بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
[مِنْ وَلِي شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَال العامة لَا يَحِلّ لَهُ أَخَذَ مَا فَوْق حاجته]
(وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) شَقَّ عَلَيْهِمْ أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ الْمَشَقَّةَ أَيْ الْمَضَرَّةَ. وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَشَقَّةِ جَزَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْفِعْلِ، وَهُوَ عَامٌّ لِمَشَقَّةِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ وَتَمَامُهُ «وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَة فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظٍ «وَمَنْ وَلِيَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَعَلَيْهِ بَهْلَةُ اللَّهِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا بَهْلَةُ اللَّهِ قَالَ: لَعْنَةُ اللَّهِ» وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَالِي تَيْسِيرُ الْأُمُورِ عَلَى مَنْ وَلِيَهُمْ وَالرِّفْقُ بِهِمْ وَمُعَامَلَتُهُمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَإِيثَارِ الرُّخْصَةِ عَلَى الْعَزِيمَةِ فِي حَقِّهِمْ لِئَلَّا يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ الْمَشَقَّةُ، وَيَفْعَلَ بِهِمْ مَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ اللَّهُ.
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَيْ غَيْرَهُ كَمَا يَدُلُّ لَهُ فَاعِلُ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَةٍ «إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَلْطِمَنَّ الْوَجْهَ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَجْهِ وَأَنَّهُ يُتَّقَى فَلَا يُضْرَبُ وَلَا يُلْطَمُ وَلَوْ فِي حَدٍّ مِنْ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ فِي الْجِهَادِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ لَطِيفٌ يَجْمَعُ الْمَحَاسِنَ.
(الشرح)
في الجهاد إِذَا قاتل الْكُفَّار يضربه في الوجه ما في مانع, الكافر مأمور بقتله, كيف ولا الجهاد؟!.
(المتن)
وَأَعْضَاؤُهُ لَطِيفَةٌ وَأَكْثَرُ الْإِدْرَاكِ بِهَا فَقَدْ يُبْطِلُهَا ضَرْبُ الْوَجْهِ، وَقَدْ يَنْقُصُهَا، وَقَدْ يَشِينُ الْوَجْهَ، وَالشَّيْنُ فِيهِ فَاحِشٌ؛ لِأَنَّهُ بَارِزٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ سَتْرُهُ.
(الشرح)
الوجه يواجه بِهِ النَّاس نعم, بخلاف الشيء إِذَا كَانَ عضو داخلي فيمكن ستره.
(المتن)
وَمَتَى أَصَابَهُ ضَرْبٌ لَا يُسْلَمُ غَالِبًا مِنْ شَيْنٍ، وَهَذَا النَّهْيُ عَامٌّ لِكُلِّ ضَرْبٍ وَلَطْمٍ مِنْ تَأْدِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ.
(الشرح)
حَتَّى الحيوان لا يضربها في الوجه ولا يسمها في الوجه, ولا الرأس.
(المتن)
(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا وَقَالَ: لَا تَغْضَبْ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ) جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ تَفْسِيرُهُ بِأَنَّهُ جَارِيَةٌ بِالْجِيمِ ابْنُ قُدَامَةَ وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ «سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي قَوْلًا أَنْتَفِعُ بِهِ وَأَقْلِلْ قَالَ: لَا تَغْضَبْ وَلَك الْجَنَّةُ» وَوَرَدَ عَنْ آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ نَهَى عَنْ الْغَضَبِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: نَهَى عَنْ اجْتِنَابِ أَسْبَابِ الْغَضَبِ وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لِمَا يَجْلِبُهُ.
وَأَمَّا نَفْسُ الْغَضَبِ فَلَا يَتَأَتَّى النَّهْيُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَقَعَ النَّهْيُ عَمَّا كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُكْتَسَبُ فَيَدْفَعُهُ بِالرِّيَاضَةِ وَقِيلَ هُوَ نَهْيٌ عَمَّا يَنْشَأُ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَهُوَ لِكَوْنِهِ يَقَعُ عِنْدَ مُخَالِفَةِ أَمْرٍ يُرِيدُهُ فَيَحْمِلُهُ الْكِبْرُ عَلَى الْغَضَبِ وَاَلَّذِي يَتَوَاضَعُ حَتَّى تَذْهَبَ عَنْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ يَسْلَمُ مِنْ شَرِّ الْغَضَبِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَفْعَلْ مَا يَأْمُرُك بِهِ الْغَضَبُ. قِيلَ إنَّمَا اقْتَصَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ كَانَ غَضُوبًا، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْتِي كُلَّ أَحَدٍ بِمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: لَا تَغْضَبْ خَيْرَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ يُؤَوَّلُ إلَى التَّقَاطُعِ، وَمَنْعِ الرِّفْقِ وَيُؤَوَّلُ إلَى أَنْ يُؤْذِيَ الَّذِي غَضِبَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ نَقْصًا فِي دِينِهِ انْتَهَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ يَنْشَأُ عَنْ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فَمَنْ جَاهَدَهُمَا حَتَّى يَغْلِبَهُمَا مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْمُعَالَجَةِ كَانَ أَمْلَكَ لِقَهْرِ نَفْسِهِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى. وَتَقَدَّمَ كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِالْغَضَبِ وَعِلَاجِهِ.
(وَعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ) الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْ مَالِ اللَّهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْمَصَارِفِ الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَتَمَلَّكَهُ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ، وَفِي قَوْلِهِ: يَتَخَوَّضُونَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُقَبِّحُ تَوَسُّعَهُمْ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْتَاجُونَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ وُلَاةِ الْأَمْوَالِ أُبِيحَ لَهُمْ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ.