بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قال رحمه الله تعالى:
باب الإيمان بالميزان.
قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بالميزان يوم القيامة، وقال : فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه فَأُمُّهُ هَاوِيَة [القارعة/6-9].
وقال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء/47].
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فهذا الباب الثامن عشر "الإيمان بالميزان"، أهل السنة والجماعة كما قال المؤلف رحمه الله (يؤمنون بالميزان)، وأن الله سبحانه وتعالى يزن أعمال العباد، وأنه توزن في هذا الميزان أعمال العباد والأشخاص، وأنه ميزان حسي له كِفتان، وله لسان، والكفة أعظم من أطباق السموات والأرض، قال الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء/47] .
اختلف العلماء هل هو ميزان واحد أو عدة موازين؟ فمن العلماء من قال: إن هناك عدة موازين، واستدل بقول الله تعالى: ونضع الموازين, وقال آخرون من أهل العلم: إنه ميزان واحد، له كفتان عظيمتان وله لسان, وأجابوا عن قوله تعالى: (ونضع الموازين) قالوا: إن الجمع باعتبار الموزونات.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة، يؤمنون بأن هناك ميزان، وأن الله تعالى يزن أعمال العباد، ويوزن الأشخاص أيضًا كما قال الله تعالى: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف/105] .
وفي الحديث: يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة بسبب خبث عمله، توزن الأشخاص وتوزن الأعمال، والرجحان على حسب الأعمال، في حديث ابن مسعود، لما ضحك الصحابة من دقة ساقيه، قال النبي ﷺ: إنهما في الميزان أثقل من جبل أحد بسبب عمله الطيب.
وأنكرت المعتزلة الميزان الحسي، فقالوا: ليس هناك ميزان حسي, كذبوا النصوص وأولوها، وقالوا: المراد بالميزان في النصوص العدل، وليس هناك ميزان حسي، والله تعالى لا يحتاج إلى الميزان، قالوا: ما يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال هو الذي يحتاج إلى الميزان، أما الرب فلا يحتاج إلى ميزان، وإنما المراد بالميزان في النصوص العدل، والمعتزلة يعملون بآرائهم وعقولهم، يعتمدون على العقل، ويتأولون النصوص، حتى غلا بعضهم في العقل وفسر قول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رسولا [الإسراء/15] قال: الرسول هو العقل.
المعتزلة يعارضون النصوص بعقولهم، والواجب على المسلم التسليم بنصوص الكتاب والسنة، فلا يستقر قدم الإيمان إلا على ظهر التسليم، لابد من التسليم لله ولرسوله، وعدم معارضة النصوص بالعقول والآراء والشهوات.
المعتزلة يقولون: ما في ميزان، ما في ميزان حسي، الرب لا يحتاج إلى الميزان؛ لأنه يعلم الأشياء، والمراد العدل, وهذا بسبب اعتمادهم على العقول، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (قال محمد) يعني: هو المؤلف محمد بن عبد الله بن أبي زمنين, قال: (وأهل السنة يؤمنون بالميزان يوم القيامة) وسبق أن المراد بالميزان هو الميزان الحسي، له كفتان ولسان، ثم استدل بالآية، قال : فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ *وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة/6-9] فجمع الموازين باعتبار الأعمال.
فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة/6] يعني: الأعمال الموزونة في هذا الميزان.
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ [القارعة/7] هذا من أهل الجنة والكرامة.
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة/8-9] وهي النار نعوذ بالله، من أسماء جهنم.
قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء/47].
فالإيمان بالميزان عند أهل السنة والجماعة ثابت حق لاشك فيه ولا مرية، على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ويؤمنون بما جاء في وصفه، وأن له كفتان توزن فيهما الأعمال من سيئات وحسنات، ولا زال العلماء يقررون هذا في كتبهم، من ذلك ما قاله الرازيان: أبو زرعة، وأبو حاتم, عندما سألهم ابن أبي حاتم عن مذهب أهل السنة وما أدرك عليه العلماء في جميع الأمصار: حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ومصرًا، ويمنًا, قال: فكان من مذهبهم الميزان الذي له كفتان، توزن فيه أعمال العباد، حسنها وسيئها.
(المتن)
وحدثني وهب عن ابن وضاح عن ابن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل، عن المغيرة، عن أم موسى قالت: سمعت عليًا يقول: «أمر النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن مسعود أن يصعد بشجرة فيأتيه بشيء منها، فنظر أصحابه إلى خموصة ساقيه فضحكوا منها، فقال: مم تضحكون, لرجل عبد الله بن مسعود في الميزان أثقل من أحد.
(الشرح)
وهذا الحديث صحيح متنه صحيح وثابت، إلا أن السند ضعيف؛ لأن في الإسناد ابن وهب، وقد تقدم الكلام عليه، وفيه أم موسى وهي سُرية علي بن أبي طالب، قال الدار قطني: حديثها مستقيم يخرج حديثها اعتبارًا، قال الحافظ ابن حجر: مقبولة، ولم تروي إلا عن علي وعن أم سلمة، ولم يروي عنها إلا المغيرة بن مقسم، والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، والإمام أحمد في المسند، والطبري في تهذيب الآثار، والطبراني في الكبير، وابن سعد في الطبقات، وأبو يعلى في المسند، كلهم من طرق عن المغيرة، عن أم موسى.
وللحديث شاهد صحيح عن ابن مسعود أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما، فالحديث متنه صحيح، وإن كان السند ضعيف، يعني الحديث ثابت في كون ابن مسعود كشفت الريح عن ساقيه فضحك الصحابة، فقال النبي ﷺ: إنهما أثقل في الميزان من جبل أحد.
والثقل والخفة في الميزان حسب الأعمال، الذي أعماله صالحة تثقل موازينه، والذي أعماله سيئة تخف.
(المتن)
أبو بكر قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
(الشرح)
هذا الحديث صحيح أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحهما، كلاهما من طرق، عن محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة وهذا الحديث آخر حديث في صحيح البخاري، آخر حديث في صحيح البخاري هذا الحديث، حديث أبي هريرة: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
في فضل هاتين الكلمتين، كلمتان خفيفتان على اللسان، ما تشق على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم, ومع ذلك ثقيلة في الميزان، وحبيبة إلى الرحمن، إلا أن سند الحديث الذي ساقه المؤلف ضعيف كما سبق؛ لأن هذا الحديث موصول بالإسناد السابق والإسناد السابق فيه وهم، وفيه أيضًا ابن وضاح، فالحديث وإن كان فيه سنده ضعف، إلا أن متنه صحيح أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما.
والشاهد من الحديث قوله: ثقيلتان في الميزان ففيه إثبات الميزان، وأنه توزن فيه الأعمال فتثقل، "فسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" هاتان الكلمتان، أو الجملتان تثقلان في الميزان، تثقلان الميزان، لعظم شأنهما عند الله ولعظم لثوابهما، فينبغي للإنسان أن يكثر من هذا الذكر: "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
وفيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن الميزان ميزان معنوي ليس ميزان حسي، هذا ميزان حسي تدخل فيه هاتين الكلمتين، هاتين الجملتين.
(المتن)
وحدثني سعيد بن فحلون، عن الولي، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن إسماعيل بن رافع، عن عياض بن جهمان: «أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، جئتك لتعلمني عملًا يدخلني الله به الجنة، فذكر الحديث، وفيه: ثم قال له النبي ﷺ ألا أدلك على كلمتين ثقيلتين في الميزان، خفيفتين على اللسان، يُرضيان الرحمن؟ تقول: سبحان الله والحمد لله، فإنهما قرينان.
(الشرح)
هذا الحديث يشهد له الحديث السابق، وأما سنده فهو ضعيف، إسناد الحديث ضعيف، فيه سعيد بن فحلون متكلم فيه، وفيه الولي لم تُعرف ترجمته، وفيه عبد العزيز محمد الدراوردي، إذا حدث من حفظه يهم, قال الذهبي: صدوق, وفيه إسماعيل بن رافع بن العويمر المدني، قال الدارقطني والنسائي: متروك, وفيه عياض بن جهمان أيضًا لم تُعرف ترجمته، فالحديث سنده ضعيف، لكن متنه يشهد له الحديث السابق، فيكون الحديثان يشد بعضهما بعضًا، أو هذا الحديث يشده الحديث السابق، فيكون حسنًا لغيره، وفيه دليل على أن "سبحان الله والحمد لله" يحبهما الله ويُرضيان الله، وهما خفيفتان على اللسان، وفيه إثبات للميزان، وأنه ميزان حسي توضع فيه الأعمال.
(المتن)
وحدثني أبي، عن علي، عن أبي داود، عن يحيى قال: حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: يوضع الميزان يوم القيامة، ولو وضع في كفته السموات والأرض لوسعتها، وتقول الملائكة: ربنا لمن يوزن بهذا؟ فيقول: من شئت من خلقي, فتقول الملائكة: ربنا عبدناك حق عبادتك, قال يحيى: قوله: فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف/105] .
هو مثل قوله: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون [المؤمنون/103].
(الشرح)
وهذا الحديث موقوف على سلمان الفارسي، وهو صحيح وقفه على سلمان وله حكم الرفع إلا أن إسناده ضعيف، فيه علل كما سبق: فيه والد المؤلف عبد الله بن أبي زمنين، وتكلموا فيه، وفيه علي المري متكلم فيه، وفيه يحيى بن سلام أيضًا متكلم فيه، والحديث موقوف على سلمان، ليس من كلام النبي ﷺ فيه قال: (يوضع الميزان يوم القيامة، ولو وضع في كفته السموات والأرض لوسعتها، فتقول الملائكة: ربنا لمن يوزن بهذا؟ فيقول: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: ربنا عبدناك حق عبادتك).
فيه إثبات الميزان، وأنه توزن فيه الأعمال، وأنه ميزان حسي، وإن كان من قول سلمان على صحيح، إلا أن هذا له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، ولا يمكن أن يقوله سلمان من قِبل نفسه، فله حكم الرفع، قال يحيى في قوله: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف/105] .
(هو مثل قوله وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون/103] .
فالحديث أخرجه الآجري في الشريعة، وأسد بن موسى في الزهد، والحديث أيضًا كذلك مختلفٌ في رفعه وفي وقفه، لكن هنا موقوف، لكن هناك من رفعه.
(المتن)
وأخبرني ابن وهب، عن ابن وضاح، عن زهير بن عباد أنه قال: كل من أدركت من المشايخ: مالك، وسفيان، وفضيل، وعيسى بن يونس، وابن المبارك، ووكيع بن جراح، كانوا يقولون: "الميزان حق".
قال ابن وضاح: سألت يحيى بن معين، فقال: حق.
(الشرح)
هذا قول أهل السنة والجماعة كلهم، كما ذكر المؤلف، يقول: (كل من أدركت من المشايخ: مالك) مالك الإمام، (وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وفضيل، وعيسى بن يونس، وابن المبارك) عبد الله بن المبارك، (ووكيع بن الجراح، والشيخ الشافعي، وأحمد، كلهم يقول: الميزان حق).
وكذلك ابن وضاح قال: (سألت يحيى بن معين فقال: حق) الميزان حق يعني: ثابت. وهو ميزان حسي نؤمن به، ونقر به، فلابد من الإيمان بالميزان، وأنه في موقف القيامة توزن الأعمال أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه نجا، ومن خفت موازينه هلك.
(المتن)
قال محمد: ورأيت في تفسير الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: "هو ميزان له لسان وكفتان".
(الشرح)
(قال محمد) وهو المؤلف محمد بن عبد الله بن زمنين, (رأيت في تفسير الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: هو ميزان له لسان وكفتان) وهذا الأثر أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن الدهان، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن هارون، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن نصر، قال: حدثنا يوسف بن بلال، قال: حدثنا محمد بن مروان الكلبي.
ورواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس هذا متهم بالوضع عند أهل الحديث، عند النقاد من أهل الحديث، وآفته الكلبي هذا، متهم بالوضع، ويروي كثيرًا عن أبي صالح عن ابن عباس، وبعض النقاد والأئمة رموه بالوضع، وقالوا: كذاب، يضع الأحاديث, وكذا جاء أبو صالح ضعيف، ولهذا قال الحافظ الذهبي: سفيان قال للكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب.
المقصود أن هذا لا يعتمد عليه "تفسير الكلبي عن أبي صالح"، لكن الميزان كون الميزان له لسان وكفتان هذا صحيح، إذًا هو ميزان حسي له لسان وكفتان، هذا ثابت من غير طريق الكلبي، من غير تفسير الكلبي، أما تفسير الكلبي لا يعتمد عليه، وكذلك أبو صالح ضعيف، ولكن كون الميزان له لسان وكفتان هذا ثابت في النصوص الصحيحة وفي الآيات القرآنية، ولا حاجة إلى كلام الكلبي.
باب في الإيمان بالصراط.
(المتن)
قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بالصراط أن الناس يمرون عليه يوم القيامة على قدر أعمالهم.
(الشرح)
وهذا الباب التاسع عشر من أبواب الكتاب، وهو الإيمان بالصراط، (قال محمد) وهو المؤلف عبد الله بن أبي زمنين, (وأهل السنة يؤمنون بالصراط، وأن الناس يمرون عليه يوم القيامة على قدر أعمالهم) هذا عقيدة أهل السنة والجماعة, يؤمنون بالصراط وهو صراط حسي، ينصب على متن جهنم, على ظهر جهنم يمر الناس عليه يوم القيامة على قدر أعمالهم، والنار أسفل، والجنة أعلى، فهو منصوب، فمن تجاوز الصراط وصعد صعد إلى الجنة، تجاوز الصراط وصعد إلى الجنة، ومن سَقط سقط في النار، وهذا الصراط عليه كلاليب تخطف من أُمرت بخطفه، فناج مسلم، ومكربس على وجهه في النار، نعوذ بالله.
ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم، وأن أول زمرة تمر على الصراط كالبرق وجوههم كالقمر، ثم تمر الطائفة الثانية التي بعدها كالريح كأضئ كوكب دري وجوههم، ثم تأتي الزمرة التي بعدها كالطير، ثم كأجاود الخيل، ثم الرجل يعدو عدوًا، ثم الرجل يمشي مشيًا، ثم الرجل يزحف زحفًا، وعلى الصراط كلاليب تخطف من أمرت بخطفه، على حسب الأعمال المرور، على حسب الأعمال، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة خلافًا لأهل البدع الذين أنكروا الصراط الحسي، وقالوا أنه ليس الصراط الحسي، وإنما يراد به العدل.
وهذا الصراط الحسي يمر عليه ويسلم من استقام على الصراط المعنوي في الدنيا، الصراط المعنوي هو الصراط المستقيم، هو دين الله وهو القرآن، وهو ما جاء به النبي ﷺ، وما جاء في القرآن الكريم وما جاء في السنة المطهرة، فمن استقام على دين الإسلام واستقام على الصراط المستقيم في الدنيا، فإنه يعبر على الصراط الحسي يوم القيامة وينجو، ومن تنكب الصراط المستقيم في الدنيا وانحرف عن الجادة، ولم يعمل بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ فإنه لا يعبر الصراط يوم القيامة.
< >هما صراطان: صراط في الدنيا.وصراط في الآخرة.فمن استقام على الصراط المستقيم في الدنيا، نجا وعبر الصراط الحسي يوم القيامة، وتجاوز النار إلى الجنة، ومن تنكب الصراط المستقيم في الدنيا، فإنه لا يمر على الصراط، ويسقط في النار الصراط الحسي.
فهناك صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، والصراط الذي في الدنيا هو دين الله، وهو حبل الله، وما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وهو العلم والعمل، يتعلم دين الله، ثم يعمل به، من كان كذلك فهو على الصراط المستقيم، وهو الذي أمر الله في كل ركعة من ركعات الصلاة أن نسأله أن يهدينا إياه: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة/6-7] .
فالصراط المستقيم فسر: صراط الذين أنعمت عليهم، والذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل هؤلاء هم أهل الصراط المستقيم.
< >وهم أربع طوائف: الطائفة الأولى: الأنبياء.
والطائفة الثانية: الصديقون.
والطائفة الثالثة: الشهداء.
والطائفة الرابعة: الصالحون.
كما قال الله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا [النساء/69] .
فأنت في كل ركعة من ركعات الصلاة تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، وتسأل الله أن يجنبك طريق المغضوب عليهم، وهم الذين يعلمون ولا يعملون، عندهم علم ولكن ما يعملون، وتسأل الله أن يجنبك طريق الضالين، وهم الذين يعملون بدون علم.
< >طائفتان منحرفتان:الطائفة الأولى: من يعلم ولا يعمل، وهذا هم المغضوب عليهم، هم أمة الغضب ويدخل في ذلك دخولًا أوليا اليهود، ومن فسد من علماء هذه الأمة دخل فيهم.
والطائفة الثانية: الضالون، وهم الذين يعملون بدون علم، ويدخل في ذلك دخولًا أوليا النصارى، وكل ما فسد من عبّاد هذه الأمة دخل في ذلك.
أنفع دعاء وأعظم دعاء هو هذا الدعاء، حاجة الإنسان إلى هذا الدعاء أحوج من حاجته إلى الطعام والشراب، أشد من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أشد من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبي الإنسان؛ لأن الإنسان إذا فقد الطعام والشراب وفقد الأنفاس مات، والموت لابد منه، ولا يضر الإنسان الموت إذا كان مستقيم على طاعة الله.
وإذا فقد الصراط المستقيم، إذا فقد العلم والعمل مات، ماتت روحه وقلبه، وصار إلى النار والعياذ بالله، ولو كان هناك دعاء أنفع من هذا الدعاء لأمرنا الله به، دعاء ندعو الله به في كل ركعة من ركعات الصلاة، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة في الفرائض، أو في النوافل: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة/6-7] .
ليس هناك شيء أنفع من هذا الدعاء ولا أحوج، ولا أشد ضرورة للعبد إليه، هذا الصراط المستقيم في الدنيا من استقام عليه نجا وتجاوز الصراط الحسي الذي يوضع على متن جهنم، ومن تنكب الصراط المستقيم في الدنيا فإنه لا يعبر الصراط الحسي يوم القيامة، بل يسقط في النار نعوذ بالله، صراطان: صراط في الدنيا هذا الصراط المعنوي، من استقام عليه نجا من الصراط الحسي يوم القيامة.
(المتن)
وحدثني إسحاق، عن ابن خالد، عن ابن وضاح، عن ابن أبي شبيبة قال: حدثني ابن مسهر، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «سألت رسول الله ﷺ عن قوله : يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [إبراهيم/48] أين يكون الناس يومئذ؟ قال: على الصراط».
(الشرح)
وهذا الحديث متنه صحيح، أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، من طريق ابن أبي شيبة، وفي سنده ابن خالد، هو أحمد بن خالد بن يزيد أبو عمر القرطبي، والحديث وإن كان متنه صحيح إلا أن السند ضعيف، فيه ابن وضاح وفيه غيره، فالمقصود أن الحديث ثابت رواه الأمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: «أنها سألت النبي ﷺ عن قول الله : يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ [إبراهيم/48] أين يكون الناس؟ قال: على الصراط».
فالحديث ثابت، وإن كان إسناده فيه ضعف، فيه إثبات الصراط وأنه حسي، خلافًا لمن أنكره وقال: إنه صراط معنوي.
(المتن)
وحدثني أبي، عن علي، عن أبي داود، عن يحيى قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن البصري: «أن رسول الله ﷺ قال له بعض أهله: يا رسول الله، أيذكر الرجل يوم القيامة حميمه؟ قال: ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحدٌ حميمه: عند الميزان حتى ينظر أيثقل ميزانه أو يخف، وعند الصراط حتى ينظر أيجوز أم لا يجوز، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ صحيفته أم بشماله.
(الشرح)
وهذا الحديث إسناده ضعيف وهو مرسل، فيه علل: فيه والد المؤلف، وفيه علي المري متكلم فيه كما سبق، وفيه يحيى بن سلام، وفيه عنعنة سعيد بن أبي عروبة، فإنه مدلس، وعنعنة قتادة، وفيه أيضًا أنه مرسل من مراسيل الحسن البصري، وهو ضعيف.
والحديث ضعيف جدًا وهو مرسل من مراسيل الحسن، والشاهد منه إثبات الصراط وأنه صراط حسي يمر الناس عليه، لكن الصراط ثابت بالأحاديث الصحيحة الأخرى، أما هذا الحديث وأن الإنسان لا يذكر أحد حميمه، حميمه يعني: قريبه, يعني: محبوبه, لا يذكر محبوبه عند الميزان حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخف، وعند الصراط حتى ينظر أيجوز أم لا يجوز، وعند الصحف.
هذا يعني الميزان والصراط والصحف، هذه كلها ثابتة بالأحاديث الصحيحة، أما هذا الحديث المرسل بأنه كذا وكذا، وأنه لا يذكر أحدًا في هذه المواطن الثلاثة، فلا تثبت من هذا الحديث؛ لأن الحديث ضعيف.
لكن الحديث له متابع من رواية عائشة، والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وكما سبق أن الصراط ثابت بالنصوص الصحيحة.
(المتن)
يحيى قال: حدثني يونس، عن أبي إسحاق، عن أبيه، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف، والملائكة معهم كلاليب من حديد، كلما وقع رجل اختطفوه، فيمر الصف الأول كالبرق، والثاني كالريح، والثالث كأجود الخيل، والرابع كأجود البهائم، والملائكة يقولون: اللهم سَلِم سلم.
(الشرح)
هذه الحديث موصول بإسناد سابق، يحيى قبلها قال: حدثني أبي عن علي، عن أبي داود، عن يحيى، وفيه العلل السابقة في الحديث السابق، وهو موقوف على ابن مسعود عبد الله بن مسعود , وأما مرور الناس على الصراط فهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة، كذلك كونه (يمر الصف الأول كالبرق، يعني الزمرة الأولى، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل) هذا ثابت، أما الرابع (كأجود البهائم) فهذا جاء في هذا الحديث الضعيف، وكون الملائكة تقول: اللهم سلم سلم, فالحديث بهذا السند ضعيف.
والحديث أخرجه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق الصفاد، قال: حدثنا أحمد بن نصر قال: حدثنا عمرو بن طلحة القناد قال: أنبأني ، عن أبي إسحاق، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وجاء عن سعيد الخدري أنه قال: بلغني أنه جسر أدق من الشعرة، وأحد من السيف, هذا قاله أبو سعيد بلاغًا، والمقصود أن هذا الحديث فيه ضعف، وأما مرور الناس على الصراط ثابت في الأحاديث، وكذلك كون أول زمرة يمرون كالبرق، ثم كالريح، ثم كأجود الخيل، هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة.
(المتن)
يحيى في تفسير الكلبي قوله: يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ[التحريم/8]. قال: يعطى كل مؤمن نورًا، وبعضهم أكثر من بعض، فيجوزون على الصراط كهيئة البرق، ومنهم من يكون كركض الفرس الجواد، ومنهم من يسعى سعيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، وهم الذين يقولون: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير[التحريم/8].
(الشرح)
وهذا الحديث في تفسير الكلبي، سبق أن تفسير الكلبي لا يُعتمد عليه، وأنه باطل؛ لأنه متهم بالوضع، لكن ما دل عليه هذا الحديث صحيح، له أصل في الأحاديث الصحيحة، قال: (يعطى كل مؤمن نورًا) ويكون على قدر أعمالهم، (ويعطون أكثر من بعض) نعم هذا ثابت يتفاوتون، (وأنهم يجاوزون على الصراط كهيئة البرق، ومنهم من كركض الفرس الجواد، ومنهم من يسعى سعيًا، ومنهم من يزحف زحفًا) هذا جاء في الحديث كما سبق، لكن تفسير الكلبي لا يعول عليه.
باب في الإيمان بالشفاعة.
(المتن)
قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بالشفاعة، وقال : عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء/79].
(الشرح)
هذا الباب العشرون في الإيمان بالشفاعة، والشفاعة لغة: الوساطة, هذه هي الشفاعة، الشفاعة لغة هي الوساطة، مشتقة من الشفع، والشفع ضد الوتر، وهو ضم شيء إلى شيء، يكون به شفعًا بعد أن كان منفردًا.
واصطلاحًا: مساعدة ذي الحاجة عند من يملك الحاجة, فهو يساعد صاحب الحاجة عند من يملك الحاجة يعني: يضم صوته إليه, والشفاعة من الشفع وهو ضد الوتر، فالاثنين شفع، والواحد وتر، فإذا كان شخص له حاجة عند شخص، واحد هو، فأنت تشفع له تضم صوتك إلى صوته وتتوسط له عند شخص حتى يقضي حاجته، صرتما اثنين بعد أن كان في الأول واحد، فلما جاء الشافع وشفع له ضم صوته إلى صوته فصارا اثنان.
فالشفع: ضم الشيء إلى الشيء، به يكون الشيء زوجًا بعد أن كان منفردًا ,واصطلاحا: مساعدة ذي الحاجة عند من يملك الحاجة حتى تقضى له الحاجة.
والشفاعة أنواع، وأهل السنة يؤمنون بها بأنواعها، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (قال محمد) هو المؤلف محمد بن عبد الله بن أبي زمنين, (وأهل السنة يؤمنون بالشفاعة) وقال : عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء/79] .
هذه الآية الشفاعة العظمى، المقام المحمود هو الشفاعة العظمى الذي يغبطه به الأولون والآخرون، الشفاعة العظمى في موقف القيامة تكون لنبينا ﷺ ولم يختلف أهل السنة والجماعة في الإيمان بأن النبي ﷺ يشفع يوم القيامة لأهل الموقف شفاعةً عامة، ويشفع للمذنبين من أمته.
والشفاعة كما سبق أنواع، منها الشفاعة العظمى في موقف القيامة، هذه خاصة بنبينا ﷺ منها ما هو خاص بالنبي ﷺ ومنها ما هو مشترك، فالذي يخص النبي ﷺ الشفاعة العظمى في موقف القيامة، حينما يقف الناس بين يدي الله، حينما يخرجون من قبورهم حفاةً لا نعال عليهم، عراةً لا ثياب عليهم، غرلًا غير مختونين، وتدنوا الشمس من الرؤوس، ويُزاد في حرارتها، يموج الناس بعضهم في بعض، فيذهبون يطلبون من يشفع لهم.
جاء بهذا حديث والحديث طويل: أن الناس يأتون آدم أولًا يطلبون أن يشفع لهم فيعتذر، ويقول: إنه أكل من الشجرة، ويقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، فيقول: ما أستطيع أن أشفع, ثم يرشدهم أن يذهبوا إلى نوح، فيطلبون منه الشفاعة، فيعتذر نوح فيقول: ما أستطيع، إني دعوت على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، وإن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله فيرشدهم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيذهبون إلى إبراهيم فيعتذر، ويقول: ما أستطيع، إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات. ثم يُرشدهم إلى موسى، فيأتون موسى فيعتذر، ويقول: ما أستطيع، إني قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها، يعني: قبل النبوة حينما قتل القبطي، فيرشدهم إلى عيسى، فيأتون عيسى فيعتذر عيسى ويقول: لا أستطيع، إني اُتخذت أنا وأمي إلهين من دون الله، فيرشدهم إلى نبينا ﷺ فيأتون إلى نبينا محمد ﷺ فيقول: «أنا لها أنا لها».
فيذهب فيسجد تحت العرش ولا يبدأ بالشفاعة أولًا، ما أحد يبدأ بالشفاعة أولًا، لا بد من الإذن.
< >الشفاعة لها شرطان: إذًا الله للشافع أن يشفع. رضا الله عن المشفوع له. أوجه الناس عند الله نبينا محمد ﷺ وإذا كان موسى قال الله تعالى فيه: وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب/69] .
فنبينا ﷺ أعظم وجاهة، ومع ذلك لا يستطيع أن يشفع، ما يأتي يشفع ويقول: يا رب، شفع, أسألك أن تشفعني وإنما يأتي يسجد تحت العرش، فيفتح الله عليه بمحامد لا يُحسنها في دار الدنيا، ثم يأتيه الإذن من الله، فيقول الله: «يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع»، هذا الإذن، فإذا جاء الإذن رفع رأسه وقال: يا ربي، أسألك أن تشفعني في خلقك، لتقضي بينهم، فيشفعه الله، فيأتي الله سبحانه وتعالى ويقضي بين العباد، يحاسب الله الخلائق كلهم من أولهم إلى آخرهم، كلهم في وقتٍ واحد لا يلهيه شأن عن شأن، كما أنه يرزقهم في وقت واحد، ويعافيهم ويجيب أسئلتهم، يحاسبهم في وقت واحد.
أما ابن آدم ضعيف، أنا لو كلمني اثنين ما استطعت أن أفهم، فكيف إذا كلمني أربعة أو عشرة، أسكتهم حتى أسمع كلام واحد، لكن الرب يحاسب الخلائق كلهم في وقت واحد، على كثرتهم، ويفرغ منهم سبحانه في قدر منتصف النهار، ثم يدخل أهل الجنة الجنة في وقت القيلولة، ويقيلون فيها: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان/24] قيلولة، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
وهذه الشفاعة العظمى التي يغبطه فيها الأولون والآخرون، وهي التي قال الله فيها: عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء/79].
وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرً [الإسراء/80].
هذه الشفاعة العظمى خاصة بنبينا محمد ﷺ يتأخر عنها أولو العزم الخمسة، كلهم يتأخرون، وهذه هي المقام المحمود يغبطه الأولون والآخرون، أعظم شرف هذا.
جاء في مسند الأمام أحمد: أن الله يُجلسه معه على العرش وعلى هذا يكون المقام شيئان: الشفاعة، وإجلاسه على العرش.
والشفاعة الثانية: شفاعته ﷺ لأهل الجنة في الإذن لهم في دخولها وهذه خاصة به.
والثالثة: شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب، يخفف عنه العذاب ولكن لا يخرج من النار، يُخرج من غمرات من النار، ويكون في ضحضاح من النار يغلي منها دماغه، نعوذ بالله، هذه الشفاعة خاصة بنبينا محمد ﷺ.
وهناك شفاعات مشتركة بينه وبين غيره: الشفاعة في رفع درجة قوم من أهل الجنة، والشفاعة في قوم استحقوا دخول النار من العصاة، فيُشفع لهم ألا يدخلوها، والشفاعة في خروج قوم دخلوا النار فيخرجون منها, وهذه التي أنكرها أهل البدع: المعتزلة، والخوارج, أنكروا أن يخرج أحد من النار بعد دخولها، وأنكروا أن يُشفع في أحد من العصاة فلا يدخلون النار، وقالوا: العاصي يخلد في النار، لا بد أن يدخل النار، ولابد أن يخلد فيها، مع أن النصوص متواترة.
النصوص التي فيها الشفاعة في العصاة من أهل التوحيد وإخراجهم من النار متواترة، بلغت حد التوتر، تفيد العلم، ومع ذلك أنكرها المعتزلة والخوارج، لماذا؟ لأن مذهب الخوارج أن العاصي يخلد في النار، وليس له شفاعة، وكذلك المعتزلة، فأنكر عليهم أهل السنة وضللوهم وبدعوهم وأنكروا عليهم، أما الشفاعة في دخول الجنة ورفع الدرجات، هذه ما يخالفون فيها، ما يخالفون إلا في خروج العصاة من النار، أو في عدم دخول من استحق النار، هذه يخالفون فيها.
وهذه هي المحك محل الخلاف بينهم وبين أهل السنة, فأهل البدع أنكروا خروج أحد من النار، وحملوا النصوص التي فيها نفي الشفاعة التي وردت في الكفار، جعلوها للعصاة، مثل قوله تعالى: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر/48].
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [البقرة/48] هذا في الكفار، وجعلوها في العصاة.
إذًا معتقد أهل السنة والجماعة إثبات الشفاعة، ثبت أن نبينا محمد ﷺ يشفع في العصاة أربع مرات، في كل مرة يحد الله لهم حدًا ويخرجهم، والأنبياء يشفعون، والأفراد يشفعون، والشهداء يشفعون، والصالحون يشفعون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، فيخرجهم رب العالمين برحمته، ولا يبقى في النار إلا الكفرة بعد خروج العصاة، من مات على التوحيد ما يخلد في النار، ولو مكث فيها مدة طويلة، لابد أن يخرج، أما من مات على الكفر والشرك الأكبر، هذا لا حيلة فيه، ولا يدفع عذاب الله عنه أحد، ولو كان لهم ملء الأرض ذهبًا ما افتداه، ولا حيلة فيه، من مات على الكفر والشرك والنفاق الأكبر، هذا لا حيله فيه من أهل النار، لكن من مات على التوحيد هذا من أهل الجنة، لكن مات على توحيد سالم خالص من الشرك والبدع والكبائر دخل الجنة من أول وهلة.
وإن مات على توحيد ملطخ بالمعاصي والكبائر، هذا على خطر قد يُعفى عنه، وقد يعذب، وقد تصيبه الشدائد وأهوال يوم القيامة، وقد يعذب في قبره، وقد يعفى عنه، وقد يدخل النار ثم يعذب فيها، لكن لابد من خروجه، هو تحت مشيئة الله كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ [النساء/48].
(المتن)
وحدثني سعيد بن فحلون، قال: حدثنا أبو داود، عن خزرج بن عثمان، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
(الشرح)
وهذا الحديث متنه صحيح، وسنده وإن كان فيه بعض الشيء، لكنه محتمل وله شواهد، وفيه قول النبي ﷺ: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» يعني: أهل الكبائر من الموحدين، أهل الكبائر العصاة الموحدون، هؤلاء لهم الشفاعة يوم القيامة، وكما سبق أن النبي ﷺ يشفع فيهم أربع شفاعات، ويشفع غيره أيضًا من الأنبياء، ومن الملائكة، ومن الشهداء، ومن الصالحين، ومن الأفراد.
الحديث فيه سعيد بن فحلون، وفيه خزرج بن عثمان السعدي، فيهما كلام، ولكن الحديث له شواهد، والحديث له طرق عن أنس بن مالك، قد يكون مصنف هذا، وله طرق متعددة: طريق عن معمر، عن ثابت، وطريق محمد بن عبيد الله القطان، عن ثابت، وطريق محمد بن ثابت بن عبيد الله العصي عن ثابت، له طرق متعددة.
والحديث لا بأس به، وفيه إثبات الشفاعة لأهل الكبائر، والرد على الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا خروج أحدٍ من النار بعد دخولها، فهذا الحديث وغيره من الأحاديث شجة, يعني: في حلوقهم، غصة في حلوق هؤلاء المبتدعة.
(المتن)
وحدثني إسحاق، عن ابن خالد، عن بن وضاح، عن ابن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع».
(الشرح)
الحديث سنده ضعيف، كما سبق فيه إسحاق, وفيه ابن وضاح، وفيه محمد بن مصعب، وفيه عنعنة يحيى بن كثير، والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، والإمام أحمد في المسند، ولكن الحديث له طريق أخرى عن أبي هريرة مرفوعًا، أخرجه مسلم في الصحيح من طريق الحكم بن موسى، عن هقل زياد، عن الأوزاعي، قال: حدثني أبو عمار، قال: حدثني عبد الله بن فروق، قال: حدثني أبو هريرة مرفوعًا، فالحديث له طرق أخرى أخرجها الإمام مسلم في صحيحه، وفيه أن نبينا محمد ﷺ سيد الناس، فهو سيد الناس يعني رئيسهم ومقدمهم وأفضلهم.
«سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض» يعني: في البعث, أول من تشق عنه الأرض ويبعث نبينا محمد, «وأول شافع وأول مشفع» وهذا هو الشاهد قوله: «وأول شافع وأول مشفع» فيه الرد على من أنكر الشفاعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة.
(المتن)
وحدثني أبي، عن علي، عن أبي داود، عن يحيى قال: حدثني يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن صلة بن زفر قال: سمعت حذيفة يقول: يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، حفاةً عراة كما خلقوا، يُسمعهم الداعي ويُنفذهم البصر، ولا تتكلم نفس إلا بإذنه، فأول من يدعى محمد: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، ومنك وإليك، ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، وعلى عرشك استويت، سبحانك رب البيت، ثم يقال: له اشفع, قال: فذلك المقام المحمود الذي وعده الله عز وجل.
(الشرح)
هذا الحديث موقوف على حذيفة وسنده ضعيف، فيه علل، فإن في إسناده والد ابن أبي زمنين، وكذلك الشيخ علي المري، وكذلك يحيى بن سلام، وفيه أيضًا عنعنة ابن إسحاق، ففيه علل كما سبق، ثم هو موقوف على حذيفة ولكن الحديث له طرق عن أبي إسحاق السبيعي، والحديث أخرجه أبو داود, والطيالسي في السند، والنسائي في التفسير، والطبري في التفسير أيضًا، فهذه الطرق يشد بعضها بعضًا، وهي تدل على صحة ما جاء فيه من الكلمات.
وأما كون الله تعالى (يجمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد حفاة عراة) هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة، (يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، ولا تتكلم نفس إلا بإذنه) كل هذا صحيح، الشاهد قوله: (ثم يقال له: اشفع) قال: (فذلك المقام المحمود) هو الشفاعة العظمى في موقف يوم القيامة، هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة، أما هذا الحديث وإن كان سنده ضعيف، إلا أن شواهد الحديث وطرقه تشهد له بأنه صحيح موقوف على حذيفة، وأن له حكم الرفع.
(المتن)
وحدثني إسحاق، عن أحمد، عن ابن وضاح، عن أبي سلمة قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «يصف أهل النار فيعزلون، قال: فيمر بهم الرجل من أهل الجنة، فيقول لرجل منهم: يا فلان، فيقول: ما لك؟ فيقول: أتذكر رجلًا سقاك شربة ماء يوم كذا وكذا؟ قال: فيقول: فإنك لأنت هو, قال: فيقول: نعم, قال: فيشفع فيه, قال: ويقول الرجل منهم: يا فلان، لرجل من أهل الجنة، أما تذكر رجلا وهب لك وضوءًا يوم كذا وكذا، فيقول وإنك لأنت هو، قال فيقول: نعم، قال: فيشفع فيه».
(الشرح)
وهذا الحديث إسناده ضعيف كما سبق، في سنده إسحاق، وفيه ابن وضاح، وفيه عنعنة الأعمش، وفيه الرقاشي وهو ضعيف، ولكن الشفاعة أدلتها متواترة كما سبق، وللشفاعة أدلة كثيرة ومتواترة، وهذا الحديث فيه إثبات الشفاعة، وتشهد له الأدلة الكثيرة، فيه أنه يمر الرجل من أهل الجنة، فيقول الرجل منهم: يا فلان، فيشفع, ثم يأتي الرجل فيشفع فيه، فيه إثبات الشفاعة.
فهذا الحديث دل على إثبات الشفاعة، وأدلة الشفاعة متواترة، وإن كان سند هذه الأحاديث ضعيفا، إلا أن النصوص الأخرى كلها تشهد له وتدل على ثبوت الشفاعة، وأدلتها كما سبق متواترة تبلغ حد التواتر، ومع ذلك أنكرها أهل البدع من الخوارج والمعتزلة.
(المتن)
باب في الإيمان في إخراج قوم من النار.
قال محمد: وأهل السنة يؤمنون بأن الله U يُدخل ناسًا الجنة من أهل التوحيد بعدما مستهم النار برحمته، تبارك وتعالى اسمه، وبشفاعة الشافعين، وقال U: (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِين)[الحجر/2] .
وقال: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين)[المدثر/48].
(الشرح)
هذا الباب الحادي والعشرون في "الإيمان بإخراج قوم من النار"، وهو تابع للباب السابق بإخراج قوم من النار يكون إخراجهم إما بالشفاعة أو برحمة أرحم الراحمين، جاء في الأدلة وثبت في الأحاديث الصحيحة أن أهل النار العصاة الموحدون يخرجون من النار، منهم من يخرج بالشفاعة، ومنهم من لا تناله الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، ولا يبقى إلا الكفرة، إذا تكامل خروج العصاة الموحدين ولم يبق إلا الكفرة، أُطبقت النار على الكفرة، فلا يخرجون منها أبدًا أبدا، نعوذ بالله، كما قال الله: (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ) [الهمزة/8] يعني: مطبقة مغلقة.
قال سبحانه: (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) [المائدة/37].
وقال سبحانه: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) [الإسراء/97].
وقال تعالى: (لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) [النبأ/23] والأحقاب هي المدد المتطاولة، كلما انتهى حقب يعقبه حقب، إلى ما لا نهاية، نعوذ بالله.
(قال محمد) هو المؤلف ابن عبد الله بن أبي زمنين, (وأهل السنة يؤمنون بأن الله U يُدخل ناسًا الجنة من أهل التوحيد بعدما مستهم النار برحمته تبارك وتعالى اسمه، وبشفاعة الشافعين) هذا هو معتقد أهل السنة: أن الله تعالى يُخرج الموحدين العصاة برحمته، وبشفاعة الشافعين، بعضهم بالشفاعة، وبعضهم لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم برحمته، وخلافا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة فعندهم لا يمكن لأحد أن يدخل النار والجنة، بل من دخل الجنة لا يخرج منها، ومن دخل النار لا يخرج منها.
يقولون: ما يمكن أن يدخل النار أحد ثم يخرج منها هذا ما يمكن، من دخل النار صار من أهلها إلى ما لا نهاية, وهذا من جهلهم وضلالهم حيث كذبوا بالأحاديث والنصوص المتواترة.
وقال U: (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر/2] يعني: إذا رأى الكفرة أن الموحدين العصاة خرجوا وأخرجوا، تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
وقال تعالى: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر/48] هذه في الكفرة، هذه الآية في الكفرة، أما العصاة تنفعهم.
ومن أغلاط الجهمية والخوارج والمعتزلة أنهم حملوا النصوص التي فيها نفي الشفاعة للكفرة حملوها على العصاة، هذه من أدلة الخوارج والمعتزلة: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر/48] .
(مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ) [البقرة/254].
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) [البقرة/48].
قالوا: هذه حملوها في المسلمين العصاة، وهي في الكفرة، هذا من جهلهم وضلالهم، لو تعلموا وتبصروا وجمعوا بين النصوص، ورجعوا إلى أهل العلم، لعلموا معاني النصوص، ولجمعوا بينها وعملوا بها، وعلموا أن النصوص يوافق بعضها بعضًا، ويؤيد بعضها بعضًا، لكن هؤلاء المبتدعة ضربوا النصوص بعضها ببعض، ولم يتفقهوا ولم يتبصروا، فضلوا عن سوء السبيل، نسأل الله السلامة والعفو والعافية.
(المتن)
وحدثني أبي، عن علي بن أبي داود، عن يحيي قال: حدثني أبو أمية بن يعلى الثقفي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا كان يوم القيامة شفع النبي ﷺ لأمته، وشهدوا لأهل بيته، والمؤمن لأهل بيته، ويبقى شفاعة الرحمن، يُخرج الله أقوامًا من النار قد احترقوا فيها وصاروا فحمًا، فيؤمر بهم إلى نهر في الجنة يقال له الحياة، فينبتون كما ينبت الغثا في بطن السيل، ثم يقومون فيدخلون الجنة، فهم آخر أهل الجنة دخولًا وأدناهم منزلة».
(الشرح)
وهذا الحديث سنده ضعيف جدًا، في الإسناد شيخ المصنف، ووالده فيه كلام، وشيخه الشيخ علي المري، ويحيى بن سلام، وفيه أيضًا أبو أمية واسمه إسماعيل يعلى الثقفي البصري متروك الحديث.
هذا الحديث فيه عدة علل، وهو ضعيف جدا، لكن ما دل عليه صحيح معناه صحيح: «إذا كان يوم القيامة شفع النبي ﷺ لأمته» هذا ثابت في الأحاديث الصحيحة، وفيه إثبات الشفاعة والرد على الخوارج والمعتزلة في إنكارهم، والشهيد يشفع، والمؤمن يشفع، وقوله: (يبقى شفاعة الرحمن) هذا منكر، ما يقال: إن الرحمن يشفع؛ لأن الذي يشفع معناه الشفاعة: هي أن يشفع أحد عند أحد, والذي يشفع يكون فوقه الذي يشفعه، والله تعالى ليس فوقه أحد.
فهذه جاءت في هذا الحديث هذا فيها نكارة هذه الجملة، يقول: ويبقى شفاعة الرحمن, الرحمن ليس فوقه أحد حتى يشفع له، ولكن الرحمن سبحانه وتعالى يُخرج بقية الموحدين الذين لا تنالهم الشفاعة، ولا يُقال إن الرحمن يشفع، فليس فوقه أحد حتى يشفع، الذي يشفع يشفع عند من فوقه، فأنت حينما تشفع تريد أن تتوسط عند شخص فوقك، تتوسط لشخص عند محسن كبير يقضي دينه، أو تتوسط لشخص عند أمير، هذا فوقك، أما الله فليس فوقه شيء، فلا يقال: تبقى شفاعة الرحمن، هذه فيها نكارة هذه الجملة.
يقول: «يُخرج الله قوما من النار قد احترقوا فيها وصاروا فحمًا، فيؤمر بهم إلى نهر في الجنة يقال له الحياة، فينبتون كما ينبت الغثاء في بطن السيل» هذا كله ثابت في الحديث الصحيح، في الصحيحين وفي غيرهما، ولكن في الصحيح: «كما تنبت الحِبة في حميل السيل» والحِبة بالكسر: هي البذرة, «في حميل السيل» يعني: في محمول السيل، فيما يحمله السيل من الغثاء.
«ثم يقومون فيدخلون الجنة، فهم آخر أهل الجنة دخولًا» فهذا المعنى صحيح، ما عدا قوله: «وتبقى شفاعة الرحمن» هذا فيه نكارة، ما يقال: إن الرحمن له شفاعة؛ لأنه ليس فوقه أحد، لكن يقول: يبقى بعض العصاة، فيخرجهم رب العالمين برحمته.
وقال: فتبقى رحمة الرحمن كما جاء في الحديث، يقول الله تعالى: «شفعت الملائكة، وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيُخرج قومًا من النار لم يعملوا خيرًا قط» يعني: زيادة على التوحيد.
فالمقصود أن الشفاعة ثابتة في القرآن الكريم وفي السنة المتواترة، ومع ذلك أنكرها أهل البدع، فالعلماء من أهل السنة يذكرون النصوص في إثبات الشفاعة، ليردوا بها على أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وغيرهم، ولهذا أنكر عليهم أهل العلم وبدعوهم: كيف يُنكرون النصوص وهي متواترة؟! ويحملون النصوص التي جاءت في نفي الشفاعة التي جاءت في الكفرة، يحملونها على العصاة، وهذا من جهلهم وضلالهم.
(المتن)
يحيى قال: وحدثني عثمان، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: يقول أهل النار لمن دخلها من أهل التوحيد: قد كان هؤلاء مسلمين، فما أغنى عنهم، قال: فيقف لهم الرب تبارك وتعالى فيدخلهم الجنة، فعند ذلك: (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِين)[الحجر/2].
(الشرح)
وهذا الحديث ضعيف السند، فيه العلل السابقة في الحديث السابق؛ لأنه موصول بالسند السابق، فيه والد المؤلف وعلي المري، وفيه يحيى بن سلام وهو ضعيف السند، ثم أيضًا هو ليس مرفوعًا إلى النبي ﷺ ولكنه موقوف على عبد الله بن مسعود وفيه أنه قال: (يقول أهل النار لمن دخل النار من أهل التوحيد: قد كان هؤلاء مسلمين، فما أغنى عنهم، قال: فيقف لهم الرب تبارك وتعالى فيدخلهم الجنة) فعند ذلك: (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر/2].
وإخراج العصاة؛ عصاة الموحدين من النار هذا ثابت في الأحاديث المتواترة ولاشك في هذا، وأما هذا الحديث فهو ضعيف السند، وموقوف على ابن مسعود، لكن ما دل عليه صحيح بإخراج الرب سبحانه وتعالى العصاة من الموحدين، هذا ثابت في النصوص الأخرى المتواترة.
(المتن)
حدثني إسحاق، عن أحمد بن خالد، عن ابن وضاح، عن ابن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني عبيد الله بن المغيرة، عن سليمان بن عمرو بن عبد، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله ﷺ قال: «يوضع الصراط بين ظهري جهنم، عليه حسك كحسك السعدان، ثم يستجيز الناس، فناج مسلم، ومخدوش به، ثم ناج محتبس منكوس فيها، فإذا فرغ الله من القضاء بين العباد، يفقد المؤمنون رجالًا كانوا في الدنيا يصلون صلاتهم، ويزكون زكاتهم، ويصومون صيامهم، ويحجون حجهم، ويغزون غزوهم، فيقولون: أي ربنا، عباد من عبادك كانوا معنا في الدنيا، يصلون صلاتنا، ويزكون زكاتنا، ويصومون صيامنا، ويغزون غزونا، لا نراهم؟ قال فيقول: اذهبوا إلى النار، فمن وجدتم فيها فأخرجوه, قال: فيجدونهم قد أخذتهم النار على قدر أعمالهم، فمنهم من أخذته إلى قدميه، ومنهم من أخذته إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى ركبتيه، ومنهم من أخذته إلى أُذرته، ومنهم من أخذته إلى عنقه، ولم تغش الوجه، قال: فيخرجونهم منها، فيطرحونهم في ماء الحياة، قيل: يا نبي الله، وما ماء الحياة؟ قال: غُسل أهل الجنة، فينبتون كما تُنبت الزرع غثا السيل، ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصًا فيخرجونهم منها، قال: ثم يتحنن الله برحمته على من فيها، فما يترك فيها عبدًا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا أخرجه منها».
(الشرح)
هذا الحديث فيه إسناده ضعف، فيه إسحاق، وفيه ابن وضاح، وليس ضعفًا شديدًا، ولكن متن الحديث ثابت في الصحيحين، والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بنفس السند والمتن، ومن طريق ابن ماجه في السنن، وأخرجه بن خزيمة في كتاب التوحيد، والحاكم في المستدرك، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, وسكت عليه الذهبي.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند، وابن المبارك في الزهد، وأخرجه البخاري في الصحيح، وكذلك مسلم في الصحيح، كلاهما من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن سعيد مرفوعًا.
فالحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم؛ متن الحديث، لكن هذا السند سند المؤلف فيه ضعف، ليس بالضعف الشديد، والحديث فيه إثبات الشفاعة، ساقه المؤلف لإثبات الشفاعة، وهي خروج العصاة الموحدين من النار، وفيه الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: لا يخرج أحد من النار بعد دخولها، بل كل من دخلها لابد أن يخلد في النار؛ هذا من جعلهم وضلالهم.
وهذا الحديث في الصحيحين، أصح الأحاديث، وإن كان السند فيه بعض الضعف، وفيه إثبات الصراط أيضًا في الحديث، قال: «يوضع الصراط بين ظهري جهنم، عليه حسك» يعني: شوك, «كحسك السعدان، ثم يستجيز الناس» يعني: يجوزون ويمرون. يستجيز الناس من الجواز وهو المرور يمرون.
«فناج مسلم» الذي ينجو على الصراط يسلم, «ومخدوش يقع, ثم ناج محتبس منكوس فيها فإذا فرغ الله من القضاء بين العباد يفقد المؤمنون رجالًا كانوا في الدنيا، يصلون صلاتهم، ويزكون زكاتهم، ويصومون صيامهم» يعني: بعض الموحدين المؤمنين يفقد بعض الإخوان الذين كانوا معهم في الدنيا، فيسأل عنهم، فيجدونهم في النار، لماذا دخلوا النار؟
دخلوا بكبائر ماتوا عليها من غير توبة، هذا وقع في الزنا، أو وقع في شرب الخمر، أو وقع في الغيبة، أو في النميمة، أو في أكل مال اليتيم، أو التعامل في الربا، أو في أكل الرشوة، أو غير ذلك، وكانوا معهم يصلون معهم، فيشفعون «فيقولون: يا ربنا، هؤلاء إخواننا، كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، فشفعنا فيهم, فيشفعهم الله فيقول: اذهبوا فما وجدتموه فأخرجوه، يجعل الله لهم علامة، فيخرجونهم منها، فيجدونهم قد أخذتهم النار على قدر الأعمال، منهم من أخذته إلى قدميه، تصل النار إلى قدمه، ومنهم من أخذته إلى نصف ساقه، ومنهم من أخذته إلى الركبة، ومنهم من أخذته إلى أُذرته» يعني: معقد الإزار، إلى السرة.
«ومنهم من أخذته إلى عنقه، تصل إلى العنق، ولم تغش الوجه» لأنه مكان السجود، هذا العصاة، أما الكفار تغمرهم النار من جميع الجهات، نعوذ بالله: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف/41] يصلونها، أما الموحدون ما تغشاهم النار مثل الكفرة، أخف عذابا من الكفرة، هذا على حسب عمله، من تأخذه النار إلى القدم، وبعضهم إلى نصف الساق، وبعضهم إلى الركبة، وبعضهم إلى السرة، وبعضهم إلى الحلق، ولا تأكل النار الوجه محل السجود؛ لأنهم موحدون ليسوا مثل الكفرة، الكفرة تغمرهم تغشاهم من جميع الوجوه، نعوذ بالله.
فإذا وجدوهم شفعهم الله فيهم، جعل لهم علامة يُخرجونهم منها «فإذا أخرجوا منها طرحوا في ماء الحياة» بعضهم اسود وصار فحمًا، «فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله من الموحدين، ثم يتحنن الله على عباده» وهذه ليست في الصحيحين، يعني يرحمهم سبحانه وتعالى.
«فما يترك عبدًا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا أخرجه منها» هذا ثابت في الحديث الصحيح، والشاهد من الحديث إثبات الشفاعة وإخراج العصاة الموحدين، وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة، بل المتواترة، وأنكرها أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، وصادموا النصوص فكانوا بذلك من أهل البدع، نسأل الله السلامة والعافية.
وفق الله الجميع إلى طاعته، وثبت الجميع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.