بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
[استعاذة الرَّسُول مِنْ منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء]
(وَعَنْ قُطْبَةَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (ابْنُ مَالِكٍ) يُقَالُ لَهُ التَّغْلِبِيُّ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُقَالُ الثَّعْلَبِيُّ بِالْمُثَلَّثَةِ، وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ جَنَّبَنِي مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَهْوَاءِ، وَالْأَدْوَاءِ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ) التَّجْنِيبُ الْمُبَاعِدَةُ أَيْ بَاعِدْنِي.
وَالْأَخْلَاقُ جَمْعُ خُلُقٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْأَخْلَاقُ أَوْصَافُ الْإِنْسَانِ الَّتِي يُعَامِلُ بِهَا غَيْرَهُ، وَهِيَ مَحْمُودَةٌ وَمَذْمُومَةٌ؛ فَالْمَحْمُودَةُ عَلَى الْإِجْمَالِ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِك عَلَى نَفْسِك فَتَنْتَصِفُ مِنْهَا وَلَا تَنْتَصِفُ لَهَا، وَعَلَى التَّفْصِيلِ الْعَفْوُ، وَالْحِلْمُ، وَالْجُودُ وَالصَّبْرُ وَتَحَمُّلُ الْأَذَى وَالرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ وَالتَّوَدُّدُ وَلِينُ الْجَانِبِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْمَذْمُومَةُ ضِدُّ ذَلِكَ وَهِيَ مُنْكَرَاتُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي سَأَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ أَنْ يُجَنَّبَهُ إيَّاهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي قَوْلِهِ «اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْت خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. «وَفِي دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الِافْتِتَاحِ: وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا سِوَاك، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا غَيْرُك» وَمُنْكَرَاتُ الْأَعْمَالِ مَا يُنْكَرُ شَرْعًا أَوْ عَادَةً وَمُنْكَرَاتُ الْأَهْوَاءِ جَمْعُ هَوًى، وَالْهَوَى هُوَ مَا تَشْتَهِيه النَّفْسُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَقْصِدِ يُحْمَدُ عَلَيْهِ شَرْعًا.
وَمُنْكَرَاتُ الْأَدْوَاءِ جَمْعُ دَاءٍ وَهِيَ الْأَسْقَامُ الْمُنَفِّرَةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ مِنْهَا كَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَالْمُهْلِكَةُ: كَذَاتِ الْجُنُبِ «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ» .
(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُمَارِ) مِنْ الْمُمَارَاةِ وَهِيَ الْمُجَادَلَةِ (أَخَاك وَلَا تُمَازِحْهُ) مِنْ الْمُزَاحِ. (وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ) لَكِنْ فِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ سِيَّمَا فِي الْمِرَاءِ، فَإِنَّهُ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ قَالُوا: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَتَمَارَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ، ثُمَّ انْتَهَرَنَا وَقَالَ: أَبِهَذَا يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أُمِرْتُمْ؟ إنَّمَا أُهْلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِمِثْلِ هَذَا ذَرُوا الْمِرَاءَ لِقِلَّةِ خَيْرِهِ، ذَرُوا الْمِرَاءَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمَارِي، ذَرُوا الْمِرَاءَ، فَإِنَّ الْمُمَارِيَ قَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ، ذَرُوا الْمِرَاءَ، كَفَى إثْمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُمَارِيًا، ذَرُوا الْمِرَاءَ، فَإِنَّ الْمُمَارِيَ لَا أَشْفَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذَرُوا الْمِرَاءَ فَأَنَا زَعِيمٌ بِثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ فِي الْجَنَّةِ فِي رِيَاضِهَا أَسْفَلُهَا وَأَوْسَطُهَا وَأَعْلَاهَا لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ، وَهُوَ صَادِقٌ، ذَرُوا الْمِرَاءَ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا نَهَانِي عَنْهُ رَبِّي بَعْدَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ».
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مَرْفُوعًا «إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصْمُ» أَيْ الشَّدِيدُ الْمِرَاءِ أَيْ الَّذِي يَحُجُّ صَاحِبَهُ. وَحَقِيقَةُ الْمِرَاءِ طَعْنُك فِي كَلَامِ غَيْرِك لِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ سِوَى تَحْقِيرِ قَائِلِهِ وَإِظْهَارِ مَزِيَّتِك عَلَيْهِ.
وَالْجِدَالُ هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِهَا، وَالْخُصُومَةُ لَجَاجٌ فِي الْكَلَامِ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ مَالًا أَوْ غَيْرَهُ، وَيَكُونُ تَارَةً ابْتِدَاءً وَتَارَةً اعْتِرَاضًا، وَالْمِرَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا اعْتِرَاضًا، وَالْكُلُّ قَبِيحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَبَيَانِهِ وَإِدْحَاضِ الْبَاطِلِ وَهَدْمِ أَرْكَانِهِ. وَأَمَّا مُنَاظَرَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْفَائِدَةِ، وَإِنْ لَمْ تَخْلُ عَنْ الْجِدَالِ فَلَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي النَّهْيِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت/46]، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ سَلَفًا وَخَلْفًا. وَأَفَادَ الْحَدِيثُ النَّهْيَ عَنْ مُمَازَحَةِ الْأَخِ، وَالْمُزَاحُ الدُّعَابَةُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَا يَجْلِبُ الْوَحْشَةَ أَوْ كَانَ بِبَاطِلٍ، وَأَمَّا مَا فِيهِ بَسْطُ الْخُلُقِ وَحُسْنِ التَّخَاطُب وَجَبْرِ الْخَاطِرِ فَهُوَ جَائِزٌ.
فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك لَتُدَاعِبُنَا قَالَ: إنِّي لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» وَأَفَادَ الْحَدِيثُ النَّهْيَ عَنْ إخْلَافِ الْوَعْدِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ، وَقَدْ قَيَّدَهُ حَدِيثُ «أَنْ تَعِدَهُ وَأَنْتَ مُضْمِرٌ لِخِلَافِهِ» وَأَمَّا إذَا وَعَدْته وَأَنْتَ عَازِمٌ عَلَى الْوَفَاءِ فَعَرَضَ مَانِعٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ.
(الشرح)
يَعْنِي الجدال إِذَا كَانَ لإظهار الْحَقِّ وبيانه فهذا مطلوب وَأَمَّا إذا كَانَ جدال في الباطل فهذا المنهي عنه, وَكَذَلِكَ الممازحة, الممازحة إِذَا كانت حَقّ وشيء قليل فلا بأس, أَمَّا كثرة المزاح فَإِنَّهُ لا ينبغي, جاء في كثرة المزاح موت القلب, وَأَيْضًا كَذَلِكَ يؤدي إِلَى العداوة والإحن والبغضاء, وَإِنَّمَا يكون شيء قليل عِنْد الحاجة إليه ويكون حقًا, وَأَمَّا الوعد فَإِنَّهُ لا يجوز أنت يعده بوعد ويخلفه, لكن إِذَا عرض له عارض فَهُوَ معذور.