بسم الله الرحمن الرحيم
القارئ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقال الإمام العلامة المجدد لما درس من معالم التوحيد، بالنصف الثاني من القرن الثاني رحمه الله تعالى، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في كتابه الموسوم بمسائل الجاهلية.
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذه أمورٌ خالف فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ ما عليه أهل الجاهلية الكتابيين والأميين، مما لا غنى للمسلم عن معرفتها، فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء.
فأهم ما فيها وأشدها خطرًا، عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية، تمت الخسارة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[العنكبوت: 52] .
شرح الشيخ:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
هذه الرسالة العظيمة للإمام المجدد، الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، هذه رسالةٌ عظيمة بيَّن فيها رحمه الله الأمور التي خالف فيها نبي الله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ أهل الجاهلية، وأهل الجاهلية نوعان، أو قسمان:
القسم الأول: الكتابيون، أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى.
والقسم الثاني: أهل الأوثان، الوثنيون من العرب.
هذه المسائل ذكرها رحمة الله عليه، هذه الأمور عظيمة بين فيها ما خالف فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ أهل الجاهلية من الكتابيين، والأميين، الكتابيون:اليهود والنصارى، سموا الكتابيين؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزل عليهم الكتابين، أنزل على موسى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، موسى بن عمران كتاب التوراة، ولكن اليهود ضلوا وانحرفوا عن سواء السبيل.
والكتاب الثاني هو الإنجيل، أنزله الله على عيسى بن مريم، ولكن النصارى ضلوا، وآمن من وفقه الله بالنبيين عليهم الصلاة والسلام، الكريمين عليهم الصلاة والسلام من وفقه الله آمن، ومن انحرف من اليهود، وكذلك من انحرف من النصارى فهم الضلّال، وهم المراد بمخالفة النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ.
والصنف الثاني: الأميون، وهم العرب، أهل الأوثان والأصنام، وسموا بالأميين؛ لأنهم ليس عندهم كتاب، ولا يقرؤون، ولا يكتبون، يقال: أمي ينسب إلى أمه،؛ لأن الغالب أن الأم لا تقرأ، ولا تكتب، وهذا هو الغالب على العرب أنهم لا يقرؤون؛ ولهذا يسمون بالأميين، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في وصف نبيه صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
وهؤلاء أهل الكتاب والأميون، أهل الكتاب الضلاّل المنحرفون من اليهود والنصارى، والأميون من العرب الوثنيين الذين يعبدون الأصنام والأوثان هم الذين خالفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ.
هذه الأمور بيَّن فيها رحمة الله عليه مخالفة النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ لهم، وإذا تبيَّن ما هم عليه من الشرك والوثنية، وأمور الجاهلية، تبين لك حسن التوحيد وفضله، وبيان وعظم شأن الإيمان، وما منَّ الله به عليك أيها المسلم من توحيد الله، والإيمان به، وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الضد إنما يظهر حسنه الضد، فإذا عرفت الشرك ظهر لك حسن التوحيد والإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ، كما قال الشاعر:
فالضد يظهر حسنه الضد |
|
وبضدها تتبين الأشياء |
فالضد إنما يظهر حسنه إذا عرفت ضده، فإذا عرفت الشرك، عرفت فضل التوحيد، إذا عرفت أمور الجاهلية؛ تبين لك فضل التوحيد وحسنه، وموافقته في العقل السليم، وأهم ما في أمور الجاهلية كما بين الإمام رحمه الله عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، هذه من أعظم المصائب، وأعظم البلاء، وأعظم الكفر عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ هذا هو ما عليه أهل الجاهلية، هذا ما هم عليه أنهم لم يصدقوا بما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، لم يؤمنوا بالله وحده، وأنه المعبود بحق، وبأسمائه وصفاته، ولم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وأنه رسول الله حقًّا.
فهم كفار جاحدون لتوحيد الله عَزَّ وَجَلَّ، والكافر هو الجاحد لتوحيد الله عَزَّ وَجَلَّ، والكفر في اللغة الكسر، فالكافر كسر حق الله سبحانه وتعالى، ولم يظهره، ولم ينقاد لشرع الله ودينه، ولم يستجب لله ولرسوله، فهو كسر الحق، فسمي كافر، ومنه الزارع، الزرّاع يسمون في اللغة كفار؛ لأنهم يكفرون البذر في الأرض، كما قال سبحانه وتعالى في آخر سورة الفتح: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
فأعظم أمور الجاهلية وأشدها عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ من الشرع العظيم، من الكتاب المنزل، والسنة المطهرة، فهم لم يؤمنوا بألوهية الله، واستحقاقه للعبادة، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأن عبادة من سواه باطلة، بل يعبدون الأصنام والأوثان، يعبدون الله يعبدون معه غيره.
فبيَّن لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ أن هذا هو الشرك بعينه، وأنه لا يفيد، لا يفيد الإنسان أن يعبد الله حتى يفرده بالعبادة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها: لا معبود بحقٌ إلا الله، فلا بد من نفي وإثبات، ليس هناك توحيد إلا بنفيٍ وإثبات.
لا إله إلا الله، لا إله: نفي، إلا الله: إثبات، فليس هناك توحيد، ولا إيمان إلا بكفر، كفر وإيمان، كفرٌ بالطاغوت، وإيمان بالله، لا إله: هذا كفرٌ بالطاغوت، إلا الله: هذا التوحيد، قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].
فلا بد من التخلية، ثم التحلية، تخلية: لا إله، وهي البراءة، البراءة من كل معبود سوى الله، ثم إفراد الله بالعبادة، إلا الله، هذا معنى لا إله إلا الله، وهذا معنى قول الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي}[الزخرف:26-27].
إنني براء: هذه البراءة، هذا النفي، نفي الألوهية عما سوى الله، إلا الذي فطرني: هذا هو الإثبات.
فأعظم ما عليه أهل الجاهلية عدم إيمان قلوبهم بما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، هذا أعظم أمور الجاهلية، وأخطرها عدم إيمان القلب، فإذا انضم إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الشرك من الباطل تمت الخسارة، صارت الخسارة تامة وعظيمة، وصار الجهل مركب ومطبق، واستحكم الضلال والانحراف نسأل الله السلامة والعافية.
فأعظم أمور الجاهلية، أعظم ما هم عليه عدم إيمان القلب بما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وإذا انضم إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الشرك من الضلال والشرك والكفر والانحراف؛ فإن الخسارة تبلغ نهايتها نسأل السلامة والعافية.
