(المتن)
قال الإمام الحافظ بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره في سورة الأعراف, في تفسيره لقول الله جل وعلا: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون}[الأعراف:52].
{هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}[الأعراف:53].
قال رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبرا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول، وأنه كتاب مفصل مبين، كما قال تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت [من لدن حكيم خبير] } (1) الآية [هود:1].
وقوله: {فصلناه على علم} أي: على علم منا بما فصلناه به، كما قال تعالى: {أنزله بعلمه} [النساء:166].
قال ابن جرير: وهذه الآية مردودة على قوله: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه [لتنذر به وذكرى للمؤمنين (3) ] } [الأعراف:2] {ولقد جئناهم بكتاب [فصلناه على علم] } الآية.
وهذا الذي قاله فيه نظر، فإنه قد طال الفصل، ولا دليل على ذلك، وإنما لما أخبر عما صاروا إليه من الخسار في الدار الآخرة، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدار الدنيا، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، كقوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء:15].
ولهذا قال: {هل ينظرون إلا تأويله} أي: ما وعدوا من العذاب والنكال والجنة والنار. قاله مجاهد وغير واحد.
وقال مالك: ثوابه. وقال الربيع: لا يزال يجيء من تأويله أمر، حتى يتم يوم الحساب، حتى يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ.
{يوم يأتي تأويله} أي: يوم القيامة، قاله ابن عباس - {يقول الذين نسوه من قبل} أي: تركوا العمل به، وتناسوه في الدار الدنيا: {قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} أي: في خلاصنا مما نحن فيه، {أو نرد} إلى الدار الدنيا {فنعمل غير الذي كنا نعمل}.
كما قال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} [الأنعام:27، 28].
كما قال هاهنا: {قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي: [قد] خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي: ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا ينصرونهم، ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم مما هم فيه.
(الشرح)
هذه الآيات الكريمة من قوله تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون}[الأعراف:52].
{هل ينظرون إلا تأويله ...}[الأعراف:53].
بين الله تعالى فيها أنهم جاءهم بكتاب مع الرسول الذي أرسله, كل رسول أرسله معه كتاب فيه مفصل, فيه تفصيل, وفيه الهداية والرحمة, ثم قال سبحانه: {هل ينظرون إلا تأويله} والمراد بالتأويل هنا: وقوع المخبر به وهي العاقبة التي يؤول إليها الكلام, فتأويل ما أخبر الله به من القيامة والحساب والجنة والنار وقوع ذلك يوم القيامة وقوع هذا الشيء, فتأويل الخبر وقوع المخبر به, وتأويل الأمر فعل المأمور به, كما قالت عائشة رضي الله عنها لما نزل قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}.
قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت هذه السورة يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وربنا وبحمدك اللهم اغفر لي, يتأول القرآن». يعني يفعل ما أمره الله به في القرآن, فتأويل الخبر وقوع المخبر به, وتأويل الأمر فعل المأمور به, فتأويل ما أخبر الله به من القيامة وما أخبر به من الحساب والجنة والنار وقوع ذلك يوم القيامة, ومشاهدته, تأويل ما أخبر الله به المؤمنين من الجنة دخول المؤمنين في الجنة ومباشرتهم له, وتأويل ما أخبر الله به عن أهل النار وقوع ذلك, ومباشرة أهل النار له, نعوذ بالله, فتأويل الخبر وقوع المخبر به, ويأتي التأويل بمعنى آخر وهو التفسير.
كما كان يقول ابن جرير رحمه الله: القول في تأويل قول الله تعالى يعني في تفسيره.
قال ابن عباس: أنا ممن يعلم تأويله يعني تفسيره, فهذان قولان معروفان عند السلف, التأويل بمعنى وقوع المخبر به من الحقيقة التي يؤول إليها الكلام.
والتأويل بمعنى التفسير, ومن ذلك تأويل الخبر بمعنى وقوع المخبر به, في قول الله تعالى عن يوسف لما وقع تحقيق الرؤية, قال {هذا تأويل رؤياي من قبل} وقد رأى الرؤية وهو صغير قال لأبيه {يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}, تحققت رؤياه بعد أربعين سنة أو ثلاثين سنة, فجاء أبوه وأمه وأخوته جاءوا إليه من فلسطين إلى مصر, ولما دخلوا عليه رفع أبويه على العرش وخروا له سجدا, وكان هذا جائزا في شرعيتهم سجود سلام وتحية, فقال يوسف: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل, وقع تأويل الرؤية وهي التي رآها أنه رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين, وقع هذا, قال هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.
ويأتي التأويل بمعنى التفسير, فهذان قولان مشهوران عند السلف, هناك قول ثالث معنى ثالث للتأويل عند المتأخرين: وهي صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به, هذا تفسير لتأويل الحادثة هذا حادث عند المتأخرين, المعروف عند السلف المعنيان الأوليان:
التأويل, بمعنى الحقيقة التي يؤول بها الكلام, وتأويل الخبر وقوع المخبر به, وتأويل الأمر فعل المأمور به, والثاني: التأويل بمعنى التفسير.
والمراد هنا في الآية: المعنى الأول, {هل ينظرون إلا تأويله} يعني وقوع الخبر الذي أخبر الله به.
{يوم يأتي تأويله} يوم يأتي وقوع الخبر {يقول الذين نسوه من قبل} نسوا هذا اليوم ولم يعملوا به {قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} حتى يخلصونا من عذاب الله, {أو نرد} إلى الدار الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ وهيهات, الشفعاء لا ينفعون ولا يردون, ولهذا قال سبحانه: {قد خسروا أنفسهم}, حيث أقحموها النار بفعل أسبابها من ترك عبادة الله, وعدم الإيمان بالرسل, {وضل عنهم ما كانوا يفترون}, يعني بعد عنهم ولم ينفعهم ما كانوا يعبدونه من دون الله.
(المتن)
قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54) }.
يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم: سماواته وأرضه، وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام هي: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة -وفيه اجتمع الخلق كله، وفيها خلق آدم، عليه السلام. واختلفوا في هذه الأيام: هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان؟ أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد، والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع -مولى أم سلمة -عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل".
فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه، عن حجاج -وهو ابن محمد الأعور -عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة، عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا، والله أعلم.
(الشرح)
نعم, هذا الصواب كما قال الحافظ رحمه الله أن هذا الحديث وهم, رفعه وهم, وأنه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار, وليس مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم, لأن هذا الحديث مخالف للقرآن, يوم السبت ما في خلق, الخلق في ستة أيام قال تعالى: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام} أولها الأحد, وآخرها الجمعة, وأما يوم السبت فليس فيه خلق, ولهذا قال اليهود عليهم لعائن الله: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم تعب واستراح في يوم السبت قبحهم الله, فأنزل الله: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} يعني من تعب وإعياء, وهو قادر سبحانه على أن يخلقها في لحظة, ولكن له الحكمة البالغة, والصواب: أن هذه الأيام هي الأيام التي نعرفها, ليس كل يوم كألف يوم كما قال بعض السلف, لأن هذا هو ظاهر الآيات وهو ظاهر الخطاب, لمن خاطبنا بما نعرف, فهي الستة أيام مثل أيامنا هذه, والله سبحانه له الحكمة البالغة من الحكم تعليم العباد على الترتيب, وتوزيع الأعمال شيء بعد شيء, وإلا فهو سبحانه قادر على أن يخلقها في لحظة واحدة بكلمة: {كن} , {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}, ليس عاجزا سبحانه, لا يلحقه عجز ولا نقص, ولكنه حكيم سبحانه, له الحكمة, من الحكم ما يظهر لعباده ومنها ما لا يظهر.
القارئ: أحسن الله إليك, يقول شيخ الإسلام في الجواب الصحيح: فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين, وعبد الرحمن بن مهدي, والبخاري, وغيرهم أنه غلط وأنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم, بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار.
الشرح: هذا من كلامه.
القارئ: هذا أنا نقلته من جواب صحيح.
الشرح: نعم ما في شك هذا يعني معروف عند أهل العلم عند النقاد والحفاظ وأهل العلم قاطبة معروف أن هذا وهم وأنه مخالف للقرآن, فالوهم حصل في الرفع وهو ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ولكنه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار, فوهم بعض الرواة فقال عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أما كعب الأحبار معروف له أغلاط وله أوهام وهذا من أغلاطه وأوهامه, وهو من أهل الكتاب الذين أسلموا.
سؤال: قوله في الحديث: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ما يرد هذا التأويل أنه عن كعب الأحبار ؟
الشرح: قوله في الحديث: أخذ بيدي هذا من الوهم هذا من الوهم كله وهم نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله: أخذ بيدي كل وهم هذا.
سؤال: يعني وهم الراوي؟
الشرح: نعم وهم الرواة وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(المتن)
وأما قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.
(الشرح)
نعم مع إثبات المعنى إمرارها كما جاءت مع إثبات المعنى, الاستواء معلوم, والمعنى أنه لابد من إثبات الاستواء في هذه الآية, وله أربعة معاني: (الاستقرار, والصعود, والعلو, والارتفاع).
كما قال السلف وهذه هي معاني الاستواء, وعلى هذه المعاني الأربع تدور تفاسير السلف للاستواء: (استقر, وعلا, وصعد, وارتفع), فالله تعالى مستوي على العرش حقيقة بهذه المعاني الأربع استواء يليق بجلاله وعظمته, والكيفية لا تعلم, كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء؟ قال: الاستواء معلوم, والكيف مجهول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة.
وهذا يقال في جميع الصفات الأمة تلقى العلماء هذه المقالة عن مالك بالقبول, النزول يقال النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة, يضحك ربنا يقال الضحك معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة, يقال هذا في جميع الصفات, فالصفات تثبت لله تعالى معانيها فهي معلومة المعاني لأن الله أمر بالتدبر ولم يستثني شيئا, ولكن الكيفية مجهولة لا يعلم الكيفية, الكيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى, لا يعلم كيفية صلاته إلا هو كما أنه لا يعلم كيفية ذاته إلا هو.
(المتن)
وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله.
الشرح: نعم, وكل ما يظهر يدور في الخيال, أو يدور في أذهان المشبهين فالله تعالى بخلاف ذلك.
(المتن)
والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى:11] بل الأمر كما قال الأئمة - منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري -: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر".
وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى.
وقوله تعالى: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا} أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، أي: سريعا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا، كما قال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} [يس:37-40] فقوله: {ولا الليل سابق النهار} أي: لا يفوته بوقت يتأخر عنه، بل هو في أثره لا واسطة بينهما؛ ولهذا قال: {يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} - منهم من نصب، ومنهم من رفع، وكلاهما قريب المعنى.
الشرح: مسخرات هذا النصب, أو مسخرات بالرفع {والشمس والقمر والنجوم مسخرات}, وصف النجوم بمسخرات جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة, أو مسخرات بالرفع يعني هن مسخرات.
(المتن)
أي: الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته؛ ولهذا قال منبها: {ألا له الخلق والأمر} ؟ أي: له الملك والتصرف، {تبارك الله رب العالمين} كما قال [تعالى] {تبارك الذي جعل في السماء بروجا [وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا][الفرقان: 61].
الشرح: تبارك من صفات الله لا تقال إلا في جناب الرب, الله تعالى هو المتبارك وعبده المبارك, ويغلط بعض الناس يقول إذا جاءهم زائر قال: تبارك علينا, وهذا خطأ هذا خاص بالله, وإنما يقال إذا كان الشخص فيه بركة أنت شخص مبارك أو فيك بركة, وهذا من بركتك التي جعل الله فيك كما قال أسيد بن حضير, وعباد ××× في عائشة لما نزلت آية التيمم: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر".
فهذه من البركة التي جعلها الله في الشخص المبارك, وأما تبارك فهي خاصة بالله, فالله هو المتبارك وعبده المبارك.
كما قال تعالى عن عيسى: {وجعلني مباركا أينما كنت}.
(المتن)
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام أبو عبد الرحمن، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه -وكانت له صحبة -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه؛ لقوله: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
وفي الدعاء المأثور، عن أبي الدرداء -وروي مرفوعا -: "اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله".
قوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين (56)}.
أرشد سبحانه وتعالى عباده إلى دعائه، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [قيل] معناه: تذللا واستكانة، و {خفية} كما قال: {واذكر ربك في نفسك [تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (2) ] } [الأعراف:205].
وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري [رضي الله عنه] قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب الحديث.
وقال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: {تضرعا وخفية} قال: السر.
وقال ابن جرير: {تضرعا} تذللا واستكانة لطاعته. {وخفية} يقول: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا ومراءاة.
وقال عبد الله بن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس.
وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية [إنه لا يحب المعتدين] } وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: {إذ نادى ربه نداء خفيا} [مريم:3].
وقال ابن جريج: يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روي عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: {إنه لا يحب المعتدين} في الدعاء ولا في غيره.
وقال أبو مجلز: {إنه لا يحب المعتدين} لا يسأل منازل الأنبياء.
الشرح: وهذا نوع من الاعتداء, الاعتداء أنواع منها أن يسأل ما لا يليق به يسأل منازل الأنبياء هذا من العدوان, ومنها أن يدعو بإثم وقطيعة رحم.
(المتن)
وقال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن زياد ابن مخراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد؛ أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول: اللهم، إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال: لقد سألت الله خيرا كثيرا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء". وقرأ هذه الآية: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}.
وإن بحسبك أن تقول: "اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل".
ورواه أبو داود، من حديث شعبة، عن زياد بن مخراق، عن أبي نعامة، عن ابن لسعد، عن سعد، فذكره والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي نعامة: أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني، سل الله الجنة، وعذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور".
وهكذا رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان به. وأخرجه أبو داود، عن موسى ابن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نعامة -واسمه: قيس ابن عباية الحنفي البصري -وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم.
وقوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد.
فنهى [الله] تعالى عن ذلك، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه، فقال: {وادعوه خوفا وطمعا} أي: خوفا مما عنده من وبيل العقاب، وطمعا فيما عنده من جزيل الثواب.
ثم قال: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} أي: إن رحمته مرصدة للمحسنين، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون. [ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي] }[الأعراف: 156، 157].
وقال: {قريب} ولم يقل: "قريبة"؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قريب من المحسنين.
الشرح: وفي هذا فضل الإحسان, وأن رحمة الله قريب منهم, والمحسنون هم الذين أحسنوا في عبادة الله, فأخلصوها لله وصوبوها على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم, وأحسنوا إلى الخلق في أداء الزكاة, وأداء الحقوق وغيرها, وكونهم محسنين أحسنوا إلى عبادة الله وأحسنوا إلى الخلق فرحمة الله قريبة منهم.
(المتن)
وقال مطر الوراق: تنجزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين، رواه ابن أبي حاتم.
(انتهى)