شعار الموقع

أصول السنة لابن أبي زمنين (7) من قوله: "باب في الإيمان باللوح والقلم" - إلى قوله: "أحدهما من ورِق، والآخر من ذهب"

00:00
00:00
تحميل
179

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى:

باب في الإيمان باللوح والقلم.

قال محمد: ومن قول أهل السنة أن اللوح المحفوظ والقلم حقٌ يؤمنون بهما، وقال عز من قائل: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيد ۝ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ [البروج/21-22].

وقال؛ (عِندَهُ أُمُّ الْكِتَاب [الرعد/39].

وقال: وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظ [ق/4] .

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

هذا الباب العاشر من أبواب هذا الكتاب: (باب في الإيمان باللوح والقلم) يعني: أنه يجب على المسلم أن يؤمن باللوح والقلم، والمراد باللوح: اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء يجري في هذا الكون إلى قيام الساعة، والمراد بالقلم: القلم الذي كُتب به في اللوح المحفوظ، الذي أمره الله أن يكتب في اللوح المحفوظ كل شيء.

(قال محمد) هو المؤلف هو محمد بن أبي زمنين, (ومن قول أهل السنة أن اللوح المحفوظ والقلم حق يؤمنون بهما) يعني: أهل السنة يؤمنون باللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه المقادير، مقادير المخلوقات، ويؤمنون بالقلم الذي كُتب به في اللوح المحفوظ، فاللوح: هو الذي كُتب به كل شيء يجري في هذه المخلوقات، كتب الله فيه مقادير المخلوقات، والقلم هو الذي كُتب به في اللوح المحفوظ مقادير الأشياء, ومعلوم أن هذا اللوح لوح عظيم لا يعلم قدره إلا الله وكذلك القلم.

وهناك أقلام متعددة، منها: القلم العام الذي كُتب به كل شيء، وهناك القلم الذي يُكتب به ما يجري على كل إنسان في عمره هذا قلم خاص، كل إنسان له قلم يُكتب به اسم الإنسان، أجله، وعمله، وشقيًا أو سعيد، وهو يوافق ما في اللوح المحفوظ، فلابد من الإيمان باللوح المحفوظ وأن الله كتب به كل شيء, والإيمان بكتابة الله في اللوح المحفوظ مرتبة من مراتب القدر، لا يصح الإيمان إلا بها.

  • ومراتب الإيمان بالقدر أربعة، من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقدر:

المرتبة الأولى: العلم، الإيمان بعلم الله الأزلي، وأن الله علم الأشياء كلها في الأزل، علم ما كان في الماضي في الأزل، وعلم ما يكون في الحاضر، وما يكون في المستقبل، وعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، هذه المرتبة الأولى.

المرتبة الثانية: الإيمان بكتابة الله في اللوح المحفوظ مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كُتبت المقادير، كما قال الله تعالى في هذه الآيات التي ساقها المؤلف:   قال تعالى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ۝ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [البروج/21-22] .

محفوظة في اللوح، يعني: مكتوب في اللوح, والقرآن المجيد مكتوب في اللوح المحفوظ؛ لأن اللوح كتب فيه كل شيء ومن ذلك القرآن، ولكن القرآن إذا تكلم الله به وسمعه منه جبرائيل فنزل به على قلب نبينا محمد ﷺ .

وقال تعالى: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد/39].

أم الكتاب هو اللوح المحفوظ، وأول الآية: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد/39].

قال العلماء: يمحو الله ما يشاء ويثبت مما في صحف الحفظة ليوافق ما في اللوح المحفوظ، ولهذا قال تعالى: وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد/39]

 وقال سبحانه: وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق/4]، فهاتات مرتبتان من مراتب الإيمان بالقدر.

قال الله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج/70]؛ وهو اللوح المحفوظ، وفي هذه الآية إثبات العلم وإثبات الكتاب.

وقال سبحانه وتعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد/22], وهو اللوح المحفوظ.

وقال سبحانه: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ [يس/12] , وهو اللوح المحفوظ، الإمام المبين هو اللوح المحفوظ.

وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو: أن النبي ﷺ قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء .

وهاتان المرتبتان وهما العلم والكتابة أنكرهما القدرية الأولى الذين خرجوا في عصر الصحابة، فكفرهم الصحابة لما قال يحيى بن يعمر ومحمد الطويل: جاءوا إلى ابن عمر وقالوا: يا أبا عبد الرحمن، ظهر قبلنا أناس يتقفون العلم، يعني: يطلبون العلم ويزعمون أن الأمر أنف، أي: مستأنف وجديد لم يسبق به القدر، هذا في آخر عصر الصحابة، فقال عبد الله بن عمر: أخبرهم أني منهم بريء وأنهم براء مني, ثم ساق الحديث عن النبي ﷺ، حديث جبرائيل المشهور في سؤالات جبرائيل للنبي ﷺ عن الإسلام، ثم عن الإيمان، وذكر من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره، فهؤلاء القدرية الأولى هم الذين قال فيهم الإمام الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا.

ثم جاءت القدرية الثانية المتوسطة فأثبتوا العلم وأثبتوا الكتابة، ولكنهم لم يؤمنوا بعموم المرتبتين الأخريين، وهما:

المرتبة الأولى: الإرادة والمشيئة، عموم المشيئة والإرادة، لكل شيء في هذا الوجود، كل شيء في هذا الوجود لا يقع إلا إذا شاء الله وقوعه، وإذا أراد وقوعه، لا يمكن أن يقع في ملكه إلا ما يريد.

والمرتبة الثانية: الخلق والإيجاد وهو الإيمان بأن الله خلق كل شيء في هذا الوجود، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة/253] .

ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام/112] .

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان/30] .

وقال سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ([الفرقان/2] .

وقال سبحانه:  اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر/62] .

فالقدرية الثانية أثبتوا العلم وأثبتوا الكتابة، ولكنهم نفوا عموم المشيئة والإرادة وعموم الخلق والإيجاد، فأخرجوا أفعال العباد فقالوا: إن كل شيء في هذا الوجود أراده الله إلا أفعال العباد، فإنهم أرادوها بأنفسهم وشاءوها بأنفسهم مستقلين، وكذلك الخلق قالوا: إن أفعال العباد ما خلقها الله، بل إن العباد هم الذين خالقون لأفعالهم خيرًا أو شرًا.

هؤلاء لهم شبهة وأنهم يظنون أنه إذا أُثبت أن الله خلق كل شيء في هذا الوجود لزم من ذلك أن يكون خلقَ أفعال العباد وعذبهم عليها فيكون ظالمًا، فلهذا هم متأولون.

(المتن)

وحدثني إسحاق عن أسلم عن يونس عن ابن وهب قال: حدثني معاوية بن صالح عن أيوب بن أبي زياد، قال: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: حدثني أبي قال: دخلت على عبادة فقال: يا بني، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم قال: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة» وذكر الحديث.

(الشرح)

نعم، الحديث متنه صحيح والإسناد فيه ضعف؛ لأن في إسناده إسحاق وهو متكلم فيه، وفيه أيضًا أيوب بن أبي زياد أبو زيد الحمصي أيضًا فيه جهالة، والحديث متنه صحيح وثابت، صحيح أخرجه الإمام أحمد في "المسند" وابن أبي عاصم في "السنة" والآجري في "الشريعة" وله طريق أخرى عن الوليد بن عبادة عن طريق عطاء بن أبي رباح وأخرجها الترمذي في "جامعه"، وأبو داود الطيالسي وابن أبي عاصم، والآجري في "الشريعة"، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"، فالحديث متنه صحيح وهو دليل على أن القلم لمّا خلقه الله عند أول خلقه قال له: «اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».

ولا يدل على أنه أول المخلوقات، «إن أول ما خلق الله القلم» لأن الأولية مقيدة بالكتابة، والمعنى: أنه عند أول خلقه أُمر بالكتابة، إن أول شيء خلقه الله القلم ثم قال له: اكتب, وفي اللفظ الآخر: أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب.

اختلف العلماء في القلم والعرش أيهما أسبق؟ على قولين لأهل العلم: من العلماء من قال: إن العرش خُلق أولًا، ومنهم من قال: إن القلم خُلق أولًا, والصواب أن العرش خُلق أولًا، أن العرش هو أول المخلوقات، ولهذا حكي عن الهمداني الخلاف في هذا كما قال ابن القيم:

والناس مختلفون في القلم الذي كـتب

القضـاء بـه مـن الديـان

هـل كان قبل العرش أو هو بعده

قولان عند أبي العلا الهمداني

والحــق أن العـرش قبـل لأنـه

قبـل الكتابـة كـان ذا أركـان

الحديث المعروف: أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب والمعنى: أنه أمره بالكتابة عند أول خلقه، ولا يدل على أنه أول المخلوقات، والحديث فيه إثبات القلم وإثبات كتابة المقادير بالقلم، فلابد من الإيمان بهذا.ذكر الخلاف في قولين لأهل العلم فقيل: إن العرش خُلق أولًا، وقيل: القلم خُلق أولًا، والصواب أن العرش أولًا؛ لأنه حين كتابة القلم والعرش موجود وله أركان، وأما قوله: إن أول شيء خلقه الله القلم يفسره اللفظ الآخر: أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب فالأولية مقيدة بأمره بالكتابة، يعني: أنه أُمر بالكتابة عند أول خلقه، لكن ما جاء بكلمة: (ثم) وهي تفيد التراخي، فلعلها رواها العلماء بالمعنى.

(المتن)

وحدثني أحمد بن مطرف عن العنابي عن نصر عن أسد قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: حدثنا عبد الملك بن حميد عن الحكم عن من حدثه عن ابن عباس في قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون) [القلم/1] .

قال: أول ما خلق الله القلم، وخُلقت له الدواة وهي النون، فقال له ربه: اكتب، قال: ربي ما أكتب؟ قال: اكتب، قال: اكتب القدر خيره وشره، فجرى بما كان حتى تقوم الساعة.

(الشرح)

وهذا الحديث موقوف على ابن عباس من كلام ابن عباس، وليس من كلام النبي ﷺ، وهو ثابت لكن متنه صحيح وثابت عن ابن عباس، لكن هذا الإسناد فيه ضعف، فيه رجل مبهم بين الحكم وبين ابن عباس، قال: (عن الحكم عمن حدثه) والسند إن كان فيه مبهم أو مجهول يكون ضعيف.

والحديث له طرق أخرى عن ابن عباس من طريق أبي الضحاء ( 12:17) مسلم بن صبيح من طريق عطاء بن السائب، كذلك أبو الظبيان جندب بن حزم الكوفي، وله طريقان عن الحكم العتيبي الكوفي والأعمش، وله عنه طرق، ويحتمل أن الرجل المجهول هو حصين بن جندب أبو ظبيان؛ لأن الراوي عند الرجل المجهول عند المصنف هو الحكم بن عتيبة في بعض الطرق.

فالمقصود أن هذا المتن موقوف على ابن عباس وهو صحيح، وله حكم الرفع وإن كان هذا السند فيه ضعف، وفيه أن هذا الحديث دل على أن «القلم لما خلقه الله أمره بالكتابة فجرى في تلك الساعة بما هو كائن» يعني: كتب المقادير, مقادير الأشياء كلها، ولهذا قال: «فجرى بما كان حتى تقوم الساعة».

قال له: «اكتب», لما خلقه الله قال: «اكتب، قال: رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر خيره وشره», وفي لفظ قال: «اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».

فالحديث دل على إثبات القلم وإثبات كتابته للمقادير وإثبات اللوح المحفوظ، والإيمان بأن مقادير الأشياء كلها مكتوبة في اللوح المحفوظ إلى قيام الساعة.

(المتن)

أسد قال حدثنا يوسف بن زياد عن عبد المنعم بن إدريس قال: حدثني أبي عن جدي وهب عن ابن عباس قال: إن أول شيء خلقه الله اللوح المحفوظ مسيرة خمس مائة عام في مسيرة خمس مائة عام، وهو من در أبيض، صفحتاه ياقوتة حمراء، كلامه النور وكتابه النور.

(الشرح)

وهذا موصول بالسند السابق، (أسد) قبلها (حدثني أحمد بن مطرف عن العنابي عن نصر عن أسد قال: حدثنا يوسف بن زياد عن عبد المنعم بن إدريس قال: حدثني أبي عن جدي وهب) هنا ذكر ابن عباس وهي ساقطة من الأصل، وقد أثبتها المحقق من كتاب "العظمة", وهذا الإسناد ضعيف جدًا، في إسناده عبد المنعم بن إدريس متكلم فيه، وهو متروك الحديث ومتهم بالوضع، وكذلك فيه أيضًا والده إدريس بن سنان اليماني وهو ابن بنت وهب, فوهب جده لأمه، روى عن جده وهب بن منبه، ووهب بن منبه يأخذ عن بني إسرائيل، ويعتقد أن هذا أثر إسرائيلي، وأنه من أخبار بني إسرائيل.

أما قوله: إن أول شيء خلقه الله اللوح المحفوظ هذا فيه نكارة، فالنصوص دلت على أن أول شيء خلقه الله هو العرش، وكذلك قوله: مسيرة خمس مائة عام في خمس مائة عام، وهو من در أبيض، صفحتاه ياقوتة حمراء، كلامه النور, فالأقرب أن هذا من آثار بني إسرائيل، من أخبار بني إسرائيل ومن كلام وهب ابن منبه، وإن أخذه عن ابن عباس فابن عباس يأخذ عن بني إسرائيل.

وكان الأولى بالمؤلف ألا يذكر أخبار بني إسرائيل ويكتفي بالأحاديث والآثار الصحيحة, فالأحاديث الصحيحة أولى, الحديث السابق والذي قبله كافي عن هذا, ولا داعي إلى مثل هذه الآثار الإسرائيلية.

(المتن)

أسد قال: وقال وهب في حديثه: وخلق الله القلم من نور، طوله خمس مائة عام قبل أن يخلق الخلق، فقال للقلم: اكتب، فقال القلم: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب علمي في خلقي إلى أن تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائنٌ في علم الله إلى يوم القيامة قبل أن يخلق السموات والأرض، وإن كتاب ذلك القلم على الله يسير.

(الشرح)

وهذا أيضًا من أخبار بني إسرائيل، هذا أثر إسرائيلي من كلام وهب بن منبه، وإسناده فيه علل، ففيه العلل السابقة، سنده ضعيف فيه عبد المنعم بن إدريس اليماني، وكذلك والده متكلم فيهما، ثم هو من كلام وهب بن منبه، ووهب بن منبه يأخذ عن بني إسرائيل، وهو من أخبار بني إسرائيل، أما خلق القلم فهذا ثابت بالأحاديث الصحيحة، وكذلك من النكارة أن يقول: (اكتب علمي في خلقي).

المعروف في الأحاديث الصحيحة: «اكتب مقادير كل شيء», وهل يعلم القلم ما في علم الله؟! ثم قوله: (فجرى في تلك الساعة بما هو كائن في علم الله) هذه من النكارة، والمقصود: أن هذا من آثار بني إسرائيل ولا حاجة إليه فالنصوص الصحيحة كافية، وفيها غنى عن هذا وأمثاله.

وقوله: (قبل أن يخلق السموات والأرض) نعم, هذا ثابت في الأحاديث أن الكتابة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.

(المتن)

وحدثني أبي عن علي بن أبي داود عن يحيى بن سلام قال: حدثني أبو أمية عن حميد بن هلال عن أبي الضيف عن كعب قال: إن أقرب الملائكة إلى الله إسرافيل، وله أربعة أجنحة، جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وقد تردد بالثالث والرابع، بينه وبين اللوح المحفوظ، فأراد الله أن يوحي أمرا جاء اللوح المحفوظ حتى يصفق جبهة إسرافيل، فيرفع رأسه فينظر فإذا الأمر مكتوب، فينادي جبريل فيلبيه فيقول: أُمرت بكذا، أُمرت بكذا، فلا يهبط جبريل من سماء إلى سماء إلا فزع أهلها تخلفه الساعة، حتى يقول جبريل: الحق من عند الحق، فيهبط على النبي ﷺ فيوحي إليه.

(الشرح)

وهذا أيضًا أثر إسرائيلي من كلام كعب الأحبار، وكعب الأحبار ينقل عن بني إسرائيل، ثم السند أيضًا ضعيف، في إسناده ابن أبي زمنين وكذلك علي بن الحسن المري، وفيه نكارة في قوله: (يصفق جبهة إسرافيل) كلها كان الأولى بالمؤلف رحمه الله أن ينزه كتابه عن أخبار بني إسرائيل، ولا حاجة إلى أخبار بني إسرائيل، فالنصوص الصحيحة كافية، وكذلك الآيات القرآنية والنصوص والأحاديث الصحية الثابتة فيها غُنية عن هذه الآثار الإسرائيلية.

هذا أيضًا فيه يحيى بن سلام وفيه أبو الضيف مُتكلم فيهما، وهذا الأثر الذي أخرجه أبو الشيخ في "العظمة" كان المؤلف رحمه الله قلد غيره، يعني: بعض العلماء ذكروا مثل هذا، ذكره أبو الشيخ العظمة وغيرهم، وعذرهم في هذا أنهم يذكرون ما ورد في الباب، ما ورد في الباب يذكرونه، قد يكون صحيح وقد يكون ضعيف وقد يكون من آثار بني إسرائيل، هم يذكرونه بالسند، ومن أسند فقد برئ من العهدة، ولكن الأولى في مثل هذا ألا ينقل الإنسان أخبار بني إسرائيل، لا حاجة إليها، الأخبار الصحيحة والآيات القرآنية كفاية.

 

(المتن)

باب في الإيمان بأن الجنة والنار قد خُلقتا.

قال محمد: ومن قول أهل السنة أن الجنة والنار قد خُلقتا، وقال: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ )[البقرة/35] .

وقال: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ )[يس/26] .

وقال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا )[غافر/46] .

(الشرح)

هذا الباب الحادي عشر: الإيمان بأن الجنة والنار قد خُلقتا، (قال محمد) وهو المؤلف عبد الله بن أبي زمنين: (ومن قول أهل السنة أن الجنة والنار قد خُلقتا) يعني: الآن مخلوقتان، ثم استدل المؤلف وقال: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة/35] .

إذًا آدم سكن الجنة دل على أن الجنة مخلوقة، وقال:  قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس/26], صاحب يس: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس/26] .

إذًا الجنة موجودة، وقال في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر/46] هذا في البرزخ، ثم قال:  النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر/46] يعني: هم الآن يعرضون عليها غدوًا وعشيًا.

إذًا هي موجودة النار, وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ويدل على ذلك النصوص وكذلك منها قوله تعالى عن الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران/133] .

 وقال عن النار:  عِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة/24] يعني: هي مُعدة موجودة مخلوقة.

والنصوص على إثبات أن الجنة والنار مخلوقتان كثيرة، منها: أن النبي ﷺ في الإسراء دخل الجنة، ومنها أن المؤمن يُفتح له باب من الجنة فيأتيه من نعيمها وروحها، والكافر يُفتح له باب من النار فيأتيه من حرها وسمومها، ومنها: أن أرواح المؤمنين تنعم في الجنة، وأرواح الكافرين تعذب في النار، والأدلة في هذا كثيرة ومنها أنه «كُشف للنبي ﷺ وصورت له الجنة والنار وهو يصلي بالناس الكسوف» .

وذهبت المعتزلة إلى أن الجنة والنار معدومتان الآن، وإنهما تُخلقان يوم القيامة، قالت المعتزلة: إنهما الآن معدومتان، ووجودهما الآن ولا جزاء عبث، والعبث محال على الله، قالوا: لو كانتا الآن موجودتان صار فيهما عبث، كيف توجدان الآن وتكونان معطلتان مدة طويلة؟! فلذلك قالوا: إنهما الآن معدومتان، وإنما يخلقهم الله يوم القيامة، أما الآن فهما معدومتان، قالوا: لأن خلقهما ولا جزاء عبث، والعبث محال على الله! وهذا من جهلهم وضلالهم.

وأهل السنة حينما يقول المؤلف: أن الإيمان بأن الجنة والنار قد خُلقتا قصد بذلك الرد على المعتزلة الذين يقولون: لم تُخلقا الآن، والمعتزلة يعتمدون على عقولهم ويردون النصوص، وهذا من جهلهم وضلالهم، يقولون: إن الجنة والنار لو كانتا مخلوقتان الآن لصارت عبث، كيف يجلسان مدة طويلة ما فيهما أحد ولا فيهما جزاء، ما أحد ينعم بالجنة ولا أحد يعذب بالنار، وهذا من جهلهم وضلالهم.

وقد سمعتم النصوص والأدلة قال: إن الله تعالى قال على الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران/133] يعني: شيء ثابت, وعلى النار: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة/24].

وقولهم: أنهما معطلتان، ليستا معطلتين، المؤمن يُفتح له باب إلى الجنة، والكافر يفتح له باب إلى النار، وأرواح المؤمنين تُنعم في الجنة وأرواح الكفار تُعذب في النار، من قال: إنهما معطلتان، ليستا معطلتين.

ثم أيضًا الترغيب والترهيب مع وجودهما يختلف، فإذا قيل: إنهما الآن موجودتان، وإنهما معدتان، وأن المؤمن معدة له الجنة، والنار معدة للكافر، غير ما إذا قيل: إذا صار يوم القيامة تُخلق الجنة وتكون للمؤمنين، وإذا كان يوم القيامة تُخلق النار وتكون للكافرين! ما يمكن أن يكون هناك شيء من الزجر والردع، والشوق للجنة مثل ما إذا كانت مخلوقتان الآن.

فالمقصود أن المعتزلة يعتمدون على عقولهم ولا ينظرون إلى النصوص، فلهذا قالوا هذه المقالة، وقالوا: إن الجنة والنار لم تُخلقا الآن، وإنما تخلقان يوم القيامة، وقالوا: لو خلقتا الآن لتعطلتا مدة طويلة وهذا عبث، والعبث محال على الله، وهذا من جهلهم وضلالهم، وكما سمعتم، ثم الجنة فيها الحور العين وفيها الولدان فهي ليست معطلة.

(المتن)

وحدثني سعيد بن فحلون عن العلاء عن ابن بكير عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عليه يوم القيامة.

(الشرح)

وهذا الحديث عن ابن عمر حديث صحيح، أخرجه الشيخان البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه كلاهما من طريق عن نافع عن ابن عمر، والحديث فيه الرد على المعتزلة في قولهم: إن الجنة والنار لا تخلقان إلا يوم القيامة، لقول النبي ﷺ: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عليه يوم القيامة.

فالمؤمن يُعرض عليه مقعده من الجنة وهو في قبره، والكافر يُعرض عليه مقعده من النار، وهذا فيه دليل على أن الجنة مخلوقة والنار مخلوقة، وفيه الرد على المعتزلة لقولهم: إنهما لا تخلقان إلا يوم القيامة.

(المتن)

مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدثه أن رسول الله ﷺ قال: إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه.

(الشرح)

وهذا الحديث صحيح أخرجه مالك في الموطأ وأخرجه أحمد في المسند، (من طريق الشافعي عن مالك عن ابن الشهاب عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه كعب) وأخرجه النسائي في السنن، والآجري في الشريعة، وابن ماجه في السنن من طريق سويد بن سعيد، وهذا الحديث مسلسل بالأئمة، رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن مالك عن ابن شهاب، مسلسل بالأئمة، ثلاثة أئمة على نسق: الإمام أحمد رواه عن الشافعي، والإمام الشافعي رواه عن مالك، والإمام مالك رواه عن ابن شهاب، وابن شهاب رواه عن عبد الرحمن بن كعب، وعبد الرحمن بن كعب رواه عن أبيه، فهو مسلسل بالأئمة، ثلاثة أئمة على نسق: أحمد عن الشافعي عن مالك.

وفيه يقول النبي ﷺ: إنما نسمة المؤمن طير وفي لفظ: «طائر يعلق في شجر الجنة» يعلق, يعني: يأكل في شجر الجنة «حتى يُرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه وهذا أيضًا فيه دليل على أن الجنة موجودة، وفيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الجنة ما تخلق إلا يوم القيامة، والحديث أن نسمة المؤمن تأخذ شكل طير وتتنعم في الجنة، ولها صلة بالجسد.

هذا في البرزخ من حين يموت المؤمن تُنقل روحه إلى الجنة وتتنعم، تأخذ شكل طير تتنعم وتعلق في شجر الجنة ولها صلة بالجسد، والجسد يبلى ويكون ترابًا والروح باقية، ولها صلة بالجسد تتنعم مفردة وتتنعم بواسطة الجسد، وكذلك تتعذب مفردة وبواسطة الجسد، ولكن الجسد يبلى والروح باقية، تأخذ شكل طائر، تتنعم.

وأما الشهيد إذا قُتل فإن روحه تُنقل إلى الجنة وتتنعم بواسطة طير خضر «حواصل طير خضر»، يقول النبي ﷺ إن روح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ترد أنهارها وتأكل من ثمارها، حتى يُرجعها الله إلى جسدهم ويبعثهم.

فأرواح الشهداء تتنعم في الجنة أكمل من تنعم سائر المؤمنين، لماذا؟ لأن الشهداء لما بذلوا أجسادهم لله فقتلت ومُزقت في ذات الله، عوض الله أرواحهم طيرًا خضرًا تتنعم بواسطتها، فإذًا هي تتنعم في الجنة بواسطة حواصل طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، هكذا كما في الأحاديث الصحيحة.

وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها، تأخذ شكل طائر، تأخذ شكل طائر وتتنعم وحدها، فتنعم أرواح الشهداء أكمل من تنعم أرواح سائر المؤمنين، فأرواح الشهداء تتنعم بواسطة طير خضر، وأرواح المؤمنين تتنعم وحدها على شكل طائر، وأرواح الشهداء أكمل تنعم، حيث أنهم بذلوا أجسادهم لله فعوضهم الله أرواحهم أبدانًا تتنعم بواسطتها، وهذا فيه الرد على المعتزلة القائلين بأن الجنة لا تُخلق إلا يوم القيامة.

(المتن)

مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «خسفت الشمس فصلى رسول الله ﷺ والناس معه» ثم ذكر الحديث، وفيه «قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم تكأكأت، فقال: رأيت الجنة فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ كاليوم منظرًا قط، ورأيت أكثر أهلها النساء.

(الشرح)

وهذا الحديث صحيح أخرجه الشيخان: البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه، وأيضًا أخرجه الإمام مالك في الموطأ، وفيه أنه لما خُسفت الشمس على عهد النبي ﷺ كان في اليوم الذي مات فيه إبراهيم ابن النبي ﷺ الصغير، والناس معه ذكر النبي ﷺ أنه رأى الجنة والنار، صورت له الجنة والنار وهو يصلي بالناس صلاة الكسوف، والمسجد ممتلئ بالناس، فهو في أثناء الصلاة رأوه يتناول شيئًا، فتقدم وتقدمت الصفوف، ثم تأخر وتأخرت الصفوف، تكعكع.

فلما سلم النبي, قالوا: «يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا ورأيناك تكعكعت، فقال: عُرضت علي الجنة والنار، رأيت الجنة والنار، رأيت الجنة فتناولت منها عنقودًا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا لأن ما في الجنة يبقى.

ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرًا قط، فتكعكعت تأخرت، تأخر عن النار، قال: ورأيت أكثر أهلها النساء أكثر أهل النار النساء، جاء في الحديث الآخر السبب: أنهن يكثرن اللعن ويكفرن العشير وهو الزوج.

فالنساء أكثر أهل النار، وكذلك أكثر أهل الجنة النساء، أكثر أهل الجنة النساء، وأكثر أهل النار النساء، كيف ذلك؟ أكثر أهل النار النساء لأنهن يعملن الأسباب التي يدخلن بها النار، وهي: كفران العشير والإحسان، تكفر إحسان الرجل، لو أحسن إليها قالت: ما رأيت منه خيرًا قط، وتكثر اللعن، وأما أهل الجنة فلأن كل واحد في الجنة له زوجتان، وليس في الجنة أعزب، كل واحد في الجنة له زوجتان كما ذكر في الحديث الصحيح.

هذا عام زيادة على زوجاته في الدنيا، وبعضهم له زوجات كثيرة، لكن هذا عام، كل واحد له زوجتان، لكل مؤمن في الجنة زوجتان، هذا عام على العموم.

ثم بعد ذلك بعضهم له زوجات متعددة مع الزوجات من النساء، فلهذا صار أكثر أهل الجنة النساء: من الحور العين، ومن النساء، ولكل واحد زوجتان، وبعضهم له زوجات متعددة على حسب الأعمال، كل واحد له زوجتان وما في الجنة أعزب، فبهذا يكون النساء أكثر أهل الجنة وأكثر أهل النار.

وهذا الحديث فيه إثبات الجنة والنار وأنهما موجودتان الآن، وفيه الرد على المعتزلة القائلين بأن الجنة والنار لا تُخلقان إلا يوم القيامة.

(المتن)

وحدثني إسحاق بن إبراهيم، عن قاسم بن أصبع، عن محمد بن عبد السلام، عن سلمة بن شبيب، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله تعالى: وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص/20] .

قال: بلغني أنه رجل كان يعبد الله، ثم ذكر قصته حتى بلغ إلى قوله: فَاسْمَعُون [يس/25]

قال: فرجموه بالحجارة حتى قتلوه، فدخل الجنة فقال: يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون ۝ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين )[يس/26-27].

(الشرح)

هذا الأثر رواه قتادة بلاغًا، وقتادة تابعي فيكون مقطوع، ثم أيضًا رواه بلاغًا، قال: (بلغني) لم يذكر من الذي رواه عنه، فهو منقطع، مقطوع؛ لأنه من رواية قتادة وقتادة تابعي، ثم قتادة أيضًا رواه بلاغًا، قال: (بلغني)، فهو ضعيف.

ولكن قصة الرجل وهو صاحب (يس) قصها علينا الله في القرآن الكريم وهي واضحة، قال الله تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ۝ اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ ۝ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ ۝ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ۝ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ۝ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ۝ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ

فهذا رجل ناصح لقومه، دعاهم إلى الهدى، دعاهم إلى إتباع الرسل: قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس/20] .

اتبعوا المرسلين، يدعونكم إلى الله: اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ [يس/21] ما يطلبون أجرا على إتباعهم، وهم مهتدون.

ثم بين فضل عبادة الله قال: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ [يس/22-23] .

فالآلهة ما تنفع ولا تضر، ثم أعلن إيمانه وتوحيده قال: إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس/25] لكنهم قتلوه، قتله قومه، فلما قتلوه أخبر الله أنه دخل الجنة، قيل له: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس/26].

ناصح لقومه في الحياة وبعد الممات: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس/26].

يعلمون أني دخلت الجنة، وأني على حق، وأني على هدى، حتى يعملون بالحق حتى يتركوا الباطل، حتى يؤمنوا ويوحدوا الله: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس/26] ليتهم يدرون ما حالي حتى يعلموا أني على حق، فبلغ الله عنه:

قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ۝ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس/26-27] .

والشاهد: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس/26] فيه إثبات أن الجنة موجودة، والرد على المعتزلة القائلين بأن الجنة لا تُخلق إلا يوم القيامة، فقول المعتزلة قول باطل، النصوص كلها ترد قولهم، فآيات قصة يس كافية الآيات القرآنية، أما هذا الأثر فهو ضعيف؛ لأنه عن قتادة، وقتادة تابعي رواه بلاغًا أيضًا، لكن الآيات كافية واضحة في إثبات دعوة هذا الرجل الصالح، أنه دعاهم وأنهم قتلوه وأنه دخل الجنة.

(المتن)

وحدثني أبي، عن علي، عن أبي داود، عن يحيى قال: حدثني خالد، عن أبي عبد الرحمن، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لما قدمت أرواح أهل أحد على الله جعلت في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش، تجاوب بعضها بعضًا بصوت، سارعنا فيه فإنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، ووعدهم الله ليخبرن بذلك نبيه ﷺ حتى يخبرهم بذلك، فأنزل الله وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون ۝ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون [آل عمران/169-170] .

(الشرح)

وهذا الأثر موقوف على ابن عباس في قصة الشهداء في أحد، وهذا الإسناد ضعيف؛ لأن فيه والد المؤلف ابن أبي زمنين، وفيه علي المري مُتكلَّم فيه، وفيه يحيى بن سلام، وفيه أبو عبد الرحمن لم تعرف ترجمته، هذا السند ضعيف، ثم هو موقوف على ابن عباس، وفيه: «أن أرواح الشهداء جُعلت في حواصل طير خضر» هذا جاء في الأحاديث الصحيحة، والآية كافية، نزلت فيهم الآية: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون [آل عمران/169] .

فالآية كافية في هذا، والآية واضحة ,والأحاديث الصحيحة دلت على أن,, جاء في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: أن الله جعل أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة تأكل من ثمارها وترد أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش أما كونه يقول: (تجاوب بعضها بعضًا بصوت) هذا جاء في هذا الأثر ولكن هذا ضعيف، المقصود أن هذا الأثر ضعيف عن ابن عباس، لكن ما دل عليه من أن أرواح الشهداء جعُلت في حواصل طير خضر هذا جاءت به الأحاديث الصحيحة ثابتة.

ثم الآية الكريمة واضحة في هذا، في أن الشهداء أحياء عند الله: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون [آل عمران/169] .

وهذا فيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الجنة ما تُخلق إلا يوم القيامة، فالآية صريحة، الآية دليل على أن أرواح الشهداء تنعم في الجنة وأن الجنة موجودة الآن، وأن إنكار المعتزلة لوجود الجنة من جهلهم وضلالهم.

(المتن)

يحيى قال: وحدثني حماد، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ ذكر في حديث الإسراء أنه أتى على سابلة آل فرعون حيث ينطلق بهم إلى النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا، فنادوا قالوا: ربنا لا تقم الساعة، لما يرون من عذاب الله.

(الشرح)

وهذا الأثر وهو الحديث مرفوع إلى النبي ﷺ لكنه حديث ضعيف في سنده علل متعددة، وهو موصول بالإسناد السابق، قول يحي: (حدثني أبي، عن علي، عن أبي داود، عن يحيى) فيه العلل السابقة، فيه والد المؤلف متكلم فيه، وفيه علي المري، وفيه يحيى بن سلام، وفيه أيضًا من العلل أبو هارون العبدي واسمه عمارة بن جوين، تابعي ضعيف، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره حيث قال في حديث الإسراء: من رواية أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري  عن رسول الله ﷺ قال: ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله، بجانب كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم يصفدون على سابلة آل فرعون، وآل فرعون يعرضون على النار غدوًا وعشيًا يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر/46] .

«وآل فرعون كالإبل المسمومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون»

وهذا الأثر ضعيف عن أبي سعيد الخدري، فيه هذه العلل السابقة، لا يصح بها الحديث، وأما كون آل فرعون يعذبون صباحا ومساء هذا واضح في الآية الكريمة، قال الله تعالى:  النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّاۖوَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر/46] . 

 فهذا في البرزخ، فهم يعرضون على النار صباحًا ومساءً -نعوذ بالله- النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا.

ثم قال الله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّاۖ ثمَّ قال تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر/46] .[غافر/46]

 فدل على أن العرض السابق قبل قيام الساعة هو في البرزخ، يعني: الآن، الآن آل فرعون يعرضون على النار غدوًا وعشيًا، أرواحهم -نعوذ بالله- قبل قيام الساعة، هذا واضح من الآية الكريمة، أما هذا الأثر فهو ضعيف ولا يصح، لكن الآية الكريمة واضحة في عرض آل فرعون غدوًا وعشيًا.

وفيه إثبات أن النار موجودة، للرد على المعتزلة القائلين بأنهما لم تُخلقا الآن، وإنما تُخلقان يوم القيامة، فأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الجنة والنار موجودتان الآن، مخلوقتان، الجنة معدة للمتقين المؤمنين، والنار معدة للكافرين.

وقد ذكر الإمام الحسن بن أحمد الهمداني بإسناده ابن أبي حاتم قال: سألت أبا زُرعة عن مذاهب أهل السنة وما أدرك عليه أهل العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا، ثم ذكر جملة من معتقداتهم ثم قال: "والجنة والنار حق، وهما مخلوقتان لا تفنيان أبدًا، فالجنة ثواب لأوليائه والنار عقاب لأهل معصيته، إلا من رحم".

وبوب الإمام الآجري في "الشريعة" كتاب الإيمان والتصديق بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأن نعيم أهل الجنة لا ينقطع عن أهلها أبدًا، وأن عذاب النار لا ينقطع عن أهلها الكفار أبدًا، ثم قال: "اعلموا رحمنا الله وإياكم أن القرآن شاهد أن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل أن يخلق آدم عليه الصلاة والسلام وخلق للجنة أهلًا وللنار أهلًا قبل أن يُخرجهم إلى الدنيا، لا يختلف في هذا من شمله الإسلام وذاق حلاوة طعم الإيمان، دل على ذلك القرآن والسنة، فنعوذ بالله ممن كذب بهذا".

القصد من هذا قول العلماء والأئمة الرد على المعتزلة الذين أنكروا خلق الجنة والنار الآن وقالوا: إنما لا تخلقان إلا يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية.

 

(المتن)

باب في الإيمان بأن الجنة والنار لا يفنيان.

قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بأن الجنة والنار لا يفنيان ولا يموت أهلوها، وقال الله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون [العنكبوت/64].

وقال: وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار [غافر/39] .

 وقال: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ [النحل/96] .

وقال: لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدخان/56] .

وقال ردًا على اليهود وتكذيبًا لهم في قولهم: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ۝ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون [البقرة/80-81], والسيئة هاهنا الشرك.

كذلك قال ابن عباس: فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون [البقرة/80].

 وقال أهل الإيمان: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلا [النساء/122] .

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور ۝ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور [فاطر/34-36] .

وقال: مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [الكهف/3] .

وقال: وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِين [الحجر/48] .

قال محمد: ولو لم يذكر الله تبارك وتعالى الخلود إلا في آية واحدة لكانت كافية لمن شرح الله صدره للإسلام، ولكن ردد ذلك ليكون له الحجة البالغة.

(الشرح)

هذا الباب الثاني عشر من أبواب الكتاب في الإيمان بأن الجنة والنار لا تفنيان، بل هما باقيتان دائمتان، وهذا هو عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الجنة والنار دائمتان أبدًا لا تفنيان، خلافًا للجهمية الذين يقولون: إن الجنة والنار تفنيان، يأتي عليهما يوم وتفنيان، ما في جنة وما في نار، وهذا من كفر الجهم بن صفوان، وهو الذي قال: إن الجنة والنار تفنيان، وأهل السنة بدَّعوه وضللوه وصاحوا به وكفروه، يقول: إن الجنة والنار تفنيان وتنتهيان.

وقال أبو هذيل العلاف شيخ المعتزلة في القرن الثالث الهجري: إنها تفنى حركات أهل الجنة والنار وتكون كالحجارة، يأتي يوم وتفنى الحركات، وكل يبقى على ما كان، إذا جاء الفناء كلهم يجري إلى ما كان عليه، أهل الجنة وأهل النار، وهذا من جهلهم وضلالهم.

ويُنسب إلى بعض أهل السنة أن النار وحدها إذا مضى عليها دهور كثيرة فإنها تفنى، ولهم بعض الآثار التي يستدلون بها، ونسبوا بعض هذا إلى ابن القيم رحمه الله, وبعضهم نسبوه إلى شيخ الإسلام، والصواب أن شيخ الإسلام لا يرى هذا، والأدلة في كلام شيخ الإسلام صريحة في أن النار لا تفنى، وأما ابن القيم رحمه الله فجاء ما يدل على أنه يرى أن النار تفنى، ونقل في هذا آثار في كتاب الروح وغيره أيضًا من كتبه.

وجاء عنه ما يدل على أنها لا تفنى، ولعل له قولان في هذا: قول يرى أنها تفنى وقول يرى أنها لا تفنى، لأنه قال رحمه الله في ذكر أدلة القائلين بالفناء وذكر آثار، وكثير منها لا يصح، في "كتاب الروح" وفي "شفاء العليل" وفي غيره.

والأقرب أن ابن القيم له قولان في هذه المسألة، لكن أيهما على القول الذي قاله أخيرًا هو مذهبه، وأما شيخ الإسلام فإن أقواله صريحة في أن الجنة والنار دائمتان، أما القول بأن الجنة والنار تفنيان هذا ما قال به أحد من أهل الحق، وإنما قال به الجهم بن صفوان، والجهم كفره أهل العلم وضللوه وبدَّعوه قوله: "إن الجنة والنار تفنيان"، وكذلك قول أبي هذيل العلاف: "تفنى الحركة" وهذا من أبطل الباطل.

والصواب أن الجنة والنار دائمتان أبدًا لا تفنيان ولا تبيدان، ولهذا قال المؤلف رحمه الله في هذا الباب، ولهذا بوب المؤلف عبد الله بن أبي زمنين، بوب في كتابه "أصول السنة" قال: باب في الإيمان بأن الجنة والنار لا تفنيان، وقصده من هذا الرد على الجهمية الذين يقولون: إنهما تفنيان، (قال محمد) يعني: هو المؤلف, (وأهل السنة يؤمنون بأن الجنة والنار لا تفنينان ولا يموت أهلوها) نعم هذا هو الصواب.

ثم استدل بالأدلة قال: وقال تعالى وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون [العنكبوت/64], يعني: هي الحياة الباقية: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون  [العنكبوت/64] .

وقال: وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر/39] هذا دليل على أنها قارة ثابتة مستمرة.

وقال: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل/96] والجنة عند الله فهي باقية.

وقال عن أهل الجنة: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان/56]

 إذًا حياتهم دائمة، الجنة فيها حياة دائمة وصحة دائمة وشباب دائم.

وقال ردًا على اليهود وتكذيبًا لهم في قولهم: وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة/80].

قال سبحانه ردًا عليهم: بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة/81]   

وهذه السيئة المراد بها سيئة الشرك: بدليل أنه حكم عليه بخلوده في النار، فهذا دليل على سيئة الشرك؛ لأن السيئة تكون سيئة الشرك وتكون سيئة المعصية، فالمعصية التي دون الشرك صاحبها تحت المشيئة ولا يخلد صاحبها، أما سيئة الشرك فيخلد صاحبها، فالله حكم على صاحب هذه السيئة بالخلود فقال: بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  [البقرة/81]

والذي تحيط به خطيئته هي خطيئة الشرك: بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة/81]

 ولهذا قال المؤلف: (والسيئة من الشرك، كذلك قال ابن عباس).

وقوله على أهل النار: وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة/80]

 دليل على أنها لا تفنى، وأن أهلها مخلدون، حيث أخبر الله بالخلود، وقال على أهل الإيمان: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء/57] .

الشاهد قوله: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء/57] .

والخلود يدل على أنها لا تفنى، وقال على أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ۝ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور [فاطر/34-35] يعني: دائمة.

ثم قال على أهل النار: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر/36].

هذا دليل على أنها باقية مستمرة، ولو كانت تفنى لقضى عليهم:  وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر/36] .

ثم قال تعالى: مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا [الكهف/3], أبد الآباد.        

ومن الأدلة التي يذكرها المؤلف قوله تعالى: لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ/23]

كلما انتهى حقب، والحقب هو المدة الطويلة، المدد الطويلة التي لا تتناهى، كلما انتهى حقب يعقبه حقب إلى ما لا نهاية، وقال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء/97] .

وقال: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر/48], دل على أن الجنة والنار باقيتان، لو كانتا تفنيان لخرجوا منها.

(قال محمد) وهو المؤلف, (ولو لم يذكر الله تبارك وتعالى الخلود إلا في آية واحدة لكانت كافية لمن شرح الله صدره للإسلام) هي تكفي، (ولكن ردد ذلك ليكون له الحجة البالغة، لكن أخبر في آيات متعددة النصوص أن أهل الجنة مخلدون وأن أهل النار مخلدون، لتقوم الحجة على العباد).

(المتن)

وحدثني إسحاق، عن أحمد، عن ابن وضاح، عن ابن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: يؤتى بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة، فيطلعون خائفين وجلين أن يُخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال: يا أهل النار، فيطلعون مستبشرين فرحين أن يُخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ قالوا: نعم ربنا، هذا الموت، فيأمر به فيُذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين كليهما: خلودٌ فيها تجدون، لا موت فيها أبدًا.

(الشرح)

وهذا الحديث صحيح أخرجه ابن ماجه في السنن، والإمام أحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، وصححه ابن حبان، وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة مرفوعًا، أخرجه البخاري في الصحيح من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، والحديث صحيح وفيه إثبات الجنة والنار، وفيه إثبات أن أهل الجنة مخلدون وأن أهل النار مخلدون، وأن الموت يُذبح، يؤتى به على هيئة كبش فيُذبح بين الجنة والنار، ويُقال: يا أهل الجنة، خلودٌ ولا موت، ويا أهل النار، خلودٌ ولا موت، فدل على أن الجنة والنار دائمتان لا تفنيان ولا تبيدان.

وفيه الرد على الجهم الذي يقول: إن الجنة والنار تفنيان، فأهل النار مخلدون وأهل الجنة مخلدون، يُذبح الموت، يأتي على صورة كبش، والله تعالى على كل شيء قدير، الله تعالى يجعل الموت وإن كان عرَضا يجعله الله عينًا، يقلب الله الأعراض أعيان وهو على كل شيء قدير لا يُعجزه شيء، الموت الآن ذات أم عرَض؟ عرَض، ولكن الله يجعله ذات يوم القيامة، يجعله عينا ذاتً على صورة كبش فيُذبح بين الجنة والنار فيقال: «يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت».

جاء في حديث آخر: «فيزداد أهل الجنة نعيما إلى نعيمهم، ويزداد أهل النار عذاب إلى عذابهم» نسأل الله السلامة والعافية من النار، ونسأله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.

فهذا الحديث دليل على أن الجنة والنار دائمتان أبدًا لا تفنيان، وفيه الرد على الجهم قبحه الله القائل: بأن الجنة والنار تفنيان، نسأل الله السلامة والعافية.

(المتن)

حدثني أبي، عن علي، عن أبي داود، عن يحيى قال: حدثنا عثمان، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، وكلٌ خالدٌ فيما هو فيه.

(الشرح)

الحديث هذا إسناده ضعيف فيه والد المؤلف وفيه علي بن الحسن المري، ويحيى بن سلام، وكلهم متكلم فيه، مثل إسناد ابن أبي عمير ضعيف، ولكن الحديث متنه صحيح أخرجه الشيخان: البخاري في الصحيح ومسلم في الصحيح، كلاهما من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، عن نافع، عن ابن عمر.

والحديث دليل على خلود أهل الجنة وخلود أهل النار، وأن الجنة والنار دائمتان لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان، وفيه الرد على الجهمية الذين يقولون بفنائهما.

(المتن)

يحيى قال: حدثنا نعيم بن يحيى، عن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان يشربون من أحدهما فتجري عليهم نضرة النعيم، فلا تغير أبشارهم ولا تشعّث أشعارهم بعدها.

(الشرح)

تشعَّث أصلها تتشعث، حُذفت إحدى التاءين، ولا تشعث يعني: لا يحصل لها تشعث.

(المتن)

ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من أذى وقذى، ثم تستقبلهم الملائكة خزنة الجنة فيقولون لهم: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِين [الزمر/73].

(الشرح)

والشاهد قول المؤلف: طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِين [الزمر/73] .

وأن الجنة مخلدٌ أهلها لا تفنى، لكن هذا الحديث إسناده ضعيف تقدم بيان ما فيه من العلل؛ لأنه موصول بالإسناد السابق، والد المؤلف وعلي بن الحسن وأبي داود كلاهما متكلم فيهم، وفيه أيضًا نُعيم بن يحيى السعيدي، وفيه أيضًا عنعنة زكريا بن أبي زائدة، وفيه أيضًا سماعٌ من أبي إسحاق، كذلك فيه كلام، وفيه وإسحاق السبيعي ثقة إلا أنه مدلس، اختلط، فالحديث ضعيف، وقد أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير، لكن معناه صحيح وهو: أن أهل الجنة مخلدون فيها، دلت على ذلك نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ إلا أن هذا الحديث ضعيف الإسناد.

(المتن)

يحيى قال: وحدثني سعيد، عن قتادة أن عبد الله بن عمرو قال: ما نزل على أهل النار آية أشد من قوله: فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا [النبأ/30] قال: فهم في زيادة من العذاب أبدا.

(الشرح)

وهذا الحديث إسناده ضعيف أيضًا، فيه العلل السابقة، وهو موصول بالإسناد السابق، فيه والد المؤلف وفيه علي بن الحسن المري ويحيى بن سلام متكلم فيهم، ثم أيضًا رواه قتادة، رواه معنعنًا عن عبد الله قال: أن عبد الله قال: (ما نزل على أهل النار آية أشد من قوله: فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا [النبأ/30], قال: فهم في زيادة من العذاب أبدا).

وهذا الأثر وإن كان ضعيف إلا أن الآية كافية، الآية وحدها كافية: (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا)  [النبأ/30] ، دليل على أن أهل النار في عذاب دائم، وأن النار لا تفنى، ولو كانت تفنى لخف عليهم العذاب بعد مدة.

قوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا [النبأ/30]

مثل قوله تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء/97]

 دل على أن أهل النار مخلدون فيها أبد الآباد، وهذا فيه الرد على الجهمية القائلين بأن النار تفنى، نسأل السلامة والعافية.

(المتن)

يحيى، وقال سفيان: بلغني أنه إذا خرج من النار من أُخرج فلم يبق فيها إلا أهل الخلود، فعند ذلك يقول أهل النار: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُون [المؤمنون/107] .

فيقول الله: اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُون [المؤمنون/108], فإذا قال ذلك أُطبقت عليهم فلم يخرج منها أحد.

(الشرح)

وهذا الأثر عن سفيان ضعيف أيضًا، فيه العلل السابقة، فيه والد المؤلف، وفيه ابن الحسن المري، وعن يحيى بن سلام، ثم أيضًا رواه سفيان بلاغًا، قال: (بلغني أنه إذا خرج من النار لم يبق إلا أهل الخلود) فعند ذلك يقول أهل النار: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون/107] .

فيقول الله: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون/108]

 فإذا قال لهم اخسئوا أُطبقت عليهم النار.

هذا وإن كان هذا الأثر ضعيفا، لكن الآيات كافية في أن أهل النار يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون/107]

 فيقول الله قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون/108]

هذا دليل على مكثهم وأنهم مستمرون ولا يخرجون منها أبد الآباد، فهو دليل على أن النار باقية لا تفنى، وفيه الرد على الجهمية القائلين بأنها تفنى, فالآية القرآنية كافية في هذا، أما هذا الأثر فهو ضعيف.

(المتن)

قال يحيى: وبلغني عن ابن مسعود قال: إذا بقي في النار من يخلد فيها فجعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، فلا يرون أحدا يعذب في النار غيرهم لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُون [الأنبياء/100].

(الشرح)

نسأل الله السلامة، هذا الأثر موصول بالإسناد السابق، وفيه العلل السابقة، والد المؤلف وعلي بن الحسن المري ويحيى بن سلام، وكلهم ضعفاء، ثم أيضًا هذا رواه يحيى قال: بلغني عن ابن مسعود، وهو منقطع، وهو أثر ضعيف، ولكن خلود أهل النار دلت عليه نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ بقطع النظر عن هذا الأثر هل يصح أم لا يصح، هذا الأثر لا عبرة به، لكن العبرة بالنصوص، ومنها هذه الآية التي جاءت في أهل النار: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ [الأنبياء/100] نسأل الله العافية، فهذا دليل على مكثهم واستمرارهم، فالنار باقية أبد الآباد، وكذلك الجنة باقية أبد الآباد.

(المتن)

 قال رحمه الله:

باب في الإيمان بالحفظة.

قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بالحفظة الذين يكتبون أعمال العباد، وقال تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين*كِرَامًا كَاتِبِين [الانفطار/10-11] .

وقال: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد [ق/18] .

(الشرح)

هذا الباب الثالث عشر من أبواب هذا الكتاب "أصول السنة في الإيمان بالحفظة"، والحفظة هم الملائكة الذين وكلوا بحفظ ابن آدم، (قال محمد) وهو المؤلف محمد بن عبد الله بن أبي زمنين, (وأهل السنة يؤمنون بالحفظة، الذين يكتبون أعمال العباد) وقال تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار/10-11].

وقال: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق/18] .

فالحفظة ملائكة يحفظون ابن آدم: واحد أمامه، وواحدٌ من خلفه، كما قال سبحانه وتعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد/11].

قال: كثير من السلف: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُم مِّن [الرعد/11] .

يعني: أمامه ومن خلفه، من بين يديه يعني: أمامه، وخلفه يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه.

وهناك كتبة يكتبون الحسنات والسيئات، فالعبد بين أربعة أملاك: اثنان حفظة، واثنان كتبة. فالحفظة واحد أمامه، وواحد خلفه. والكتبة: واحد عن يمينه يكتب الحسنات، وآخر عن شماله يكتب السيئات؛ أربعة أملاك، فهو بين أربعة أملاك بالليل، وأربعة أملاك بالنهار، ثمانية، أربعة أملاك: حافظان، وكاتبان.

الظاهر من كلام المؤلف رحمه الله أن الحفظة هم الكتبة، قال: (وأهل السنة يؤمنون بالحفظة الذين يكتبون أعمال العباد) مستدلًا بالآية كِرَامًا كَاتِبِينَ ۝ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار/10-11].

سماهم الله حافظين لأنهم يحفظون أعمال بني آدم، ولكن الكتبة غير الحفظة الذين يحفظونه، الذين قال الله فيهم: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد/11] .

فالحفظة غير الكتبة، هناك حفظة وهناك كتبة، ويتعاقبون، وفي الحديث الصحيح: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر» في صلاة الصبح يجتمع الثمانية، «فيصعد ملائكة الليل ويبقى ملائكة النهار»، وفي صلاة العصر يجتمع الثمانية، «فيصعد ملائكة النهار ويبقى ملائكة الليل».

(المتن)

وحدثني أبي عن علي عن أبي داود، عن يحيى قال: أخبرنا عبد الله بن لهيعة، عن أبي يونس مولى أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ إن الملائكة تقول: ذلك عبدك يريد أن يعمل سيئة وأنت أبصر به، فيقول: ارقبوا، فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من خشيتي قال يحيى: فقال الحسن: الحفظة أربعة يعتقبونه ملكان بالليل، وملكان بالنهار، يجتمع هذه الأملاك أربعة عند صلاة الفجر، وهو قوله  تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء/78] .

(الشرح)

نعم، وهذا الحديث إسناده ضعيف وهو مرسل؛ لأنه من قول أبي يونس مولى أبي هريرة وهو تابعي، فهو مرسل، حذف الصحابي، سقط منه الصحابي فيكون مرسلًا، ثم أيضًا هو ضعيف، فيه والد المؤلف عبد الله متكلم فيه، وعلي بن الحسن كذلك متكلم فيه، وفيه ابن لهيعة احترقت كتبه فتغير بآخره، وهو أيضًا ابن لهيعة كذلك مدلس، فيكون مرسل وهذا مرسل ضعيف، وهذا الحديث من مراسيل أبي يونس، وهو سالم بن جبير الدوسي المصري.

ولكن الحديث له شاهد من حديث أبي هريرة  في الصحيحين، أخرجه البخاري من طريق قتيبة بن سعيد، قال: «حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن ابن الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة  مرفوعًا» بنحوه، وأخرجه الإمام مسلم أيضًا من طريق محمد بن رافع قال: «حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة بنحوه مرفوعًا».

يعني: الحديث له شاهد في الصحيحين، من حديث أبي هريرة في الصحيحين، لكن هذا الحديث سنده ضعيف وهو مرسل، ولكن ما دل عليه صحيح، وهو أن الملائكة ترقب أعمال العبد، وأن الملائكة تقول: ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وأنت أبصر به الخطاب للرب سبحانه وتعالى، فيقول الرب سبحانه: ارقبوا، فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها يعني: السيئة، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من خشيتي وفي اللفظ الآخر: فإنما تركها من جرائي .

فالعبد إذا هم بالحسنة ولم يعملها فهذا فيه تفصيل: إن تركها خوفًا من الله، فإنها تكتب له حسنة، كما في هذا الحديث: «فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من خشيتي» وفي لفظ: «فإنما تركها من جرائي» وإن تركها عجزًا عنها وفعل ما يمكنه فعله من الأسباب ولكن عجز، فإنها تكتب عليه سيئة، لقوله ﷺ في الحديث الصحيح: القاتل والمقتول في النار, قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه.

فهذا القاتل في النار، لكن المقتول ما ذنبه؟ ذنبه أنه حريص على أن يقتل صاحبه، وبذل الأسباب إلا أنه سبقه صاحبه فقتله، فكُتب عليه حرصه وبذله الأسباب في قتل أخيه فصار في النار، وأما إذا تركها إعراضًا عنها فلا تكتبوها، لا عليه ولا له.

فعلى هذا السيئة إذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإن تركها ففيه تفصيل: إن تركها خوفًا منه الله كتبت له حسنة، وإن تركها عجزًا عنها كتبت عليه سيئة، وإن تركها إعراضًا لا تكتب لا له ولا عليه، وأما الحسنة فإذا هم بها كتبت له حسنة، وإن هم بها وعملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وأما السيئة إذا عملها تكتب له سيئة واحدة، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه.

وأما قوله: (قال يحيى :قال الحسن: الحفظة الأربعة يعتقبونه: ملكان بالليل، وملكان بالنهار، يجتمع هذه الأملاك الأربعة عند صلاة الفجر) وهو قوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودً [الإسراء/78] .

قرآن الفجر يعني: صلاة الفجر, سميت صلاة الفجر قرآن؛ لأن أطول ما فيها القراءة، كان مشهودًا يعني: تشهده الملائكة وتحضره، فصلاة الفجر تسمى قرآن الفجر، لماذا؟ لأن أطول ما فيها القراءة؛ لأنه يشرع في صلاة الفجر القراءة، تطويل القراءة، كان النبي ﷺ يقرأ في الركعة من الستين إلى المائة، والصواب أن الملائكة الذين يتعاقبون ثمانية: أربعة بالليل، وأربعة بالنهار، اثنان حفظة، واثنان كتبة.

(المتن)

 يحيى: حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، أن عائشة رضي الله عنها قالت: «الذكر الذي لا تسمعه الحفظة، يضاعف على الذي تسمعه الحفظة بسبعين ضعفًا، فإذا كان يوم القيامة قال الله للعبد: لك عندي كنز لم يطلع عليه أحد غيري، وهو الذكر الخفي» قال يحيى: قوله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [ق/17] الملكان الكاتبان الحافظان.

(الشرح)

الحديث موصول بالسند السابق، وهو قول المؤلف: حدثنا أبي، عن علي، عن أبي داود، عن يحيى، قال: (حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال) فالحديث ضعيف فيه علل، فيه والد المؤلف متكلم فيه، وفيه علي بن الحسن المري متكلم فيه، وفيه أيضًا ابن لهيعة ضعيف، وفيه أيضًا سعيد بن أبي هلال لم يدرك عائشة، منقطع، ففيه علل.

وأيضًا في متنه نكارة الحديث، ليس هناك ذكر لا تسمعه الحفظة، الحفظة يكتبون كل شيء، (والذكر الذي لا تسمعه الحفظة يضاعف على الذي تسمعه الحفظة بسبعين ضعفًا) هذا ليس بصحيح، المتن هذا فيه نكارة، ليس هناك شيء لا تسمعه، كل شيء يسمعه الملكان، يكتب الملكان كل شيء، يكتبون القول والفعل والنية أيضًا، جعل الله لهم علامة فبها يعرفون نية الإنسان، يعلمون ما ضميره، جعل الله لهم علامة يعرفون بها ما في نيته، ما في ضميره من النية السيئة ومن النية الحسنة، وهذا الحديث فيه أن هناك ذكر لا تسمعه الحفظة، وهذا منكر مخالف للنصوص، ليس هناك شيء لا تسمعه الحفظة، كل شيء تسمعه الكتبة، يكتبون كل شيء: القول، والفعل، والنية. كما قال: الله تعالى: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد [ق/18].

وهذا الحديث يخالف الآية, الآية فيها أنه ما يلفظ الإنسان من شيء سرًا أو جهارًا إلا تكتبه الحفظة، وهذا الحديث يثبت أن هناك ذكر لا تسمعه الحفظة، هذا منكر، فالحديث ضعيف، سندًا ومتنًا، وليس هناك شيء لا تسمعه الحفظة، بل كل شيء تسمعه الكتبة، كل شيء، خفي أو جهار، لقول الله عزوجلمَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق/18] من "قول" هذه نكرة في سياق النفي، والقاعدة عند أهل الأصول: أن النكرة في سياق النفي تعم، عامة.

ما يلفظ منكم أي قول, هذه نكرة، أي قول قليلًا أو كثيرًا، سرًا أو جهارًا، حسنًا أو قبيحًا، كل شيء تسمعه الملائكة وتكتبه.

وهذا الحديث يقول: «الذكر الذي لا تسمعه الحفظة يضاعف على الذي تسمعه بسبعين ضعفًا، فإذا كان يوم القيامة قال الله للعبد: لك عندي كنز لم يطلع عليه أحد غيري، وهو الذكر الخفي» هذا منكر، هذا فيه نكارة، فهو شاذ، فمتنه شاذ مخالف للنصوص من الكتاب والسنة، التي فيها أن الملائكة تكتب كل شيء، وليس هناك شيء خفي لا تكتبه الملائكة، فالحديث سنده ضعيف ومتنه شاذٌ منكر، فلا يصح.

(المتن)

قال يحيى: قوله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [ق/17] .الملكان الكاتبان الحافظان: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد [ق/17] رصيد يرصده .

مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد [ق/18]  أي: حافظ حاضر يكتبان كل ما يلفظ به.

قال يحيى: قال مجاهد: "يكتبان حتى أنينه", يحيى قال: قال الخليل بن مرة بإسناد ذكره: "أُمر صاحب الشمال أن يكتب ما لا يكتبه صاحبه".

(الشرح)

قال: يحيى قوله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [ق/17] . فسّر قال: الملكان الكاتبان الحافظان: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق/17] رصيد يرصده.

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق/18] أي: حافظ يكتب كل ما يلفظ به, هذا فيه إبطال لما دل عليه الحديث السابق, الآية: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق/18]  تبطل ما دل عليه الحديث السابق من أن هناك ذكرا لا تكتبه الحفظة، خفي لا تعلمه، "ما يلفظ من قول إلا لديه" حافظ حاضر يكتبه.

قال يحيى: (قال مجاهد: "يكتبان حتى أنينه") يعني: أنين المريض يكتب, قال يحيى: (قال الخليل بن مرة بإسناد ذكره: "أمر صاحب الشمال أن يكتب ما لا يكتبه صاحبه") وهذا الخليل بن مرة ضعيف، فلا يعول على هذا, ("أمر صاحب الشمال أن يكتب ما لا يكتبه صاحبه)، كل له اختصاصه، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات.

(المتن)

وحدثني نعيم بن يحيى، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أعمال العباد تعرض كل يوم اثنين وخميس، فيجدونه على ما في الكتاب".

يحيى: وفي تفسير الكلبي أنه إذا عرضت الأعمال فما لم يكن منها خيرًا ولا شرًا محي فلم يثبت، وذلك كل اثنين وخميس.

(الشرح)

هذا الأثر (عن نعيم بن يحيى، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس) فيه عنعنة الأعمش، والأعمش مدلس، وإن كان تدليسه قليل، ثم هو منقول عن ابن عباس، قال: "أعمال العباد تعرض كل يوم اثنين وخميس، فيجدونه على ما في الكتاب", وهذا المعنى جاء في أحاديث، قوله عليه الصلاة والسلام: «تعرض الأعمال على الله كل يوم اثنين وخميس، وأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم».

وقال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أعمال العباد تجمع جملة وتفصيلًا، فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار، وأعمال النهار قبل أعمال الليل، وتُعرض الأعمال على الله في كل اثنين وخميس", هذا كله جاءت به الأحاديث الصحيحة.

وجاء هذا في حديث أبي موسى في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور» وفي لفظ: «النار ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

معروف أن تفسير الكلبي هذا عن ابن عباس هذا لا يعول عليه، بل العلماء حكموا عليه بالوضع.

(المتن)

باب في الإيمان بقبض ملك الموت الأنفس.

قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بأن ملك الموت يقبض الأنفس، وقال عزوجل: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة/11] .

فإذا قبض نفسًا مؤمنة، دفعها إلى ملائكة الرحمة، وإذا قبض نفسًا كافرة أو فاجرة، دفعها إلى ملائكة العذاب، وهو قوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون [الأنعام/61] .

بل يقبضونها من ملك الموت، ثم يصعدون بها إلى الله، وذلك قوله: ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ [الأنعام/62] .

(الشرح)

هذا الباب في الإيمان في قبض ملك الموت الأنفس، والأنفس جمع نفس وهي الروح، تسمى نفس وتسمى روحًا، وأغلبها تسمى روحًا إذا كانت منفردة، وإذا كانت في الجسم تسمى نفسًا، يجب على المؤمن أن يؤمن بأن ملك الموت يقبض الأرواح إذا جاء الأجل، لقول الله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة/11].

ولهذا قال المؤلف: (قال محمد) يعني: المؤلف وهو محمد بن عبد الله بن أبي زمنين، قال: (وأهل السنة يؤمنون بأن ملك الموت يقبض الأنفس) يعني: الأرواح, قال: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة/11].

(فإذا قبض نفسًا مؤمنة دفعها إلى ملائكة الرحمة، وإذا قبض نفسًا كافرة أو فاجرة دفعها إلى ملائكة العذاب) كما قال الله تعالى تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الأنعام/61] .

إذًا هناك ملائكة وكلوا بالموت، ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، لكن مقدمهم ملك الموت، هو الذي يباشر قبضها، ثم يدفعها إلى ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، ثم قال تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الأنعام/61] .

فيقبضونها من ملك الموت، ثم يصعدون بها إلى الله، وذلك قوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام/62] .

ولهذا العلماء بينوا هذا في عقائدهم، قال المقدسي في الاقتصاد: "ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى عليه الصلاة والسلام فصكه ففقأ عينه"، كما صح عن رسول الله ﷺ وقال الطحاوي: "ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين".

(المتن)

وأخبرني أبي عن علي عن أبي داود، عن يحيى قال: حدثنا عاصم عن الحكم، أن مجاهدا قال: "حويت الأرض لملك الأرض، فجعلت مثل الطست ينهل منها ما يشاء". قال يحيى: بلغني والله أعلم أنه يقبض روح كل شيء في البر والبحر، وبلغني أن لملك الموت أعوانًا من الملائكة هم الذين يسلبون الروح من الجسد، حتى إذا كان عند خروجه قبضه ملك الموت، وهم لا يعلمون آجال العباد، حتى يأتيهم على ذلك من قبل الله.

(الشرح)

وهذا الأثر عن مجاهد سنده ضعيف، فيه عدة علل: في إسناده والد المؤلف ابن أبي زمنين وفي إسناده علي بن الحسن المري وهو ضعيف، وفي إسناده يحيى بن سلام متكلم فيه، وهذا الأثر أخرجه أبو الشيخ في كتاب "العظمة" من طريق أخرى عن القاسم بن أبي بزة، وهو موقوف على مجاهد، وهو مقطوع.

كلام مجاهد يقول: (حويت الأرض لملك الأرض، فجعلت مثل الطست ينهل منها ما يشاء) هذا كلام مجاهد، الله أعلم بهذا، وهل أخذه عن بني إسرائيل؟ ولاشك أن ملك الموت أعطاه الله القدرة على قبض أرواح بني آدم في جميع أنحاء الأرض، والملك خلقه عظيم، الملائكة خلقهم عظيم، ليسوا كالبشر كما قال الله تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [فاطر/1] .

فالملائكة خلقهم عظيم، فالله تعالى أعطاهم القدرة على السيطرة على بني آدم في أي مكان من الأرض، إذا جاء الأجل يقبض ملك الموت الروح.

ثم ذكر يحيى قال: (بلغني )هذا بلاغ, (أنه يقبض روح كل شيء في البر والبحر) هذا لاشك فيه، هذا الذي بلغه صحيح، وكذلك قال: (وبلغني أن لملك الموت أعوانًا من الملائكة) نعم هذا جاءت به الأدلة، كما قال الله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) الملاك، ملاك الموت له أعوان، هو الذي يتولى قبضها، وله أعوان يساعدونه، فإذا قبضها دفعها إلى ملائكة الرحمة وملائكة العذاب كما سبق.

(المتن)

قال محمد: وحدثني أبي عن سعيد بن فحلون، عن العناقي، عن عبد الملك قال: حدثني أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن القاسمي، عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ قرأ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ [الأنعام/93] .

ثم قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده ما منكم من يسر بفراق روحه جسده، حتى يرى أي المنزلتين يصير، وإنه إذا نزل به الموت» ثم ذكر حديثًا وفيه طول، وفيه: «إن الملائكة يسلون النفس شيئًا شيئا، حتى تبلغ ذقنه، فيتولى قبضه ملك الموت الذي وكل بها وينزع هذه الآية: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة/11] .

(الشرح)

هذا الأثر موقوف على أبي أمامة الصحابي الجليل، وسند هذا الأثر سنده ضعيف، فيه والد المؤلف: ابن أبي زمنين، وفيه كذلك سعيد بن فحلون في كلام أبي عثمان، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، متكلم عن أفعاله من قبل حفظه، وفيه عبد الملك بن حبيب الأندلسي، قال الحافظ: صدوق ضعيف الحفظ، كثير الغلط.

فهذا الأثر ضعيف، سنده ضعيف، ثم هو موقوف على أبي أمامة الصحابي الجليل، مرسل من كلام أبي أمامة، فهو مرسل، وهذا الأثر فيه تفسير لهذه الآية، وهي قول الله تعالى: وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ [الأنعام/93] .

ثم قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده، ما منكم من يسر بفراق روحه جسده حتى يرى أي المنزلتين يصير يعني: إما إلى الجنة وإما إلى النار, والمعنى: يكشف له المستقبل عند الموت, وهذا جاء في الحديث.

هذا صحيح جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: أكراهية الموت يا رسول الله، فكلنا نكره الموت؟ فقال: لا، ولكن المؤمن إذا حضره الأجل كُشف له عن مستقبله، فحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، والفاجر إذا حضره الموت كُشف له عن مستقبله، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه يعني: الإنسان يُكشف له عن مستقبله إذا حضره الموت.

هذا جاء في هذا الأثر دلت عليه الأحاديث، ولهذا قال:«والذي نفسي بيده، ما منكم من يُسر بفراق روحه جسده حتى يرى أي المنزلتين يصير، وأنه إذا نزل به الموت» ثم ذكر حديثا وفيه: إن الملائكة يسلون النفس شيئًا شيئا، حتى تبلغ ذقنه، فيتولى قبضه ملك الموت الذي وكل بها نعم هذا صحيح، يتولى قبضها ملك الموت، (وينزع هذه الآية) يعني: يستدل بهذه الآية: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة/11] .

 يعني أن أبا أمامة إذا قال هذا الكلام ينزع بهذه الآية يعني: يستدل بهذه الآية قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة/11], هذا الأثر وإن كان ضعيف لكن معناه صحيح.

والآية كافية: وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ [الأنعام/93] يعني: أخرجوا أرواحكم, فالملائكة تبسط أيديهم لإخراج الروح، لإخراج أرواح الظالمين، قال: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ [الأحقاف/20] وهذا فيه الدليل على عذاب القبر أيضًا.

(المتن)

باب في الإيمان بسؤال الملكين.

قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بأن هذه الأمة تفتن في قبورها وتسأل عن النبي ﷺ كيف شاء الله، ويصدقون بذلك بلا كيف، قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم/27] .

(الشرح)

هذا الباب الخامس عشر في الإيمان بسؤال الملكين، يعني: من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بسؤال الملكين، ويسمى فتنة القبر، الافتتان: الاختبار، الملائكة يختبرون الإنسان ويسألونه عن ربه وعن دينه وعن نبيه، هذه فتنة، أن نؤمن بفتنة القبر، ونؤمن بسؤال الملكين، ونؤمن بفتنة القبر، يعني: الاختبار، فتنة القبر: اختبار الملكين للإنسان.

  • يسأل ثلاثة أسئلة:

السؤال الأول: من ربك؟.

والسؤال الثاني: ما دينك؟.

السؤال الثالث: من نبيك؟.

هذه الأصول الثلاثة، ولهذا ألف إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رسالة صغيرة سماها "الأصول الثلاثة"، الأصل الأول: معرفة الإنسان لربه، والأصل الثاني: معرفة الإنسان دينه، والأصل الثالث: معرفة الإنسان لنبيه، هذه الأصول الثلاثة التي يُسأل عنها الإنسان في قبره، فالمؤمنون يثبتهم الله، والكافرون يضلهم الله، نعوذ بالله.

(قال محمد) هو المؤلف ابن أبي زمنين, (وأهل السنة يؤمنون بأن هذه الأمة تُفتن في قبورها) تُفتن يعني: تُختبر وتُسأل, تُسأل عن أي شيء؟ تُسأل عن ربها وعن دينها وعن نبيها، ثلاثة أسئلة، هذه تسمى فتنة القبر، وتسمى السؤال.

ولهذا قال المؤلف: (وتسأل عن النبي ﷺ كيف شاء الله، ويصدقون بذلك بلا كيف) يعني: أهل السنة يصدقون ويؤمنون بأن الميت يُفتن ويُسأل ولا يكيفون، لا نعلم الكيفيات، كيف يُفتن؟ كيف يجلس؟ وكيف يدخل الملائكة القبر؟ القبر صغير المسافة كم؟ متر في نصف متر، وأُغلق عليه، وعليه الطين، كيف يجلس؟ وكيف يدخل الملائكة وهم عظام أجسامهم؟ الملائكة كبار كيف يدخلون عليه، وهو مغلق عليه؟ وكيف يُجلسونه؟ وكيف يتكلم وما فيه روح؟.

هذا ما يقوله الإنسان، المؤمن يقول: آمنت بالله ورسله, يصدق المؤمن والله على كل شيء قدير، أحوال الآخرة ليست مثل أمور الدنيا، ولهذا تجد القبرين أحدهما بجوار الآخر، وهذا وسع له في قبره مد البصر، والآخر ضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، ولو فتحت القبرين ما وجدت فرقًا بينهما؛ لأنك من أهل الدنيا، أحوال الآخرة ما تقاس بأحوال الدنيا.

فأهل السنة يقولون: نؤمن، نصدق بذلك بلا كيف، قال الله عزوجل ؛ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم/27] .

وأهل السنة كلهم ذكروا هذا في عقائدهم، قال الطحاوي في عقيدته: ونؤمن بعذاب القبر لمن كان له أهلًا، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه، ودينه، ونبيه، على ما جاءت به الأخبار، عن رسول ﷺ وعن الصحابة رضوان الله عليهم والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران.

قال ابن أبي العز في شرحه: قد تواترت الأخبار عن رسول الله ﷺ في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، لماذا؟ قال: ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، ما يعرف؛ لأنه ما رأى هذا في هذه الدار في الدنيا، أحول البرزخ تختلف عن أحوال الدنيا، ولا تقاس أحوال البرزخ على أحوال الدنيا، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول.

(المتن)

وحدثني أبي عن سعيد، عن العناقي، عن عبد الملك، عن عبد العزيز الأويسي، عن محمد بن عمير، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله ﷺ قال: إنما فتنة القبر بي، فإذا سُئلتم عني فلا تشكوا، قالت: فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع وأنا امرأة ضعيفة؟ قال: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ [إبراهيم/27].

(الشرح)

وهذا السند ضعيف، فيه عدة علل كما تقدم: فيه والد المؤلف، وفيه أيضًا ابن عمير، فيما تقدم من العلل ابن جدعان، والحديث أخرجه البزار والبيهقي في عذاب القبر من طرق أخرى عن عائشة، فالحديث وإن كان في سنده ضعف إلا أن معناه صحيح، وهو أن الإنسان يفتن في قبره ويُسأل عن النبي ﷺ كما يُسأل عن ربه وعن دينه.

فالمعنى صحيح وإن كان سنده ضعيف، وهو أن الإنسان يفتن في قبره، ويُسأل عن ربه وعن دينه وعن نبيه، إلا الشهيد الذي قتل في المعركة لإعلاء كلمة الله، فإنه يقيه الله فتنة القبر، قيل للنبي ﷺ: أيفتن الشهيد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة .

هذا الشهيد الذي قتل في المعركة لإعلاء كلمة الله يؤمن من فتنة القبر، ولهذا جاء في الحديث بيان كرامات الشهيد أنه يعطى كذا، ويأمن الفتان يعني: فتان القبر يؤمن، قيل: «يا رسول الله أيفتن الشهيد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة» يعني: أُسقط عنه السؤال بسبب القتل ببارقة السيف على رأسه.

(المتن)

عبد الملك قال: وحدثني أسد بن موسى عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار أن رسول الله ﷺ قال لعمر: كيف يا عمر إذا دخلت قبرك ودخل عليك فتانا القبر: منكر، ونكير؟ قال: وما منكر ونكير يا رسول الله؟ قال: ملكان أسودان أزرقان، يطآن شعورهما ويكسحان الأرض بأنيابهما، معهما مرزبة من حديد، لو اجتمع عليها أهل منى لم يطيقوها، وهي أهون عليهما من هذا، ورفع شيئًا من الأرض، وذلك فيه، قال عمر: فكيف أنا يومئذ يا رسول الله؟ قال كهيئتك اليوم؟ قال: إذا أكفيكهما يا رسول الله».

(الشرح)

هذا الحديث مرسل من كلام عمر وإسناده فيه ضعف كما سبق في الأسانيد السابقة، والحديث أخرجه عبد الرزاق في المصنف، وذكره الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية"، وعمرو بن دينار لم يسمع من البراء بن عازب ولا من أبي هريرة، وبالأولى عدم سماعه من الرسول ﷺ فيكون منقطع، فيه انقطاع، فهو ضعيف، الحديث ضعيف، لكن سنده ضعيف، لكن فتان القبر ثابت، فتنة القبر ثابتة، وأن القبر له ملكان، وأن أحدهما يقال له منكر، والآخر يقال له النكير، وأنهما يسألان الإنسان عن ربه وعن دينه وعن نبيه، هذا له شواهد، تشهد له النصوص الكثيرة.

