بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
[الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ]
(وَعَنْهُ) أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا» بِالْجِيمِ وَالشَّيْنِ الْمُعْجَمَةِ «وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبْغِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَبِالْمُهْمَلَةِ مِنْ الْبَيْعِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ».
(الشرح)
يَعْنِي كأن فِيهَا الوجهان فلا يبغي بعضكم.
(المتن)
«وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ إخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ» بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْقَافِ فِرَاءٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ لَا يُخْفِرُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْفَاءِ.
(الشرح)
ولا يخفره من الخفر وَهُوَ نقض العهد والذمة.
(المتن)
أَيْ لَا يَغْدِرُ بِعَهْدِهِ وَلَا يَنْقُضُ أَمَانَةً قَالَ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ «التَّقْوَى هَا هُنَا وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) الْحَدِيثُ اشْتَمَلَ عَلَى أُمُورٍ نَهَى عَنْهَا الشَّارِعُ:
الْأَوَّلُ: التَّحَاسُدُ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. نَهَى عَنْ حَسَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ الْحَسَدِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بِطَرِيقِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْهُ مَعَ مَنْ يُكَافِئُهُ وَيُجَازِيه بِحَسَدِهِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}[الشورى/40] فَهُوَ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ أَوْلَى بِالنَّهْيِ. وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْحَسَدِ.
الثَّانِي: النَّهْيُ عَنْ الْمُنَاجَشَةِ وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُهَا فِي الْبَيْعِ وَوَجْهُ النَّهْيِ عَنْهَا أَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ، وَالْبَغْضَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ " وَلَا تَنَافَسُوا " مِنْ الْمُنَافَسَةِ وَهِيَ الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ وَمَحَبَّةِ الِانْفِرَادِ بِهِ وَيُقَالُ نَافَسْت فِي الشَّيْءِ مُنَافَسَةً وَنِفَاسًا إذَا رَغِبْت فِيهِ وَالنَّهْيُ عَنْهَا نَهْيٌ عَنْ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا وَحُظُوظِهَا.
وَالثَّالِثُ: النَّهْيُ عَنْ التَّبَاغُضِ، وَهُوَ تَفَاعُلٌ، وَفِيهِ مَا فِي " تَحَاسَدُوا " مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّقَابُلِ فِي الْمُبَاغَضَةِ وَالِانْفِرَادِ بِهَا بِالْأَوْلَى، وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ تَعَاطِي أَسْبَابِهِ؛ لِأَنَّ الْبُغْضَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ سَبَبٍ، وَالذَّمُّ مُتَوَجَّهٌ إلَى الْبَغَاضَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا كَانَتْ لِلَّهِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ.
(الشرح)
يَعْنِي يبغضه لله لكونه عاصي هَذَا لا بأس بِهِ.
(المتن)
فَإِنَّ الْبُغْضَ فِي اللَّهِ، وَالْحُبَّ فِي اللَّهِ مِنْ الْإِيمَانِ بَلْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ حُصِرَ الْإِيمَانُ عَلَيْهِمَا.
(الشرح)
أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
(المتن)
الرَّابِعُ: النَّهْيُ عَنْ التَّدَابُرِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ لَا تُهَاجَرُوا فَيَهْجُرُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَوْلِيَةِ الرَّجُلِ لِلْآخَرِ دُبُرَهُ إذَا أَعْرَضَ عَنْهُ حِينَ يَرَاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قِيلَ لِلْإِعْرَاضِ تَدَابَرَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضَ أَعْرَضَ، وَمَنْ أَعْرَضَ وَلَّى دُبُرَهُ، وَالْمُحِبُّ بِالْعَكْسِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَسْتَأْثِرُ أَحَدُكُمْ عَلَى الْآخَرِ.
وَسُمِّيَ الْمُسْتَأْثِرُ مُسْتَدْبِرًا؛ لِأَنَّهُ يُوَلِّي دُبُرَهُ حِينَ يَسْتَأْثِرُ بِشَيْءٍ دُونَ الْآخَرِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: مَعْنَى التَّدَابُرِ الْمُعَادَاةُ تَقُولُ: دَابَرْتُهُ أَيْ عَادَيْتُهُ وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ الزُّهْرِيِّ: التَّدَابُرُ الْإِعْرَاضُ عَنْ السَّلَامِ يُدْبِرُ عَنْهُ بِوَجْهِهِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ وَهِيَ (يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ صُدُورَ السَّلَامِ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا يَرْفَعُ الْإِعْرَاضَ.
الْخَامِسُ: النَّهْيُ عَنْ الْبَغْيِ إنْ كَانَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ.
(الشرح)
إِذَا كَانَ بالغين المعجمة لا يبغي بعضكم عَلَى بَعْض, وَإِذَا كَانَ بالعين لا يبع بعضكم عَلَى بيع بَعْض.
(المتن)
وَإِنْ كَانَ بِالْمُهْمَلَةِ فَعَنْ بَيْعِ بَعْضٍ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تَضَمَّنَ الْحَدِيثُ تَحْرِيمَ بُغْضِ الْمُسْلِمِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَقَطِيعَتِهِ بَعْدَ صُحْبَتِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ.
(الشرح)
الكافر يبغضه ويبعد عنه, قَالَ:«كلم اَلْمُسْلِم عَلَى اَلْمُسْلِم حرام», أَمَّا الكافر يعرض عنه ويبغضه, ويعاديه, كُلّ هَذِهِ مطلوبة, لكن ما يظلمه, وَإِذَا كَانَ كافر ثاني اعتدى عَلَيْهِ تشهد بِالْحَقِّ, وَكَذَلِكَ أَيْضًا لو مسلم ظلم كافر لا يوافق عَلَى هَذَا ولو كَانَ كافرًا لَابُدَّ أن نعطيه حقه.
(المتن)
وَالْحَسَدِ لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُعَامِلَهُ مُعَامَلَةَ الْأَخِ النَّسِيبِ، وَلَا يَبْحَثُ عَنْ مَعَايِبِهِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَاضِرِ، وَالْغَائِبِ، وَالْحَيِّ، وَالْمَيِّتِ وَبَعْدَ هَذِهِ الْمَنَاهِي الْخَمْسَةِ حَثَّهُمْ بِقَوْلِهِ «وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: عِبَادَ اللَّهِ إلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ الِامْتِثَالُ لِمَا أَمَرَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَعْنَى كُونُوا كَإِخْوَانِ النَّسَبِ فِي الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْمُوَاسَاةِ، وَالْمُعَاوَنَةِ وَالنَّصِيحَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ زِيَادَةٌ " كَمَا أَمَرَ اللَّهُ " أَيْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرٌ مِنْهُ تَعَالَى وَزَادَ الْمُسْلِمَ حَثًّا عَلَى إخْوَةِ الْمُسْلِمِ بِقَوْلِهِ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» وَذَكَرَ فِي حُقُوقِ الْأُخُوَّةِ أَنَّهُ لَا يَظْلِمُهُ وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الظُّلْمِ وَتَحْرِيمُهُ وَالظُّلْمُ مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا خُصَّ الْمُسْلِمُ لِشَرَفِهِ " وَلَا يَخْذُلُهُ "، وَالْخِذْلَانُ تَرْكُ الْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَمَعْنَاهُ إذَا اسْتَعَانَ بِهِ فِي دَفْعِ أَيِّ ضَرَرٍ أَوْ جَلْبِ أَيِّ نَفْعٍ أَعَانَهُ " وَلَا يُحَقِّرُهُ " وَلَا يَحْتَقِرُهُ وَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَيَسْتَخِفُّ بِهِ. وَيُرْوَى " لَا يَحْتَقِرُهُ "، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ وَقَوْلُهُ «التَّقْوَى هَاهُنَا» إخْبَارٌ بِأَنَّ عُمْدَةَ التَّقْوَى مَا يَحِلُّ فِي الْقَلْبِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَإِخْلَاصِ الْأَعْمَالِ لَهُ. وَعَلَيْهِ دَلَّ حَدِيثُ مُسْلِمٍ «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى أَجْسَامِكُمْ وَلَا إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ» أَيْ أَنَّ الْمُجَازَاةَ، وَالْمُحَاسَبَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ دُونَ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالْأَعْمَالِ الْبَارِزَةِ، فَإِنَّ عُمْدَتَهَا النِّيَّاتُ وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إذَا صَلَحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ.
وَقَوْلُهُ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ» أَيْ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ بِهَذَا الْخَصْلَةِ وَحْدَهَا وَفِي قَوْلِهِ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ» إخْبَارٌ بِتَحْرِيمِ الدِّمَاءِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرْعِ عِلْمًا قَطْعِيًّا.