(المتن)
وقيل هم العلماء, وقيل هم الشهداء, ذكره المهدوي, وقال القشيري: وقيل هم فضلاء المؤمنين والشهداء فرغوا من شغل أنفسهم وتفرغوا لمطالعة حال الناس, فإذا رأوا أصحاب النار تعوذوا بالله أن يردوا إلى النار, فإن في قدرة الله كل شيء وخلاف المعلوم مقدور, فإذا رأوا أهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد يرجون لهم دخولها.
وقال شرحبيل بن سعد: هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم, وذكر الطبري في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم, وأنه تعادل عقوقهم واستشهادهم, ثم ذكر الثعلبي بإسناده عن ابن عباس في قوله عز وجل: {وعلى الأعراف رجال}[الأعراف:46].
قال الأعراف: موضع عال على الصراط عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب, وجعفر ذو الجناحين رضي الله عنهم, يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه.
وحكى الزهراوي: أنهم عدول القيامة الذين يشهدون.
الشرح: أقرب ما يكون قول الشيعة القول هذا عن ابن عباس نعم هذا قول الشيعة.
(المتن)
وحكى الزهراوي: أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم, وهم في كل أمة, واختار هذا القول النحاس, وقال: وهو من أحسن ما قيل فيه فهو على السور بين الجنة والنار, وقال الزجاج: هم قوم أنبياء, وقيل: هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم, وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف, لأن مذهبه: أنهم مذنبون. وقيل: هم أولاد الزنا, ذكره القشيري عن ابن عباس, وقيل: هم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار, ذكره أبو مجلز, فقيل له: لا يقال للملائكة رجال, فقال: إنهم ذكور وليسوا بإناث فلا يبعد إيقاع لفظ الرجال عليهم كما أوقع على الجن في قوله: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن}.
فهؤلاء الملائكة يعرفون المؤمنين بعلاماتهم والكفار بعلاماتهم فيبشرون المؤمنين قبل دخولهم الجنة, وهم لم يدخلوها بعد فيطمعون فيها, وإذا رأوا أهل النار دعوا لأنفسهم بالسلامة من العذاب.
قال ابن عطية: واللازم من الآية أن على الأعراف رجالا من أهل الجنة يتأخر دخولهم, ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين, ويعرفون كلا بسيماهم أي بعلاماتهم, وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة, وسوادها وقبحها في أهل النار إلى غير ذلك من معرفة حيز هؤلاء وحيز هؤلاء. انتهى.
(الشرح)
بسم الله, والحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
هذه إحدى عشر قول ذكرها القرطبي أرجحها القول الأول: أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم, هذا هو الأرجح, وهو ظاهر أقوال السلف, وظاهر الأدلة, وأنهم قوم تساوت حسناتهم بسيئاتهم, وأنهم على سور بين الجنة والنار, والبينية أمرها واسع لا يلزم منها المحادثة والقرب, قال تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض}. وإلا فالسماء والأرض بينهما بون شاسع فالجنة في السماء فوق السماء السابعة, وأعلاها الفردوس فوق عرش الرحمن, والنار في الأرض, فبينهما بون شاسع, فهؤلاء قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ثم بعد ذلك يدخلهم الله الجنة بفضله ورحمته.
(من هنا يبدأ التكرار){4:42}
(المتن)
قال الإمام الحافظ بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره في سورة الأعراف في تفسيره لقول الله جل وعلا: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52) هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (53) }.
قال رحمه الله: يقول تعالى مخبرا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول، وأنه كتاب مفصل مبين، كما قال تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت [من لدن حكيم خبير] } الآية [هود:1] .
وقوله: {فصلناه على علم} أي: على علم منا بما فصلناه به، كما قال تعالى: {أنزله بعلمه} [النساء:166].
قال ابن جرير: وهذه الآية مردودة على قوله: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه [لتنذر به وذكرى للمؤمنين] } [الأعراف:2] {ولقد جئناهم بكتاب [فصلناه على علم] } الآية.
وهذا الذي قاله فيه نظر، فإنه قد طال الفصل، ولا دليل على ذلك، وإنما لما أخبر عما صاروا إليه من الخسار في الدار الآخرة، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدار الدنيا، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، كقوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء:15]؛ ولهذا قال: {هل ينظرون إلا تأويله} أي: ما وعدوا من العذاب والنكال والجنة والنار. قاله مجاهد وغير واحد.
وقال مالك: ثوابه. وقال الربيع: لا يزال يجيء تأويله أمر، حتى يتم يوم الحساب، حتى يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ.
{يوم يأتي تأويله} أي: يوم القيامة، قاله ابن عباس - {يقول الذين نسوه من قبل} أي: تركوا العمل به، وتناسوه في الدار الدنيا: {قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} أي: في خلاصنا مما نحن فيه، {أو نرد} إلى الدار الدنيا {فنعمل غير الذي كنا نعمل} كما قال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} [الأنعام:27، 28].
كما قال هاهنا: {قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي: [قد] خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيه، {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي: ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا ينصرونهم، ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم مما هم فيه.
(الشرح)
نعم وهذه الآيات الكريمة وهو قوله تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله} بين الله تعالى فيها أنه جاءهم بكتاب مع الرسول الذي أرسله كل رسول أرسله معه كتاب فيه مفصل فيه تفصيل, وفيه الهداية والرحمة, ثم قال سبحانه: {هل ينظرون إلا تأويله}, والمراد بتأويله هنا وقوع المخبر به, وهي العاقبة التي يؤول إليها الكلام فتأويل ما أخبر الله به من القيامة والحساب والجنة والنار وقوع ذلك يوم القيامة وقوع هذا الشيء, تأويل الخبر وقوع المخبر به, وتأويل الأمر فعل المأمور به كما قالت عائشة رضي الله عنها, لما نزل قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}, قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه السورة يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمد, اللهم اغفر لي, ويتأول القرآن يعني يفعل ما أمره الله به في القرآن, فتأويل الخبر وقوع المخبر به, وتأويل الأمر فعل المأمور به, فتأويل ما أخبر الله به القيامة, وما أخبر به من الحساب والجنة والنار وقوع ذلك يوم القيامة, ومشاهدته تأويل ما أخبر الله به من الجنة دخول المؤمنين في الجنة ومباشرتهم له, وتأويل ما أخبر الله به عن أهل النار وقوع ذلك ومباشرة أهل النار له, نعوذ بالله, فتأويل الخبر وقوع المخبر به, ويأتي التأويل بمعنى آخر وهو التفسير, كما كان يقول ابن جرير رحمه الله: القول في تأويل قول الله تعالى. يعني في تفسيره, قال ابن عباس: أنا ممن يعلم تأويله.
يعني تفسيره فهذان قولان معروفان عند السلف التأويل بمعنى وقوع المخبر به بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام, والتأويل بمعنى التفسير, ومن ذلك من تأويل الخبر بمعنى وقوع المخبر به قول الله تعالى عن يوسف لما وقع تحقيق الرؤية قال: {هذا تأويل رؤياي من قبل}, قد رأى الرؤية وهو صغير قال لأبيه: {يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}, فتحققت رؤياه بعد أربعين سنة أو ثلاثين سنة, فجاء أبوه وأمه وإخوته جاءوا إليه من فلسطين إلى مصر ولما دخلوا عليه {رفع أبويه على العرش وخروا له سجدا}, وكان هذا ساجدا في شريعتهم سجود سلام وتحية, فقال يوسف: {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل}, وقع تأويل الرؤية, الرؤية التي رآها أنه رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيت لهم ساجدين وقع وقع هذا قال: {هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا}.
ويأتي التأويل بمعنى التفسير, وهذان قولان مشهوران عند السلف, وهناك قول ثالث معنى ثالث للتأويل عند المتأخرين وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل نقترن به, هذا تفسير لتأويل حادث هذا حادث من المتأخرين, المعروف عند السلف المعنيان الأوليان: التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام, وتأويل الخبر وقوع المخبر به, وتأويل الأمر فعل المأمور به, والثاني: التأويل بمعنى التفسير.
والمراد هنا في الآية المعنى الأول {هل ينظرون إلا تأويله} يعني: وقوع الخبر الذي أخبر الله به {يوم يأتي تأويله} يوم يأتي وقوع الخبر {يقول الذين نسوه من قبل} نسوا هذا اليوم ولم يعملوا به {قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا}, حتى يخلصونا من عذاب الله {أو نرد} إلى الدار الدنيا {فنعمل غير الذي كنا نعمل} وهيهات الشفعاء لا ينفعون ولا يردون.
ولهذا قال سبحانه: {قد خسروا أنفسهم} حيث أقحموها النار بفعل أسبابها, بترك عبادة الله, وعدم الإيمان بالرسل {وضل عنهم ما كانوا يفترون} يعني: بعد عنهم ولم ينفعهم ما كانوا يعبدونه من دون الله. نعم.
(المتن)
قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54) }.
يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم: سماواته وأرضه، وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام هي: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة -وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم، عليه السلام. واختلفوا في هذه الأيام: هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان؟ أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد، والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع -مولى أم سلمة -عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل".
فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه، عن حجاج -وهو ابن محمد الأعور - عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة، عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا، والله أعلم.
(الشرح)
نعم هذا الصواب كما قال الحافظ رحمه الله أن هذا الحديث وهم, ورفعه وهم, وأنه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار, وليس مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم, لأن هذا الحديث مخالف للقرآن يوم السبت ما في خلق, الخلق في ستة أيام قال تعالى: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام} أولها الأحد وآخرها الجمعة, وأما السبت فليس فيه خلق, ولهذا قال اليهود عليهم لعائن الله: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم تعب واستراح في يوم السبت قبحهم الله, فأنزل الله: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب}, يعني من تعب وإعياء, وهو قادر سبحانه على أن يخلقها في لحظة, ولكن له الحكمة البالغة, والصواب: أن هذه الأيام هي الأيام التي نعرفها, ليس كل يوم كألف يوم كما قال بعض السلف, لأن هذا هو ظاهر الآيات وهو ظاهر الخطاب فالله خاطبنا بما نعرف فالستة أيام مثل أيامنا هذه, والله سبحانه له الحكمة البالغة.
من الحكم: تعليم العباد على الترتيب وتوزيع الأعمال شيئا بعد شيء, وإلا فهو سبحانه على أن يخلقها في لحظة واحدة بكلمة: {كن}, {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.
ليس عاجزا سبحانه لا يلحقه عجز ولا نقص, ولكنه حكيم سبحانه له الحكمة, من الحكم ما يظهر لعباده ومنها ما لا يظهر.
القارئ: أحسن الله إليكم, يقول شيخ الإسلام في الجواب الصحيح: فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين, وعبد الرحمن بن مهدي, والبخاري, وغيرهم أنه غلط, وأنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم, بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار.
الشرح: هذا من أي كلام ...
القارئ: هذا أنا نقلته من الجواب الصحيح.
الشرح: نعم ما في شك هذا يعني معروف عند أهل العلم عند النقاد والحفاظ وأهل العلم قاطبة معروف أن هذا وهم, وأنه مخالف للقرآن, فالوهم حصل في الرفع وهو ليس مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم, ولكنه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار, فوهم بعض الرواة فقال: عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكعب الأحبار معروف له أغلاط وله أوهام وهذا من أغلاطه وأوهامه, وهو من أهل الكتاب الذين أسلموا, نعم.
القارئ: ×××
الشرح: قوله أخذ بيدي هذا من الوهم هذا من الوهم كله وهم نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله: أخذ بيدي كله وهم هذا.
القارئ: ×××
الشرح: نعم وهذا من الرواة قرأه من بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(المتن)
وأما قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويهوغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.
(الشرح)
نعم مع إثبات المعنى إمراراها كما جاءت مع إثبات المعنى الاستواء معلوم, والمعنى أنه لابد من إثبات الاستواء في هذه الآية, وهو له أربعة معاني: الاستقرار, والصعود, والعلو, والارتفاع. كما قال السلف وهذه معاني الاستواء فعلى هذه المعاني الأربعة تدور تفاسير السلف للاستواء استقر, وعلا, وصعد, وارتفع.
فالله تعالى مستوي على العرش حقيقة بمعنى هذه الأربعة استواء يليق بجلاله وعظمته, والكيفية لا تعلم, كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء؟ قال: الاستواء معلوم, والكيف مجهول, والإيمان به واجب, والسؤال عنده بدعة.
وهذا يقال في جميع الصفات الأمة تلقى العلماء هذه المقالة من الإمام مالك بالقبول, النزول؟ يقال: النزول معلوم, والكيف مجهول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة. يضحك ربنا؟ يقال: الضحك معلوم, والكيف مجهول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة. يقال هذا في جميع الصفات والصفات تثبت لله تعالى معانيها فهي معلومة المعاني لأن الله أمر بالتدبر ولم يستثن شيئا, ولكن الكيفية مجهولة لا يعلم الكيفية, الكيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى, لا يعلم كيفية الصفات إلا هو, كما أنه لا يعلم كيفية الذات إلا هو. نعم.
(المتن)
وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل, والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله.
(الشرح)
نعم وكل ما يظهر يدول في الخيال, أو يدور في أذهان المشبهين فالله تعالى بخلاف ذلك, نعم.
(المتن)
والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله, فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى:11] بل الأمر كما قال الأئمة - منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري -: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر".
وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى.
وقوله تعالى: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا} أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، أي: سريعا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا، كما قال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} [يس:37-40] فقوله: {ولا الليل سابق النهار} أي: لا يفوته بوقت يتأخر عنه، بل هو في أثره لا واسطة بينهما؛ ولهذا قال: {يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} - منهم من نصب، ومنهم من رفع، وكلاهما قريب المعنى.
الشرح: مسخرات هذا النصب, أو مسخرات بالرفع {والشمس والقمر والنجوم مسخرات}, وصف النجوم مسخرات جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة, أو مسخرات بالرفع يعني هن مسخرات, نعم.
(المتن)
أي: الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته؛ ولهذا قال منبها: {ألا له الخلق والأمر} ؟ أي: له الملك والتصرف، {تبارك الله رب العالمين} كما قال [تعالى] {تبارك الذي جعل في السماء بروجا [وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا] } [الفرقان: 61].
(الشرح)
تباك من صفات الله لا تقال إلا في جناب الرب, الله تعالى هو المتبارك وعبده المبارك, يغلط بعض الناس يقول إذا جاءهم زائر قال: تباركت علينا, وهذا خطأ هذا خاص بالله, وإنما يقال إذا كان الشخص فيه بركة أنت شخص مبارك, أو فيك بركة, وهذا من بركتك التي جعل الله فيك كما قال أسيد بن حضير, وعباد بن بشر لعائشة لما نزلت آية التيمم: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر".
فهذه من البركة التي جعلها الله في الشخص المبارك, وأما تبارك فهي خاصة بالله, فالله هو المتبارك وعبده المبارك, كما قال تعالى عن عيسى, قال: {وجعلني مباركا أينما كنت}. نعم.
(المتن)
وقال ابن جرير: قال: حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا هشام أبو عبد الرحمن، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه -وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله.
ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه؛ لقوله: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
الشرح: تكلم عن الحديث ايش قال عليه.
القارئ: ×××
الشرح: عبد الغفور ولا عبد الغفار عندك عبد الغفور.
القارئ: ×××
الشرح: والمتن فيه نكارة بين واضح ايش يقول المتن ايش.
(المتن)
"من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله.
ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه؛ لقوله: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}.
وفي الدعاء المأثور، عن أبي الدرداء -وروي مرفوعا -: "اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله".
قوله تعالى:{ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين (56) }.
أرشد [سبحانه و] تعالى عباده إلى دعائه، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [قيل] معناه: تذللا واستكانة، و {خفية} كما قال: {واذكر ربك في نفسك [تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين] } [الأعراف:205] وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري [رضي الله عنه].
قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب" الحديث.
وقال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: {تضرعا وخفية} قال: السر.
وقال ابن جرير: {تضرعا} تذللا واستكانة لطاعته. {وخفية} يقول: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا ومراءاة.
وقال عبد الله بن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به.
ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية [إنه لا يحب المعتدين] } وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: {إذ نادى ربه نداء خفيا} [مريم:3].
وقال ابن جريج: يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روي عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: {إنه لا يحب المعتدين} في الدعاء ولا في غيره.
وقال أبو مجلز: {إنه لا يحب المعتدين} لا يسأل منازل الأنبياء.
(الشرح)
وهذا نوع من الاعتداء, الاعتداء أنواع منها: أن يسأل ما لا يليق به يسأل من أجل الأنبياء هذا من العدوان, ومنها أن يدعو بإثم أو قطيعة رحم, نعم.
(المتن)
وقال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن زياد ابن مخراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد؛ أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول: اللهم، إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال: لقد سألت الله خيرا كثيرا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء". وقرأ هذه الآية: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية [إنه لا يحب المعتدين] }.
وإن بحسبك أن تقول: "اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل".
ورواه أبو داود، من حديث شعبة، عن زياد بن مخراق، عن أبي نعامة، عن ابن لسعد، عن سعد، فذكره والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي نعامة: أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني، سل الله الجنة، وعذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور".
وهكذا رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان به. وأخرجه أبو داود، عن موسى ابن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نعامة - واسمه: قيس ابن عباية الحنفي البصري -وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم.
وقوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد. فنهى [الله] تعالى عن ذلك، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه، فقال: {وادعوه خوفا وطمعا} أي: خوفا مما عنده من وبيل العقاب، وطمعا فيما عنده من جزيل الثواب.
ثم قال: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} أي: إن رحمته مرصدة للمحسنين، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون. [ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي] } [الأعراف: 156، 157].
وقال: {قريب} ولم يقل: "قريبة"؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قريب من المحسنين.
(الشرح)
وفي هذا فضل الإحسان, وأن رحمة الله قريب منهم, والمحسنون هم الذين أحسنوا في عبادة الله فأخلصوها لله وصوبوها على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم, وأحسنوا إلى الخلق بأداء الزكاة, وأداء الحقوق, وغيرها هؤلاء هم المحسنون أحسنوا لعبادة الله وأحسنوا إلى الخلق, نعم, فرحمة الله قريبة منهم. نعم.
(المتن)
وقال مطر الوراق: تنجزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين، رواه ابن أبي حاتم.
(إلى هنا ينتهي المكرر)(40:25)
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين, أما بعد:
(المتن)
وقوله تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (57) }.
{والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون (58) }.
قال الحافظ بن كثير - رحمه الله تعالى -: لما ذكر تعالى أنه خالق السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر، وأرشد إلى دعائه؛ لأنه على ما يشاء قادر -نبه تعالى على أنه الرزاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال: " وهو الذي يرسل الرياح نشرا " أي: منتشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر، ومنهم من قرأ {بشرا} كقوله {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} [الروم:46].
وقوله: {بين يدي رحمته} أي: بين يدي المطر، كما قال: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} [الشورى:28] وقال {فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} [الروم:50].
وقوله: {حتى إذا أقلت سحابا ثقالا} أي: حملت الرياح سحابا ثقالا أي: من كثرة ما فيها من الماء، تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله.
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا ...
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
وقوله: {سقناه لبلد ميت} أي: إلى أرض ميتة، مجدبة لا نبات فيها، كما قال تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها [وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ] } [يس:33]؛ ولهذا قال: {فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى} أي: كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها، كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رميما يوم القيامة، ينزل الله، سبحانه وتعالى، ماء من السماء، فتمطر الأرض أربعين يوما، فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض. وهذا المعنى كثير في القرآن، يضرب الله مثلا ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها؛ ولهذا قال: {لعلكم تذكرون}.
(الشرح)
نعم, الله تعالى كثيرا ما يستدل على البعث بإحياء الأرض بعد موتها, فالأرض تكون يابسة هامدة مغبرة فينزل الله المطر فتهتز وتعلوها الخضرة والزهرة والندرة, ثم بعد ذلك تيبس فكذلك الله تعالى يحيي الله الأجساد بعد أن كانت بعد أن استحالت وصارت ترابا رميما يحييها الله, ويبعث الله الأجساد من عجب الذنب, ويكون عجب الذنب هو البذرة التي تنبت منها الأجساد, كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ابن آدم ومنه ركب».
فعجب الذنب هو العصعص وهو آخر فقرة في العمود الفقري حبة صغيرة مثل الحبة الصغيرة تنبت منه أجساد بني آدم كالبذرة, سبحان الله العظيم.
(المتن)
وقوله: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} أي: والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعا حسنا، كما قال: {وأنبتها نباتا حسنا}
[آل عمران:37].
{والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} قال مجاهد وغيره: كالسباخ ونحوها.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكانت منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلئا, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا. ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
رواه مسلم والنسائي من طرق، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، به.
(الشرح)
وهذا الحديث فيه أقسام الناس تجاه ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم, وأنه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: العلماء الذين رزقهم الله العلم والعمل, وأعطاهم الفقه والبصيرة في شريعة الله, ففجروا النصوص, واستخرجوا المعاني والأحكام, هؤلاء مثل للأرض الطيبة التي قبلت الماء, فأنبتت الكلأ والعشب الكثير.
والطائفة الثانية التي أمسكت الماء فجاء الناس وانتفعوا بهذا الماء وشربوا منه قال العلماء: هذا مثل المحدثين الذين حفظوا الأحاديث وضبطوها وأتقنوها ودونوها, فجاء من بعدهم واستفادوا منها, وإن لم يكونوا كالقسم الأول ليسوا كالقسم الأول عندهم يعني فقه في الأحاديث, وتفسير لمعاني النصوص, لكن عندهم ضبط وحفظ وتدوين لهذه الأحاديث فضبطوها فجاء من بعدهم واستفاد منها.
والقسم الثالث: الأجادب التي لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء, هذا مثل من لم يرفع بما أنزل الله به على نبيه رأسا ولم يقبل هدى الله الذي هدى الله به عباده المؤمنين,نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
{لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين (60) قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين (61) أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون (62) }.
لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة، وما يتعلق بذلك وما يتصل به، وفرغ منه، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.
الشرح: في ذكر قصص قصص الأنبياء قصص جمع: قصة, أما قصص مصدر قص يقص, كقوله تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص}, {فاقصص القصص}, يعني: الأخبار, {فلما جاءه وقص عليه القصص}, والمراد الأول هنا القصة, قصص الأنبياء يعني جمع قصة.
(المتن)
لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة، وما يتعلق بذلك وما يتصل به، وفرغ منه، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام الأول فالأول، فابتدأ بذكر نوح، عليه الصلاة السلام، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم، عليه الصلاة السلام، وهو: نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ -وهو إدريس [النبي] عليه السلام -فيما، يزعمون.
الشرح: يعني إدريس هو خنوخ.
(المتن)
وهو أول من خط بالقلم -ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم، عليهم السلام.
هكذا نسبه [محمد] بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب، قال محمد بن إسحاق: ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل.
وقال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه.
وقد كان بين آدم إلى زمن نوح، عليهما السلام، عشرة قرون، كلهم على الإسلام [قاله عبد الله ابن عباس].
(الشرح)
ثم حصل الشرك بعد ذلك قال الله تعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا}, يعني كانوا على التوحيد فحصل الشرك فاختلفوا.
(المتن)
قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: وكان أول ما عبدت الأصنام، أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد وصوروا صور أولئك فيها، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان، جعلوا أجسادا على تلك الصور. فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين "ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا". فلما تفاقم الأمر بعث الله، سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة -رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.
(الشرح)
وهذا رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس, قال: كان ود وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين من قوم نوح, فماتوا في زمن متقارب, فقالوا: لو صورناهم كان أشفق علينا إلى العبادة فصوروهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم, قال غير واحد: عكفوا على قبورهم, ثم صوروا تماثيلهم, ثم طال عليم الأمد فعبدوهم, فحصل الشرك في قوم نوح.
(المتن)
فلما تفاقم الأمر بعث الله، سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة -رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.
فقال: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} أي: من عذاب يوم القيامة إن لقيتم الله وأنتم مشركون به {قال الملأ من قومه} أي: الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم: {إنا لنراك في ضلال مبين} أي: في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا. وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة، كقوله: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين:32]، {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} [الأحقاف:11] إلى غير ذلك من الآيات.
{قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين} أي: ما أنا ضال، ولكن أنا رسول من رب العالمين رب كل شيء ومليكه، {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون} وهذا شأن الرسول، أن يكون ملغا فصيحا ناصحا عالما بالله، لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: "أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتها عليهم ويقول: "اللهم اشهد، اللهم اشهد".
(الشرح)
ينكسها هكذا, وفي رواية: ينكتها, والمعروف وينكتها, وينكتها, قال: وروي وينكبها, أما بالسين فلا ينكتها أو ينكبها, نعم.
(المتن)
{أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63) فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (64) }.
يقول تعالى إخبارا عن نوح [عليه السلام] أنه قال لقومه: {أوعجبتم [أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون] }؟
أي لا تعجبوا من هذا، فإن هذا ليس بعجب أن يوحي الله إلى رجل منكم، رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم، لينذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به، {ولعلكم ترحمون}.
قال الله تعالى: {فكذبوه} أي: تمادوا على تكذيبه ومخالفته، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما نص عليه في موضع آخر، {فأنجيناه والذين معه في الفلك}أي السفينة، كما قال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} [العنكبوت:15] {وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا} كما قال: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا} [نوح:25].
وقوله: {إنهم كانوا قوما عمين} أي: عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له.
فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا [والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة] ولهم سوء الدار } [غافر:51، 52].
وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة، أن العاقبة فيها للمتقين والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح [عليه االسلام] بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: قال قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما عذب الله قوم نوح [عليه السلام] إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.
وقال ابن وهب: بلغني عن ابن عباس: أنه نجا مع نوح [عليه السلام] في السفينة ثمانون رجلا أحدهم "جرهم"، وكان لسانه عربيا.
رواهن ابن أبي حاتم.
وقد وروي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
(الشرح)
والله أعلم كم عددهم, ولكن الله أخبر أنهم قليل قال: {وما آمن معه إلا قليل}, ركبوا في السفينة كلهم ركبوا في سفينة واحدة, الله أعلم بعددهم هذا من أخبار بني إسرائيل, وهذا منقطع بلغني عن ابن عباس, قال: الله أعلم, وكونهم منهم "جرهم" لسان عربي, معروف أن نوح عليه الصلاة والسلام هو الأب الثاني, ولما نزلوا من السفينة انقرضوا انقرض الذين ركبوا معه في السفينة وبقي أولاد نوح: سام, ويافث, وحام.
قال تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين}, وما عداهم من الذين ركبوا السفينة انقرضوا ولم يكن لهم عقب فبقي نسل نوح, فالناس الذين انتشروا في الأرض كلهم من نسل نوح العرب والعجم وغيرهم, العرب والعجم سام, ويافث, وحام, {وجعلنا ذريته هم الباقين}, ركب في السفينة من آمن معه ثم لما نزلت السفينة مضت مدة انقرضوا ولم يبق إلا ذرية نوح {وجعلنا ذريته هم الباقين}.
(المتن)
{وإلى عاد أخاهم هودا ...}.
(الشرح)
بركة, في هذه الآية الكريمة الدليل على أن العاقبة للمتقين, وأن الله تعالى يجعل العاقبة للرسل وأتباعهم, ولكن لابد من الابتلاء والامتحان في أول الأمر, ولابد من الشدة تحصل على المؤمنين في أول الأمر شدة وامتحان وابتلاء, {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}, فمن صبر فالعاقبة الحميدة له, ومن لم يصبر كضعفاء الإيمان, والمنافقين فإنهم ينقلبون ويرتدون في أول الأمر, قال الله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله}, وقال سبحانه: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}.
وقال تعالى: {والعاقبة للمتقين}.
وقال سبحانه: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}.
قال: {فاصبر إن وعد الله حق}.
فمن صبر على دينه, وصبر على إيمانه, واتقى الله, فإن العاقبة الحميدة له في الدنيا والآخرة, ومن جزع وتسخط ولم يصبر فإنه يهلك من أول الأمر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(انتهى)