القارئ:
المسألة الأولى: أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته، يريدون شفاعتهم عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
وهذه أعظم مسألةٍ خالفهم فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، فأتى بالإخلاص وأخبر أنه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص، وأخبر أن من فعل ما يستحسنونه فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
وهذه المسألة التي تفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
شرح الشيخ:
هذه المسألة الأولى، وهي أعظم المسائل التي جاء بها النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وهي مخالفة أهل الجاهلية، الذين يشركون الصالحين في دعاء الله عَزَّ وَجَلَّ، فالمشركون كانوا يدعون الله ويدعون غيره، فهم يشركون الله في الدعاء، كما قال سبحانه، ولكن خصهم بذلك يريدون القربة والشفاعة؛ يزعمون أن هذه المعبودات تقربهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وتنقل حوائجهم إلى الله، وتشفع لهم عند الله.
فهم يدعون هذه المعبودات، وهم متنوعون في عبادتهم، منهم من يعبد الشمس يدعوها من دون الله، منهم من يدعو القمر، منهم من يدعو الملائكة، منهم من يدعو الصالحين، منهم من يدعو الأنبياء كعيسى، منهم من يدعو الصالحين، منهم من يدعو الأشجار والأحجار، وهم حينما يدعونها يقولون: نريد القربة، نريد أن تقربنا إلى الله، نريد الشفاعة، تشفع لنا عند ا لله، وإلا فإنا نعلم أنه ليس بيدها نفعٌ ولا ضر، كالأصنام والأوثان والأشجار والأحجار والشمس والقمر والملائكة والأنبياء ما بيدهم شيء، ولا بيده ضر ولا نفع، يقولون: نعتقد هذا، لكن نريد وجاهتهم؛ لأنهم وجه عند الله، نريد أن يقربونا إلى الله، نريد شفاعتهم عند الله عَزَّ وَجَلَّ.
كما أخبر الله عنهم، قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، رد الله عليهم: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]، هو سبحانه لا يعلم أن له شريكًا، فهل أنتم تخبرون الله بشيءٍ لا يعلمه؟!{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]، وقال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر:3]، يعني قائلين، على تقدير قائلين لأن القرآن بليغ، أسلوب القرآن من أعظم الأساليب في الفصاحة، والبلاغة، نزل القرآن {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، وأسلوب العرب، ولغة العرب فيها الحذف، وفيها التقدير، فهنا فيه تقدير،{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الزمر:3]، قائلين: ما نعبدهم ، تقدير قائلين، قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
هكذا يعبدون الأصنام والأوثان، والأشجار، العبادة هي الدعاء، يطلبون منها المدد، يطلبون مثلًا من الشمس، أو من القمر، أو من الملك، أو من النبي، أو من الشجر، أو من الحجر، يقول: يا فلان أغثني، يا فلان فرج قربتي، يا فلان اشفع لي عند الله، يطلب منه يشفع له عند الله، فبيَّن الله أن هذا هو الشرك، وبيَّن أنهم كذبه في قولهم، حكم عليهم بالكذب في قولهم أنهم يشفعون لهم، وحكم عليهم بالكفر؛ ولهذا قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الزمر:3]؛ يعني قائلين،{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]، حكم عليهم بالكذب في قولهم أنهم يشفعون لهم عند الله، وحكم عليهم بالكفر، فهم كذبة كفرة، كذبة في قولهم أنهم يشفعون له، لا يشفعون، ولا يقربون، يدعون أنهم يشفعون لهم، ويدعون أنهم يقربونهم إلى الله، أكذبهم الله في هذا، فهم لا يشفعون ولا يقربون.
وحكم عليهم بالكفر فهم بهذا العمل كذبةٌ كفرة: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3]، هذه أعظم المسائل التي جاء بها النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وهي مخالفة المشركين في دعائهم غير الله عَزَّ وَجَلَّ، وإشراكهم الله في الدعاء، فهم يدعون الله، ويدعون معه غيره، فخالفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ وجاء بالإخلاص، بإخلاص التوحيد، وإفراد العبادة لله عَزَّ وَجَلَّ لا يدعى إلا الله، ولا يُذبح إلا لله، ولا يُنذر إلا لله، ولا يركع إلا لله، ولا يسجد إلا لله، هذا حق الله، ليس لأحدٌ منه شيء، هذا محض حق الله التوحيد، والعبادة، محض حق الله لا يستحقه أحد، ولا يصرفه لغيره، لا لملكٍ مقرب، ولا لنبّي ٍمرسل فضلًا عن غيرهما.
جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد الخالص، بإخلاص الدين، بإخلاص العبادة لله، بإفراد الله بالدعاء، بإفراد الله بالذبح، بإفراد الله بالنذر، بإفراد الله بالركوع، السجود، بالطلب، بالرغب، بالرهب، بالرجا، بالخوف؛ هذا محض حق الله، خالفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ وجاء بإخلاص الدين، والتوحيد، وإفراد الله تعالى بالعبادة.
وهذه المسألة من أعظم المسائل، من أعظم، وهي التي بها يتفرق الناس شيعًا وأحزابًا، يتفرقوا، فمنهم من استجاب لله ولرسوله، وأجاب دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، ووحد الله، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، استجاب لله، وقبل دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وآمن بالله وبرسوله.
ومنهم من أصر على كفره وعناده، فشرع الله الجهاد، الجهاد في سبيله، لإعلاء كلمة الله، ولإزالة الشرك، ولأجل أن يعبد الله سبحانه وتعالى، ولإظهار الدين، لإظهار دين الله على الدين كله؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]،{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، الفتنة: الشرك، {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:39].
وفي الآية الأخرى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193]
القارئ:
المسألة الأولى:أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته، يريدون شفاعتهم عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
شرح الشيخ:
انظر الآن، هم يريدون شفاعتهم ما يعتقدوا أنهم يضرون، ولا يعتقدوا أنهم ينفعون، ولا يعتقدون أنهم يخلقون، ولا يعتقدون أنهم يرزقون، بل هم معترفون بأن الخلق، والربط، والإماتة، والإحياء، والضر، والنفع بيد الله، لكن يريدون القربة والشفاعة، وهذا الشبهة بعينها هي الموجودة في العصر الحاضر، هي كما يقولون: التاريخ يعيد نفسه، هي بنفسها موجودة الآن في القبوريين، إذا جئت إلى القبوري وقلت له: يا فلان لا يجب هذا، لا يجب أن تدعو غير الله، قال: أنا أعرف أنه لا ينفع، ولا يضر، وليس بيده شيء، لكن أريد القربة والوجاهة، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأقيم الصلاة، وأوتي الزكاة، وأصلي، وأصوم، وأقرأ القرآن، كيف تجعلني مشركًا مثل الوثنيين الذين ما آمنوا بالرسول عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا صدقوا، ولا صلوا، ولا صاموا، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأصلي، وأصوم.
ولكن لا، يقال له: إن صلاتك، وشهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، والصلاة، والصيام تنتقض بدعائك غير الله، تبطل، أرأيت لو توضأ الإنسان فأحسن الوضوء، وتطهر فأحسن الطهارة، ثم خرج منه بول، أو غائط، أو ريح، أين تذهب الطهارة؟ بطلت.
