بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَاَلَّذِي نَظُنُّهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَحْبَطُ أَصْلُ الثَّوَابِ.
(الشرح)
هَذَا عَلَى حديث «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر», سُئِلَ عنه فَقَالَ: الرياء.
(المتن)
وَلَكِنَّهُ يَنْقُصُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الرِّيَاءِ، وَيُثَابُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الثَّوَابِ وَحَدِيثُ: «أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنْ الشِّرْكِ» مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَسَاوَى الْقَصْدَانِ أَوْ أَنَّ قَصْدَ الرِّيَاءِ أَرْجَحُ. وَأَمَّا الْمُرَاءَى بِهِ، وَهُوَ الطَّاعَاتُ فَيُقْسَمُ إلَى الرِّيَاءِ بِأُصُولِ الْعِبَادَاتِ، وَإِلَى الرِّيَاءِ بِأَوْصَافِهَا، وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: الرِّيَاءُ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ إظْهَارُ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، وَبَاطِنُهُ مُكَذِّبٌ فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْهَا، وَفِي هَؤُلَاءِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}[المنافقون/1] الْآيَةَ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُمْ الْبَاطِنِيَّةُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْمُوَافَقَةَ فِي الِاعْتِقَادِ وَيُبْطِنُونَ خِلَافَهُ.
(الشرح)
هؤلاء من أخبث المنافقين.
(المتن)
وَمِنْهُمْ الرَّافِضَةُ أَهْلُ التَّقِيَّةِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لِكُلِّ فَرِيقٍ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ تَقِيَّةً. وَالرِّيَاءُ بِالْعِبَادَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الرِّيَاءُ فِي أَصْلِ الْمَقْصِدِ وَأَمَّا إذَا عَرَضَ الرِّيَاءُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إلَّا إذَا ظَهَرَ الْعَمَلُ لِلْغَيْرِ وَتَحَدَّثَ بِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ مَرْفُوعًا «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلًا سِرًّا فَيَكْتُبُهُ اللَّهُ عِنْدَهُ سِرًّا فَلَا يَزَالُ بِهِ الشَّيْطَانُ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ فَيُمْحَى مِنْ السِّرِّ وَيُكْتَبُ عَلَانِيَةً، فَإِنْ عَادَ تَكَلَّمَ الثَّانِيَةَ مُحِيَ مِنْ السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ وَكُتِبَ رِيَاءً»
وَأَمَّا إذَا قَارَنَ بَاعِثُ الرِّيَاءِ بَاعِثَ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ نَدِمَ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ فَأَوْجَبَ الْبَعْضُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِئْنَافَ لِعَدَمِ انْعِقَادِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْغُو جَمِيعُ مَا فَعَلَهُ إلَّا التَّحْرِيمَ وَقَالَ بَعْضٌ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْخَوَاتِمِ كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ بِالْإِخْلَاصِ وَصَحِبَهُ الرِّيَاءُ مِنْ بَعْدِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ خَارِجَانِ عَنْ قِيَاسِ الْفِقْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْوَاحِدِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ جَوَابَ «جُنْدَبِ بْنِ زُهَيْرٍ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ، وَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا شَرِيكَ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِ».
وَفِي رِوَايَةٍ «إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي أَتَصَدَّقُ وَأَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ فَيُذْكَرُ ذَلِكَ مِنِّي فَيَسُرُّنِي وَأُعْجَبُ بِهِ، فَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف/110]».
فَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّرُورَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَمَلِ رِيَاءٌ وَلَكِنَّهُ يُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيْنَمَا أَنَا فِي بَيْتِي فِي صَلَاتِي إذْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَأَعْجَبَنِي الْحَالَ الَّتِي رَآنِي عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك أَجْرَانِ».
وَفِي الْكَشَّافِ مِنْ حَدِيثِ «جُنْدَبٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ: لَك أَجْرَانِ أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ»، وَقَدْ يُرَجَّحُ هَذَا الظَّاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ}[التوبة/99].
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ الثَّنَاءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُنَافِي الْإِخْلَاصَ وَلَا تُعَدُّ مِنْ الرِّيَاءِ وَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: " إذَا اُطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي " لِمَحَبَّتِهِ لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الرِّيَاءُ فِي مَحَبَّتِهِ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ الْعَمَلَ عَنْ كَوْنِهِ خَالِصًا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِمَحَبَّةِ الثَّنَاءِ مِنْ الْمُطَّلِعِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ مَحَبَّةٍ لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَعَلِمَ بِهِ غَيْرُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ فَيُعْجِبُهُ أَيْ يُعْجِبُهُ شَهَادَةُ النَّاسِ لَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ» وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا مُجَرَّدُ السُّرُورِ بِاطِّلَاعِ النَّاسِ إذَا لَمْ يَبْلُغْ أَمْرُهُ بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ فَبَعِيدٌ أَنْ يُفْسِدَ الْعِبَادَةَ.
[خِصَال النِّفَاق]
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «آيَةُ الْمُنَافِقِ أَيْ عَلَامَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَابِعَةٌ، وَهِيَ «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» ، وَالْمُنَافِقُ مَنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ كُلُّهَا فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. لحديث: «وإن صلى وصام وزعم أَنَّهُ مسلم».
(الشرح)
يَعْنِي زعم أَنَّهُ مسلمًا حقًا, لَيْسَ المراد أَنَّهُ يخرج من الإِسْلامُ, وكون الشرع جزم بِأَنَّهُ يكون منافق هَذِهِ الخصال كُلّ واحدة معصية, لكنها إذ ا اجتمعت وكملت واستحكمت تجره إِلَى النفاق الأكبر.
(المتن)
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ الْحَدِيثُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ قَدْ تُوجَدُ فِي الْمُؤْمِنِ الْمُصَدِّقِ الْقَائِمِ بِشَرَائِعِ الدِّينِ، وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالْأَكْثَرُونَ - وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ - إنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ هِيَ خِصَالُ الْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا اتَّصَفَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَشْبَهَ الْمُنَافِقَ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النِّفَاقِ مَجَازًا، فَإِنَّ النِّفَاقَ هُوَ إظْهَارُ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي صَاحِبِ هَذِهِ الْخِصَالِ وَيَكُونُ نِفَاقُهُ فِي حَقِّ مَنْ حَدَّثَهُ وَوَعَدَهُ وَائْتَمَنَهُ وَخَاصَمَهُ وَعَاهَدَهُ مِنْ النَّاسِ.
(الشرح)
يَعْنِي غير معين, محققون من العلماء, مثل شيخ الإِسْلامُ وغيره من المحققين.
(المتن)
لَا أَنَّهُ مُنَافِقٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ يُبْطِنُ الْكُفْرَ، وَقِيلَ: إنَّ هَذَا كَانَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي أَيَّامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحَدَّثُوا بِإِيمَانِهِمْ فَكَذَبُوا وَائْتُمِنُوا عَلَى رُسُلِهِمْ فَخَانُوا وَوَعَدُوا فِي الدِّينِ بِالنَّصْرِ فَغَدَرُوا وَأَخْلَفُوا وَفَجَرُوا فِي خُصُومَاتِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَرَجَعَ إلَيْهِ الْحَسَنُ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَرَوَيَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَإِلَيْهِ مَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ وَرَدَ الْحَدِيثُ فِي رَجُلٍ مُعَيَّنٍ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُوَاجِهُهُمْ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ يَقُولُ: فُلَانٌ مُنَافِقٌ، وَإِنَّمَا يُشِيرُ إشَارَةً، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ التَّحْذِيرُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعْتَادَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ الَّتِي يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْهَا أَنْ تُفْضِيَ بِهِ إلَى حَقِيقَةِ النِّفَاقِ وَأَيَّدَ هَذَا الْقَوْلَ بِقِصَّةِ ثَعْلَبَةَ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}[التوبة/77]، فَإِنَّهُ آلَ بِهِ خُلْفُ الْوَعْدِ، وَالْكَذِبِ إلَى الْكُفْرِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تَؤُولُ بِصَاحِبِهَا إلَى النِّفَاقِ الْحَقِيقِيِّ الْكَامِلِ.