وأما ما جاء في هذا الحديث: أنهما ملكان أسودان أزرقان يطآن شعورهما، ويكسحان الأرض بأنيابهما جاء في هذا السند الضعيف، وأما قوله: «معهما مرزبة من حديد» جاء في بعض الأحاديث له شواهد، المقصود أن فتنة القبر ثابتة في نصوص كثيرة، أما هذا الأثر فهو منقطع.

(المتن)

وحدثني أبي عن علي عن أبي داود، عن يحيى قال: حدثني ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ إن هذه الأمة تبتلى في قبورها إذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه، جاه ملك شديد الانتهار فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: أقول إنه رسول الله وعبده، فيقول له الملك: انظر إلى مقعدك الذي كان لك من النار، قد أعاذك الله منه، وأبدلك بمقعدك الذي في النار مقعدك الذي ترى من الجنة، فيراهما كليهما فيقول المؤمن: دعوني أبشر أهلي، فيقال له: اسكن، وأما المنافق، فيُقعد إذا تولى عنه أهله فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، أقول ما يقول الناس, فيقال له: لا دريت، هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة، قد أُبدلت مكانه مقعدًا من النار.

قال جابر: وسمعت النبي ﷺ يقول: يبعث كل عبد في القبر على ما مات عليه.

(الشرح)

وهذا الأثر عن جابر مرفوع إلى النبي ﷺ هذا المتن صحيح، ولكن الإسناد ضعف، ففيه والد المؤلف علي بن الحسن، وفيه ابن لهيعة، وفيه أبو الزبير، مدلس وقد عنعن، فالأثر ضعيف السند، لكن المعنى صحيح، دلت عليه الأدلة، تشهد له الأدلة، قوله: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها» هذا حق، تُبتلى يعني: تختبر, تختبر بأن تُسأل، كل واحد يسأل عن ربه وعن دينه وعن نبيه.

هذا هو الابتلاء، «إذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه، جاءه الملكان، فيجلسوه ويسألوه عن ربه وعن دينه، فيقال: «ما كنت تقول في هذا الرجل؟» يعني: محمدًا عليه الصلاة والسلام؟ فالمؤمن يقول: «إنه رسول الله وعبده, فيقول له الملك: انظر إلى مقعدك الذي كان لك من النار، أعاذك الله منه، وأبدلك بمقعدك من الجنة» يرى مقعدين واحد في النار، وواحد في الجنة، فيراهما جميعًا، هذا مقعدك من النار لو كنت كافرًا، أما الآن وقد هداك الله إلى الإسلام فهذا مقعدك من الجنة.

«وأما المنافق فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟» يعني: الرسول؟ فيقول: «لا أدري، وفي اللفظ الآخر: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيقول: لا دريت» يعني: لا علمت، ثم يريه مقعده من الجنة ويقول له: لو كنت مؤمنا لكان هذا مقعدك أما الآن إذ كفرت فهذا مقعدك من النار.

وفي لفظ الآخر: «أن الملكين يضربانه بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعه كل من خلق الله إلا الإنسان» نسأل الله السلامة والعافية.

وهذا الحديث أيضًا في سنده ابن لهيعة أيضًا، والحديث أخرجه أحمد في المسند، وابنه عبد الله في السنة، والطبراني في الأوسط، كلهم من طريق ابن لهيعة، وأما قوله: قال جابر: سمعت النبي ﷺ يقول: يبعث كل عبد في القبر على ما مات عليه هذا أخرجه مسلم في الصحيح من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعا، بدون لفظة: "في القبر". «يبعث كل عبد على ما مات عليه» بدون كلمة: "في القبر".

وعند الطبراني صحيح: «يبعث كل عبد على ما مات عليه» قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وللحديث شاهد من حديث أنس مرفوعا أخرجه مسلم في الصحيح.

(المتن)

باب في الإيمان بعذاب القبر.

قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بعذاب القبر، أعاذنا الله وإياك من ذلك، قال عزوجل: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه/124] .

وقال: سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم [التوبة/101].

(الشرح)

وهذا الباب السادس عشر في الإيمان بعذاب القبر، لو قال في الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، الأَولى أن المؤلف يقول: الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، هذا هو الأولى؛ لأن القبر إما نعيم أو عذاب، روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، كان الأولى بالمؤلف أن يقول: باب في الإيمان بعذاب القبر ونعيمه.

(قال محمد( يعني: المؤلف, (وأهل السنة يؤمنون بعذاب القبر، أعاذنا الله وإياك من ذلك) قال الله عز وجل: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ [طه/124] .

استدل بقوله: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ [طه/124] يعني: المعيشة الضنكة في القبر. والأقرب والله أعلم أن المراد بمعيشة ضنكا ما يكون في الدنيا قبل القبر، فالكافر له معيشة ضنكا بما يجعل الله في نفسه من الكآبة والهموم ونكد العيش، وعدم الراحة والطمأنينة، هذا في الدنيا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ [طه/124] .

ثم قال وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ [طه/124] .

 وقال: سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم [التوبة/101] مرتين المرة الأولى في الدنيا بما حصل لهم في غزوة بدر من القتل، والثانية في القبر، هناك أدلة تدل على عذاب القبر استدل بها المؤلف واضحة في القرآن، مثل الآية التي مرت: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام/93] .

هذا عذاب القبر، ومثل قوله تعالى في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر/46] .

ومثل قوله تعالى: وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال/50] .

هذا عند القبر، هذا كله من عذاب القبر، هذه الآيات واضحة، أوضح مما استدل به المؤلف، ما أتى إلا بآيتين، كان الأولى بالمؤلف أن يأتي بهذه الآيات؛ لأنها كلها صريحة في إثبات عذاب القبر، أما قوله: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ [طه/124] فالأقرب أنها في الدنيا هذه.

أما قوله: سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ [التوبة/101], نعم الآية فيها دليل على عذاب القبر، مرة في الدنيا بما يصيبه من القتل والجراح وتسليط المؤمنين عليهم، والمرة الثانية في القبر.

(المتن)

وحدثني أحمد بن مطرف، عن عبيد الله بن يحيى، عن أبيه، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي ﷺ: «أن يهودية جاءتها تسأل، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر» وذكر الحديث وفي آخره: «أن رسول الله ﷺ أمر الناس أن يتعوذوا بالله من عذاب القبر».

(الشرح)

وأهل السنة يؤمنون بعذاب القبر ولا ينكرونه، لما ورد في القرآن وفي السنة، ولهذا ذكر ابن أبي حاتم أنه سأل قال: سألت أبي وأبا زرعة من مذاهب أهل السنة وما درك عليه العلماء في جميع الأمصار: حجازًا، وعراقًا، ومصرًا، وشامًا، ويمنًا, فكان من مذاهبهم: وعذاب القبر حق, قال أبو بكر الإسماعيلي في اعتقاد أئمة الحديث: ويقولون: إن عذاب القبر حق، يعذب الله به من استحقه إن شاء، وإن شاء عفا عنه.

أما هذا الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله فإنه من رواية عائشة رضي الله عنها: «أن يهودية جاءت تسأل رسول الله ﷺ» الحديث متنه صحيح أخرجه الشيخان، لكن السند ضعيف، السند ضعيف، والحديث متنه صحيح، وأخرجه البخاري في الصحيح، وأخرجه أيضًا مسلم في الصحيح من طريق سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة: «أن يهودية جاءت تسأل فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر». فأنكرت عليها عائشة، فلما جاء النبي ﷺ أخبرها، قال: إن عذاب القبر حق وأمر الناس أن يتعوذوا بالله من عذاب القبر.

والحديث أيضًا أخرجه مالك في الموطأ بهذا السند، الحديث ليس ضعيفًا، ولكنه حسن، الحديث حسن بهذا السند حسن، ولكن متن الحديث أخرجه الشيخان: البخاري، ومسلم, ومن أصح الأحاديث متنًا، أما السند فلا بأس برجاله، لا بأس بهم، فيكون حسنًا، ومتنه صحيح، رواه الشيخان.

(المتن)

مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: صليت وراء أبي هريرة  على صبي لم يعمل خطيئة قط، سمعته يقول: "اللهم أعذه من عذاب القبر".

(الشرح)

وهذا الحديث أيضًا كذلك لا بأس بسنده، سنده حسن، وهو موقوف على أبي هريرة، فيكون صحيح موقوف، وفيه أن أبا هريرة صلى على صبي وقال: "اللهم أعذه من عذاب القبر", جاء في الحديث الآخر الذي سئل عن أطفال المشركين قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» .

والحديث فيه دليل على ثبوت عذاب القبر، كما بوبه المؤلف رحمه الله تعالى، وهذا معروف عند أهل السنة والجماعة، والنصوص في هذه واضحة، النصوص التي فيها إثبات عذاب القبر ونعيمه جاءت في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة، فهي ثابتة متواترة.

(المتن)

وحدثني أبي، عن علي، عن أبي داود، عن يحيى، عن عبد الله بن عروة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قال رسول الله ﷺ: مَعِيشَةً ضَنكًا [طه/124] عذاب القبر.

(الشرح)

وهذا ضعيف، التفسير عن رسول الله ﷺ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ [طه/124] عذاب القبر, هذا ضعيف، فيه عدة علل: فيه والد المؤلف، وفيه علي بن الحسن المري، وفيه يحيى بن سلام، وفيه أيضًا كذلك عبد الله بن عروة السدوسي، قال عنه الحافظ: ضعيف، ثم هو مرسل، من مراسيل أبي سلمة.

فلا يصح في تفسير قوله تعالى: مَعِيشَةً ضَنكًا عذاب القبر؛ لأن هذا السند ضعيف فيه علل كثيرة، والصواب أن المعيشة الضنك الحياة الدنيا، وأما عذاب القبر فأدلته كثيرة كما سمعتم: ولَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال/50] .

هذا بعد الوفاة، بعد الوفاة يأتي عذاب القبر: وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال/50] وهذا عذاب.

وقال عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر/46] ثم قال: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر/46] فدل على أن العرض قبل قيام الساعة، هذا في البرزخ.

(المتن)

وحدثني أبي، عن ابن فحلون، عن العناقي، عن عبد الملك رحمه الله، قال: عن يحيى بن سليم، عن سعيد بن جبير في قوله: مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُون [الروم/44] قال: يعني في القبر.

(الشرح)

وهذا أيضًا الإسناد ضعيف، فيه العلل السابقة، والد المؤلف، وفيه أيضًا يحيى بن سليم البصري، المعروف بيحيى البكي وهو ضعيف، ثم هو أيضًا من مراسيل سعيد بن جبير وهو تابعي فهو مرسل، وله شاهد من قول مجاهد أخرجه البيهقي في عذاب القبر، لكن هذا مرسل ضعيف؛ لأن سعيد بن جبير فسر هذه الآية: مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم/44] يعني: في القبر.

هذا ضعيف، والصواب أن: فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ في القبر وفي القيامة، عام؛ من آمن وعمل صالحا فإنه يمهد لنفسه في القبر وفي الجنة، عام.

(المتن)

قال عبد الملك رحمه الله: حدثني المكفوف، عن أيوب بن خوط، عن قتادة في قوله عزوجل سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم [التوبة/101] يعني: عذاب الدنيا.

وعذاب القبر ثم يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم) [التوبة/101] يعني: عذاب جهنم.

(الشرح)

وهذا الحديث سنده ضعيف، فيه ما في الإسناد السابق من العلل السابقة، ثم هو أيضا من مراسيل قتادة، لقوله سبحانه:

سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة/101] لكن هذا التفسير صحيح، وهو أن العذاب مرتين: مرة في الدنيا عذاب الدنيا، وعذاب القبر, سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ وهو عذاب جهنم، وهذا صحيح.

هذا المعنى واضح من الآية الكريمة، وأن العذاب مرتين: مرة في الدنيا، ومرة في القبر: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ هذا في عذاب جهنم، هذا صحيح، التفسير صحيح، ولكن السند ضعيف، وهو من مراسيل قتادة، ومراسيل قتادة ضعيفة، فالسند ضعيف، وأما التفسير فهو صحيح.

(المتن)

عبد الملك رحمه الله قال: وفتنة القبر وعذابه عند أهل السنة والإيمان بالله قوي ليس عندهم فيه شك، ومن كذب بذلك فهو من أهل التكذيب بالله، وإنما يكذب به الزنادقة الذين لا يؤمنون بالبعث، وقد طلع من كلامهم طرف رأيته دب في الناس، خفت عليهم من الضلال في دينهم وإيمانهم، فاحذروهم، فهم الذين قالوا: "إن الأرواح تموت بموت الأجساد، إرادة التكذيب بعذاب القبر وبما بعده".

(الشرح)

وهذا الكلام صحيح، قوله: (وفتنة القبر وعذابه عند أهل السنة والإيمان بالله قوي ليس عندهم شك، ومن كذب بذلك فهو من أهل التكذيب بالله، وإنما يكذب به الزنادقة الذين لا يؤمنون بالبعث) هذا كلام صحيح، هذا يبين عقيدة أهل السنة والجماعة، وأن فتنة القبر وعذابه عند أهل السنة حق، وأن الذي يكذب بذلك هم الزنادقة الملاحدة.

يقول المؤلف: (وقد طلع من كلامهم طرف رأيته دب في الناس، خفت عليهم من الضلال في دينهم وإيمانهم، فاحذروهم) هذه نصيحة من المؤلف، فهم الذين قالوا: (إن الأرواح تموت بموت الأجساد، إرادة التكذيب بعذاب القبر وبما بعده) هذا باطل، الأرواح ما تموت، قبض الأرواح معناه: خروجها من الجسد، وإذا خرجت الروح من الجسد، فإن روح المؤمن تُنقل إلى الجنة، تنعم، كما سبق في الحديث: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجع إلى جسده يوم يبعث» ولها صلة بالجسد، وأما روح الكافر فإنها تعذب في النار، تنقل إلى النار وتعذب ولها صلة بالجسد.

فالذي يقول: إن الروح تموت، هذا باطل، الروح ما تموت، الروح باقية إذا خرجت، إما في نعيم أو في عذاب, أما الجسد فهو الذي يبلى، يبلى ويصير ترابًا إلا عجب الذنب، ثم يُعيده الله، يبعثه الله يوم القيامة، يُعيد الذرات التي استحالت ترابًا، ويبعث الله الأجساد، ثم بعد ذلك ترد الأرواح إلى أجسادها، الأرواح باقية، الذي يقول: إن الروح تموت فهذا باطل.

إن يريد بالموت أنها تفارق الجسد، فهذا صحيح، وإن يريد أنها تفنى، فهذا باطل، ما تفنى الروح، الروح باقية بعد خروجها من الجسد، إما في نعيم، وإما في عذاب.

(المتن)

باب في الإيمان بالحوض

قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بأن للنبي محمد ﷺ حوضًا أعطاه الله إياه، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.

(الشرح)

هذا الباب السابع عشر في "الإيمان بالحوض"، والإيمان بالحوض من عقيدة أهل السنة والجماعة، النصوص التي جاءت في الحوض متواترة، بلغت حد التواتر، وجاءت النصوص بأن للنبي ﷺ حوضًا عظيمًا في موقف القيامة، وأن هذا الحوض طوله مسافة شهر، وعرضه مسافة شهر، وجاءت الأحاديث في وصفه أنه: «أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك، وأن أوانيه عدد نجوم السماء» كيزان يُشرب فيها، «وأنه يصب فيه ميزابان من نهر الكوثر من الجنة، وأن من شرب منه شربة فإنه لا يظمأ بعدها أبدًا، وأنه يُذاد قوم ويطردون عن الحوض كما تُذاد الإبل العطاش، بسبب تغييرهم وارتدادهم على أعقابهم».

كما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: ليردن علي أناس أعرفهم ويعرفوني، فيحال بيني وبينهم وفي لفظ آخر: فيُذادون كما تُذاد الإبل العطاش، فأقول: ربي أصحابي، أصحابي وفي لفظ: أصيحابي أصيحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» رواه البخاري في الصحيح.

وهذا دليل على أن النبي ﷺ لا يعلم الغيب، ولا يعلم أحوال أمته، في الرد على من قال: إن النبي ﷺ يعلم الغيب، أو أنه تعرض عليه أعمال أمته فهذا ليس بصحيح، والأحاديث التي جاءت في الحوض متواترة بلغت حد التواتر، فهي تفيد العلم اليقيني، والسنة كلها ثبتت بأخبار الآحاد، والأخبار المتواترة في السنة قليلة، تقارب أربعة عشر حديثًا، منها أحاديث الحوض، ومنها أحاديث الشفاعة، ومنها أحاديث المسح على الخفين، ومنها أحاديث من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة ومنها حديث النهي عن الصلاة بعد العصر، ومنها حديث: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.

أحاديث قليلة بلغت حد التواتر، والباقي كلها أخبار آحاد، كل ما في الصحيحين من أخبار آحاد، لكن الصحيحان تلقتهما الأمة بالقبول، والحديث إذا صح السند، واتصل السند، وعُدلت الرواة وكانوا ثقات فإنه يفيد العلم، يجب الإيمان به ويفيد العلم، يجب الإيمان والتصديق به والعمل به، فيفيد العلم ويفيد العمل.

فمن أنكر الحوض فهو ضال، وقد أنكرت المعتزلة والخوارج الحوض، مع أنه بلغ حد التواتر، كما أنكروا الشفاعة مع أنها متواترة، نصوص الشفاعة متواترة، أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، أو الشفاعة فيمن استحق دخولها ألا يدخلها، وقالوا بخلود العصاة في النار، كما أنهم أنكروا الحوض وهذا من جهلهم وضلالهم، من جهل المعتزلة والخوارج، أنكروا الحوض قالوا: ما في حوض، مع أن الأحاديث متواترة، ولهذا أنكر عليهم أهل السنة وضللوهم وبدعوهم، فالإيمان بالحوض مما لم يختلف فيه أحد من أهل السنة؛ لأن الأحاديث متواترة، فالكل متوافرون على القول به، والتسليم بما جاء عن رسول الله ﷺ في وصفه.

قال ابن أبي عاصم في السنة: "والأخبار التي ذكرناها في حوض النبي ﷺ توجب العلم" يعني: اليقين, ولا يُعلم كنه حقيقتها، وهي على ما وصف به نبيينا ﷺ حوضه، فنحن به مصدقون، غير مرتابين ولا جاحدين، ونرغب إلى الذي وفقنا للتصديق به، خذل المنكرين له والمكذبين به عن الإقرار به والتصديق ليحرمهم لذة شربه، أن يوردنا فيسقينا منه شربة نعدم له ظمأ الأبد بطوله.

(المتن)

وحدثني إسحاق، عن أحمد، عن وضاح، عن ابن أبي شيبة قال: حدثني علي بن مسهر، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك قال: «بينما رسول الله ﷺ ذات يوم بين ظهورنا، حتى إذا غفا إغفاءة ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت علي آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر ۝ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ۝  إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر [الكوثر/1-3] .

ثم قال: هل تدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم, قال: فإنه نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، هو حوض يرد عليه أمتي، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: فإنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

(الشرح)

نعم وهذا الحديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه من طريق ابن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، ولكن هذا السند الذي ذكره المؤلف ضعيف، فيه إسحاق وهو ابن إبراهيم التجيبي، وفيه ابن وضاح، وفيه المختار بن فلفل مولى عمرو بن حريث، قال الحافظ: صدوق له أوهام, فالسند ضعيف لكن الحديث متنه صحيح، رواه مسلم في صحيحه، وفيه: «أن النبي ﷺ أغفى إغفاءة» يعني: نام نومة خفيفة، «فاستيقظ متبسمًا، فسئل: ما أضحكك؟ فقال نزلت علي آنفًا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: )إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ( [الكوثر/1].

هذا دليل على أن البسملة آية من أول كل سورة؛ لأنه قال: «بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر/1] ثم قال: هل تدرون ما الكوثر؟ الحوض يسمى كوثر، والكوثر نهر في الجنة يصب في الحوض، يصب في حوض النبي ﷺ فإثبات الكوثر إثبات للحوض، وقد يسمى الحوض كوثر، يسمى الحوض كوثر؛ لأنه يصب فيه ميزابان من الجنة.

سئل النبي ﷺ عنه قال: نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، هو حوض يرد عليه أمتي، وفيه أن آنيته عدد النجوم يعني: كيزان فيختلج يعني: يستلب ويقطع فيقول: ربي إنها أمتي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» فيه دليل على أن النبي ﷺ لا يعلم الغيب، وفيه الرد على من قال إن النبي ﷺ يعلم الغيب فإنك لا تدري» لو كان يعلم الغيب ما يقال: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

(المتن)

وحدثني عن علي، عن أبي داود، عن يحيى بن سلام، عن عثمان، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ «أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما حوضك هذا الذي تحدث عنه؟ قال: هو ما بين آيلة إلى عمان، شرابه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وفيه من الآنية أو قال من الأباريق مثل عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، أول الناس له ورودا فقراء المهاجرين، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الشعث رءوسًا، الدنس ثيابًا، الذين لا تُفتح لهم السدد، ولا يُنكح المتنعمات، الذين يعطَوْن الذي عليهم، ولا يعطُون الذي لهم».

(الشرح)

هذا الحديث سنده ضعيف وإن كان متنه صحيح، فيه عدة علل: فيه يحيى بن سلام، وعثمان، وعبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، متروك، وفيه عنعنة يحيى بن أبي كثير، ففيه عدة علل، لكن متنه صحيح، هو أن مسافة الحوض يقول النبي ﷺ ما بين آيلة إلى عمان آيلة: بلدة في الشام وشرابه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل كل هذا جاءت فيه الأحاديث صحيحة.

« وفيه من الآنية أو قال من الأباريق عدد نجوم السماء» هذا صحيح، «من شرب منه شربة لم يظمأ بعده أبدًا» هذا صحيح، كل ذلك جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإن كان سند الحديث ضعيف.

أول الناس له ورودا فقراء المهاجرين» هذا جاء في الحديث أن أول الناس دخولًا هم فقراء المهاجرين، جاء في الحديث أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام، أم قولهم: «قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الشعث رءوسًا، الدنس ثيابًا، الذين لا تُفتح لهم السدد يعني: لا تفتح لهم الأبواب لكونهم غير معروفين,  ولا ينكحون المتنعمات، الذين يعطُوْن الذي عليهم يعني: يؤدون الحقوق التي عليهم, ولا يعطَون الذي لهم يعني: أنهم مغمورون.

على كل حال الذين يردون الحوض هم المؤمنون الموحدون الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، وأما هذا التفصيل الذي جاء في الحديث: أنهم الشعث رءوسًا، الدنس ثيابًا، الذين لا تُفتح لهم الأبواب هذا جاء في هذا الحديث الذي سنده ضعيف، يكون ثيابه دنسة، ليس فيه أجر، بل جاء في الحديث الآخر: إن الله إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثرها عليه لكن لو ترك الإنسان الفاخر من الثياب في بعض الأحيان من باب كسر النفس وهضمها، فهذا جاء في الحديث: البذاذة من الإيمان يعني: كسر النفس في بعض الأحيان.

أما هذا كونه قال: دنس الثياب، وأن هذا يدل على سبقه إلى الحوض، فهذا الحديث ضعيف، أن كونه لا تفتح لهم الأبواب، وكونهم لا ينكحون المتنعمات، كل هذا جاء في هذا الحديث الضعيف، وأما قوله: الذين يعطُوْن الذي عليهم، ولا يعطَون الذي لهم هذا ينبغي على المؤمن أن يؤدي الحق الذي عليه، وأما كونه حقه لا يُعطاه فهذا يسأله من الله يوم القيامة.

(المتن)

وحدثني وهب، عن ابن وضاح، عن ابن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر، قال سعيد بن أبي عروبة، عن سالم بن أبي الجاد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ أن نبي الله قال: إنا عند عقر حوضي، أذود عنه الناس لأهل اليمن، إني لأضربهم بعصاي حتى يربض.

قال: «وسئل رسول الله ﷺ عن سعة الحوض، فقال: مثل ما بين مقامي هذا إلى عمان، فسئل عن شرابه فقال: أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يغث فيه ميزابان، مداده أو مدادهما من الجنة، أحدهما من ورِق، والآخر من ذهب.

(الشرح)

وهذا الحديث صحيح، متنه صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، وأخرجه مسلم في صحيحه، من طريق هشام عن قتادة عن سالم، ومن طريق شعبة عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان، عن ثوبان، وفيه أن النبي ﷺ قال: أنا عند عقر حوضي والعقر موضع الشاربة، أذود عنه الناس لأهل اليمن يعني: ليشربوا. ومنهم الأنصار: الأوس، والخزرج فإنهم من اليمن.

إني لأضربهم بعصاة حتى يربض يعني: أن الذين لم يغيروا ولم يبدلوا في مقدمتهم أهل اليمن، وكل من لم يغير ولم يبدل فإنه يدخل في ذلك دخولًا أوليًا، فأهل اليمن لما كانوا في ذلك الوقت على الاستقامة، هم أول من يدخل, وكما جاء في الحديث:  الإيمان يماني، والحكمة يمانية ثم تغيرت الأحوال بعد ذلك.

فمن كان بقي على الحالة التي أثنى عليها النبي ﷺ فإن له الوصف، فالعبرة بالوصف، ومن غير فلا يكون له هذا الوصف، إذا غير أهل اليمن لا يكون لهم هذا الوصف، وإذا اتصف غيرهم بهذا الوصف صار لهم، وإذا بقوا على هذا الوصف فهو لهم.

«سئل النبي ﷺ عن سعة الحوض فقال: مثل ما بين مقامي هذا إلى عمان يعني من المدينة إلى عمان، فسئل عن شرابه فقال: أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يغط فيه ميزابان أي: يصب فيه ميزابان.

مداده من الجنة، أحدهما أحد الميزابين من ورق يعني: من فضة, والآخر من ذهب الميزابان واحد من الذهب، وواحد من الفضة، كل هذا صحيح، فيه إثبات الحوض، والرد على من أنكره من الخوارج والمعتزلة، وهو من الأحاديث المتواترة، فالذي يُنكره أنكر أمرًا معلوما من الدين بالضرورة، تُقام عليه الحجة، فإن استقاموا وإلا كفروا؛ لأنه أمر معلوم من الدين بالضرورة من الأحاديث المتواترة، الذي يُنكره تُكشف شبهته إن كان له شبهة، فإذا زالت الشبهة وأصر حُكم بكفره، نسأل الله السلامة والعافية.

وفق الله الجميع لطاعته, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد