بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ
الحمد لله رب العالمين, وَالصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه سبل السلام:
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْخَطِيئَةُ الذَّنْبُ. وَالْجَهْلُ ضِدُّ الْعِلْمِ. وَالْإِسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَوْلُهُ فِي (أَمْرِي) يَحْتَمِلُ تَعَلَّقَهُ بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ أَوْ بِقَوْلِهِ إسْرَافِي فَقَطْ. وَالْجِدُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ ضِدُّ الْهَزْلِ. وَقَوْلُهُ (خَطَئِي وَعَمْدِي) مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ إذْ الْخَطِيئَةُ تَكُونُ عَنْ هَزْلٍ وَعَنْ جَدٍّ وَتَكْرِيرُ ذَلِكَ لِتَعَدُّدِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي تَقَعُ مِنْ الْإِنْسَانِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ.
(الشرح)
«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي», الخطيئة تشمل الهزل والجد, ولذلك كَانَ الهزل والجد هَذَا تخصيص بَعْدَ تعميم.
(المتن)
وَالِاعْتِرَافُ بِهَا وَإِظْهَارُ أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ مُبَرَّأَةٍ مِنْ الْعُيُوبِ إلَّا مَا رَحِمَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
(الشرح)
وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أن من طبيعة الإنسان الخطأ, يقع في الخطأ, في الحديث الآخر: «كُلّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون», هَذِهِ طبيعة الإنسان, الله تعالى ذكر في وصف المتقين أَنَّهُمْ يقعون في الذنب, لكنهم لا يصرون, قَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون (135) أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين}[آل عمران/135-136].
{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون}[آل عمران/133-135].
فالإنسان محل الخطأ, وفي الحديث الآخر: «لو لَمْ تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فستغفرون فيغفر لهم».
(المتن)
وَقَوْلُهُ (وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي) خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَوْجُودٌ. وَمَعْنَى (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ) أَيْ تُقَدِّمُ مَنْ تَشَاءُ مِنْ خَلْقِك فَيَتَّصِفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَتَحَقَّقُ بِحَقَائِقِ الْعُبُودِيَّةِ بِتَوْفِيقِك وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لِمَنْ تَشَاءُ مِنْ عِبَادِك بِخِذْلَانِك وَتَبْعِيدِك لَهُ عَنْ دَرَجَاتِ الْخَيْرِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ هَلْ كَانَ يَقُولُهُ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ قَبْلَهُ؟ فَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ " وَأَوْرَدَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ " كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ " وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ بَعْدَ السَّلَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ.
(الشرح)
وَهَذَا هُوَ الأقرب أَنَّهُ يشرع قبل السلام وبعده, يقوله خلال التشهد ويقوله بَعْدَ السلام.
(المتن)
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي. وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي. وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إلَيْهَا مَعَادِي. وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ. وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) تَضَمَّنَ الدُّعَاءُ بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ بَلْ إنَّمَا دَلَّ عَلَى سُؤَالِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَوْتَ فِي قَضَائِهِ عَلَيْهِ وَنُزُولِهِ بِهِ رَاحَةً مِنْ شُرُورِ الدُّنْيَا وَمِنْ شُرُورِ الْقَبْرِ لِعُمُومِ كُلِّ شَرٍّ أَيْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ.
[طَلَب الْعِلْم النافع]
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَارْزُقْنِي عِلْمًا يَنْفَعُنِي» رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْحَاكِمُ) . (وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحْوُهُ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: «وَزِدْنِي عِلْمًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ» وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ) فِيهِ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا النَّافِعَ وَالنَّافِعُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِيمَا يَعُودُ فِيهَا عَلَى نَفْعِ الدِّينِ وَإِلَّا فَمَا عَدَا هَذَا الْعِلْمِ فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}[البقرة/102] أَيْ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَإِنَّهُ نَفَى النَّفْعَ عَنْ عِلْمِ السِّحْرِ لِعَدَمِ نَفْعِهِ فِي الْآخِرَةِ بَلْ لِأَنَّهُ ضَارٌّ فِيهَا وَقَدْ يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَكِنَّهُ لَمْ يَعُدَّهُ نَفْعًا.
(وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْت مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْت مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَك عَبْدُك وَنَبِيُّك، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُك وَنَبِيُّك اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَأَسْأَلُك أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْته لِي خَيْرًا» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ) الْحَدِيثُ تَضَمَّنَ الدُّعَاءَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرِّهِمَا وَسُؤَالَ الْجَنَّةِ وَأَعْمَالِهَا وَسُؤَالَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ كُلَّ قَضَاءٍ خَيْرًا، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ سُؤَالُ اعْتِقَادِ الْعَبْدِ أَنَّ كُلَّ مَا أَصَابَهُ خَيْرٌ، وَإِلَّا فَإِنَّ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَى اللَّهُ بِهِ خَيْرٌ وَإِنْ رَآهُ الْعَبْدُ شَرًّا فِي الصُّورَةِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ تَعْلِيمُ أَهْلِهِ أَحْسَنَ الْأَدْعِيَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ يَنَالُونَهُ فَهُوَ لَهُ، وَكُلَّ شَرٍّ يُصِيبُهُمْ فَهُوَ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِ.
[الْقَوْل فِي الميزان ووزن الْأَعْمَال يَوْم الْقِيَامَة]
(وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» هَذَا آخِرُ حَدِيثٍ خَتَمَ بِهِ الْبُخَارِيُّ صَحِيحَهُ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي خَتْمِ تَصَانِيفِهِمْ فِي الْحَدِيثِ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْكَلِمَتَيْنِ الْكَلَامُ نَحْوُ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَقَوْلُهُ (سُبْحَانَ اللَّهِ إلَخْ) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَصَحَّ الِابْتِدَاءُ بِهِ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْخَبَرَ تَشْوِيقًا لِلسَّامِعِ إلَى الْمُبْتَدَأِ سِيَّمَا بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَوْصَافِ.
وَالْحَبِيبَةُ بِمَعْنَى الْمَحْبُوبَةِ أَيْ مَحْبُوبَتَانِ لَهُ تَعَالَى وَالْحَقِيقَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ وَالثَّقِيلَةُ فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ أَيْضًا؛ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلسُّهُولَةِ شَبَّهَ سُهُولَةَ جَرَيَانِهَا عَلَى اللِّسَانِ بِمَا خَفَّ عَلَى الْحَامِلِ مِنْ بَعْضِ الْأَمْتِعَةِ فَلَا يُتْعِبُهُ كَالشَّيْءِ الثَّقِيلِ. وَإِشَارَةً إلَى أَنَّ سَائِرَ التَّكَالِيفِ شَاقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ ثَقِيلَةٌ وَهَذِهِ سَهْلَةٌ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا تَثْقُلُ فِي الْمِيزَانِ كَثِقَلِ الشَّاقِّ مِنْ الْأَعْمَالِ.
وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ سَبَبِ ثِقَلِ الْحَسَنَةِ وَخِفَّةِ السَّيِّئَةِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَسَنَةَ حَضَرَتْ مَرَارَتُهَا وَغَابَتْ حَلَاوَتُهَا فَثَقُلَتْ فَلَا يَحْمِلَنَّكَ ثِقَلُهَا عَلَى تَرْكِهَا، وَالسَّيِّئَةُ حَضَرَتْ حَلَاوَتُهَا وَغَابَتْ مَرَارَتُهَا فَلِذَلِكَ خَفَّتْ فَلَا تَحْمِلَنَّكَ خِفَّتُهَا عَلَى ارْتِكَابِهَا.
وَالْحَدِيثُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الْمِيزَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَوْزُونِ فَقِيلَ الصُّحُفُ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ أَعْرَاضٌ فَلَا تُوصَفُ بِثِقَلٍ وَلَا خِفَّةٍ وَلِحَدِيثِ السِّجِلَّاتِ وَالْبِطَاقَةِ.
(الشرح)
وَفِيهِ الرد عَلَى الْمُعْتَزِلَة الَّذِينَ أنكروا الميزان, وَفِيهِ أَنَّهُ ميزان حسي, وَفِيهِ أن الأعمال توزن وإن كانت أقوالًاوأعمالًا إِلَّا أن الله يجعلها أجسامًا توزن يَوْم الْقِيَامَة؛ مثل ما عمل الإنسان, وفي قبره يأتيه رجل حسن الوجه حسن المنظر, وَإِذَا كَانَ عمله سيئ يأتيه رجل قبيح الوجه قبيح المنظر هَذَا عمله, ومثل ما جاء في الحديث: «البقرة وآل عمران تأتيان يَوْم الْقِيَامَة كأنهما غمامتان أو غيايتان تظللان صاحبهما», يَعْنِي العمل وَإِلَّا الْقُرْآن كلام الله, وَكَذَلِكَ سبحان الله وبحمده هَذَا عمل, يجعله الله أجسامًا توزن يَوْم الْقِيَامَة.
(المتن)
وَذَهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّ الْمَوْزُونَ نَفْسُ الْأَعْمَالِ وَأَنَّهَا تُجَسَّدُ فِي الْآخِرَةِ.
(الشرح)
هَذَا هُوَ الصواب يَعْنِي القول الأول السجلات والصحف فقط والأعمال لا توزن, هَذَا مرجوح, والصواب أن الأعمال هِيَ نفسها توزن, هِيَ الأعمال يجعلها أوزانًا توزن, مثل كون العمل يأتي لصاحبه في القبر, ومثل كَذَلِكَ عمله بالبقرة وآل عمران, هَذَا العمل, ستكون أجسام.
(المتن)
وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ ثَقُلَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ دَخَلَ النَّارَ قِيلَ لَهُ: فَمَنْ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ قَالَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ» أَخْرَجَهُ خَيْثَمَةُ فِي فَوَائِدِهِ وَعِنْدَ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ مَرْفُوعًا.
وَالْأَحَادِيثُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُوزَنُ وَأَنَّهُ عَامٌّ لِجَمِيعِهِمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي لَا سَيِّئَةَ لَهُ وَلَهُ حَسَنَاتٌ كَثِيرَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ الْأَلْفَ. وَيَخُصُّ مِنْهُ الْكَافِرَ الَّذِي لَا حَسَنَةَ لَهُ وَلَا ذَنْبَ لَهُ غَيْرَ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي النَّارِ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا مِيزَانٍ.
(الشرح)
ذكر شيخ الإِسْلامُ رحمه الله قَالَ: إِن الْكُفَّار لا حسنات لهم, وَإِنَّمَا تعد أعمالهم ويقرون عليها, ثُمَّ يساقون إِلَى النَّاس سوقًا نعوذ بالله, قَالَ تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}[مريم/86].
(المتن)
نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: الْكَافِرُ مُطْلَقًا لَا ثَوَابَ لَهُ وَلَا تُوضَعُ حَسَنَتُهُ فِي الْمِيزَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف/105] وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ «الْكَافِرُ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» (وَأُجِيبَ) بِأَنَّ هَذَا مَجَازٌ عَنْ حَقَارَةِ قَدْرِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْوَزْنِ.
(الشرح)
هَذَا خطأ هَذَا, المجاز ما في مجاز, الْقُرْآن ما فِيهِ مجاز, وَالسُّنَّة ما فِيهَا مجاز, كله حقيقة, المجاز باطل, والمجاز ما هُوَ معروف في اللغة, هُوَ حادث, ما هُوَ معروف في اللغة, ما هُوَ معروف عِنْد الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا عِنْد الصَّحَابَة.
(المتن)
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْكَافِرَ تُوزَنُ أَعْمَالُهُ أَلَا إنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُفْرَهُ يُوضَعُ فِي كِفَّةٍ وَلَا يَجِدُ حَسَنَةً يَضَعُهَا فِي الْأُخْرَى لِبُطْلَانِ الْحَسَنَاتِ مَعَ الْكُفْرِ فَتَطِيشُ الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا (قَالَ) الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}[المؤمنون/103] فَإِنَّهُ وَصَفَ الْمِيزَانَ بِالْخِفَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ الْعِتْقُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ الْمَالِيَّةِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهَا الْمُسْلِمُ لَكَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ جُمِعَتْ وَوُضِعَتْ فِي الْمِيزَانِ غَيْرَ أَنَّ الْكُفْرَ إذَا قَابَلَهَا رَجَحَ بِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ تُوَازِنُ مَا يَقَعُ مِنْهُ مِنْ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ كَظُلْمِ غَيْرِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ فَإِنْ سَاوَتْهَا عُذِّبَ بِالْكُفْرِ وَإِنْ زَادَتْ عُذِّبَ بِمَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْكُفْرِ مِنْهُ وَإِنْ زَادَتْ أَعْمَالُ الْخَيْرِ مَعَهُ طَاحَ عِقَابُ سَائِرِ الْمَعَاصِي وَبَقِيَ عِقَابُ الْكُفْرِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ.
(الشرح)
هَذَا احتمال والأقرب مثل ما سبق, مثل ما قَالَ شيخ الإِسْلامُ أن الكافر لَيْسَ له حسنات حَتَّى توزن, لَيْسَ له حسنات وَإِنَّمَا يقر عليها ثُمَّ يساق إِلَى النَّاس والعياذ بالله, الموازنة لمن كَانَ له حسنات وسيئات, والكافر لَيْسَ له حسنات؛ حَتَّى توازن؛ لِأَنَّ الكفر يقضي عليها نسأ الله السلامة والعافية.
وفي الحديث تعجل له حسناته, يَعْنِي الكافر إِذَا عمل حسنه أطعم بها طعمة في الدنيا, صحة في بدنه ووفرة في ماله وولده, فيذهب إِلَى الآخرة ولا حسنات له.
فَإِن قِيلَ: الآية ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره, هَلْ هَذَا للمؤمن؟ هُوَ يراه الكافر يقر عليها ولكن لا توزن, مثل ما قَالَ شيخ الإِسْلامُ في العقيدة الواسطية؛ الكافر لَيْسَ له حسنات وَإِنَّمَا تعد عَلَيْهِ ويقر عليها ثُمَّ يساق إِلَى النَّار.
(المتن)
اللَّهُمَّ ثَقِّلْ مَوَازِينَ حَسَنَاتِنَا إذَا وُزِنَتْ، وَخَفِّفْ مَوَازِينَ سَيِّئَاتِنَا إذَا فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وُضِعَتْ. وَاجْعَلْ سِجِلَّاتِ ذُنُوبِنَا عِنْدَ بِطَاقَةِ تَوْحِيدِنَا طَائِشَةً مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَوَفِّقْنَا بِجَعْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عِنْدَ الْمَمَاتِ آخِرَ مَا يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ.
قَدْ انْتَهَى بِحَمْدِ وَلِيِّ الْإِنْعَامِ مَا قَصَدْنَاهُ مِنْ شَرْحِ بُلُوغِ الْمَرَامِ (سُبُلِ السَّلَامِ) نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ دُخُولِ دَارِ السَّلَامِ، وَأَنْ يَتَجَاوَزَ عَمَّا ارْتَكَبْنَاهُ مِنْ الْخَطَايَا وَالْآثَامِ، وَأَنْ يَجْعَلَ فِي كِفَّاتِ الْحَسَنَاتِ مَا جَرَتْ بِهِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ الْأَقْلَامُ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ الْأَنَامَ إنَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَالْمَوْلَى لِعِبَادِهِ مِنْ أَفْضَالِهِ كُلَّ مَرَامٍ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا لَا يَفْنَى مَا بَقِيَتْ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ. وَلَا يَزُولُ إنْ زَالَ دَوَرَانُ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَاشِفِ بِأَنْوَارِ الْوَحْيِ كُلَّ ظَلَامٍ وَعَلَى آلِهِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ. وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَافَقَ الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي صَبَاحِ الْأَرْبِعَاءِ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرَ سَنَةَ 1164 خَتَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِخَيْرٍ، وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْأَعْوَامِ ا. هـ.
(الشرح)
الأصحاب داخل في الآل, الآل الصواب أَنَّهُمْ أتباعه عَلَى دينه, وَقِيلَ: المؤمنون من ذريته وأقاربه, ولكن الأرجح أَنَّهُمْ أتباعه عَلَى دينه فيدخل الصَّحَابَة دخولًا في ذَلِكَ, فيكون الصَّحَابَة ذكروا مرتين, مرة في العموم ومرة بالخصوص.