شعار الموقع

شرح سورة الأعراف من مختصر تفسير ابن كثير_1

00:00
00:00
تحميل
58

سورة الأعراف

بسم الله الرحمن الرحيم

{المص (1) كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3) }.

(المتن)

قال الحافظ رحمه الله: قد تقدم الكلام في أول "سورة البقرة" على ما يتعلق بالحروف وبسطه، واختلاف الناس فيه.

قال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {المص} أنا الله أفصل وكذا قال سعيد بن جبير.

{كتاب أنزل إليك} أي: هذا كتاب أنزل إليك، أي: من ربك، {فلا يكن في صدرك حرج منه}.

(الشرح)

الحروف المقطعة سبق الكلام فيها وأن فيها خلاف بين العلماء, من العلماء من قال أن فيها إشارة إلى أسماء الله, يقول مثل اللام مثال اللطيف, والراء الرحمن, والخاء الخبير, وهكذا, ومنهم من قال إن فيها إشارة إلى إعجاز القرآن, وأن القرآن مكون من ثمانية وعشرين حرف ومع ذلك فهو معجز, ومنهم من قال أن الحروف المقطعة أسماء للسور, وكما ذكر الحافظ رحمه الله  يقول الله أعلم بمراده به هذا هو الأسلم, أن يقال أعلم بمراده منه.

 

(المتن)

{كتاب أنزل إليك} أي: هذا كتاب أنزل إليك، أي: من ربك، {فلا يكن في صدرك حرج منه}.

 قال مجاهد، [وعطاء] وقتادة والسدي: شك منه.

وقيل: لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به [فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل]؛ ولهذا قال: {لتنذر به} أي: أنزله إليك لتنذر به الكافرين، {وذكرى للمؤمنين}.

ثم قال تعالى مخاطبا للعالم: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} أي: اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه، {ولا تتبعوا من دونه أولياء} أي: لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره.

{قليلا ما تذكرون} كقوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف:103] . وقوله: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116]. وقوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] .

{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون (4) فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين (5) فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين (6) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين (7) }.

يقول الله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها} أي: بمخالفة رسلنا وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة، كما قال تعالى: {ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} [الأنعام: 10].

 

وكقوله: {فكأين (4) من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد} [الحج: 45].

وقال تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين} [القصص: 58].

وقوله: {فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون} أي: فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته {بياتا} أي: ليلا {أو هم قائلون} من القيلولة، وهي: الاستراحة وسط النهار.

وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو كما قال [تعالى]: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} [الأعراف: 97، 98] .

وقال: {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم} [النحل: 45-47].

وقوله: {فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين} أي: فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم، وأنهم حقيقون بهذا. كما قال تعالى: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة [وأنشأ بعدها قوما آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون. قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا] خامدين} (3) [الأنبياء: 11-15].

وقال ابن جرير: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم".

 

(الشرح)

"حتى يعذروا من أنفسهم": يعني حتى يعذر الله إليهم بإقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل, وإنزال الكتب, وبذلك تقوم الحجة عليهم, كما قال الله تعالى عن أهل النار: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}[الملك:10].

قال الله: {فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير}[الملك:11].

(المتن)

حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن أبي سنان، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: قال عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم". قال: قلت لعبد الملك: كيف يكون ذاك؟ قال: فقرأ هذه الآية: {فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين}.

وقوله: {فلنسألن الذين أرسل إليهم} الآية، كقوله [تعالى]: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65] وقوله: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} [المائدة:109] فالرب تبارك وتعالى يوم القيامة فيسأل الله الأمم عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته؛ ولهذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} قال: عما بلغوا.

وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا أبو سعيد الكندي، حدثنا المحاربي، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر [رضي الله عنهما] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام يسأل عن رعيته, والرجل يسأل عن أهله, والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده".

قال الليث: وحدثني ابن طاووس، مثله، ثم قرأ: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين}.

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة.

وقال ابن عباس في قوله: {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كانوا يعملون، {وما كنا غائبين} يعني: أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا، من قليل وكثير، وجليل وحقير؛ لأنه تعالى الشهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59].

{والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) }.

(الشرح)

في هذه الآيات الكريمات بيان منزلة هذا القرآن العظيم, وأنه أنزله الله تعالى على نبيه للبشارة والنذارة {كتاب أنزل إليك فلا يكون في صدرك حرج منه} فلا يكن في صدرك شك منه, وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته يعني لا تشكو أيها الأمة {لتنذر به وذكرى للمؤمنين}.

بين الله تعالى أن هذا القرآن بشارة ونذارة كما قال في الآيات الأخرى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا}[الإسراء:9].

{وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما}[الإسراء:10].

فهذا القرآن أنزله الله تعالى بشارة ونذارة {لتنذر به وذكرى للمؤمنين}.

وقوله سبحانه: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ...}[الأعراف:3].

فيه وجوب العمل بالقرآن وإتباعه, ولا يجوز العدول عنه بل يجب العمل بهذا القرآن العظيم, {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}[الأعراف:3].

 كثير من الناس تذكرهم قليل, لو كان تذكرهم كثيرا لعملوا بهذا الكتاب ولأفلحوا, وحصلت لهم السعادة, ثم بين سبحانه وتعالى كثيرا من الأمم أهلكها الله بسبب عصيانها وتكذيبها لرسلها فيجيئهم العذاب على غرة وغفلة, إما في الليل أو في وقت القيلولة وكلاهما وقت غفلة, {وكم من قرية} كم: للتكثير, يعني وكثير من القرى أهلكناها {فجاءها بأسنا} يعني: العذاب, {بياتا أو هم قائلون} إما أن يأتيهم العذاب في الليل, أو يأتيهم في وقت القيلولة, فإذا جاءهم وبغتهم اعترفوا بظلمهم لأنفسهم, {فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين}[الأعراف:5].

وبين سبحانه وتعالى أن يوم القيامة تسأل الأمم عن رسلها, وتسأل الرسل عن أممها, {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين}[الأعراف:6].

تسأل الأمم: هل بلغها نبيها؟ تسأل هل جاءتها الرسل؟ هل بلغتها؟ ويسأل الرسل: هل بلغوا رسالات ربهم, وتشهد هذه الأمة على الأمم السابقة أن رسلهم بلغوهم (نوح), فمن بعده, كما قال سبحانه وتعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ...}[البقرة:143].

{فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين}[الأعراف:7] يعني: أن كل إنسان يعرض عليه عمله ويخبر ويعرض عليه كتابه كتاب أعماله, والله تعالى حافظ على كل إنسان, وهو قائم على كل نفس بما كسبت, وحافظ على كل إنسان عمله, وهو حاضر وليس بغائب, ولهذا قال سبحانه: {وما كنا غائبين}.

فيجب على العبد الحذر من بأس الله ونقمته, وجهاد النفس على الاستقامة على طاعة الله, فإن الله محصي عمل العبد ومكتوب عليه وسيقص عليه ويخبر به بعلم, والله سبحانه حاضر ليس بغائب.

طالب: الصوت غير واضح

الشرح: نعم هذا واجب تبليغ الدعوة واجب على الأمة كلها يجب عليك أن تبلغ دين الله وتنصر دين الله, والإنسان إذا ترك ذلك أثم, واجبه كفائي, وإذا قام به طائفة سقط عن الباقين.

القارئ:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

(المتن)

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير سورة الأعراف قال الله تعالى: {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (9) }.

يقول [تبارك و تعالى]: {والوزن} أي: للأعمال يوم القيامة {الحق} أي: لا يظلم تعالى أحدا، كما قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47].

وقال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} [النساء: 40] وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه فأمه هاوية * وما أدراك ما هيه * نار حامية} [القارعة: 6-11].

وقال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون} [المؤمنون: 101 -103].

فصل:

والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإن كانت أعراضا، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.

قال البغوي: يروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما, كما جاء في الصحيح من أن "البقرة" و "آل عمران" يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -أو: غيايتان -أو فرقان من طير صواف. من ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك.

وفي حديث البراء، في قصة سؤال القبر: "فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح" وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

وقيل: يوزن كتاب الأعمال، كما جاء في حديث البطاقة، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها: "لا إله إلا الله" فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة".

رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه.

وقيل: يوزن صاحب العمل، كما في الحديث: "يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين، فلا يزن عند الله جناح بعوضة" ثم قرأ: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} [الكهف: 105].

وفي مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: "أتعجبون من دقة ساقيه، فو الذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد".

وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم.

(الشرح)

نعم, كما قال الحافظ رحمه الله الصواب أنه توزن الأعمال, وصحائف الأعمال, والأشخاص, كما دلت هذه النصوص والأعمال يقلبها الله أجساما, كما في الحديث: أن "البقرة" و "آل عمران" يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -أو: غيايتان -أو فرقان من طير صواف. يعني: العمل, العمل بالقرآن.

وكذلك في الحديث: إذا وضع الإنسان في قبره آتاه رجلا حسن الوجه, حسن المنظر. هذا عمله, قلبه الله شخص, والذي عمله سيئ يأتيه رجل قبيح المنظر منتن الريح, ويؤذيه ويروعه ثم يضربه بمرزبة من حديد هذا هو العمل, والأشخاص يوزنون أيضا كما في الحديث: «يؤتى بالرجل السمين العظيم لا يزن عند الله جناح بعوضه» لخبث عمله.

ولما كشف الريح عن دقة ساق عبد الله بن مسعود ضحك الصحابة, فقال: مما تضحكون؟ قالوا: يا رسول الله من دقة ساقيه, فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من جبل أحد».

بسبب عمله الطيب, الثقل والخف على حسب العمل, فتوزن الأعمال.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الكافر لا توزن أعماله, كما أقر هذا في العقيدة الواسطية, قال: لأن الكافر ليس له حسنات, وإنما تعرض أعماله وتقدر ويقر عليها ثم يساق إلى النار سوقا, وقيل: إن الآية عامة تشمل المؤمن والكافر {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}[الأعراف:8].

فيه دليل على أن الميزان حق, وأنه لابد منه ولابد من الإيمان به, وفيه دليل على أن من ثقلت موازينه فإنه يكون من الناجين, ومن خفت موازينه فإنه يكون من الهالكين, ومن تساوت حسناته وسيئاته هذا يستحق دخول النار وقد يشفع فيه فينجو ففيه دليل على أن من ثقلت موازينه فهو من الناجين, ومن خفت موازينه فهو من الخاسرين.

ولهذا قال سبحانه: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}[الأعراف:8]^

{ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}[الأعراف:9]^

خسروا أنفسهم بإنكارهم لآيات الله وجحدهم لها.

سؤال: أحسن الله إليك, المرور على الصراط كذلك بالنسبة للكافرين؟

الشرح: المرور على الصراط هذا خاص بالمؤمنين, لأن الكفار يساقون إلى النار سوقا, {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا}[مريم:86].

لكن المؤمنين هم الذين يمرون على الصراط, فمنهم من يسلم ومنهم من يسقط في النار, ومن تجاوز الصراط وصل إلى الجنة, والكافر ليس له طريق يمر على الصراط حتى يتجاوز النار لا يتجاوزها.

سؤال: أحسن الله إليك, الآية تكون مقصوصة: {وإن منكم إلا واردها}؟

الشرح: نعم {وإن منكم} خطاب {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}, يتساقون وفي الآية الأخرى جمع بينها وبين الآية الأخرى {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا}, {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا}.

والحديث الذي فيه أنه يسلط عليهم العطش, وتمثل لهم النار كأنها سراب من بعد فيساقون إلى النار ويتساقطون فيها, نسأل الله السلامة والعافية.

سؤال: ×××

الشرح: المنافقون يكونوا مع المؤمنين لأنهم كانوا معهم في الدنيا ويمشون معهم ثم يطفئ نورهم ويبقون في الظلمة, نسأل الله العافية.

سؤال: ×××

الشرح: نعم هؤلاء في النار, النار, إذا قيل أنه توزن أعمال الكافر فالكافر مخلد والعاصي لا يخلد العاصي الموحد.

سؤال: ×××

الشرح: ظاهر الآيات أنها توزن, وشيخ الإسلام أقر أنها لا توزن ×××

(المتن)

قال الله تعالى:{ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون (10) }.

يقول تعالى ممتنا على عبيده فيما مكن لهم من أنه جعل الأرض قرارا، وجعل لها رواسي وأنهارا، وجعل لهم فيها منازل وبيوتا، وأباح منافعها، وسخر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها، وجعل لهم فيها معايش، أي: مكاسب وأسبابا يتجرون فيها، ويتسببون أنواع الأسباب، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك، كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم: 34].

وقد قرأ الجميع: {معايش} بلا همز، إلا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج فإنه همزها. والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز؛ لأن معايش جمع معيشة، من عاش يعيش عيشا، ومعيشة أصلها "معيشة" فاستثقلت الكسرة على الياء، فنقلت إلى العين فصارت معيشة، فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال، فقيل: معايش. ووزنه مفاعل؛ لأن الياء أصلية في الكلمة. بخلاف مدائن وصحائف وبصائر، جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من: مدن وصحف وأبصار، فإن الياء فيها زائدة، ولهذا تجمع على فعائل، وتهمز لذلك، والله أعلم.

(الشرح)

في هذه الآيات الكريمة امتنان الله تعالى على عباده, وتمكينه في الأرض, وجعل المعايش فيها بأن سخر لهم وهيئ لهم أنواع المكاسب, فوجب على العباد أن يشكروا الله لكن الشاكر قليل, والأكثر منكر لنعمة الله, ولهذا قال سبحانه: {ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون}[الأعراف:10].

فالله تعالى مكن لعباده في الأرض, وهيئ لهم أنواع المكاسب من التجارات والبيع والشراء واستخراج كنوز الأرض والزرع والحرث والبذر, واستخراج أيضا اللآلئ من البحار والأسماك كل هذا من نعمه سبحانه وتعالى, ولكن الشاكر قليل, ولهذا قال سبحانه: {ولقد مكناكم في الأرض} هذا المراد التمكين, والإنعام على العباد بأنواع المكاسب, لكن الشاكر قليل, فيه دليل على أن وجوب الشكر وأن الشاكر قليل, كما قال سبحانه: {وقليل من عبادي الشكور}, ففيه دليل على أن الأكثرية هم الهالكة, {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}, {ولكن أكثر الناس لا يشكرون}, {وقليل من عبادي الشكور}, {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}.

(المتن)

قال الله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11) }.

ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس، وما هو منطو عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، فقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم [فسجدوا], وهذا كقوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [فسجد الملائكة]} الآية [الحجر: 28 -30].

وذلك أنه تعالى لما خلق آدم، عليه الصلاة السلام، بيده من طين لازب، وصوره بشرا [سويا] ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الرب تعالى وجلاله، فسمعوا كلهم وأطاعوا، إلا إبليس لم يكن من الساجدين. وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير "سورة البقرة".

وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير: أن المراد بذلك كله آدم، عليه الصلاة السلام.

وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} قال: خلقوا في أصلاب الرجال، وصوروا في أرحام النساء.

رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

ونقله ابن جرير عن بعض السلف أيضا: أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم: الذرية.

وقال الربيع بن أنس، والسدي، وقتادة، والضحاك في هذه الآية: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} أي: خلقنا آدم ثم صورنا الذرية.

وهذا فيه نظر؛ لأنه قال بعده: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} فدل على أن المراد بذلك آدم، وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر، كما يقول تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم: {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى} [البقرة: 57].

والمراد: آباؤهم الذين كانوا في زمان موسى [عليه السلام], ولكن لما كان ذلك منة على الآباء الذين هم أصل صار كأنه واقع على الأبناء. وهذا بخلاف قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ثم جعلناه نطفة في قرار مكين] }[المؤمنون: 12 -13] فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة وذريته مخلوقون من نطفة، وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس، لا معينا، والله أعلم.

 

(الشرح)

 والراجح كما ذكر الحافظ أنه في آدم عليه السلام, {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}, الآية صريحة في أن المراد خلق آدم, وإنما قال: خلقناكم ثم صورناكم للجمع لأنه أبو الذرية لأنه أبوهم {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين}.

فيه أن الملائكة امتثلوا أمر الله, وأما إبليس فإنه عصى الله وامتنع من السجود.

(المتن)

قال الله تعالى: {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12) }.

قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: {ما [منعك] ألا تسجد إذ أمرتك} لا هاهنا زائدة.

وقال بعضهم: زيدت لتأكيد الجحد، كقول الشاعر: "ما إن رأيت ولا سمعت بمثله".

فأدخل "إن" وهي للنفي، على "ما" النافية؛ لتأكيد النفي، قالوا: وكذلك هاهنا: {ما منعك ألا تسجد} مع تقدم قوله: {لم يكن من الساجدين}.

حكاهما ابن جرير وردهما، واختار أن "منعك" تضمن معنى فعل آخر تقديره: ما أحوجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك، ونحو ذلك. وهذا القول قول قوي حسن، والله أعلم.

(الشرح)

وفي هذه الآيات الكريمة أن الملائكة امتثلوا أمر الله وسجدوا لآدم, امتثال لأمر الله وتعظيم وإكراما لآدم, وفيه أن إبليس امتنع من السجود, وأنه عارض أمر الله بالقياس الفاسد, حيث قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقتني من طين}.

وفيه أن إبليس أنه لما استكبر عن أمر الله صار كافرا بذلك, كفر, وأن الكفر يكون بالإباء والاستكبار كما يكون مع التصديق, إبليس لم يكن مكذب ولكنه مصدق, لكن كفره بأن أبى واستكبر عارض أمر الله بالإباء والاستكبار, ولم يعارضه بالإنكار والجحود, فالإنكار والجحود كفر, والإباء والاستكبار كفر آخر, كما أن الشك في أصل من أصول الإيمان يكون كفرا مجرد الشك والظن.

وكما أن الكفر يكون أيضا في النفاق, ويكون في القلب وهو يظهر الإسلام, كل هذه أنواع من الكفر.

وكذلك اليهود كفر بالإباء والاستكبار {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}[البقرة:87].

فالكفر يكون بالتكذيب والجحود والتكذيب والجحود يكون بالقلب وباللسان, ويكون الكفر بالإباء والاستكبار مع التصديق, ويكون الكفر بالشك والظن, ويكون الكفر بالنفاق وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.

(المتن)

وقول إبليس لعنه الله: {أنا خير منه} من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه الله: وأنا خير منه، فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه، بأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه، وهو الطين.

(الشرح)

هذا كما كان يزعم.

(المتن)

 فنظر اللعين إلى أصل العنصر، ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص قوله تعالى: {فقعوا له ساجدين} [ص:72] فشذ من بين الملائكة بترك السجود؛ فلهذا أبلس من الرحمة، أي: أيس من الرحمة، فأخطأ قبحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضا، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح. والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة؛ ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره في الرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.

وفي صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" هكذا رواه مسلم.

وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا إسماعيل، عن عبد الله بن مسعود، قال: حدثنا نعيم ابن حماد، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله الملائكة من نور العرش، وخلق الجان من [مارج من] نار، وخلق آدم مما وصف لكم".

قلت لنعيم بن حماد: أين سمعت هذا من عبد الرزاق؟ قال: باليمن وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح: "وخلقت الحور العين من الزعفران".

وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا محمد بن كثير، عن ابن شوذب، عن مطر الوراق، عن الحسن في قوله: {خلقتني من نار وخلقته من طين} قال: قاس إبليس، وهو أول من قاس. إسناد صحيح.

وقال: حدثني عمرو بن مالك، قال: حدثني يحيى بن سليم الطائفي عن هشام، عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضا.

 

(الشرح)

نعم وفي هذه الآية أن الله تعالى وبخ إبليس في امتناعه من السجود لآدم, وأن إبليس اعترض على الله وقابل النص بالقياس الفاسد, وهو أنه ادعى أن عنصره أحسن من عنصر آدم, فهو أفضل, والفاضل لا يسجد للمفضول, هكذا زعم, عارض أمر الله بالإباء والاستكبار {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}.

يقول عنصري النار, وعنصر آدم الطين, والطين خير من النار فتكون أفضل ولا يخضع الفاضل للمفضول, وقد أخطأ لعنه الله أيضا في هذا, فعنصر آدم التراب والطين, والتراب بطبيعته الركون والثبات والاستقرار, وما حوله يزكو وينبت, بخلاف النار فإن من طبيعتها الخفة والعلو والطيش, وما حولها يهلك {لا تبقي ولا تذر} فكيف يقول هذا الأبله أن عنصره خيرا من عنصر آدم!, وفيه أن الله تعالى أخرج آدم وإبليس من الجنة, وأن آدم تاب إلى الله وقبل الله توبته, وإبليس استمر على كفره نسأل الله العافية, {قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}.

لما عصى إبليس واستكبر وكان من الكافرين سأل النظرة أن ينظر إلى الله يوم القيامة؟ فالحليم الرءوف أعطاه النظرة أعطاه ذلك وأنظره {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون}[الحجر:36],{قال فإنك من المنظرين}[الحجر:37],{إلى يوم الوقت المعلوم}[الحجر:38].

لحكمة بالغة حتى ينفذ ما قضاه الله وقدره, من عصيان العاصي وطاعة المطيع.

(المتن)

قال الله تعالى: {قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين (13) قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15) }.

 

يقول تعالى مخاطبا لإبليس بأمر قدري كوني: {فاهبط منها} أي: بسبب عصيانك لأمري، وخروجك عن طاعتي، فما يكون لك أن تتكبر فيها.

قال كثير من المفسرين: الضمير عائد إلى الجنة، ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى.

{فاخرج إنك من الصاغرين} أي: الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده، مكافأة لمراده بضده، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين، قال: {أنظرني (5) إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين} أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.

قال الله تعالى: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم}.

(انتهى)

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد