شعار الموقع

شرح كتاب الجامع من سبل السلام_14

00:00
00:00
تحميل
57

بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ

الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(المتن)

قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:

[بَابُ التَّرْهِيبِ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ]

[ذم الْحَسَد وذكر مساوئه]

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ، وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ) إيَّاكُمْ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّحْذِيرِ، وَالْمُحَذَّرُ مِنْهُ الْحَسَدُ. وَفِي الْحَسَدِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ. وَيُقَالُ: كَانَ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ الْحَسَدُ، فَإِنَّهُ أَمَرَ إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَحَسَدَهُ فَامْتَنَعَ عَنْهُ فَعَصَى اللَّهَ فَطَرَدَهُ وَتَوَلَّدَ مِنْ طَرْدِهِ كُلُّ بَلَاءٍ وَفِتْنَةٍ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ.

(الشرح)

الله حكيم عليم, لحكمة الابتلاء والاختبار, خلق الله إبليس وطرده وجعله قوادًا لكل شر؛ حَتَّى تتحقق حكمة الابتلاء والاختبار, {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور}[الملك/2].

وَكُلّ صحاب نعمة محسود, والحسد لا يكون إِلَّا عَلَى نعمة.

(المتن)

وَالْحَسَدُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ، فَإِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَخِيك نِعْمَةً فَلَكَ فِيهَا حَالَتَانِ:

إحْدَاهُمَا: أَنْ تَكْرَهَ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَتُحِبَّ زَوَالَهَا وَهَذِهِ الْحَالَةُ تُسَمَّى حَسَدًا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تُحِبَّ زَوَالَهَا وَلَا تَكْرَهَ وُجُودَهَا وَدَوَامَهَا لَهُ وَلَكِنَّك تُرِيدُ لِنَفْسِك مِثْلَهَا فَهَذَا يُسَمَّى غِبْطَةً، فَالْأَوَّلُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا نِعْمَةً عَلَى كَافِرٍ أَوْ فَاجِرٍ، وَهُوَ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى تَهْيِيجِ الْفِتْنَةِ وَإِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِيذَاءِ الْعِبَادِ، فَهَذِهِ لَا يَضُرُّك كَرَاهَتُك لَهَا وَلَا مَحَبَّتُك زَوَالَهَا، فَإِنَّك لَمْ تُحِبَّ زَوَالَهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ نِعْمَةٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هِيَ آلَةٌ لِلْفَسَادِ. وَوَجْهُ تَحْرِيمِ الْحَسَدِ مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ تَسَخُّطٌ لِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضٍ.

(الشرح)

التسخط لقضاء الله وقدره واعتراضًا عَلَى الله.

(المتن)

 وَلِذَا قِيلَ:

أَلَا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِدًا ... أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الْأَدَبْ

أَسَأْت عَلَى اللَّهِ فِي فِعْلِهِ ... لِأَنَّك لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ

ثُمَّ الْحَاسِدُ إنْ وَقَعَ لَهُ الْخَاطِرُ بِالْحَسَدِ فَدَفَعَهُ وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ بَلْ لَعَلَّهُ مَأْجُورٌ فِي مُدَافَعَةِ نَفْسِهِ. فَإِنْ سَعَى فِي زَوَالِ نِعْمَةٍ لِمَحْسُودٍ فَهُوَ بَاغٍ، وَإِنْ لَمْ يَسْعَ وَلَمْ يُظْهِرْهُ لِمَانِعِ الْعَجْزِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أَمْكَنَهُ لَفَعَلَ فَهُوَ مَأْزُورٌ وَإِلَّا فَلَا. أَيْ لَا وِزْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ الْخَوَاطِرِ النَّفْسَانِيَّةِ فَيَكْفِيه فِي مُجَاهِدَتِهَا أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهَا وَلَا يَعْزِمُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا. وَفِي الْإِحْيَاءِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أَلْقَى الْأَمْرَ إلَيْهِ وَرَدَّ إلَى اخْتِيَارِهِ لَسَعَى فِي إزَالَةِ النِّعْمَةِ فَهُوَ حَسُودٌ حَسَدًا مَذْمُومًا، وَإِنْ كَانَ نَزْعُهُ التَّقَوِّي عَلَى إزَالَةِ ذَلِكَ فَيُعْفَى عَنْهُ مَا يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ارْتِيَاحِهِ إلَى زَوَالِ النِّعْمَةِ مِنْ مَحْسُودِهِ مَهْمَا كَانَ كَارِهًا لِذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ بِعَقْلِهِ وَدِينِهِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ يُشِيرُ إلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مَرْفُوعًا «ثَلَاثٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ الطِّيَرَةُ وَالظَّنُّ، وَالْحَسَدُ قِيلَ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إذَا تَطَيَّرْت فَلَا تَرْجِعْ وَإِذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ» وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ «كُلُّ ابْنِ آدَمَ حَسُودٌ وَلَا يَضُرُّ حَاسِدًا حَسَدُهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِاللِّسَانِ أَوْ يَعْمَلْ بِالْيَدِ»، وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ لَا تَخْلُو عَنْ مُقَابِلٍ. وَفِي الزَّوَاجِرِ لِابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ إنَّ الْحَسَدَ مَرَاتِبُ وَهِيَ إمَّا مَحَبَّةُ زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ، وَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى الْحَاسِدِ، وَهَذَا غَايَةُ الْحَسَدِ أَوْ مَعَ انْتِقَالِهَا إلَيْهِ أَوْ انْتِقَالِ مِثْلِهَا إلَيْهِ، وَإِلَّا أَحَبَّ زَوَالَهَا لِئَلَّا يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوَّلًا مَعَ مَحَبَّةِ زَوَالِهَا، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنْ الْحَسَدِ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَطْلُوبُ إنْ كَانَ فِي الدِّينِ انْتَهَى، وَهَذَا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ يُسَمَّى غَيْرَةً، فَإِنْ كَانَ فِي الدِّينِ فَهُوَ الْمَطْلَبُ وَعَلَيْهِ حَمَلَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» الْمُرَادُ أَنَّهُ يَغَارُ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فَيَقْتَدِي بِهِ مَحَبَّةً لِلسُّرُورِ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ، وَلَعَلَّ تَسْمِيَتَهُ حَسَدًا مَجَازٌ، وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ.فإنه إِذَا أكل الحسنات فقد أحبطها, ولا تحبط إِلَّا كبيرة.

(الشرح)

الاستعاذة بالله من شره دَلِيل عَلَى تحريمه.

(المتن)

 وَنِسْبَةُ الْأَكْلِ إلَيْهِ مَجَازٌ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ.

وَقَوْلُهُ (كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ) تَحْقِيقٌ لِذَهَابِ الْحَسَنَاتِ بِالْحَسَدِ كَمَا يَذْهَبُ الْحَطَبُ بِالنَّارِ وَيَتَلَاشَى جُرْمُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ دَوَاءَ الْحَسَدِ الَّذِي يُزِيلُهُ عَنْ الْقَلْبِ مَعْرِفَةُ الْحَاسِدِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِحَسَدِهِ الْمَحْسُودَ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يَعُودُ وَبَالُ حَسَدِهِ عَلَيْهِ فِي الدَّارَيْنِ إذْ لَا تَزُولُ نِعْمَةٌ بِحَسَدٍ قَطُّ، وَإِلَّا لَمْ تَبْقَ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى نِعْمَةُ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُحِبُّونَ زَوَالَهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ الْمَحْسُودُ يَتَمَتَّعُ بِحَسَنَاتِ الْحَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَتِهِ سِيَّمَا إذَا أَطْلَقَ لِسَانَهُ بِالِانْتِقَاصِ، وَالْغِيبَةِ وَهَتْكِ السِّتْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ فَيَلْقَى اللَّهَ مُفْلِسًا مِنْ الْحَسَنَاتِ مَحْرُومًا مِنْ نِعْمَةِ الْآخِرَةِ كَمَا حُرِمَ مِنْ نِعْمَةِ سَلَامَةِ الصَّدْرِ وَسُكُونِ الْقَلْبِ وَالِاطْمِئْنَانِ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ هَذَا عَرَفَ أَنَّهُ جَرَّ لِنَفْسِهِ بِالْحَسَدِ كُلَّ غَمٍّ وَنَكَدٍ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ.

[الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ أَعْظَم النَّاسِ قُوَّةً]

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ» بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى زِنَةِ هُمَزَةٍ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ أَيْ كَثِيرُ الصَّرْعِ «إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْمُرَادُ بِالشَّدِيدِ هُنَا شِدَّةُ الْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهِيَ مُجَاهِدَةُ النَّفْسِ وَإِمْسَاكُهَا عِنْدَ الشَّرِّ وَمُنَازَعَتُهَا لِلْجَوَارِحِ لِلِانْتِقَامِ مِمَّنْ أَغْضَبَهَا، فَإِنَّ النَّفْسَ فِي حُكْمِ الْأَعْدَاءِ الْكَثِيرِينَ وَغَلَبَتْهَا عَمَّا تَشْتَهِيه فِي حُكْمِ مَنْ هُوَ شَدِيدُ الْقُوَّةِ فِي غَلَبَةِ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرِينَ فِيمَا يُرِيدُونَهُ مِنْهُ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مُجَاهِدَةَ النَّفْسِ أَشَدُّ مِنْ مُجَاهِدَةِ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ أَعْظَمَ النَّاسِ قُوَّةً.

وَحَقِيقَةُ الْغَضَبِ حَرَكَةُ النَّفْسِ إلَى خَارِجِ الْجَسَدِ لِإِرَادَةِ الِانْتِقَامِ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ إرْشَادٌ إلَى أَنَّ مَنْ أَغْضَبَهُ أَمْرٌ وَأَرَادَتْ النَّفْسُ الْمُبَادَرَةَ إلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ أَغْضَبَهُ أَنْ يُجَاهِدُهَا وَيَمْنَعَهَا عَمَّا طَلَبَتْ، وَالْغَضَبُ غَرِيزَةٌ فِي الْإِنْسَانِ فَمَهْمَا قُصِدَ أَوْ نُوزِعَ فِي غَرَضٍ مَا اشْتَعَلَتْ نَارُ الْغَضَبِ وَثَارَتْ حَتَّى يَحْمَرَّ الْوَجْهُ، وَالْعَيْنَانِ مِنْ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ تَحْكِي لَوْنَ مَا وَرَاءَهَا، وَهَذَا إذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ دُونَهُ وَاسْتَشْعَرَ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ فَوْقَهُ تَوَلَّدَ مِنْهُ انْقِبَاضُ الدَّمِ مِنْ ظَاهِرِ الْجِلْدِ إلَى جَوْفِ الْقَلْبِ فَيَصْفَرُّ اللَّوْنُ خَوْفًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى النَّظِيرِ تَرَدَّدَ الدَّمُ بَيْنَ انْقِبَاضٍ وَانْبِسَاطٍ فَيَحْمَرُّ وَيَصْفَرُّ، وَالْغَضَبُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَغَيُّرُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ كَتَغَيُّرِ اللَّوْنِ وَالرِّعْدَةِ فِي الْأَطْرَافِ، وَخُرُوجِ الْأَفْعَالِ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَاسْتِحَالَةِ الْخِلْقَةِ حَتَّى لَوْ رَأَى الْغَضْبَانُ نَفْسَهُ فِي حَالَةِ غَضَبِهِ لَسَكَنَ غَضَبُهُ حَيَاءً مِنْ قُبْحِ صُورَتِهِ وَاسْتِحَالَةِ خِلْقَتِهِ، هَذَا فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَقُبْحُهُ أَشَدُّ مِنْ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ يُوَلِّدُ حِقْدًا فِي الْقَلْبِ وَإِضْمَارَ السُّوءِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ بَلْ قُبْحُ بَاطِنِهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى تَغَيُّرِ ظَاهِرِهِ.

فَإِنَّ تَغَيُّرَ الظَّاهِرِ ثَمَرَةُ تَغَيُّرِ الْبَاطِنِ، فَيَظْهَرُ عَلَى اللِّسَانِ الْفُحْشُ وَالشَّتْمُ وَيَظْهَرُ فِي الْأَفْعَالِ بِالضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ دَوَاءُ هَذَا الدَّاءِ. فَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مَوْقُوفًا «الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ النَّارِ، وَالْمَاءُ يُطْفِئُ النَّارَ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ» وَفِي رِوَايَةٍ " فَلْيَتَوَضَّأْ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا «إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ سَكَنَ غَضَبُهُ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ «إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ «إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْلِسْ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ» .

وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ «الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ أَحَدُكُمْ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ، وَإِنْ وَجَدَهُ جَالِسًا فَلْيَضْطَجِعْ» وَالنَّهْيُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْغَضَبِ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ (بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللَّهِ) ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة/73] وَذَكَرَ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ فِي كُلٍّ مِنْهَا غَضَبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ رَاجِعَةٍ إلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ الْغَضَبِ فِيهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ أَوْكَدَ، وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي مُوسَى وَغَضَبِهِ لَمَّا عُبِدَ الْعِجْلُ وَقَالَ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}[الأعراف/154] .

 (وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، وَهُوَ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عَرْضٍ فِي حَقِّ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قِيلَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَكُونُ ظُلُمَاتٍ عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَهْتَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبِيلًا حَيْثُ يَسْعَى نُورُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُرِيدُ بِالظُّلُمَاتِ الشَّدَائِدَ، وَبِهِ فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}[الأنعام/63] أَيْ مِنْ شَدَائِدِهِمَا وَقِيلَ: إنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ النَّكَالِ، وَالْعُقُوبَاتِ.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد