بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّاعِنِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اللَّعْنِ قَرِيبًا، وَالْحَدِيثُ إخْبَارٌ بِأَنَّ كَثِيرِي اللَّعْنِ لَيْسَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قَبُولُ شَفَاعَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ لَا يَشْفَعُونَ حِينَ يَشْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ فِي إخْوَانِهِمْ.
وَمَعْنَى وَلَا شُهَدَاءَ قِيلَ لَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ عَلَى تَبْلِيغِ الْأُمَمِ رُسُلُهُمْ إلَيْهِمْ الرِّسَالَاتِ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ عَلَى تَبْلِيغِ الْأُمَمِ رُسُلُهُمْ إلَيْهِمْ الرِّسَالَاتِ، وَقِيلَ لَا يَكُونُوا شُهَدَاءَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِفِسْقِهِمْ؛ لِأَنَّ إكْثَارَ اللَّعْنِ مِنْ أَدِلَّةِ التَّسَاهُلِ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ لَا يُرْزَقُونَ الشَّهَادَةَ.
(الشرح)
هَذَا دَلِيل عَلَى التساهل في أمور الدين, والتساهل في أمور الدين نقص في الدين, ثُمَّ أَيْضًا الإحسان, وَإِذَا فاته الإحسان أَيْضًا كَذَلِكَ نقص إيمانه, يَعْنِي إِذَا زاد الإحسان يزيد إيمانه, ويحرم ثواب هَذَا الإحسان.
(المتن)
وَقِيلَ لَا يُرْزَقُونَ الشَّهَادَةَ وَهِيَ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
(الشرح)
أَيْضًا كَذَلِكَ هَذَا نقص, لا يرزقون الشَّهَادَةِ أَيْضًا, يَعْنِي صار نقص من أمور متعددة, منه أَنَّهُ فاته الإحسان, ومنه أَنَّهُ لا يرزق الشَّهَادَةِ, وَمِنْهَا أَنَّهَا يَدُلَّ عَلَى التساهل في أمور الدين.
(المتن)
(فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِشُفَعَاءَ وَحْدَهُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ وَيُحْتَمَلُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِمَا وَيُرَادَ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَمَّا لَمْ تُقْبَلْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُكْتَبْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابُ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابُ الشُّهَدَاءِ.
(الشرح)
الشَّهَادَةِ في الدنيا في الآخرة خلاص إِذَا بعث ما في موت.
(المتن)
[لَا يُعَيِّرُ الْمُسْلِم أخاه]
(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ مَنْ عَابَهُ بِهِ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ) كَأَنَّهُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ لِشَوَاهِدِهِ فَلَا يَضُرُّهُ انْقِطَاعُهُ. وَكَأَنَّ مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ أَيْ عَابَهُ مِنْ الْعَارِ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ لَزِمَ بِهِ عَيْبٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ يُجَازَى بِسَلْبِ التَّوْفِيقِ حَتَّى يَرْتَكِبَ مَا عَيَّرَ أَخَاهُ بِهِ وَذَاكَ إذَا صَحِبَهُ إعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ بِسَلَامَتِهِ مِمَّا عَيَّرَ بِهِ أَخَاهُ.
وَفِيهِ أَنَّ ذِكْرَ الذَّنْبِ لِمُجَرَّدِ التَّعْيِيرِ قَبِيحٌ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ وَأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ عَيْبَ الْغَيْرِ إلَّا لِلْأُمُورِ السِّتَّةِ الَّتِي سَلَفَتْ مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ فِيهَا.
[وَيْلٌ لِمَنْ يَكْذِبُ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ]
(وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ» أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ) وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْوَيْلُ الْهَلَاكُ، وَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الْجَارُ، وَالْمَجْرُورُ وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَفِي مَعْنَاهُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَحْرِيمِ الْكَذِبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِثْلُ حَدِيثِ «إيَّاكُمْ، وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ» سَيَأْتِي وَأَخْرَجَ ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ «إيَّاكُمْ، وَالْكَذِبَ، فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ وَهُمَا فِي النَّارِ» وَمِثْلُهُ عِنْدَ الطَّبَرَانِيُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ «مَا عَمَلُ أَهْلُ النَّارِ؟ قَالَ الْكَذِبُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا كَذَبَ فَجَرَ، وَإِذَا فَجَرَ كَفَرَ، وَإِذَا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ وَمِنْ جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ «رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي قَالَا لِي الَّذِي رَأَيْته يَشُقُّ شَدْقَهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ الْكَذِبَةَ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ» فِي حَدِيثِ رُؤْيَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ لِإِضْحَاكِ الْقَوْمِ، وَهَذَا تَحْرِيمٌ خَاصٌّ.
وَيُحَرَّمُ عَلَى السَّامِعِينَ سَمَاعُهُ إذَا عَلِمُوهُ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْمُنْكَرِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ النَّكِيرُ أَوْ الْقِيَامُ مِنْ الْمَوْقِفِ، وَقَدْ عُدَّ الْكَذِبُ مِنْ الْكَبَائِرِ قَالَ الرُّويَانِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَمَنْ كَذِبَ قَصْدًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ وَقَالَ الْمَهْدِيُّ: إنَّهُ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ وَلَا يَتِمُّ لَهُ نَفْيُ كِبْرِهِ عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِإِضْرَارٍ بِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ كَبِيرَةٌ.
(الشرح)
صحيح الكذب يتفاوت, الكذب عَلَى الله وَعَلَى رسوله هَذَا كبيرة.
(المتن)
وَقَسَّمَ الْغَزَالِيُّ الْكَذِبَ فِي الْإِحْيَاءِ إلَى وَاجِبٍ وَمُبَاحٍ وَمُحَرَّمٍ وَقَالَ: إنَّ كُلَّ مَقْصِدٍ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِالصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ جَمِيعًا، فَالْكَذِبُ فِيهِ حَرَامٌ، وَإِنْ أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِالْكَذِبِ وَحْدَهُ فَمُبَاحٌ إنْ أُنْتِجَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ، وَوَاجِبٌ إنْ وَجَبَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ، وَهُوَ إذَا كَانَ فِيهِ عِصْمَةُ مَنْ يَجِبُ إنْقَاذُهُ، وَكَذَا إذَا خَشَى عَلَى الْوَدِيعَةِ مِنْ ظَالِمٍ وَجَبَ الْإِنْكَارُ، وَالْحَلِفُ وَكَذَا إذَا كَانَ لَا يَتِمُّ مَقْصُودُ حَرْبٍ أَوْ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَوْ اسْتِمَالَةُ قَلْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَّا بِالْكَذِبِ فَهُوَ مُبَاحٌ.
وَكَذَا إذَا وَقَعَتْ مِنْهُ فَاحِشَةٌ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَسَأَلَهُ السُّلْطَانُ فَلَهُ أَنْ يَكْذِبَ وَيَقُولَ مَا فَعَلْت، ثُمَّ قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَابِلُ مَفْسَدَةُ الْكَذِبِ بِالْمَفْسَدَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الصِّدْقِ.
فَإِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةُ الصِّدْقِ أَشَدَّ فَلَهُ الْكَذِبُ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ أَوْ شَكَّ فِيهَا حُرِّمَ الْكَذِبُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِنَفْسِهِ اسْتَحَبَّ أَنْ لَا يَكْذِبَ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ لَمْ تَحْسُنْ الْمُسَامَحَةُ بِحَقِّ الْغَيْرِ، وَالْحَزَمُ تَرْكُهُ حَيْثُ أُبِيحَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ اتِّفَاقًا فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيحِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَمْ أَسْمَعْ بِرُخَصٍ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجِهَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ الصُّوَرِ.
(الشرح)
نعم في الحرب في الإصلاح بين النَّاس وبين الزوجين.
(المتن)
أَخْرَجَ ابْنُ النَّجَّارِ عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مَرْفُوعًا: «الْكَذِبُ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: الرَّجُلُ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ لِيُصْلَحَ بَيْنَهُمَا، وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا بِذَلِكَ، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ».
قُلْت: اُنْظُرْ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لِاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ كَيْفَ حَرَّمَ النَّمِيمَةَ وَهِيَ صِدْقٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إفْسَادِ الْقُلُوبِ وَتَوْلِيدِ الْعَدَاوَةِ، وَالْوَحْشَةِ وَأَبَاحَ الْكَذِبَ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا إذَا كَانَ لِجَمْعِ الْقُلُوبِ وَجَلْبِ الْمَوَدَّةِ وَإِذْهَابِ الْعَدَاوَةِ.
[مِنْ اغتاب أحدا فليتحلل مِنْهُ]
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْته أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ» رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ) وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَغَيْرُهُمَا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَفِي أَسَانِيدِهِمَا ضَعْفٌ.
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِمَعْنَاهُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ: وَهُوَ أَصَحُّ وَلَفْظُهُ قَالَ: «كَانَ فِي لِسَانِي ذَرَبٌ عَلَى أَهْلِي فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ يَا حُذَيْفَةُ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» هَذَا الْحَدِيثُ لَا دَلِيلَ فِيهِ نَصًّا أَنَّهُ لِأَجَلِ الِاغْتِيَابِ بَلْ لَعَلَّهُ لِدَفْعِ ذَرَبِ اللِّسَانِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مِنْ الْمُغْتَابِ لِمَنْ اغْتَابَهُ يَكْفِي وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِاعْتِذَارِ مِنْهُ. وَفَصَّلَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إذَا عَلِمَ الْمُغْتَابُ وَجَبَ الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا وَلَا يُسْتَحَبُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَجْلِبُ الْوَحْشَةَ وَإِيغَارَ الصَّدْرِ، إلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ إلَّا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ قَدْ بَلَغَهُ وَيَكُونُ حَدِيثُ أَنَسٍ فِيمَنْ لَمْ يَعْلَمْ وَيُقَيَّدُ بِهِ إطْلَاقُ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ.
(الشرح)
الضمير يعود إِلَى من؟ الَّذِي اغتيب لا يعلم أن هَذَا الشخص اغتابه, في الغالب أَنَّهُ ما يعلم.
(المتن)
[المذموم مِنْ الخصومة مَا كَانَ بالباطل]
(وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) الْأَلَدُّ مَأْخُوذٌ مِنْ لَدِيدَيْ الْوَادِي وَهُمَا جَانِبَاهُ وَالْخَصِمُ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ.
(الشرح)
صيغة مبالغة.
(المتن)
وَالْخَصِمُ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ الَّذِي يَحُجُّ مُخَاصِمَهُ وَجْهَ الِاشْتِقَاقِ أَنَّهُ كُلَّمَا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ أَخَذَ فِي جَانِبٍ آخَرَ وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي ذَمِّ الْخُصُومَةِ كَحَدِيثِ «مَنْ جَادَلَ فِي خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَمْ يَزَلْ فِي سُخْطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» تَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " كَفَى بِك إثْمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا " وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْخُصُومَةَ مَذْمُومَةٌ وَلَوْ كَانَتْ فِي حَقٍّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: فَإِنْ قُلْت لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْخُصُومَةِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ.
فَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ الْغَزَالِيُّ: أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَاصَمَ بِبَاطِلٍ وَبِغَيْرِ عِلْمٍ كَوَكِيلِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَتَوَكَّلُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ فِي أَيِّ جَانِبٍ.
وَيَدْخُلُ فِي الذَّمِّ مَنْ يَطْلُبُ حَقًّا لَكِنْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ بَلْ يُظْهِرُ اللَّدَدَ وَالْكَذِبَ لِإِيذَاءِ خَصْمِهِ وَكَذَا مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَحْضُ الْعِنَادِ لِقَهْرِ خَصْمِهِ وَكَسْرِهِ، وَمِثْلُهُ مَنْ يَخْلِطُ الْخُصُومَةَ بِكَلِمَاتٍ تُؤْذِي وَلَيْسَ إلَيْهَا ضَرُورَةٌ فِي التَّوَصُّلِ إلَى غَرَضِهِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ بِخِلَافِ الْمَظْلُومِ الَّذِي يَنْصُرُ حُجَّتَهُ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ لَدَدٍ وَإِسْرَافٍ وَزِيَادَةِ الْحِجَاجِ عَلَى الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ عِنَادٍ وَلَا إيذَاءٍ فَفِعْلُهُ هَذَا لَيْسَ مَذْمُومًا وَلَا حَرَامًا لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ مَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا. وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَرُدُّ شَهَادَةَ مَنْ يُكْثِرُ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّهَا تُنْقِصُ الْمُرُوءَةَ لَا لِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً.
(الشرح)
فِيهِ التحذير من الخصومة الشديدة وأن هَذَا من ضعف الإيمان ونقصه.
فَإِن قِيلَ: هَلْ مثلاً المحامي إِذَا عرف أن الْحَقِّ لَيْسَ لوكيله؟ إِذَا عرف المحامي أَنَّهُ مبطل لا يدافع عنه, لا يتوكل عنه إِذَا كَانَ مبطل لا يعينه عَلَى الباطل, فَهُوَ يتعاون معه عَلَى الإثم والعدوان, لا يحامي إِلَّا عَنْ شخص يعلم أن الْحَقِّ له, لكن إِن علم أَنَّهُ مبطل لا يجادل عنه.