فكذلك إذا كان مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمدًا رسول الله، ويصلي ويصوم، ثم دعا غير الله، قال: مدد يا فلان، أغثني يا فلان، مدد يا بدوي، مدد يا دسوقي، مدد يا نفيسة، مدد يا عبد القادر، الجيلالي، مدد يا ابن علوان، أغثني، فرج كربتي، خذ بيدي، أنا في حقك، أنا في جوارك، لا تخيب رجائي، أو ذبح له، أو نذر له بطل عمله، صار هباءً منثورًا، انتقل من كونه مسلم إلى كونه وثني، صار من أهل الأوثان، فإذا مات على ذلك صار من أهل النار، والجنة عليه حرام، كما قال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72].
قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88].
فنقول له: لا، هذه هي دعوى المشركين، دعواك هي دعوة المشركين، وكونك تصلي، وتصوم، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لايفيدك هذا مع الشرك، لا يفيدك، شرط التوحيد السلامة من الشرك، وهذا هو معنى كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، أن تعبد الله لكن ما نفيت الشرك، ما وجد عندك النفي، وجد عندك الإثبات، ولا يوجد عندك النفي، والتوحيد ما يكون إلا بنفي وإثبات.
خذوها قاعدة انتبهوا: ما في توحيد إلا بنفي وإثبات، النفي: تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله، وهذا هو معنى لا إله، والإثبات إلا الله، تثبت العبادة بجميعها لله، لا بد من نفي وإثبات، ولهذا من فعل ناقضة من نواقض الإسلام بطل إسلامه؛ ولهذا ألف العلماء في كل مذهب باب، وسموه باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، مسلم يكفر إذا فعل ناقض من نواقض الإسلام.
ما في توحيد إلا بشيئين: نفي وإثبات، كما قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256]، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}؛ هذا نفي،{وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}؛ هذا الإثبات، لا إله: هذا النفي، إلا الله: هذا الإثبات.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]؛ هذا النفي، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27]؛ هذا الإثبات، لا بد من الأمرين نفي وإثبات، لا توحيد، ولا إيمان إلا بنفي وإثبات، فهذا الذي يدعو لغير الله، ويذبح لغير الله يقول: كيف تجعلني أنا مثل الوثنيين، مثل الكفار، مثل كفار قريش، مثل اليهود والنصارى أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، النصراني لا يشهد أن لا إله إلا الله، اليهودي ما يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يشهد أن محمدًا رسول الله، الوثني ما يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، أنا أصلي وأصوم، اليهودي ما يصلي ولا يصوم، الوثني ما يصوم، كيف تجعلني مثله؟
نقول: لا، مثله؛ لأنك وقعت في الشرك، لأنك ما نفيت، ما عندك نفي، ما نفيت العبادة عن غير الله، ما تبرأت من عبادة غير الله من المعبودات التي تعبد من دون الله، فلا بد من الأمرين، والكفر بالطاغوت، كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، ومعنى الكفر بالطاغوت يعني البراءة والنفي، نفي العبادة لغير الله، وإنكارها، والبراءة منها، ومن أهلها، ومن عابديها، وتكفيرهم، ومعاداتهم، لا بد من هذا، وإلا فلا يكون توحيد، لا بد من الأمرين.
واضح هذا، هذا أمر مهم، لا بد، لا توحيد، ولا إيمان إلا بشيئين: نفي، وإثبات، ومن هنا تستطيع أن تجيب على شبهة الوثنيين في هذا العصر الحاضر.
يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأصلي وأصوم، كيف تجعلني مثل النصراني، مثل اليهودي، ومثل الوثني، الوثني واليهودي والنصراني ما يشهدون أن لا إله إلا الله، ولا يصلي، ولا يصوم، كيف تجعلنا سواء، أنا وإياه سواء، نقول: نعم، أنت عبدت غير الله، بطلت، شهادتك بطلت، وعبادتك بطلب، وصلاتك بطلت، بدعائك غير الله بطل لا ينفع.
مثل الذي يتطهر ثم يحدث، أين الطهارة؟ بطلت، لا بد يتطهر من جديد، لا بد أن يوحد الله من جديد، لا بد أن تتوب من الشرك، يتطهر من الشرك، كما أن من أحدث بالبول، والغائط والريح، لا بد أن يتطهر من جديد، يجدد الطهارة، إذا طهارته بطلت، فكذلك أنت إذا دعوت غير الله، وذبحت لغير الله ونذرت لغير الله بطلت شهادتك، وتوحيدك، وإيمانك، فلا بد أن تجدد توحيدك وإيمانك بالتوبة من هذا الشرك الذي وقعت فيه.
القارئ:
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
وهذه أعظم مسألةٍ خالفهم فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، فأتى بالإخلاص وأخبر أنه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص.
شرح الشيخ:
هذا هو دين الرسل، النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ جاء بالتوحيد، أخبر أنه دين الرسل جميعًا، ولا يقبل الله دين سواه، دين الرسل جميعًا هو التوحيد، كل نبي بعثه الله يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك، وهذا هو دين الإسلام، دين الإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، ودين آدم، ودين نوح، ودين هود، ودين صالح، ودين إبراهيم، ودين شعيب، ودين موسى، وعيسى، وجميع الأنبياء، ودين نبينا محمدًا صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ هو الإسلام، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19].
قال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فالأنبياء دينهم واحد هو التوحيد، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ: «إنَّا معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد وأمهاتنا شتى».
فدين آدم عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ هو دين التوحيد، وما جاء به من الشريعة من عند الله، دين نوح هو التوحيد، وما جاء به من الشريعة، دين هود هو التوحيد، وما جاء به من الشريعة، الشرائع تختلف، الحلال والحرام، والأوامر والنواهي تختلف من شريعة لأخرى، كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، لكن الدين واحد، توحيد الله، كل نبي بعثه الله يدعو إلى التوحيد.
قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]، قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
فالتوحيد هو دين الأنبياء جميعًا، وهو دين الإسلام، أما الشرائع فإنها تختلف من شريعةٍ لأخرى، فمثلًا في شريعة التوراة أوجب الله القصاص، أو قتل القاتل، في شريعة الإنجيل أوجب الله العفو، في شريعتنا أي التي أكبر الشرائع يخير الإنسان بين القصاص، وبين العفو إلى الدية، وبين العفو مجانًا، فالشرائع تختلف.
في شريعة يعقوب عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيه يجوز الجمع بين الأختين، في شريعتنا ممنوع الجمع بين الأختين، في شريعة آدم عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لما كان الناس قلة، كان الإنسان، ليس هناك أحد في الأرض إلا آدم وذريته، فكانت حواء تحمل بذكر وأنثى، فكان البطن التي ذكر وأثنى، تكون هذه الأنثى هي أخته التي يحرم عليه أن يتزوج بها، لكن يجوز له أن يتزوج بأخته التي في البطن السابق، أو البطن اللاحق، حتى كثر الناس، ثم بعد ذلك حرم الله زواج الأخت، هذه من الشرائع التي تختلف من شريعةٍ لأخرى، كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، أما التوحيد هذا هو دين الله، هو دين الإسلام بكل زمانٍ ومكان،{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19]، توحيد الله، والتحذير من الشرك، وتعظيم الأوامر، ووجوب طاعة الأنبياء بكل زمانٍ ومكان هذا متفقٌ عليه، هذا أصول الدين، وهذا هو التوحيد، وهذا هو دين الله الذي لا يقبل الله من أحدٍ دين سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، أما الشرائع فإنها تختلف من شريعة لأخرى.
القارئ:
فأتى بالإخلاص وأخبر أنه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص، وأخبر أن من فعل ما يستحسنونه فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
شرح الشيخ:
نعم، أتى بالدين الخالص، الدين الخالص هو الذي لا شبهة فيه، لا يشوبه شيء من الشرك، هو خالص لوجه الله عَزَّ وَجَلَّ، يراد به وجهه، فأخبر الله، أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ أن من فعل شيئًا مما يستحسنه أهل الجاهلية من الشرك، فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72].
فالجنة حرام على المشرك، أما من مات على التوحيد الخالص من الشرك الأكبر، فهو من أهل الجنة والكرامة، عاجلًا، أو آجلًا، لكن إن مات على التوحيد الخالص الخالي من الشرك الأصغر والأكبر، خالي من البدع والكبائر دخل الجنة من أول وهلة، فضلًا من الله وإحسان، وإن جاء بالتوحيد ملطخ بالمعاصي والبدع فهو على خطر، على خطر من عذاب القبر، على خطر من الأهوال التي تصيبه في موقف القيامة، وعلى خطر من دخول النار، قد يدخل النار، وقد يعفى عنه، قد يعفى الله عنه بتوحيده وإيمانه وإسلامه، وقد يعفى الله يشفع الله في، الأنبياء أوغيرهم، (32:28)، وقد يدخل النار، وإذا دخلها فقد يعذب على قدر جرائمه ومعاصيه، ثم يخرج منها لا يبقى، بل لا بد أن يخرج ولو طال به الوقت.
قد يدخلها بعض العصاة لكثرة جرائمهم وعظمها، ولكن لهم نهاية يخرجون؛ ولهذا أخبر الله عن القاتل أنه يخلد، قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، لكن هذا خلودٌ له نهاية، خلودٌ مؤمل، أما عن خلود الكافر فإنه خلود مؤبد لا نهاية له، كما قال سبحانه عن الكفرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37].
قال سبحانه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167].
قال سبحانه: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]، وتواترت الأخبار عن النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ أنه من يدخل النار يملى من أهل الكبائر، من العصاة، والموحدين، يصلون، ويقيمون، ويدخلون النار بجرائم ومعاصي ماتوا عليها، ولا تأكل النار وجوههم، حرم الله على النار تأكل وجوههم، ولكن هذا يدخلها بالزنا، هذا يدخلها بالسرقة، هذا يدخلها بالتعامل بالربا، هذا من عقوق الوالدين، هذا في قطيعة الرحم، وهم موحدون.
وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ سيشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حّدًا، وكذلك الأنبياء يشفعون، وكذلك الملائكة يشفعون، وكذلك الشهداء يشفعون، والمؤمنون يشفعون، والأفاضل يشفعون، ويبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، فيخرهم ربُّ العالمين برحمته، يقول: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، والصالحون، ولا يبقى إلا رحمة أرحم الرحمين، فيخرج قومًا من النار لم يعملوا خيرًا قط؛ يعني زيادة عن التوحيد والإيمان، والإسلام.
ولهذا قال سبحانه: {الَّذِينَ آَمَنُوا}، فإذا خرج العصاة الموحدين، وتكاملوا، ولم يبقَ منهم أحد، أطبقت النار على الكفرة، بجميع أقسامها، فلا يخرجون منها أبدًا أبداً، من اليهود، والنصارى، والوثنيين، والشيوعيين، وغيرهم من الملاحدة الكفرة، والمنافقون في الدرك الأسفل منها.
كما قال سبحانه: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة:8]؛ يعني مطبقة، {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]، والعصاة يبقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في (34:53) فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة.
فالمقصود: أن من مات على التوحيد، فهو من أهل الجنة والكرامة، آجلًا، أو عاجلًا، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، ولم يلبسوا: لم يخلفوا، إيمانهم: يعني توحيدهم، بظلم: بشرك، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
فمن لقي الله بتوحيدٍ كامل من الشرك والبدع والمعاصي، فله الأمن الكامل، والهداية الكاملة، فله الأمن من الدخول، أمن من الدخول، ومن الخروج، ومن جاء بتوحيد ملطخ بالمعاصي والكبائر؛ فله مطلق الأمن، وله مطلق الهداية، الهداية الكاملة، والإيمان له مطلق الأمن، وهو مؤمن من الخروج، ولكن ليس مؤمن من الدخول، قد يدخلها، وقد يعفى عنه، تحتمل الأمرين.
كما قال ربنا سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
القارئ:
وهذه المسألة التي تفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر.
شرح الشيخ:
نعم هذه المسألة تفرق الناس بين مسلم وكافر، وهي مسألة إخلاص الدين الله، وإفراده لعبادة الله، تفرقوا لأجلها شيعًا وأحزابًا، ولأجلها أوجب الله الجهاد في سبيله، فمن وحد الله، وأخلص له العبادة، فهو المؤمن الموحد، ومن أشرك مع الله إله غيره فهو المشرك، الذي يجب قتاله حتى يكون الدين لله.
القارئ:
وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد.
شرح الشيخ:
وقعت العداوة، صار في معاداة، وموالاة، فالموحد هذا هو الولي الذي يجب على المسلم أن يواليه، والمشرك هو العدو الذي يجب بغضه، بغضه بعضًا دينيًا، بغضه وعداوته، وقتاله إذا كان حربيًّا، وإذا كان غير حربي هذا يدعى، إذا كان من أهل الأمانة وغيره، يدعى إلى الله، ولكن لا يقاتل للحرب، فلا بيننا وبينه حرب، أما من بيننا وبينه عهد وأمان، من دخل بأمان، العمال الذين دخلوا بأمان، هؤلاء لا يقاتلوا، ولا يجب قتلهم، لا يقتلون، دمهم حرام، مالهم أيضًا كذلك حرام.
كما قال صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة»، لكن يدعون إلى الله، ولعل الله أن يهديهم، يدعون إلى الله ويبين له محاسن الإسلام.
القارئ:
ولأجلها شرع الجهاد، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
شرح الشيخ:
في هذا شرع الجهاد، شرع الجهاد لإعلاء كلمة الله، لأجل إظهار دين الله، هذه الديانة الباطلة، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فمن استجاب لدعوة الله، وقبل الدعوة فالحمد لله، ومن لم يستجب يقاتل.
القارئ:
المسألة الثانية: أنهم متفرقون في دينهم، كما قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32].
وكذلك في دنياهم، ويرون ذلك هو الصواب، فأتي بالاجتماع في الدين بقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى: 13].
فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159].
ونهانا عن مشابهتهم بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105].
ونهانا عن التفرق في الدين بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
شرح الشيخ:
هذه هي المسألة الثانية: وهي أن أهل الجاهلية متفرقون في دينهم ودنياهم، فهم مختلفون، متفرقون، ليسوا مجتمعين كما قال الله سبحانه: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32].
فهم متفرقون في دينهم، ومتفرقون في دنياهم، متشتتون، قلوبهم متفرقة، وأشخاصهم متناحرة، فليس عندهم ألفة، وليس عندهم تقارب، لا في الأعراف، ولا في الأفكار، ولا في الأجسام، ولا في الدين، ولا في الدنيا، فخالفهم دين الإسلام، وأمر بالاجتماع، والإتلاف، واتحاد القلوب على دين الله عَزَّ وَجَلَّ، كما قال سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى: 13].
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} [الأنعام:159].
قال سبحانه عن مشابهته، نهانا عن التفرق، قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
هذه مسألة التفرق، والاختلاف في الأعراف، وفي الأفكار، وفي الدين، في العقائد، في العقيدة، وفي الأعمال الدنيوية، كل هذه من خصال الجاهلية التي خالف النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، فالواجب على الأمة الإسلامية أن تتحد، أن تتحد قلوبها وأعمالها، وأبدانها، تتحد على التوحيد، تجتمع على توحيد الله عَزَّ وَجَلَّ، وعلى إقامة دينه: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، وكذلك أيضًا في دنياها، وفي أمورها، وفي سياستها، تجتمع على إمامٍ واحد، تسمع له وتطيع في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، هكذا جاء الإسلام في مخالفة أهل الجاهلية؛ ولهذا أمر الله تعالى إلى الاعتصام بحبل الله ودينه، قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
فلا بد من الاعتصام بدين الله، والاجتماع على كلمة التوحيد، وعلى دين الله، والاجتماع أيضًا في الدنيا على ولي الأمر، وطاعته لطاعة الله عَزَّ وَجَلَّ كما سيأتي، وكما جاء في النصوص في الأمر بالسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، وعدم التفرق والاختلاف، وترك الرعية رأيهم لرأي ولي الأمر في الأمور المباحة، وفيما هو في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ: «إنما الطاعة بالمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
القارئ:
المسألة الثانية: أنهم متفرقون في دينهم، كما قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32].
وكذلك في دنياهم، ويرون ذلك هو الصواب.
شرح الشيخ:
يعني أهل الجاهلية متفرقون في دينهم ودنياهم، فيرون أن هذا هو الصواب، وهناك بقايا الجاهلية عند بعض القبائل في البادية وغيرها، بعض القبائل تركب رأسها، ولا تسمع، ولا تطيع لولاة الأمور، ويرون أن لهم استقالًا، هذا خالفهم الإسلام فيه، الواجب عليهم الاجتماع في الدين والدنيا، في الدين الاجتماع على توحيد الله عَزَّ وَجَلَّ، وإقامة الدين له، وفي الدنيا السمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي الأمور المباحة، السمع والطاعة لولي الأمر في طاعة الله ورسوله، وفي الأمور المباحة، كثرة الأخذ برأي ولي الأمر.
أما ما خالف الشرع بالمعاصي لا يطاع فيها أحد كما سيأتي، إذا أمر الأمير بمعصية فلا يطاع، إذا أمر الوالد بمعصية لا يطيعه ولده، إذا أمر الزوج زوجته بمعصية لا تطيعه، إذا أمر العبدَ سيده بمعصية لا يطيعه، لكن ليس معنى ذلك أنه يتمرد عليه في الأمور فيما عدا ذلك، لا ما يخرج عن طاعته، لكن لا يطيعه في هذه المعصية، أمره أن يشرب الخمر، لا سمع ولا طاعة، أمره يتعامل بالربا؛ فلا سمع ولا طاعة، لكن ليس معنى ذلك أنه يتمرد عليه ويخرج عليه، ويقلب الناس، ويقاتل ولاة الأمر.
كذلك الأب إذا أمر ولده بمعصية لا يطيعه، لكن ليس معنى ذلك أنه يتمرد على والده، ولا يطيعه ويعصيه، لا، لا يطيعه في هذه المعصية.
كذلك الزوجة إذا أمرها زوجها بمعصية لا تطيعه، لكن لا تتمرد على زوجها فيما عدا ذلك، كذلك العبد إذا أمره سيده بمعصية لا يطيعه، لكن لا يتمرد عليه، هذا معناه أن المعاصي لا يطاع فيها أحد، لكن ليس المراد من ذلك الخروج على ولاة الأمور، لا المراد أن المعاصي لا يطاع فيها أحد، وما عدا ذلك مما هو من طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي الأمور المباحة يجب طاعة ولي الأمر.
القارئ:
أنهم متفرقون في دينهم، كما قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32].
وكذلك في دنياهم، ويرون ذلك هو الصوابفأتي بالاجتماع في الدين بقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى: 13].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159].
ونهانا عن مشابهتهم بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105].
شرح الشيخ:
هم اليهود تفرقوا واختلفوا، لا عن جهل، ولكن بعد البيان، بعد ما اتضح لهم الحق تفرقوا واختلفوا، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
لأن الجاهل قد يُعفى عنه، إذا كان يجهل هذا الشيء أو هذا الشيء من الأمور الدقيقة الخفية عليه يعفى، لكن إذا كان ليس عنده جهل هذا غير معلوم، إذا كان عنده علم، أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا بعد العلم: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُم} [الشورى:14]، ولهذا قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105].
الاختلاف والتفرق لا عن جهل، بل بعد وضوح الحق لهم؛ ولهذا قال: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
فالواجب الحذر من التفرق والاختلاف في الدين والدنيا، الواجب الاجتماع، يجب على المسلمين أن يجتمعوا على دين الله، وعلى طاعة الله، وأن تتآلف قلوبهم، وتتحد كلمتهم، ويجتمعوا أيضًا على ولي الأمر، يطيعونه في طاعة الله ورسوله، وفي الأمور المباحة.
القارئ:
ونهانا عن التفرق في الدين بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
شرح الشيخ:
حبل الله: دينه، وكتابه سبحانه وتعالى الذي أنزله على رسوله، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103]؛ بدين الله بما جاء به من الشرع القويم، والعمل بالكتاب والسنة، والعض عليها بالنواجذ؛ هذا هو الاعتصام بحبل الله.
القارئ:
المسألة الثالثة: أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة ذل ومهانة.
شرح الشيخ:
هذه المسألة الثالثة، (أن مخالفة ولي الأمر)، وعدم السمع له والطاعة فضيلة عند أهل الجاهلية، والتمرد على ولاة الأمور، على ولي الأمر والخروج عنه يعتبرونها هذه كرامة، وقوة، وعزة، هكذا هذه آنا من أهل الجاهلية، فخالفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وأمر بطاعة ولاة الأمور، بطاعة الله ورسوله.
القارئ:
المسألة الثالثة: أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة ذل ومهانة.
شرح الشيخ:
هكذا يعتقدوا أن مخالفة ولي الأمر فضيلة عندهم، والسمع والطاعة له ذل ونقيصة، فكان العرب الجاهليون هكذا، لا يحكمهم حاكم، وكان القبائل هي التي تحكم نفسها بنفسها، وهذا موجود عند بعض قبائل البادية، في بعض الجهات، يكون عندهم أنفة أن يسمعوا ويطيعوا، ترى أن القبيلة تحكم نفسها بنفسها، يكون عندها قوة تحكم نفسها بنفسها، فيرون السمع والطاعة لولي الأمر ذل ونقيصة وعار، والتمرد على ولي الأمر، وعدم السمع والطاعة فضيلة وعز وقوة، وهكذا، فجاء الإسلام وخالفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ بذلك، وأمر بالسمع والطاعة لولي الأمر، كما يأتي في الحديث: «إن الله يرضى لكم ثلاثة، ذكر منها: أن تسمعوا وتطيعوا لمن ولاه الله أمركم»، قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
القارئ:
فخالفهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ غير ذلك، وأبدأ فيه وأعاد.
شرح الشيخ:
نعم، هكذا جاء الإسلام، أمر بالسمع والطاعة لولاة الأمور، والصبر على جور الولاة، وعدم الخروج عليهم، مع النصح، فولاة الأمور لا يجوز الخروج عليهم، بالمعاصي حتى ولو جاروا وظلم، كما قرر العلماء هذا في عقائدهم، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره من أهل العلم، والطحاوي في عقيدته بيَّن أنه يُسمع ويطاع لولي الأمر، وأن يُدعى له بالصلاح والمعافاة، ولا يخرج عليهم، فلا يجوز الخروج على ولاة الأمور حتى ولو فعل المعاصي، حتى لو فعلوا الجور والظلم، بل الواجب على الرعية الصبر على جور الولاة مع النصيحة، النصيحة مبدولة من قبل أهل الحل والعقد، من قبل أهل العلم، يناقشونهم بما يليق بهم، لكن فعل المعصية، فعل الجور والظلم لا يجوز الخروج على ولاة الأمور.
بل يجب الصبر والطاعة، والصبر على جور الولاة؛ لأن الخروج على ولاة الأمور فيه مفاسد عظيمة، توجب للأمة التفرق والاختلاف، وإراقة الدماء، واختلاط الحابل بالنابل، واختلال الأمن، واختلال المعيشة، واختلال الاقتصاد، واختلال الزراعة، والتجارة، والتعليم، وتدخل الأعداء، وتربط الأعداء بهم الدوائر، وضعف الدولة، وذهاب ريحها، وقوتها، كل هذه مفاسد، ويترتب عليها مفاسد وفتن تقضي على الأخضر واليابس بسبب الخروج على ولاة الأمور، هذه مفاسد عظيمة.
وأما كونه فعل معصية، أو بعض المعاصي، ويجور ويظلم، هذه مفسدة ولكنها مفسدة صغرى، والقاعدة الشرعية: أنه إذا اجتمع مفسدتان لا يمكن درأهما، فإننا نرتكب المفسدة الصغرى لدفع المفسدة الكبرى، وإذا اجتمع مصلحتان لا نستطيع فعلهما، فإننا نفعل مصلحة العظمى وإن ذهبت المصلحة الصغرى.
فمثلًا: هذه المسألة ولي الأمر فعل معصية، في أي زمان، أو في أي مكان، شرب الخمر ولي الأمر، أو مثلًا قتل بعض الأشخاص، أو سجن بعض الأشخاص بغير حق، أو فعل أي معصية من معاصي، هذه أليست مفسدة؟ لكن أراد بعض الناس، أرادوا أن يخرجوا على ولي الأمر، أن ينكروا هذه المعاصي في الخروج عليه، قالوا: نخرج عليه ونقاتله، فإذا فعلوا ذلك ماذا يحصل؟ لا يسبقهم ولي الأمر، يكون هم يقابلون ولي الأمر، ولي الأمر على قوة، ويقاتلهم، ويقاتلونه، وماذا يحصل؟ فوضى، وافتراء، وإراقة دماء، وانقسام الناس، وتحزباتهم، واختلاف القلوب، وتدخل الأعداء، وتأتي فتن تقضي على الأخضر واليابس.
أيهما أعظم هذه المفسدة، أو مفسدة المعصية التي فعلها ولي الأمر؟ فعل شرب الخمر هذا ظلمه على نفسه، أو فعل مثلًا: ظلم بعض الناس، ظلم بعض الناس هذا مفسدة صغرى، لكن الخروج عليه يسبب المفاسد العظيمة التي تأتي على الأخضر واليابس.
فلا يجوز الخروج على ولي الأمر، فأنت الآن تريد أن تصلح، أنت عندك غيره، تريد أن تخرج على ولي الأمر، لماذا شرب الخمر؟ أو لماذا فعل كذا؟ أو لماذا ظلم بعض الناس؟ لكن أنكرت عليه شيء بمنكرٍ أعظم، أتيت بمنكرٍ أعظم.
والقاعدة الشرعية: أنه لا يجوز إنكار المنكر بمنكرٍ أعظم، أنت تريد أن تنكر عليه لماذا ظلم بعض الناس؟ أو لماذا كذا؟ أنت أتيت بمنكر أعظم، سببت إراقة الدماء، سببت اختلال الأمن، سببت انقسام الناس، سببت تدخل الأعداء، سببت حصول الفتن التي لا تنتهي، وهذه القاعدة الشرعية معروفة، لها قواعد، لها أدلتها من الشرع، لذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها: «لولا قومي حديث عهدٍ بكفر، لنقضت الكعبة، وجعلت لها بابين وأدخلت الحجر».
فالرسول عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ترك الكعبة على بناء الجاهلية، قال: لولا أن الناس دخلوا في الإسلام من جديد في مكة، وأنهم تنكر قلوبهم هذا، ولا يتحملون، «لنقضت الكعبة، وأدخلت الحجر»، الحجر الآن من الكعبة، «وفتحت لها بابًا غربيًا، وبابًا شرقيًا»، ولهذا فعل ذلك ابن الزبير في خلافته.
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ ترك هذا الأمر الذي هو مشروع، لكن درءً للمفسدة؛ لأن قلوب الناس لا تتحمل هذا، فلا يجوز إنكار منكر بمنكرٍ أعظم منه، فلا يجوز أنتنكر على ولي الأمر ظلمه وجوره، بمنكرٍ أعظم وهو الخروج عليه، ولهذا، ومن أمثلة ذلك: شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، الإمام المجاهد المعروف، في أيام التتار، الكفرة الذين دخلوا بغداد، وكان في العاصمة، عاصمة الدولة الإسلامية، واستباحوا الدماء والأعراض، وقتلوا من قتلوا، وحصلت جرائم عظيمة من هؤلاء الكفرة.
فمر شيخ الإسلام رحمه الله مع بعض تلاميذه على أناس من التتار يشربون الخمر، فأراد بعض التلاميذ أن ينكر عليهم شرب الخمر، فقال شيخ الإسلام: لا لا، لا تنكر عليه، أتركهم يشربون الخمر؛ لأنك إذا أنكرت عليهم هذا المنكر يفعلوا منكرًا أعظم، هؤلاء يشتغلون بشرب الخمر عن قتل الناس، فإذا أنكرت عليهم هذا المنكر، فتفرغوا لقطع الرؤوس، أيهما أعظم قتل الناس أم شرب الخمر؟ قتل الناس أعظم.
فقال: إنكارك عليهم يترتب عليك منكرٌ أعظم، فلا تنكر عليهم، فمن شرط إنكار المنكر ألا يترتب عليه منكرٌ أعظم، فكذلك هنا في هذه المسألة أن الإنكار على ولي الأمر، المعاصي التي يفعلها تنكر عليه بالخروج عليه، هذا منكر أعظم، يترتب فسادٌ أعظم، ثم أيضًا الصبر على جور الولاة، جور ولاة الأمور تكفيرٌ للسيئات، ورفعٌ للدرجات من المصائب، هذه مصيبة، مصيبة حصلت على الأمة، فيها تكفيرٌ للسيئات، وفيها رفعٌ للدرجات، مثل المصائب التي تصيب الإنسان كالأمراض، وفقد الأحبة، وضيع الأموال، والقحط والجدب، أليست هذه مصائب، هذه مصائب تكفر بها السيئات.
كذلك الجور الذي يحصل من ولاة الأمور هي مصائب تكفر بها السيئات، ثم أيضًا هذا الجور والظلم اللي حاصل من ولاة الأمور بسبب معاصي الرعية وما قدموا، كما قال الله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم ولي الأمر، فيتوبوا إلى الله بأنفسهم، ويصلحوا أحوالهم حتى يصلح الله لهم ولاة الأمور، كما تكونوا يولى عليك،{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، فجور الولاة مصيبة حصلت لكسب الرعية، لظلمهم، أنت ارجع لنفسك أيها الإنسان، على كل إنسان يرجع إلى نفسه، ويتوب إلى الله، ويصلح أحواله لعل الله أن يصلح له ولاة الأمور.
هذه مسألة من المسائل العظيمة.
القارئ:
المسألة الثالثة: أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة ذل ومهانة، فخالفهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ، وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلّظ في ذلك.
شرح الشيخ:
والنصيحة تقدم لهم من قبل العلماء، ومن قبل أهل الحل والعقد، يخاطبوهم بما يليق بهم، وأما غيرهم يبلغون العلماء، ويبلغون أهل الحل والعقد؛ لأن ولاة الأمور يخاطبوا بما يليق بهم، كما جاء في قصة في عهد الخلفاء الراشدين، الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه تولى بعض الولاة، فأنكر عليهم بعض الناس، فجاء بعض الناس لأسامة بن زيد فقالوا كما في صحيح البخاري: يعني ما أنكرت على الخليفة، أو ما أخبرت الخليفة، فقال: أتظنون أني لا أتكلم إلا وأن تتبعون، إني أتكلم من غير أن أفتح على الناس باب الشر.
يعني أنه يراقب ولي الأمر في وقتٍ ليس فيه أحد، قال: لا أريد أن أفتح على الناس باب شر، أنصحه فيما بيني وبينه، فالمقصود أن المناطحة منبوذة من قبل أهل الحل والعقل، ومن قبل العلماء، وبما يخاطب بما يليق بهم، وتكون سرًّا، لا علنًا أمام الناس، لأن الإعلان ونشر المساوئ أمام الناس يسبب الشر، ولما نكر الثوار السفهاء الذين جاءوا في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، السفهاء الذين جاءوا من أقطار الدولة الإسلامية، شباب سفهاء، لما نشر عبد الله بن سبأ اليهودي أفكاره، وذكر عيوب للخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، تجمع السفهاء من الكوفة، والبصرة، ومصر، وجاءوا وأحاطوا ببيت الخليفة حتى قتلوه بسبب نشر العيوب، قالوا: أنه فعل كذا، وهي ليست عيوب، لكن جعلوها عيوب، وذكر هذا عبد الله بن سبأ اليهودي، قال: إن الخليفة عثمان بن عفان فعل كذا، وأنه قرب أولياءه أقاربه ولاهم، وأنه قصد التفريق، وأنه أخذ الزكاة على الخير، وأنه أتم الصلاة في السفر، وأنه فعل وفعل، جعلوها عيوب، وجعلوا ينشرونها، فجاء السفهاء وأحاطوا ببيته حتى قتلوه.
النصيحة تكون سرًّا لولي الأمر، فيما بينه وبينه، ولا يفتح على الناس باب شر.
القارئ:
وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك، وأبدأ فيه وأعاد.
شرح الشيخ:
نعم، فإنه أمر بالسمع والطاعة والنصيحة، وغلظ في هذه المسألة، وأنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، الخروج على ولاة المعاصي كبيرة من كبائر الذنوب؛ ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، فميتته جاهلية».
هذا دليل واضح صريح، وأظن في مسلم «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، فميتته جاهلية»، الصبر يعني يحتاج إلى تحمل كالذي يصبر على الجمر، لا بد الصبر، لا يكون عندك غيرة مخالفة للشرع، لا يكون عندك أمتعان، أصبر، تحمل ولا تفارق الجماعة، «فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، فميتته جاهلية»، هذا وعيد شديد وظاهره الكفر، الموت على الجاهلية كافر، لكن المراد عند أهل العلم، المراد: أن هذا من باب الوعيد، المراد: أنه فعل كبيرة، بمعنى أنه فعل كبيرة من كبائر الذنوب، فالخروج على ولاة الأمور من كبائر الذنوب، ولو بالمعاصي، ولو فعل المعاصي، المعاصي تعالج، إذا فعل المعاصي تعالج بالنصيحة، وبالدعاء له، وبالصبر، وإذا لم تزل فلا يضرك، أديت ما عليك والحمد لله، لا تخرج ولو بدى لك المعاصي، لكن المعاصي تعالج بالنصيحة، وتعالج ولاة الأمور من قبل أهل الحل والعقد من قبل العلماء، فإن قبل فالحمد لله، وإن لم يقبل فالإثم عليه، لكن لا نخرج عليهم.
القارئ:
وهذه الثلاث التي جمع بينها فيما ذكر عنه صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: ألا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم».
شرح الشيخ:
هذه الأمور الثلاثة، هذه المسائل مسائل الجاهلية الثلاث، من المسائل الثلاث هي من المسائل العظيمة، حثَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ عليها قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: ألا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئًا»؛ هذه المسألة الأول.
«وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا»؛ هذه المسألة الثانية، «وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم»؛ هذه المسألة الثالثة، هذه المسائل الثلاث العظيمة إذا قام عليها، وعملوا بها، وثبتوا عليها، حصلوا على كل خير، واندفع عنهم كل شر، هذه المسائل الثلاث؛ أن تعبدوا الله ولا تشركوا به؛ توحيد الله، وإخلاص الدين له، والبعد عن الشرك، والبراءة من كل معبودٍ سوى الله.
والثانية: الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق، والاجتماع على الدين، والاجتماع في الدين والدنيا، والثالثة: مناطحة ولاة الأمور، وعدم الخروج عليهم بالمعاصي.
هذه الأمور الثلاثة هي التي يرضاها الله لنا كما جاء في الحديث الصحيح:«إن الله يرضى لكم ثلاثًا»، هذه يرضاها الله، رضينا بما رضي الله لنا، ألا ترضي بما رضيه الله لك أيها المسلم؟ هذا الحديث ليس في سنده شيء، وليس حديثًا ضعيفًا، بل هو في الصحيحين في البخاري ومسلم، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، أصح الكتب بعد كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ هو كتاب البخاري، ثم صحيح مسلم، هذا الحديث فيه، ما ترضي بهذا، ما ترضى بما رضي الله لك.
«إن الله يرضى لكم ثلاثًا: ألا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا»؛ هذه المسألة الثانية،«وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم»؛ هذه المسألة الثالثة، نعم كما في الصحيحين.
القارئ:
وهذه الثلاث التي جمع بينها فيما ذكر عنه صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: ألا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم»، ولم يقع خللٌ في دين الناس ودنياهم إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها.
شرح الشيخ:
نعم، الخلل الذي وقع في الدين، أو في الدنيا، إنما هو من الإخلال بهذه الأمور الثلاثة، أو ببعضها، فإذا أخلَّ الناس بالتوحيد، وأشركوا بالله وقع الخلل في دينهم، وكذلك إذا لم يعتصموا بحبل الله، وتفرقوا في دينهم، وقع الخلل في دينهم، وكذلك إذا لم يسمعوا ويطيعوا لولاة الأمور وقع الخلل في دنياهم، فهذه الأمور الثلاثة إذا اعتصم الناس بها، وثبتوا عليها، واستقاموا عليها؛ صلح لهم دينهم ودنياهم، وإذا خلوا بها، أو بعضها، فسد أمر دينهم ودنياهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هي مسائل عظيمة، هذه المسائل الثلاث، ينبغي للمسلم، ولطالب علم أن يعتني بها، وأن يعض عليه بالنواجذ، وأن يتدبرها، ويتفهمها، ما وقع الخلل في الدين، ولا في الدنيا إلا بالإخلال بها، أو ببعضها، فمن لم يوحد الله، ومن لم يخلص له العبادة، ومن يشرك بالله وقع خلل في دينه، صار في ضياع، وفي بعدٍ عن الحق والصواب في دنياه، وفي آخرته إلى الهاوية، نسأل الله السلامة والعافية، من أهل النار.
وكذلك إذا لم يعتصم الناس بدين الله، وتفرقوا شيعًا وأحزابًا، وكذلك إذا تمردوا على ولاة الأمور، وخرجوا عليهم، وأنكروا عليهم الأشياء بالخروج عليهم، خلل، حصل خلل في دنياهم، فالواجب الاعتصام بحبل الله، الواجب على المسلم والمسلمين أن يوحدوا الله، يخلصوا له العبادة، وأن يحذروا من الشرك قليله وكثيره، والواجب عليهم أن يعتصموا بحبل الله ودينه، وألا يتفرقوا، والواجب عليهم السمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله، وعدم الخروج عليهم بالمعاصي.
والخروج على ولاة الأمور في الشرع لا يجوز إلا بشروط:
الشرط الأول: أن يحصل كفرٌ موصوف بثلاثة أوصاف: كفر بواح عندكم من الله ببرهان إذا وجد كفر، يكون كفر، يفعل الكفر، وهذا الكفر صريح بواح، وفيه عندكم من الله ببرهان، أما إذا كان فيه لف ، وفيه إشكال، أو فيه شبهة، فهذا لا، كما في الحديث الصحيح: «وإلا أن ترى كفرًا بواحًا عندكم من الله ببرهان».
والكفر ثلاثة أنواع: كفر بواح، يعني صريح لا شك فيه، هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: القدرة على الخروج، يكون الإنسان عنده قدرة، أما إذا كان ما عنده قدرة، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، إذا كان خرج قتل سقط عنه.
الشرط الثالث: وجود البديل المسلم، يوجد مسلم بديل، إزالة ولي الأمر الكافر، ويستبدل بدله بولي الأمر، أما إذا زال كافر، ويأتي بدله بكافر، فما حصل المقصود، مثل الانقلابات العسكرية، الانقلابات بالدول، من الدول تزول الدولة الكافرة، وتأتي دولة كافرة، ما حصل المقصود، ما الفائدة؟ إراقة دماء، واختلال الأمن، فإذا وجدت هذه الشروط فالحمد لله، إذا فيه كفر بواح عندكم من الله فيه ببرهان، ووجد القدرة، ووجد البديل المسلم، الذي يحل محله.
أما إذا لم توجد هذه الشروط، فالحل يصبر، ولو كانت ولاية كافرة، وإذا كان له حق يطالب بحقه، ولا يأخذ أكثر من حقه، إذا كان أُخذ حقه يطالب بحقه، وإذا أعطي زيادة عن حقه، فلا، لا يأخذ أكثر من حقه، وإذا نقص حقه يطالب بحقه.
فالمقصود: أن على طالب العلم أن يعتني بها بهذا الأمر، العناية العظيمة، ويكون عنده بصيرة، وعنده فهم للتوحيد وللإسلام، ولا يكون عنده غيرة طائشة، كما يحصل عند بعض الذي لم يكن له بصيرة، يثور لأدنى سبب، ثوران غير مقيد بالشرع، لا، ينبغي يكون الشاب طالب العلم على بصيرة، وإذا أشكل عليه الأمر، يرجع إلى العلماء، يستفتي ويسأل قبل أن يفعل شيئًا لا تحمد عقباه، وفق الله الجميع لطاعته، ورزقنا الله جميعًا العلم النافع، والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.