شعار الموقع

شرح سورة الأعراف من مختصر تفسير ابن كثير_10

00:00
00:00
تحميل
111

مقدمة:-

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأزكى المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: غفر الله لك. يقول الله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون (94) ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون (95) }.

(المتن)

يقول الحافظ بن كثير: يقول تعالى مخبرا عما اختبر به الأمم الماضية، الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء، يعني {بالبأساء} ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام. {والضراء} ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك، {لعلهم يضرعون} أي: يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم.

وتقدير الكلام: أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئا من الذي أراد الله منهم، فقلب الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه؛ ولهذا قال: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة} أي: حولنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى، ليشكروا على ذلك، فيما فعلوا.

وقوله: {حتى عفوا} أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء إذا كثر، يقول تعالى: ابتلاهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله، فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا, بل قالوا: قد مسنا من البأساء والضراء، ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء، كما ثبت في الصحيحين: "عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له", فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من السراء والضراء؛ ولهذا جاء في الحديث: "لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار، لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه"، أو كما قال.

ولهذا عقب هذه الصفة بقوله: {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} أي: أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي: على بغتة منهم، وعدم شعور ، أي: أخذناهم فجأة كما جاء في الحديث: "موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر".

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه, أما بعد:

ففي هذه الآيات الكريمات فيها أن الله تعالى يبتلي عباده بالسراء والضراء ليرجعوا إليه وينيبوا إليه, فالمؤمن هو الذي يعتبر, وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عبده تارة بالسراء وتارة بالضراء, فالمؤمن يشكر الله عند السراء ويصبر على الضراء, فلا يكون جزعا ولا ××× عند الضراء ولا يكون بطرا عند النعماء, ولهذا بين الله سبحانه وتعالى أنه ما أرسل في قرية من نبي إلا ابتلاهم بالسراء والضراء {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون}[الأعراف:94].

والبأساء ما يصيبهم من الأمراض والأسقام, والضراء ما يصيبهم من الفقر والحاجة لعلهم يرجعون إلى الله, فلما لم يرجعوا إليه ابتلاهم بالسراء وهي النعم والصحة والعافية والأموال.

ولهذا قال سبحانه: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة}[الأعراف:95]؛ السيئة البأساء والحسنة السراء {حتى عفوا} حتى كثروا وكثرت أموالهم وصحت أبدانهم ولكنهم لم ينيبوا إلى الله ولم يرجعوا ولم يعتبروا.

 

وقالوا: السراء والضراء تصيبنا تارات هكذا الدهر, كما أصاب آباءنا وأجدادنا من قبل السراء كذلك يصيبنا السراء والضراء, فلم يعتبروا, ولهذا قال: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء}, قال الله: {فأخذناهم بغتة} يعني فجأة {وهم لا يشعرون}[الأعراف:95].

عوقبوا, فالواجب على المؤمن أن يشكر الله بالسراء وأن يصبر على الضراء, الصحة والمال والولد هذه من السراء التي يشكر الله عليها والعافية, والضراء الفقر والمرض والمصائب, والمؤمن بين السراء والضراء, فالإنسان كل إنسان بين السراء والضراء, لكن المؤمن يشكر الله عند السراء, فلا يكون بطرا بل يحمد الله ويثني عليه وينسب النعمة إلى الله عز وجل ويصرفه في مرضاته, ويصبر على الضرر فلا يكون سخطا لا يجزع ولا يهلع ولا يستعمل معصية في معصية الله, لا يتكلم بما يسخط الله, ولا ينتف شعرا, ولا يشق ثوبا, ولا يلطم خدا فهو صابر نقول إنا لله وإنا إليه راجعون قال: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}.

وعنوان السعادة: يحبس نفسه عن الجزع, ويحبس نفسه عن التشكي, ويحبس جوارحه عما يغضب الله, هذا هو الصواب عند النعماء يعني يثني على الله بلسانه وينسب النعمة إلى الله عز وجل, ويستعملها لمرضاته, ويتوب عند حصول الذنب, والإنسان دائما بين هذه الأمور الثلاثة إما في نعمة فيحتاج إلى شكر, وإما في بأساء وشدة فيحتاج إلى صبر, وإما وقع في ذنب فيحتاج إلى توبة, إذا كان الإنسان صابر عند الضراء, شاكر عند الرخاء, تائب عند الذنب هذا عنوان السعادة.

 

(المتن)

{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (97) أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98) أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (99) }.

يقول تعالى مخبرا عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} [يونس:98].

أي: ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا العذاب، كما قال تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلى حين} [الصافات:147، 148] وقال تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير [إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون (1) ] } [سبأ:34].

وقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} أي: آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل، وصدقت به واتبعته، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات، {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} أي: قطر السماء ونبات الأرض. قال تعالى: {ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} أي: ولكن كذبوا رسلهم، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم.

ثم قال تعالى مخوفا ومحذرا من مخالفة أوامره، والتجرؤ على زواجره: {أفأمن أهل القرى} أي: الكافرة {أن يأتيهم بأسنا} أي: عذابنا ونكالنا، {بياتا} أي: ليلا {وهم نائمون * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} أي: في حال شغلهم وغفلتهم، {أفأمنوا مكر الله} أي: بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.

ولهذا قال الحسن البصري، رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.

(الشرح)

نعم, وفي هذه الآيات الكريمات بيان وعد من الله سبحانه وتعالى, وبيان لمن شكر الله واستعمل نعمه في طاعته أن يجر عليه الأرزاق وأن يزيده من فضله, كما قال سبحانه: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم}[إبراهيم:7].

وأما الكافر الذي يكفر بنعمة الله ويجحدها فله العذاب ولهذا قال سبحانه: {ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}[إبراهيم:7].

وبين سبحانه أن أهل القرى الذين أرسل إليهم الرسل لو آمنوا وآمنت قلوبهم واتقوا الله بفعل الطاعات وترك المعاصي, لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض, وأنزل عليهم المطر, وأنبت لهم النبات, وساق لهم الأرزاق, ولكن لم يفعلوا ذلك بل كذبوا فعاقبهم بذنوبهم ومعاصيهم, ولهذا قال: {ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}[الأعراف:96].

ثم بين سبحانه وتعالى أن العذاب قد يأتي في الليل, وقد يأتي في النهار, وقد يأتي بغتة, وأنه لا ينبغي للإنسان أن يأمن بأس الله ونقمته, {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا} يعني ليلا {وهم نائمون}[الأعراف:97]^

{أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون}[الأعراف:98], في شغل, وهم غافلون لغرتهم وسهوتهم, كما قال بعض السلف: ما أخذ الله قوما إلا وهم في غرتهم وسهوهم ولهوهم, {أفأمنوا مكر الله} كيف يأمنوا بأس الله ونقمته {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}[الأعراف:99], القوم الخاسرون هم الذين يأمنوا مكر الله ويستغفرون من المعاصي, فيأخذهم الله بغتة.

 

(المتن)

{أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون (100) }.

قال ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله: {أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها} أو لم نبين، [وكذا قال مجاهد والسدي].

وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها: يقول تعالى: أو لم نبين للذين يستخلفون في الأرض من بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها، فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا على ربهم: {أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} يقول: أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، {ونطبع على قلوبهم} يقول: ونختم على قلوبهم {فهم لا يسمعون} موعظة ولا تذكيرا.

قلت: وهكذا قال تعالى: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى} [طه:128].

وقال تعالى: {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون} [السجدة:29].

وقال تعالى: {أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال. وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم [وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال] (4) } [إبراهيم:44، 45].

وقال تعالى: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} [مريم:98].

أي: هل ترى لهم شخصا أو تسمع لهم صوتا؟ وقال تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} [الأنعام:6].

وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد: {فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين. ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون} [الأحقاف:25-27].

وقال تعالى: {وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} [سبأ:45].

وقال تعالى: {ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير} [الملك:18].

وقال تعالى: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد. أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:45، 46].

وقال تعالى: {ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} [الأنعام:10].

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه، وحصول نعمه لأوليائه؛ ولهذا عقب ذلك بقوله، وهو أصدق القائلين ورب العالمين: {تلك القرى نقص عليك من أنبائها}.

(الشرح)

نعم هذه الآية الكريمة فيها التحذير لمن جاء بعد الأمم المهلكة أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم {أولم يهد} يتبين أو نبين {للذين يرثون الأرض من بعد أهلها} من بعد المهلكين الذين عذبوا {أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم} كما أصيب أولئك {ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون}[الأعراف:100].

فهنا التحذير لمن أتى بعد الأمم المهلكة أن يفعل فعلهم فيصيبه ما أصابهم, ولهذا قال: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون}.

(المتن)

ولهذا عقب ذلك بقوله، وهو أصدق القائلين ورب العالمين: {تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين (101) وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (102) }.

لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب [عليهم الصلاة والسلام] وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل، صلوات الله عليهم أجمعين، قال تعالى: {تلك القرى نقص عليك} أي: يا محمد {من أنبائها} أي: من أخبارها، {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات} أي: بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء:15] وقال تعالى: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} [هود:101، 102].

وقوله تعالى: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} الباء سببية، أي: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم. حكاه ابن عطية، رحمه الله، وهو متجه حسن، كقوله: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم [في طغيانهم يعمهون]} [الأنعام:110، 111]؛ ولهذا قال هنا: {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين * وما وجدنا لأكثرهم} أي: لأكثر الأمم الماضية {من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} أي: ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه [عليهم] هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، فأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، فخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة، لا من عقل ولا شرع، وفي الفطر السليمة خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك، كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم".

وفي الصحيحين: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" الحديث.

وقال تعالى في كتابه العزيز: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25].

وقال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف:45].

وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36] إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} ما روى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} قال: كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق، أي: فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك، وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير.

وقال السدي: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} قال: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها.

وقال مجاهد في قوله: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل} هذا كقوله: {ولو ردوا لعادوا [لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون]} [الأنعام:28].

(الشرح)

نعم وفي هذه الآيات الكريمات بين الله تعالى أنه يقص علينا أنباء القرى التي أرسل الله إليها الرسل, وما جرى لهم مع أنبيائهم, وأن أكثرهم كذبوا الرسل وخالفوهم, فأهلكهم الله, ثم خلف من بعدهم خلوف, ولهذا قال سبحانه: {تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات} بالحجج والبراهين الدالة على صدقهم, والدالة على وحدانية الله في إلوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل}.

بين الله سبحانه أنهم لم يكونوا يؤمنوا بسبب تكذيبهم, فطبع الله على قلوبهم وقلوب المعتدين, وبين سبحانه أن أكثرهم فاسقون, وأنه لن يؤمن إلا قليل, ولهذا قال: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} لم يلتزموا بالعهد والميثاق الذين أخذه الله عليهم في عالم الذر أنه ربهم ومليكهم ومعبودهم, ولهذا قال: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}[الأعراف:102].

وهذا في هذا تحذير تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك الظالمين والغاويين فيصيبها ما أصابهم.

 

القارئ:-

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (103) }.

(المتن)

يقول تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم} أي: الرسل المتقدم ذكرهم، كنوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين. {موسى بآياتنا} أي: بحججنا ودلائلنا البينة إلى {فرعون} وهو ملك مصر في زمان موسى، {وملئه} أي: قومه، {فظلموا بها} أي: جحدوا وكفروا بها ظلما منهم وعنادا، كقوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} [النمل:14].

أي: الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله، أي: انظر -يا محمد -كيف فعلنا بهم، وأغرقناهم عن آخرهم، بمرأى من موسى وقومه. وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله -موسى وقومه -من المؤمنين به.

قال تعالى: {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين (104) }.

{حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل (105) قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين (106) }.

يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون، وإلجامه إياه بالحجة، وإظهاره الآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر، فقال تعالى: {وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين} أي: أرسلني الذي هو خالق كل شيء وربه ومليكه.

{حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق} فقال بعضهم: معناه: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي: جدير بذلك وحري به.

وقالوا و"الباء" و"على" يتعاقبان، فيقال رميت بالقوس" و"على القوس"، و"جاء على حال حسنة" و "بحال حسنة".

وقال بعض المفسرين: معناه: حريص على ألا أقول على الله إلا الحق.

وقرأ آخرون من أهل المدينة: {حقيق علي} بمعنى: واجب وحق علي ذلك ألا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق، لما أعلم من عز جلاله وعظيم سلطانه.

{قد جئتكم ببينة من ربكم} أي: بحجة قاطعة من الله، أعطانيها دليلا على صدقي فيما جئتكم به، {فأرسل معي بني إسرائيل} أي: أطلقهم من أسرك وقهرك، ودعهم وعبادة ربك وربهم؛ فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل، وهو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن [عليهم صلوات الرحمن].

{قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين} أي: قال فرعون: لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمطيعك فيما طلبت، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها، إن كنت صادقا فيما ادعيت.

{فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (107) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (108) }.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما, في قوله: {ثعبان مبين} الحية الذكر. وكذا قال السدي، والضحاك.

وفي حديث "الفتون"، من رواية يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال {فألقى عصاه} فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه، اقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها [عنه] ففعل.

وقال قتادة: تحولت حية عظيمة مثل المدينة.

وقال السدي في قوله: {فإذا هي ثعبان مبين} والثعبان: الذكر من الحيات، فاتحة فاها، واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والآخر على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه.

فلما رآها ذعر منها، ووثب وأحدث، ولم يكن يحدث قبل ذلك، وصاح: يا موسى، خذها وأنا أومن بك، وأرسل معك بني إسرائيل. فأخذها موسى، عليه الصلاة والسلام، فعادت عصا.

وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا.

وقال وهب بن منبه: لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون: أعرفك؟ قال: نعم، قال: {ألم نربك فينا وليدا} [الشعراء:18]؟ قال: فرد إليه موسى الذي رد، فقال فرعون: خذوه، فبادره موسى {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} فحملت على الناس فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا، وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت.

رواه ابن جرير، والإمام أحمد في كتابه "الزهد".

(الشرح)

هذا من أخبار بني إسرائيل لا يعول عليه كونه كذا وأنه مات آلاف مؤلفة الله أعلم, وكذلك قولهم أن فرعون أحدث ولم يكن يحدث هذا باطل, كل واحد من بني آدم يحدث فرعون يحدث قبل ذلك مثل غيره من بني آدم, وكذلك كون  العصا صارت حية لا شك أنها حية عظيمة, لكن كون مثلا لحيها بأسفل الأرض ولحيها الثانية فوق القصر, هذا من أخبار بني إسرائيل, الله أعلم, لكن هي حي عظيمة, لكن بهذا الوصف كون اللحية أسفل, واللحية الثانية فوق القصر, الله أعلم هذا كله من أخبار بني إسرائيل.

المقصود: أن هذه الكريمة فيها أن الله تعالى بعث موسى عليه الصلاة والسلام بعد الأمم السابقة, بعد نوح وهود وصالح, وبعث الله موسى عليه السلام بعد ذلك بدهور, بالآيات, والحجج, والبراهين, ومنها العصا واليد والضفادع والدم, آيات مفصلات كما بين الله تعالى, إلى فرعون وملأه وقومه ومن معه من أكابر دولته, فقال موسى {إني رسول رب العالمين} قال لفرعون: {إني رسول رب العالمين} حقيق على أن لا أقول على الله الحق جدير بأن لا أقول على الله الحق {قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل}[الأعراف:105]. أطلقهم لا تعذبهم اتركهم يعبدون الله.

قال فرعون: هات البينة كما تدعي {قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين}[الأعراف:106], فأتى موسى {فألقى عصاه} فصارت ثعبان عظيم, فإذا أخذها صارت عصا, وإذا وضعها في الأرض صارت حية, هذه آية.

والآية الثانية: أنه يدخل يده في جيبه فيخرجها فإذا  تتلألأ نور كالقمر من غير عيب من غير ضرر, ثم يدخلها مرة أخرى فتعود على حالتها السابقة.

هذان آيتان عظيمتان.

وهناك آيات أخرى كما ذكر الله في الآية: {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم}[الأعراف:133].

لكن هاتان الآيتان العصا واليد من أكبر الآيات, ولهذا قال سبحانه: {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين}[الأعراف:107]

{ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين}[الأعراف:108]

{قال الملأ من قوم فرعون} الأشراف والكبراء {إن هذا لساحر عليم}[الأعراف:109]

{يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون}[الأعراف:110]

شاور فرعون الملأ والكبراء؟ {قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين}[الأعراف:111]

قالوا احبسه وأخره وأخاه واطلب السحرة في مملكتك يأتوك بكل ساحر عليم ماهر في السحر, يقابلونه, فعند ذلك حصل ما قصه الله عز وجل وتواعد, طلب الموعد توعدوا في يوم, فألقى السحرة ما معهم, ثم ألقى موسى عليه الصلاة والسلام عصاه فابتلعت جميع ما ألقاه السحرة من الحيات والحبال فعرف السحرة أن هذا من عند الله, فآمنوا في الحال وسجدوا لله في الحال.

توعدهم فرعون بأن يقطع أيديهم وأرجلهم لكنهم لم يبالوا قالوا {فاقض ما أنت قاض}, {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} إنا رأينا الحق, وهذا من فضل الله عليهم.

ولذلك قال بعضهم: كانوا في أول النهار سحرة كفرة يرجون عزة فرعون, وفي آخر النهار شهداء بررة قتلهم فرعون وقطع أيديهم وأرجلهم.

(المتن)

رواه ابن جرير، والإمام أحمد في كتابه "الزهد", وابن أبي حاتم. وفيه غرابة في سياقه والله أعلم.

وقوله: {ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} أي: نزع يده: أخرجها من درعه بعد ما أدخلها فيه فخرجت بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض، كما قال تعالى: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} [النمل:12].

وقال ابن عباس في حديث الفتون: [أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء]{من غير سوء} يعني: من غير برص، ثم أعادها إلى كمه، فعادت إلى لونها الأول. وكذا قال مجاهد وغير واحد.

{قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم (109) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (110) }.

أي: قال الملأ -وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون -موافقين لقول فرعون فيه، بعد ما رجع إليه روعه، واستقر على سرير مملكته بعد ذلك، قال للملأ حوله -: {إن هذا لساحر عليم} فوافقوه وقالوا كمقالته، وتشاوروا في أمره، وماذا يصنعون في أمره، وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته، وظهور كذبهم وافترائهم، وتخوفوا من [معرفته] أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم، وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه، كما قال تعالى: {ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} [القصص:6] فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه، اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى: {قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين (111) يأتوك بكل ساحر عليم (112) }.

قال ابن عباس: {أرجه} أخره. وقال قتادة: احبسه. {وأرسل} أي: ابعث {في المدائن} أي: في الأقاليم ومدائن ملكك، {حاشرين} أي: من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم.

وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا. واعتقد من اعتقد منهم، وأوهم من أوهم منهم، أن ما جاء به موسى، عليه الصلاة والسلام، من قبيل ما تشعبذه سحرتهم؛ فلما جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال: {قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى. فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى. قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى} [طه:57-60].

وقال تعالى هاهنا: {وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (113) قال نعم وإنكم لمن المقربين (114) }.

يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى، عليه الصلاة والسلام: إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا. فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا، وليجعلنهم من جلسائه والمقربين عنده، فلما توثقوا من فرعون لعنه الله: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (116) }.

هذه مبارزة من السحرة لموسى، عليه الصلاة والسلام، في قولهم: {إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين} أي: قبلك. كما قال في الآية الأخرى: {وإما أن نكون أول من ألقى} [طه:65].

فقال لهم موسى، عليه السلام: {ألقوا} أي: أنتم أولا قبلي. والحكمة في هذا -والله أعلم -ليرى الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فرغ من بهرجهم ومحالهم، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد تطلب له وانتظار منهم لمجيئه، فيكون أوقع في النفوس. وكذا كان. ولهذا قال تعالى: {فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم} أي: خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال تعالى: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} [طه:66: 69].

قال سفيان بن عيينة: حدثنا أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا. قال: فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.

وقال محمد بن إسحاق: صف خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى، عليه الصلاة والسلام، معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته، ثم قال السحرة: {يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم} [طه:65، 66] فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.

وقال السدي: كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا، {فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم} يقول: فرقوهم أي: من الفرق.

الشرح: الفرق وهو الخوف.

(المتن)

وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، قال: حدثنا القاسم ابن أبي بزة قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى؛ ولهذا قال تعالى: {وجاءوا بسحر عظيم}.

(الشرح)

في هذه الآيات الكريمات بيان ما حصل لفرعون حينما جمع السحرة ××مع موسى وأنهم جمعوا وأنهم تواعدوا في يوم الزينة واجتمعوا كما بين الله تعالى في سورة (طه), وأن فرعون... وادي حيات وعقارب, حتى إن موسى وجد في نفسه خوفا, {فأوجس في نفسه خيفة موسى}[طه:67]^

{قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى}[طه:68]^

{وألق ما في يمينك}[طه:69]^

ثم ألقى موسى عصاه فابتلعت جميع ما في الوادي, وانهزم السحرة فعرف السحرة أن هذا ليس من صنع البشر, فخروا لله سجدا في الحال وآمنوا, تواعدهم فرعون بأن يقطع أيديهم وأرجلهم وقال إن هذا أمر تمالأتم عليه وتواطأتم عليه, هكذا, تمالؤ معهم وتواطؤ معهم لكن هذا صنيع المنهزم {قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} توعدهم, قال {فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل}[طه:71].

ولكنهم لم يبالوا قالوا {فاقض ما أنت قاض}, ظهر لنا الحق {إنا آمنا بربنا} النهاية الموت والموت نهايتك ولا يضرنا هذا.

ثم بعد ذلك بين الله تعالى فيما بعد أن الله تعالى أهلك فرعون وقومه, والسحر نوعان: قوله: {سحروا أعين الناس}.

فرعون لما جاب السحرة لما اجتمع السحرة أرادوا أن يتقربوا إلى فرعون, وقالوا ماذا تعطينا إذا غلبنا موسى هل لنا أجر, هل لنا مكافئة؟ قال: {قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين}[الشعراء:42]

لكم الأجر, ولكم القربى والزلفى, فلما اجتمعوا قال لموسى {إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين} أينا يبدأ؟ قال موسى: ابدؤوا أنتم ألقوا ما في أيديكم, والحكمة من ذلك كما قال الحافظ رحمه الله أن يتبين أن هؤلاء يظهر للناس بهرجهم وباطلهم ثم يأتي الحق بعد ذلك ويقضي عليهم, قال: ألقوا؟ {فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون}[الشعراء:44]^

{فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون}[الشعراء:45]^

اجتمعت العصا والحية فعرفوا أن هذا من عند الله فآمنوا في الحال قالوا {قالوا آمنا برب العالمين}[الشعراء:47]

{رب موسى وهارون}[الشعراء:48]

فتوعدهم فرعون بأن يقطع أيديهم وأرجلهم ولم يبالوا لأنهم رأوا الحق, ولما وضعوا ما عندهم سحروا أعين الناس, خطفوا أبصارهم وسحروها وغيروها واسترهبوهم وصار للناس رهبة وجاءوا بسحر عظيم, ولكن هذا الباطل سرعان ما ذهب

قوله: {سحروا أعين الناس} فهذا نوع من السحر وهو سحر تخييل, هذا هو سحر التخييل سحروا أعين الناس, يخيل إليه من سحرهم أنا تسعى, سحر تخييل, تخييل في الأبصار فقط.

والنوع الثاني: سحر له حقيقة, له تأثير, في المرض أو قتل والتفريق, فهو يمرض ويقتل  ويفرق بين المرء وزوجه, قد يقتل الساحر بسحره, قد يمرض, يفرق بين المرء وزوجه, يكون بالجمع والتفريق, قد يحبب المرأة إلى زوجها والزوج إلى امرأته, وقد يكره يفرق يكره المرأة ترى تراه في صورة قبيحة فتطلب الفراق, أو يراها في صورة قبيحة, كما قال سبحانه: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}[البقرة:102]

قال أبو حنيفة رحمه الله: أن هذا السحر كله خيال تخييل كذلك المعتزلة رأوا أن السحر كله خيال, وهذا باطل.

الصواب: أن منه ما هو خيال ومنه ما هو حقيقة, ومن الأدلة على أنه حقيقة قوله تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} لا يضرون إلا بإذن الله ويفرقون, وقوله تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد}[الفلق:4].

وهي السواحر اللاتي يعقدن العقد وينفثن فيها.

والدليل على سحر الخيال: قوله{يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}, ولكن الساحر لا يقلب الأعيان, ولا يستطيع الساحر أن يقلب الأعيان, فلا يقلب الإنسان حمارا ولا الحمار إنسان ولا الحديد ذهبا ولا الذهب حديدا, لكن قد يخيل إليه الناس قد يخيل لبعض الناس, فيراه في غير صورته الحقيقية, لكن هو لا يستطيع أن يغير الحقائق الساحر لا يستطيع, تعلم السحر وتعليمه كفر, وهو ردة كما قال الله تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}[البقرة:102]

يتعلمونه وتعليمه كفر, فلا ينفك عن الشرك بالله عز وجل.

××× الرازي في تفسيره على آية السحر: وأوجبت عنهم السحر, وقال أن العلم بذاته شريف, والسحر نوع من العلم وتعلم العلم واجب, فإذا فتعلم السحر واجب, هكذا الرازي أوجب تعلم السحر, رد عليه الحافظ والرازي له شطحات, وله كتاب: " السر المكتوم في عبادة النجوم".

ولكنه تاب كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعد ذلك, تاب وترحم عليه, إذا كان أشعريا بل تحول إلى جهميا, ويقال أن في كتابه كل شيء إلا التفسير ذكر كل شيء في كتابه إلا التفسير.

فالمقصود: أن الرازي أوجب تعلم السحر وهذا من أبطل الباطل كما ذكر الحافظ تعلم السحر كفر وردة, كما قال سبحانه: {ولا يفلح الساحر حيث أتى}[طه:69].

{وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}[البقرة:102].

والسحر لا يخلو من عبادة الشيطان, والتقرب إلى الشياطين الساحر لا يمكن هناك عقد بين الساحر وبين الشيطان في الخدمة المتبادلة, فالشيطان يخدم الساحر, والساحر يخدم الشيطان, لكن بعد العقد هناك عقد يطلب الشيطان من الساحر أن يكفر بالله عز وجل أولا, يطلب منه الشرك حتى يخدمه فيطلب منه مثلا الشرك يتقرب إليه بما يحب, أو مثلا يطلب منه أن يستهين بالمصحف, أو يلطخه في النجاسة, وغير ذلك من أنواع الكفر, ثم يخدمه الكافر الشيطان يخدم الساحر بأن يأتي إليه بالأخبار ويستجيب لمطالبه, إذا أمره أن يلطم أحد لطمه, إذا أراد أن يخرج خرج حتى يحصل له شيء من المال, فهي خدمة متبادلة فلا يمكن أن ينفك ساحر عن الشرك, فلهذا السحر ... وعقد تؤثر في القلوب والأبدان وتمرض وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه, والساحر بهذا كافر لإشراكه بالله عز وجل, ولإضراره بالناس وأكل أموالهم بالباطل.

أما السحر الذي لا يتصل صاحبه بالشياطين وهو سحر الأدوية والتدخينات, ولا يتصل صاحبه بالشياطين هذا يسمى سحر من جهة اللغة, فهذا فيه تخفيف تجده يعمل أدوية وتدخينات وسقي أشياء تضر ويأكل أموال الناس, فهذا مرتكب للكبيرة من كبائر الذنوب إن اعتقد أنه حلال, وأنه يجوز له أن يأكل أموال الناس بالباطل ويضرهم فهذا كافر, وإن لم يعتقد هذا ولم يتصل بالشياطين فهو ارتكب محرما وكبيرة.

(انتهى)

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد