بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
[النَّهْي عَنْ كَثْرَة الْأَكْل]
(وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ.» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ) وَأَخْرَجَهُ ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَتَمَامُهُ «فَحَسْبُ ابْنُ آدَمَ أَكَلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لَا مَحَالَةَ» (وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ): «فَإِنْ غَلَبَتْ ابْنَ آدَمَ نَفْسُهُ فَثُلُثًا لِطَعَامِهِ، وَثُلُثًا لِشَرَابِهِ، وَثُلُثًا لِنَفَسِهِ»، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى ذَمِّ التَّوَسُّعِ فِي الْمَأْكُولِ وَالشِّبَعِ وَالِامْتِلَاءِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَرٌّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْبَدَنِيَّةِ، فَإِنَّ فُضُولَ الطَّعَامِ مَجْلَبَةٌ لِلسَّقَامِ وَمُثَبِّطَةٌ عَنْ الْقِيَامِ بِالْأَحْكَامِ.
(الشرح)
يَعْنِي الأحكام الَّتِي أمر الله بها, يَعْنِي مثبطة عَنْ أداء الواجبات.
(المتن)
وَهَذَا الْإِرْشَادُ إلَى جَعْلِ الْأَكْلِ ثُلُثَ مَا يَدْخُلُ الْمِعْدَةَ مِنْ أَفْضَلِ مَا أَرْشَدَ إلَيْهِ سَيِّدُ الْأَنَامِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ يُخَفِّفُ عَلَى الْمِعْدَةِ وَيَسْتَمِدُّ مِنْ الْبَدَنِ الْغِذَاءَ وَتَنْتَفِعُ بِهِ الْقُوَى وَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَدْوَاءِ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ الْكَلَامِ النَّبَوِيِّ شَيْءٌ كَثِيرٌ فِي ذَمِّ الشِّبَعِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي جُحَيْفَةَ لَمَّا تَجَشَّأَ فَقَالَ: مَا مَلَأْت بَطْنِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ «وَأَهْلُ الشِّبَعِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْجُوعِ غَدًا فِي الْآخِرَةِ» زَادَ الْبَيْهَقِيُّ «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا عَظِيمَ الْبَطْنِ فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ هَذَا لَكَانَ خَيْرًا لَك» .
(الشرح)
الحديث في صحته نظر, كون النَّبِيّ يجابه بِهَذَا النَّبِيّ, وَهَذَا قَدْ يكون السمن خلقة, السمن قَدْ يكون خلقة فلا اختبار للإنسان, وَإِنَّمَا يذم إِذَا كَانَ السمن من أجل التوسع في المآكل والمشارب مثل ما جاء في الحديث أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خير النَّاس قرني ثُمَّ الَّذِينَ يلونهم ثُمَّ الَّذِينَ يلونهم, ثُمَّ يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن», يَعْنِي أَنَّهُمْ يقبلون عَلَى المآكل والمشارب وَعَلَى الغفلة والإعراض فتركبهم الشحوم, أَمَّا من ركبته الشحوم خلقةً فلا ذم؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ له اختيار, وَكَانَ في الصَّحَابَة عتبان بن مالك كَانَ رجلاً ضخمًا, قَدْ يكون السمن خلقة, وَقَدْ يكون رجل صالح وَفِيهِ سمن خلق لَيْسَ له اختيار فِيهِ, فهذا الحديث في صحته ينظر «فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ هَذَا لَكَانَ خَيْرًا لَك», يحتاج إِلَى مراجعة المتن فِيهِ نكارة.
والذم بسبب الإقبال عَلَى الدنيا والتنعم فِيهَا والإعراض عَنْ الآخرة, هَذَا الذم.
(المتن)
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مُخْتَصَرًا «لَيُؤْتَيَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَظِيمِ الطَّوِيلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف/105]» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابَهُ جُوعٌ يَوْمًا فَعَمَدَ إلَى حَجَرٍ فَوَضَعَهُ عَلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا رُبَّ نَفْسٍ طَاعِمَةٍ نَاعِمَةٍ فِي الدُّنْيَا جَائِعَةٍ عَارِيَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ أَلَا رُبَّ مُهِينٌ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُكْرِمٌ» وَصَحَّ حَدِيثُ «مِنْ الْإِسْرَافِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْت» .
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: رَآنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أَكَلْت فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَمَّا تُحِبِّينَ أَنْ لَا يَكُونَ لَك شُغْلٌ إلَّا جَوْفَك؛ الْأَكْلُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ الْإِسْرَافِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».
(الشرح)
هَذَا الحديث لا يصح, أبي لهيعة هَذَا ضعيف.
(المتن)
وَصَحَّ «كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ».
(الشرح)
هَذَا الحديث صحيح.
(المتن)
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ «سَيَكُونُ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي» .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إذَا امْتَلَأَتْ الْمِعْدَةُ نَامَتْ الْفِكْرَةُ وَخَرِسَتْ الْحِكْمَةُ وَقَعَدَتْ الْأَعْضَاءُ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَفِي الْخُلُوِّ عَنْ الطَّعَامِ فَوَائِدُ وَفِي الِامْتِلَاءِ مَفَاسِدُ فَفِي الْجُوعِ صَفَاءُ الْقَلْبِ وَإِيقَادُ الْقَرِيحَةِ وَنَفَاذُ الْبَصِيرَةِ، فَإِنَّ الشِّبَعَ يُورِثُ الْبَلَادَةِ وَيُعْمِي الْقَلْبَ وَيُكْثِرُ الْبُخَارَ فِي الْمَعِدَةِ وَالدِّمَاغِ كَشَبَهِ السُّكْرِ حَتَّى يَحْتَوِيَ عَلَى مَعَادِنِ الْفِكْرِ فَيَثْقُلُ الْقَلْبُ بِسَبَبِهِ عَنْ الْجَرَيَانِ فِي الْأَفْكَارِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ كَسْرُ شَهْوَةِ الْمَعَاصِي كُلِّهَا وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَإِنَّ مَنْشَأَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الشَّهَوَاتُ، وَالْقُوَى وَمَادَّةُ الْقُوَى الشَّهَوَاتُ وَالشَّهَوَاتُ لَا مَحَالَةَ الْأَطْعِمَةُ فَتَقْلِيلُهَا يُضَعِّفُ كُلَّ شَهْوَةٍ وَقُوَّةٍ، وَإِنَّمَا السَّعَادَةُ كُلُّهَا فِي أَنْ يَمْلِكَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَالشَّقَاوَةُ كُلُّهَا فِي أَنْ تَمْلِكَهُ نَفْسُهُ.
قَالَ ذُو النُّونِ: مَا شَبِعْت قَطُّ إلَّا عَصَيْت أَوْ هَمَمْت بِمَعْصِيَةٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشِّبَعُ إنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَبِعَتْ بُطُونَهُمْ جَمَحَتْ بِهِمْ نُفُوسُهُمْ إلَى الدُّنْيَا وَيُقَالُ: الْجُوعُ خِزَانَةٌ مِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ وَأَوَّلُ مَا يَنْدَفِعُ بِالْجُوعِ شَهْوَةُ الْفَرْجِ وَشَهْوَةُ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْجَائِعَ لَا تَتَحَرَّكُ عَلَيْهِ شَهْوَةُ فُضُولِ الْكَلَامِ، فَيَتَخَلَّصُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَلَا يَتَحَرَّكُ عَلَيْهِ شَهْوَةُ الْفَرْجِ فَيَخْلُصُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ قِلَّةُ النَّوْمِ، فَإِنَّ مَنْ أَكَلَ كَثِيرًا شَرِبَ كَثِيرًا، فَنَامَ طَوِيلًا وَفِي كَثْرَةِ النَّوْمِ خُسْرَانُ الدَّارَيْنِ وَفَوَاتُ كُلِّ مَنْفَعَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ وَعَدَّ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ عَشْرَ فَوَائِدَ لِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَعَدَّ عَشْرَ مَفَاسِدَ لِلتَّوَسُّعِ مِنْهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَمِيلُ إلَى الشَّرَهِ وَيَصْعُبُ تَدَارُكُهَا وَلْيُرِضْهَا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى السَّدَادِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَهْوَنُ لَهُ مِنْ أَنْ يُجَرِّئُهَا عَلَى الْفَسَادِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحْتَمِلُ الْإِطَالَةَ إذْ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ التَّجْرِيبِيَّةِ الَّتِي قَدْ جَرَّبَهَا كُلُّ إنْسَانٍ، وَالتَّجْرِبَةُ مِنْ أَقْسَامِ الْبُرْهَانِ.
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءُونَ» أَيْ كَثِيرُو الْخَطَأِ إذْ هُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ «وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ) ، وَالْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْخَطِيئَةِ إنْسَانٌ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الضَّعْفِ وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ لِمَوْلَاهُ فِي فِعْلِ مَا إلَيْهِ دَعَاهُ وَتَرْكِ مَا عَنْهُ نَهَاهُ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ فَتْحَ بَابَ التَّوْبَةِ لِعِبَادِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ الْمُكْثِرُونَ لِلتَّوْبَةِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَةِ الْخَطَأِ.
وَفِي الْأَحَادِيثِ أَدِلَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا عَصَى اللَّهَ وَتَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ وَلَنْ يَهْلِكَ عَلَى اللَّهِ إلَّا هَالِكٌ، وَقَدْ خُصَّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ مَا هَمَّ بِخَطِيئَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَقِيَهُ إبْلِيسُ وَمَعَهُ مَعَالِيقُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: هِيَ الشَّهَوَاتُ الَّتِي أُصِيبُ بِهَا بَنِي آدَمَ فَقَالَ هَلْ لِي فِيهَا شَيْءٌ؟ قَالَ: رُبَّمَا شَبِعْت فَشَغَلْنَاك عَنْ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ قَالَ: هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ قَالَ لَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَمْلَأَ بَطْنِي مِنْ طَعَامٍ أَبَدًا فَقَالَ إبْلِيسُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَنْصَحَ مُسْلِمًا أَبَدًا.
[فَضْل الصمت وقلة الْكَلَام]
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلَهُ» . أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ بِسَنَدِ ضَعِيفٍ وَصَحَّحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ) ، وَسَبَبُهُ أَنَّ لُقْمَانَ دَخَلَ عَلَى دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَرَآهُ يَسْرُدُ دِرْعًا لَمْ يَكُنْ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِمَّا رَأَى فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَمَنَعَتْهُ حِكْمَتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَتَرَكَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ دَاوُد وَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ: نِعْمَ الدِّرْعُ لِلْحَرْبِ فَقَالَ لُقْمَانُ الصَّمْتُ حِكْمَةٌ - الْحَدِيثَ وَقِيلَ تَرَدَّدَ إلَيْهِ سَنَةً، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ الصَّمْتِ وَمَدْحِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَنْ فُضُولِ الْكَلَامِ (وَقَدْ) وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ دَالَّةٌ عَلَى مَدْحِ الصَّمْتِ وَمَدَحَهُ الْعُقَلَاءُ وَالشُّعَرَاءُ. وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ صَمَتَ نَجَا» «وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قُلْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا النَّجَاةُ، قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْك لِسَانَك» الْحَدِيثَ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَكَفَّلَ لِي بِمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَرِجْلَيْهِ أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ».
«وَقَالَ مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنُؤَاخَذُ بِمَا نَقُولُ قَالَ ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدَ أَلْسِنَتِهِمْ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت» الْأَحَادِيثُ فِيهِ وَاسِعَةٌ جِدًّا، وَالْآثَارُ عَنْ السَّلَفِ كَذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ فُضُولَ الْكَلَامِ لَا تَنْحَصِرُ، بَلْ الْمُهِمُّ مَحْصُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}[النساء/114].
وَآفَاتُهُ لَا تَنْحَصِرُ فَعَدَّ مِنْهَا الْخَوْضَ فِي الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْحِكَايَةُ لِلْمَعَاصِي مِنْ مُخَالَطَةِ النِّسَاءِ وَمَجَالِسِ الْخَمْرِ وَمَوَاقِفِ الْفَسَادِ وَتَنَعُّمِ الْأَغْنِيَاءِ وَتَجَبُّرِ الْمُلُوكِ وَمَوَاسِمِهِمْ الْمَذْمُومَةِ وَأَحْوَالِهِمْ الْمَكْرُوهَةِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحِلُّ الْخَوْضُ فِيهِ، فَهَذَا حَرَامٌ.
وَمِنْهَا الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَكَفَى بِهَا هَلَاكًا فِي الدِّينِ وَمِنْهَا الْمِرَاءُ، وَالْمُجَادَلَةُ، وَالْمُزَاحُ. وَمِنْهَا الْخُصُومَةُ وَالسَّبُّ، وَالْفُحْشُ وَبَذَاءَةُ اللِّسَانِ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالنَّاسِ وَالسُّخْرِيَةُ، وَالْكَذِبُ، وَقَدْ عَدَّ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ عِشْرِينَ آفَةً وَذَكَرَ فِي كُلِّ آفَةٍ كَلَامًا بَسِيطًا حَسَنًا، وَذَكَرَ عِلَاجَ هَذِهِ الْآفَاتِ.
(الشرح)
قوله: (مِنْهَا الْخَوْضَ فِي الْبَاطِلِ), يَعْنِي آفات اللسان.