْنَسُ بِهِ وَلَا بَلَدَ يَسْتَوْطِنُ فِيهِ كَمَا قِيلَ فِي الْمَسِيحِ سَعِدَ الْمَسِيحُ يَسِيحُ لَا وَلَدَ يَمُوتُ وَلَا بِنَاءَ يَخْرَبُ. وَعَطْفُ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ مِنْ بَابِ عَطْفِ التَّرَقِّي وَأَوْ لَيْسَتْ لِلشَّكِّ بَلْ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ الْإِبَاحَةِ، وَالْأَمْرُ لِلْإِرْشَادِ وَالْمَعْنَى: قَدِّرْ نَفْسَك وَنَزِّلْهَا مَنْزِلَةَ مَنْ هُوَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ؛ لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَسْتَوْطِنُ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَوْ لِلْإِضْرَابِ وَالْمَعْنَى: بَلْ كُنَّ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك عَابِرُ سَبِيلٍ؛ لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَسْتَوْطِنُ بَلَدًا بِخِلَافِ عَابِرِ السَّبِيلِ فَهَمُّهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ إلَى مَقْصِدِهِ وَالْمَقْصِدُ هُنَا إلَى اللَّهِ {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم/42] .

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: لَمَّا كَانَ الْغَرِيبُ قَلِيلَ الِانْبِسَاطِ إلَى النَّاسِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْحِشٌ مِنْهُمْ وَلَا يَكَادُ يَمُرُّ بِمَنْ يَعْرِفُهُ فَيَأْنَسُ بِهِ فَهُوَ ذَلِيلٌ فِي نَفْسِهِ خَائِفٌ وَكَذَلِكَ عَابِرُ السَّبِيلِ لَا يَنْفُذُ فِي سَفَرِهِ إلَّا بِقُوَّتِهِ وَتَخْفِيفِهِ مِنْ الْأَثْقَالِ غَيْرُ مُتَشَبِّثٍ بِمَا يَمْنَعُهُ عَنْ قَطْعِ سَفَرِهِ، مَعَهُ زَادُهُ وَرَاحِلَتُهُ يُبَلِّغَانِهِ إلَى مَا يَعْنِيهِ مِنْ مَقْصِدِهِ.

وَفِي هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى إيثَارِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَأَخْذِ الْبُلْغَةِ مِنْهَا وَالْكَفَافِ، فَكَمَا لَا يَحْتَاجُ الْمُسَافِرُ إلَى أَكْثَرَ مِمَّا يُبَلِّغُهُ إلَى غَايَةِ سَفَرِهِ فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا يَحْتَاجُ فِي الدُّنْيَا إلَى أَكْثَرَ مِمَّا يُبَلِّغُهُ الْمَحَلَّ وَقَوْلُهُ (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إلَخْ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَلَامُ ابْنِ عُمَرَ مُتَفَرِّعٌ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِنِهَايَةِ تَقْصِيرِ الْأَجْلِ مِنْ الْعَاقِلِ إذَا أَمْسَى يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْتَظِرَ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْتَظِرَ الْمَسَاءَ بَلْ يَظُنُّ أَنْ أَجَلَهُ يُدْرِكُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.

وَفِي كَلَامِهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فَيَغْتَنِمُ أَيَّامَ صِحَّتِهِ وَيُنْفِقُ سَاعَاتِهِ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَتَى يَنْزِلُ بِهِ مَرَضٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِ الطَّاعَةِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا مَرِضَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا فَقَدْ أَخَذَ مِنْ صِحَّتِهِ لِمَرَضِهِ حَظَّهُ مِنْ الطَّاعَاتِ.

وَقَوْلُهُ (مِنْ حَيَاتِك لِمَوْتِك) أَيْ خُذْ مِنْ أَيَّامِ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ وَالنَّشَاطِ لِمَوْتِك بِتَقْدِيمِ مَا يَنْفَعُك بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ نَظِيرُ حَدِيثِ «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا مَا تَنْتَظِرُونَ إلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَإِنَّهُ شَرُّ مُنْتَظَرٍ أَوْ السَّاعَةَ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

(وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).

(الشرح)

وَهَذَا قَالَ شيخ الإِسْلامُ أقل أحواله يفيد التحريم وَإِلَّا فظاهره الكفر.

(المتن)

 الْحَدِيثُ فِيهِ ضَعْفٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تُخْرِجُهُ عَنْ الضَّعْفِ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «مَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ كَانَ مِنْهُمْ» وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِالْفُسَّاقِ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ بِالْكُفَّارِ أَوْ بِالْمُبْتَدِعَةِ فِي أَيِّ شَيْءٍ مِمَّا يَخْتَصُّونَ بِهِ مِنْ مَلْبُوسٍ أَوْ مَرْكُوبٍ أَوْ هَيْئَةٍ، قَالُوا: فَإِذَا تَشَبَّهَ بِالْكَافِرِ فِي زِيٍّ وَاعْتَقَدَ أَنْ يَكُونَ بِذَلِكَ مِثْلَهُ كَفَرَ فَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَكْفُرُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكْفُرُ وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ.

[حفظ اللَّه أَنْ تحفظ حدوده]

(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كُنْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْك» جَوَابُ الْأَمْرِ «احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ» مِثْلُهُ (تُجَاهَك) فِي الْقَامُوسِ وِجَاهَك وَتُجَاهَك مِثْلَيْنِ تِلْقَاءَ وَجْهِك (وَإِذَا سَأَلْت) حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدَّارَيْنِ (فَاسْأَلْ اللَّهَ) فَإِنَّ بِيَدِهِ أُمُورَهُمَا «وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَتَمَامُهُ «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك جَفَّتْ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ الصُّحُفُ» .

وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ «كُنْت رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيْمُ أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَاتٍ يَنْفَعُك اللَّهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْت بَلَى. قَالَ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْك، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَك تَعَرَّفْ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفُك فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوك بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوك بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْك لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرْجَ مَعَ الْكُرْبَةِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» وَلَهُ أَلْفَاظٌ أُخَرُ وَهُوَ حَدِيثٌ جَلِيلٌ أَفْرَدَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ بِتَصْنِيفٍ مُفْرَدٍ فَإِنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى وَصَايَا جَلِيلَةٍ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ (احْفَظْ اللَّهَ) أَيْ حُدُودَهُ وَعُهُودَهُ وَأَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ.

وَحِفْظُ ذَلِكَ هُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ أَوَامِرِهِ بِالِامْتِثَالِ، وَعِنْدَ نَوَاهِيهِ بِالِاجْتِنَابِ. وَعِنْدَ حُدُودِهِ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَهَا وَلَا يَتَعَدَّى مَا أَمَرَ بِهِ إلَى مَا نَهَى عَنْهُ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ كُلِّهَا وَتَرْكُ الْمُنْهَيَاتِ كُلِّهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}[التوبة/112] .

وَقَالَ: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ}[ق/32] .

فَسَّرَ الْعُلَمَاءُ الْحَفِيظَ بِالْحَافِظِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ. وَفُسِّرَ بِالْحَافِظِ لِذُنُوبِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْهَا فَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِ اللَّهِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذُكِرَ وَتَفَاصِيلُهَا وَاسِعَةٌ.

وَقَوْلُهُ (تَجِدْهُ أَمَامَك) وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ (يَحْفَظْك) وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ أَيْ تَجِدْهُ أَمَامَك بِالْحِفْظِ لَك مِنْ شُرُورِ الدَّارَيْنِ جَزَاءً وِفَاقًا مِنْ بَابِ {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}[البقرة/40] يَحْفَظُهُ فِي دُنْيَاهُ عَنْ غَشَيَانِ الذُّنُوبِ. وَعَنْ كُلِّ أَمْرٍ مَرْهُوبٍ وَيَحْفَظُ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}[الكهف/82] .

[لَا يَنْبَغِي الدُّعَاء إلَّا لِلَّهِ]

وَقَوْلُهُ: (فَاسْأَلْ اللَّهَ) أَمْرٌ بِإِفْرَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالسُّؤَالِ وَإِنْزَالِ الْحَاجَاتِ بِهِ وَحْدَهُ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ» وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» وَفِيهِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «يَسْأَلُ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ».

(الشرح)

وَهُوَ السير الَّذِي في ظهر القدم, يَعْنِي أسأل الله أن ييسر أمره؛ حَتَّى ولو كَانَ شَيْئًا حَتَّى شسع النعل, وَهُوَ السير الَّذِي في ظهر النعل؛ إِذَا انقطع اسأل ربك أَنَّهُ يعينك.

(المتن)

 وَقَدْ «بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا مِنْهُمْ الصِّدِّيقُ وَأَبُو ذَرٍّ وَثَوْبَانُ وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَسْقُطُ سَوْطُهُ أَوْ يَسْقُطُ خِطَامُ نَاقَتِهِ فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ» .

وَإِفْرَادُ اللَّهِ بِطَلَبِ الْحَاجَاتِ دُونَ خَلْقِهِ يَدُلُّ لَهُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ فَإِنَّ السُّؤَالَ بَذْلٌ لِمَاءِ الْوَجْهِ وَذُلٌّ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْغَنِيُّ مُطْلَقًا وَالْعِبَادُ بِخِلَافِ هَذَا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ فِيهِ «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا غُمِسَ فِي الْبَحْرِ» وَزَادَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ «وَذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ عَطَائِي كَلَامٌ وَعَذَابِي كَلَامٌ إذَا أَرَدْت شَيْئًا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» .

وَقَوْلُهُ «إذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة/ 5] أَيْ نُفْرِدُك بِالِاسْتِعَانَةِ. أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ فِي كُلِّ أُمُورِهِ أَيْ إفْرَادُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ وَفِي إفْرَادِهِ تَعَالَى بِالِاسْتِعَانَةِ فَائِدَتَانِ:

فَالْأُولَى: أَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِنَفْسِهِ فِي الطَّاعَاتِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا مُعِينَ لَهُ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ فَهُوَ الْمُعَانُ، وَمَنْ خَذَلَهُ فَهُوَ الْمَخْذُولُ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ» وَعَلَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِبَادَ أَنْ يَقُولُوا فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ " الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ «وَعَلَّمَ مُعَاذًا أَنْ يَقُولَ دُبُرَ الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك» فَالْعَبْدُ أَحْوَجُ إلَى مَوْلَاهُ فِي طَلَبِ إعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ.

قَالَ سَيِّدَنَا يَعْقُوبُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف/18] وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا النَّبَوِيَّةِ لَا يُنَافِي الْقِيَامَ بِالْأَسْبَابِ فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ سُؤَالِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ رِزْقَهُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ الْمَأْذُونِ فِيهَا رُزِقَ مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ مِنْهُ تَعَالَى وَإِنْ حُرِمَ فَهُوَ لِمَصْلَحَةٍ لَا يَعْلَمُهَا وَلَوْ كَشَفَ الْغِطَاءَ لَعُلِمَ أَنَّ الْحِرْمَانَ خَيْرٌ مِنْ الْعَطَاءِ.

وَالْكَسْبُ الْمَمْدُوحُ الْمَأْجُورُ فَاعِلُهُ عَلَيْهِ هُوَ مَا كَانَ لِطَلَبِ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ أَوْ الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ يَعُدُّهُ لِقَرْضِ مُحْتَاجٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ أَوْ إعَانَةِ طَالِبِ عِلْمٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ وُجُوهِ الْخَيْرِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا وَفَتْحِ بَابِ مَحَبَّتِهَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «كَسْبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْقُضَاعِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَفِيهِ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ ضَعِيفٌ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ «طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ» وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «طَلَبُ الْحَلَالِ جِهَادٌ» رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ وَمِثْلُهُ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْكَسْبُ الْحَلَالُ مَنْدُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ إلَّا لِلْعَالِمِ الْمُشْتَغِلِ بِالتَّدْرِيسِ وَالْحَاكِمِ الْمُسْتَغْرَقَةُ أَوْقَاتُهُ فِي إقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ كَالْإِمَامِ فَتَرْكُ الْكَسْبِ بِهِمْ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَا هُمْ فِيهِ وَيُرْزَقُونَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُعَدَّةِ لِلْمَصَالِحِ.

[كيف يَكُون الْعَبْد محبوبا مِنْ اللَّه]

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّك اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّك النَّاسُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ) فِيهِ خَالِدُ بْنُ عُمَرَ الْقُرَشِيُّ مُجْمَعٌ عَلَى تَرْكِهِ وَنُسِبَ إلَى الْوَضْعِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْحَاكِمِ إنَّهُ صَحِيحٌ وَقَدْ خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَنَسٍ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَسٍ وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا وَقَدْ حَسَّنَ النَّوَوِيُّ الْحَدِيثَ كَأَنَّهُ لِشَوَاهِدِهِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الزُّهْدِ وَفَضْلِهِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ وَلِمَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ زَهِدَ فِيمَا هُوَ عِنْدَ الْعِبَادِ أَحَبُّوهُ؛ لِأَنَّهُ جُبِلَتْ الطَّبَائِعُ عَلَى اسْتِثْقَالِ مَنْ أَنْزَلَ بِالْمَخْلُوقِينَ حَاجَاتِهِ وَطَمِعَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِطَلَبِ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ وَالسَّعْيِ فِيمَا يُكْسِبُ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا» وَأَرْشَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى إفْشَاءِ السَّلَامِ فَإِنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْمَحَبَّةِ وَإِلَى التَّهَادِي وَنَحْوِ ذَلِكَ.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد