مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين, أما بعد:
قال الحافظ بن كثير رحمه الله تعالى على قول الله عز وجل: {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}[الأعراف:164].
{فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون}[الأعراف:165].
{فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين}[الأعراف:166].
(المتن)
قال الحافظ بن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، كما تقدم بيانه في سورة البقرة. وفرقة نهت عن ذلك، [وأنكرت] واعتزلتهم. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا}؟ أي: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم. قالت لهم المنكرة: {معذرة إلى ربكم} قرأ بعضهم بالرفع، كأنه على تقديره: هذه معذرة وقرأ آخرون بالنصب، أي: نفعل ذلك {معذرة إلى ربكم}.
(الشرح)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
بقراءة الرفع على تقدير مبتدأ هذه معذرة, وقراءة النصب على تقدير فعل يصير مفعول معذرة ××× نفعل ذلك معذرة.
(المتن)
وقرأ آخرون بالنصب، أي: نفعل ذلك {معذرة إلى ربكم} أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {ولعلهم يتقون} يقولون: ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.
قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به} أي: فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة، {أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} أي: ارتكبوا المعصية {بعذاب بئيس} فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين أو من الناجين؟ على قولين:
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} [قال:] هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة، يقال لها: "أيلة"، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم، وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعا في ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها. فمضى على ذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة وقالوا: تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم؟ فلم يزدادوا إلا غيا وعتوا، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة: تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، {لم تعظون قوما الله مهلكهم [أو معذبهم عذابا شديدا] } وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى؟ فقالوا: {معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} وكل قد كانوا ينهون، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا: {لم تعظون قوما الله مهلكهم} والذين قالوا: {معذرة إلى ربكم} وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة.
وروى العوفي، عن ابن عباس قريبا من هذا.
وقال حماد بن زيد، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية, قال: ما أدري أنجا الذين قالوا: "لم تعظون قوما الله مهلكهم"، أم لا؟ قال: فلم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا، فكساني حلة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، قال: حدثني رجل، عن عكرمة قال: جئت ابن عباس يوما وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس، جعلني الله فداك؟ قال: فقال: هؤلاء الورقات. قال: وإذا هو في "سورة الأعراف"، قال: تعرف أيلة قلت: نعم. قال: فإنه كان بها حي من اليهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضا سمانا كأنها الماخض، تتبطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم.
فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام.
فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة: بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت. فكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة، فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين، وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت. وقال الأيمنون: ويلكم، الله، ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله. وقال الأيسرون: {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} ؟ قال الأيمنون: {معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} إن ينتهوا فهو أحب إلينا ألا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، وقال الأيمنون: فقد فعلتم، يا أعداء الله. والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم.
الشرح: والله لا نبايتكم يعني لا نبيت معكم خوف من العقوبة والله لا نبايتكم يعني لا نجلس معكم أي لا نبيت معكم والله لا نبايتكم يعني يتوقعوا نزول العذاب بينهم خشية أن ينزل العذاب وهم معهم, قالوا لا نجلس معكم في هذه الليلة نجلس في مكان آخر حتى تنزل عقوبة تخصكم.
(المتن)
والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم, والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب. فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم يجابوا، فوضعوا سلما، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال: أي عباد الله، قردة والله تعاوي لها أذناب. قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها، أي نعم. ثم قرأ ابن عباس: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس}.
قال: فأرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها؟. قال: قلت: جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم وقالوا: {لم تعظون قوما الله مهلكهم} ؟ قال: فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين.
وكذا روى مجاهد، عنه.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس، قال: أخبرنا أشهب بن عبد العزيز، عن مالك، قال: زعم ابن رومان أن قوله تعالى: {تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} قال: كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت، فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر، فاتخذ -لذلك -رجل خيطا ووتدا، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد، أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه، فأتوه فسألوه عن ذلك، فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم: "فإنه جلد حوت وجدناه".
فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك -ولا أدري لعله قال: ربط حوتين -فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجدوا رائحة، فجاءوا فسألوه فقال لهم: لو شئتم صنعتم كما أصنع. فقالوا له: وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم، فأصابهم من المسخ ما أصابهم. فغدوا عليهم جيرانهم مما كانوا حولهم، يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم، فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك، ويدنو منه ويتمسح به.
وقد قدمنا في سورة "البقرة" من الآثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية، ولله الحمد والمنة.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
هذه الآية الكريمات فيها العظة والعبرة يقول الله تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون}[الأعراف:163].
هذه القرية كانت قريبة من البحر {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم} يعني تعدوا شرع الله تعالى وحرم عليهم اصطياد الحوت يوم السبت يوما واحدا في الأسبوع, وأباح لهم اصطياد الحوت في الست الأيام الباقية بسبب اجتراحهم ما حرم الله, وجرأتهم, فلما تجرئوا على معاصي الله وفسقوا ابتلاهم الله, فحرم عليهم اصطياد الحوت في هذا اليوم يوم السبت, ثم ابتلاهم الله ابتلاء آخر وهو أنه جعل السبت لا تأتي الحيتان إلا في يوم السبت ثم بقية الأيام لا يرونها ابتلاء وامتحان, أولا ابتلاهم الله وحرم عليهم اصطياد الحوت يوم السبت, كما حرم على اليهود شحوم الإبل والبقر والغنم حرم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم
ابتلاء وامتحان بسبب فسقهم ومعاصيهم وتعنتهم على أنبيائهم, حرم عليهم الشحوم, وهنا حرم عليهم اصطياد الحوت يوم السبت, فابتلاهم الله بتحريم اصطياد الحوت يوم السبت, ثم ابتلاهم الله ابتلاء آخر فجعل الحوت لا تأتي إلا يوم السبت, وبقية الأيام لا تأتي, ولهذا قال تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} يعني يوم السبت تأتي {كذلك نبلوهم} نختبرهم {بما كانوا يفسقون}.
بسبب فسقهم, فسقهم وتعنتهم واجتراحهم لمحارم الله حرم الله عليهم اصطياد الحوت يوم السبت ثم ابتلاهم ابتلاء آخر فجعل الحوت ما تأتي إلا يوم السبت فطال عليهم الأمد, وكانوا قريبين من البحر وما كان قريب من البحر ليس كالبعيد عن البحر نحن الآن بعيدين عن البحر لا يهمنا مثلا السمك, لكن يهمهم ما يصبرون عنه تعودوا عليه منذ نشأتهم المكان في الساحل وقرب الساحل اصطياد الحوت يعتبر من الوجبات المهمة عندنا الحوت, بخلاف البعيد عن البحر.
ثم لما طال عليهم الأمد احتالوا تحيلوا على اجتراح ما حرم الله, فجعلوا ينسبوا الشراك والحبائل يوم الجمعة يجعلونها في البحر ثم تصيد السمك يوم السبت إذا جاء وتتعلق بهذه الحبائل والشراك تمسكها فإذا كان يوم الأحد أخذوها, هذه حيلة, وقالوا ما صدناها يوم السبت هذه حيلة هم فعلوا الحبائل والشباك يوم السبت, ويوم الجمعة ما في سمك ويوم الأحد ما في سمك
لكن احتالوا فعند ذلك انقسمت أهل هذه القرية إلى ثلاث فرق:
فرقة فعلت المنكر, وفرقة أنكرت عليهم ونهتهم أشد النهي, وخوفوهم بالله, وحذروهم من .....المعاصي, وفرقة سكتت وهذه الفرقة التي سكت قيل يحتمل أنهم يئسوا منهم لأنهم قالوا لم تعظون قولا الله مهلكهم, كأنهم يئسوا منهم أو أنهم جاءوا أولا ثم سكتوا, أو أنهم اكتفوا بنهي الفرقة التي نهتهم, تنقسم على هذه الأقسام فرقة نهت, وفرقة سكتت, وفرقة فعلت المعصية, ثم لما نزل العذاب هلكت الطائفة التي فعلت المعصية, ونجت الطائفة التي نهت, وأما التي سكتت سكت الله عنها, فيحتمل أنها هلكت ويحتمل أنها نجت, والعلماء لهم قولان في هذا: قيل أنهم نجوا, وقيل أنهم هلكوا.
يقول الله تعالى: {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون} يعني فرقة من هذه الفرق الثلاث
{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} هذه محاورة بين الطائفة الساكتة والطائفة الناهية, تقول الطائفة الساكتة للناهية: لم تعظون قوما الله مهلكهم, كأنهم يعني متألمون في هذا لم تعظون قوما الله مهلكهم, هؤلاء قوم سيحل بهم العذاب, لا فائدة في وعظهم ونهيم, {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا}.
فأجابت الطائفة الناهية وقالت نحن ننصحهم ونعظهم لأمرين:
الأمر الأول: أن نبرأ ذمتنا من الواجب الله أوجب علينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر, نبرأ ذمتنا ونخرج من العهدة من عهدة الواجب, لأن الله.... بفعل واجب فعل المنكر ومن رأى منكرا يجب عليه تغييره بما يستطيع فنحن لابد أن نبرأ ذمتنا بيقين ونخرج من عهدة الواجب, وأمر آخر لا نيأس لعلهم يتقون, لعلهم ينزجرون, لعلهم يتعظون ×من العذاب
ثم نزل العذاب فلما نزل العذاب قال الله تعالى بين الله تعالى أن الطائفة التي فعلت المنكر هلكت, والطائفة الناهية نجت, والطائفة الساكتة سكت الله عنها, قال الله تعالى: {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا} هذه محاورة بين الطائفتين {قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}[الأعراف:164]
{فلما نسوا ما ذكروا به} استمروا على ما هم عليه ولم يقبلوا الموعظة {أنجينا الذين ينهون عن السوء} أي الطائفة الناهية نجت {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} هذه الفاعلة { بما كانوا يفسقون}[الأعراف:165].
بين الله العذاب قال ما هو {فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين}[الأعراف:166].
جعلهم الله قردة مسخهم الله قردة وخنازير, والحكمة في ذلك أن الجزاء من جنس العمل, العمل فيه حيلة ما هو العمل الذي فعلوه؟ حيلة نصبوا الشراك والحبائل يوم الجمعة فصادوا يوم السبت وأخذوه يوم الأحد هذه حيلة في صورة أنه ليس فعل محرم, لأنهم ما أخذوها إلا يوم الأحد, ولكن الواقع أنه حيلة على محرم, فلذلك مسخهم الله قردة لأن القردة أقرب شيء للإنسان, فهي يعني تشبه الإنسان تشبه الإنسان في كثير من أحوالها, فصورتها صورة القردة وهي تشبه الإنسان في كثير من ... وصار الجزاء والعقوبة من جنس العمل, كما أن العمل فيه حيلة فيه أنه صورة تشبه صورة المباح فكذلك مسخهم الله قردة لأنها تشبه صورة الإنسان, فالجزاء من جنس العمل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما الطائفة الساكتة اختلف العلماء فيها هل نجت أو هلكت؟ على قولين:
القول الأول: أنها هلكت.
والقول الثاني: أنها نجت.
وابن عباس رضي الله عنهما له قولان في هذا كما سيورد القول الأول: أنها هلكت, والقول الثاني: أنها نجت, وهذا هو القول الذي قاله عكرمة, ابن عباس رجع إلى قول عكرمة, عكرمة قال لها أليست نهتهم, وقالوا معذرة إلى ربكم فرجع إلى قوله وتبين لابن عباس في هذا تبصر تبين له القول الثاني, ولهذا كسا عكرمة ثوبين
لأنه حينما اختار هذا القول وتبين لابن عباس أنه قول صواب كساه ثوبين.
والراجح أن الطائفة الساكتة الراجح أنها نجت, لأمور:
الأمر الأول: أنها سقط عنه إنكار المنكر بإنكار الطائفة إنكار المنكر يسقط متى ما قام به لأنه يكفي لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي, فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين, وقد نهت الطائفتان فسقط عنها إنكار المنكر, فكيف تهلك وقد سقط عنها الواجب؟ ما تركت الواجب, وثانيا: أنهم لم يرضوا بفعلهم, لم يرضوا بفعلهم لأنهم قالوا للطائفة الناهية {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا}.
متألمون ما رضوا بفعلهم ما رضوا بالمعصية,إنما تألموا فيحتمل أنهم نهوا أولا ثم يأسوا أو أنهم اكتفوا لكن هم متألمون.
والأمر الثالث مفهوم قوله تعالى: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس}, فمفهوم أخذنا الذين ظلموا أن الساكتين لم يهلكوا لأنهم لم يضربوا وإنما خص الذين ظلموا بالعذاب فدل على أنهم نجو. وانظر الآن حال هؤلاء الذين هؤلاء الطائفة من بني إسرائيل الذين أمامهم الحوت يأتيهم يوم السبت ولا يصبرون قارن بينها وبين حال الصحابة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية في عمرة الحديبية أحرم الصحابة والصحابة يحرمون أحرموا بالعمرة, والله تعالى حرم على المحرم صيد البر, فكان صيد البر تأتيهم وأمامهم, ويستطيعون أخذها بأيديهم وبرماحهم ومع ذلك صبروا, بخلاف هذه الطائفة فإن الحوت أمامها تأتيهم يوم سبتهم شرعا فلم يصبروا.
قال الله تعالى في الصحابة: {يا أيها الذين آمنوا}, وكل منهم ابتلوا الصحابة ابتلوا بالصيد وهم محرمون, وهؤلاء ابتلوا بالسمك وهو محرم عليهم, فالصحابة صبروا وبني إسرائيل لم يصبروا, قال الله تعالى في الصحابة: {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}[المائدة:94].
تناله ابتلاء ليبلونكم تناله أيديكم ورماحكم يستطيع أخذه بيده وبرمحه وابتلاهم الله بأن تأتي أمامهم وخلفهم وعن يمينهم وتعدو من هنا ومن هناك فيستطيعون أخذها لكنهم صبروا, {ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}.
وأما بنو إسرائيل فإن الله تعالى قال: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون}[الأعراف:163].
ثم قال سبحانه: {فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين}[الأعراف:166].
لما عتوا وتمردوا قال الله لهم كونوا قردة خاسئين, وهذا القول قول قدري قلنا لهم قلنا لهم يعني قولا قدريا لا قولا شرعيا, فالقول القدري لا ,,,,,معناه قال لهم {كونوا قردة خاسئين} فكانوا قردة في الحال نسأل الله السلامة والعافية, ثم إن هؤلاء الذين مسخوا لم يعيشوا, الصواب أنهم لم يعيشوا لأنه ورد أن المسخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ليس عندهم نسل ولا توالد
جاء في الحديث في صحيح البخاري, أن النبي صلى الله عليه وسلم أشكل عليه الأمر في أول الأمر, وظن أن المسخ يعيش, وقال: ما أدري لعله مسخ ثم بين له بعد ذلك أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا توالد
وأما القردة والخنازير الموجودين هذه حيوانات غير الممسوخين, فتتوالد القردة والخنازير تتوالد هذه ليست ممسوخة الممسوخ لا يعيش ولا يتوالد ليس كمثل ××× والنبي صلى الله عليه وسلم أشكل عليه الأمر في أول الأمر قال لا أدري لعل هذا مسخ, ثم بين له في ذلك أن الممسوخ لا يعيش أثر من ثلاثة أيام, وأما القردة والخنازير هذه أمة القردة أمة والخنازير أمة والكلاب أمة, أمة من الأمم هذه أمة خلقها الله حيوانات تتوالد, والخنازير أمة, والقردة أمة, والكلاب أمة,والذئاب وهكذا.
وأما الممسوخون فإنهم لا يتوالدون ولا يعيشون أكثر من ثلاثة نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
القول الثاني: أن الساكتين كانوا من الهالكين.
قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ رضي الله عنهما, أنه قال: ابتدعوا السبت فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت، شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت، ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل.
الشرح: ابتلاء وامتحان ما تر إلا يوم السبت نعم ابتلاء هل يصبرون أو لا يصبرون.
(المتن)
فإذا جاء السبت جاءت شرعا، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا فخزم أنفه ثم، ضرب له وتدا في الساحل، وربطه وتركه في الماء, فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله.
الشرح: خزم أو خرم في هذا وجهان خزم وخرم والمعنى متقارب.
(المتن)
ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد، إلا عصبة منهم نهوه.
الشرح: وفيه دليل على هذه الآيات فيها دليل على تحريم الحيل التحايل على محارم الله, وأن الحيلة باطلة فلا تحل الحرام, ولهذا في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل».
ومن ذلك من الحيل أيضا التي فعلها اليهود: أن الله لما يحرم عليهم شحوم الميتة جملوه يعني أذابوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه, أذابوه وقالوا هذا ما هو بشحم هذا دهن وباعوه وأكله ثمنه, وأن الله حرم شيئا حرم ثمنه فهذا من الحيلة, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم, جملوه, يعني أذابوه, ثم باعوه وأكلوا ثمنه.
(المتن)
فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد، إلا عصبة منهم نهوه حتى ظهر ذلك في الأسواق، ففعل علانية. قال: فقالت طائفة للذين ينهونهم: {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم} فقالوا: نسخط أعمالهم {ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به} إلى قوله: {قردة خاسئين} قال ابن عباس: كانوا أثلاثا: ثلث نهوا، وثلث قالوا: {لم تعظون قوما الله مهلكهم} وثلث أصاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم.
وهذا إسناد جيد عن ابن عباس، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين، أولى من القول بهذا؛ لأنه تبين حالهم بعد ذلك، والله أعلم.
الشرح: يعني يتبصر حالهم يعني يتبين يعني كان ابن عباس له قولان:
القول الأول: رأى أنهم هلكوا, ثم تبصر وتبين في قول عكرمة, ورأى أنه الصواب وأخذه بقوله ولهذا كساه ثوبين وهذه الآيات فيها دليل على أن المعاصي من أسباب العقوبات, أن المعاصي من أسباب العقوبات والمصائب والنكبات, ولهذا يقول النبي صلي الله عليه وسلم في ... إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده, المعاصي من أسباب العقوبات والمصائب والنكبات, وهؤلاء عوقبوا بالمعاصي التي أصابوها نسأل الله السلامة والعافية, وفيه دليل على وجوب إنكار المنكر, وفيه دليل على أن الناهين ينجون ينجيهم الله, إذا اعتزلوهم, وأما إذا جالسوا بينهم فقال ينزل العذاب ويصيب الجميع كل يبعث على نياتهم لا حول ولا قوة إلا بالله.
(المتن)
وقوله تعالى: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا.
و {بئيس} فيه قراءات كثيرة، ومعناه في قول مجاهد: "الشديد"، وفي رواية: "أليم".
وقال قتادة: موجع. والكل متقارب، والله أعلم.
وقوله: {خاسئين} أي: ذليلين حقيرين مهانين.
{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم (167) }.
{تأذن} تفعل من الإذن أي: أعلم، قاله مجاهد. وقال غيره: أمر.
وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة، ولهذا أتبعت باللام في قوله: {ليبعثن عليهم} أي: على اليهود {إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم.
ويقال: إن موسى، عليه السلام، ضرب عليهم الخراج سبع سنين -وقيل: ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج. ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم وإياهم، أخذهم منهم الجزية والخراج، ثم جاء الإسلام، ومحمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية.
قال العوفي، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: هي المسكنة، وأخذ الجزية منهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عنه: هي الجزية، والذين يسومهم سوء العذاب: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، إلى يوم القيامة.
وكذا قال سعيد بن جبير، وابن جريج، والسدي، وقتادة.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب قال: يستحب أن تبعث الأنباط في الجزية.
قلت: ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصار للدجال، فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم، عليه السلام، وذلك آخر الزمان.
الشرح: يقتلهم قتلا ... حتى يختبأ اليهود وراء الشجر والحجر يتكلم الشجر والحجر فيقول يا مسلم هذا اليهودي خلفي تعالى فاقتله إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود يقال إنهم يكثرون من غرس شجر الغرقد وهذا يدل على عتوهم وعنادهم, وأنهم يعرفون الحق ولكنهم عصوا
(المتن)
وقوله: {إن ربك لسريع العقاب} أي: لمن عصاه وخالف [أمره و] شرعه، {وإنه لغفور رحيم} أي: لمن تاب إليه وأناب.
وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة، لئلا يحصل اليأس، فيقرن [الله] تعالى بين الترغيب والترهيب كثيرا؛ لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف.
الشرح: نعم, وهذا بشارة للمسلمين أن اليهود سيحصل لهم الإذلال وأنهم, يسامون سوء العذاب إلى يوم القيامة {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب}[الأعراف:167].
ولا يمنع هذا الآن تسلطهم الآن هذا شيء عارض بسبب ضعف المسلمين, وبسبب انحراف المسلمين وعدم عملهم بالكتاب وبالسنة وهذا هو الذي جعل اليهود يتسلطون, وإلا فهم كتب الله عليهم الذلة وسيعودون إن شاء الله إلى حالتهم الأولى, إذا رجع المسلمين إلى دينهم وعملوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم وأفاقوا من غفلتهم لأنهم في غفلة المسلمين في غفلة كأنهم في غيبوبة الآن, غفلوا عن الأمر الذي خلقوا له, وعن الجهاد في سبيل الله عطلوا الجهاد, سلط الله عليهم وإلا فهم مكتوب عليهم الذلة إلى يوم القيامة, هذا خبر الله {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب}, وهم أمة محمد يأخذون منهم الجزية ويذلونهم وهم تحت قهرهم, فهذا وصف لازم له لكن هذه الحالة شيء عارض, بسبب حال المسلمين إنما أصيبوا من قبل أنفسهم, فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم اليقظة والعبرة ويرزقنا وإياكم النهضة من هذا ××× والإفاقة والرجوع إلى كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم حتى تعود إلى المسلمين قوتهم وهيبتهم وحتى تعود إلى اليهود ذلتهم وما كتبه الله عليهم.
(المتن)
يقول تعالى: {وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون (168) فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (169) والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (170) }.
يقول الحافظ بن كثير: يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمما، أي: طوائف وفرقا، كما قال [تعالى]{وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا} [الإسراء:104].
{منهم الصالحون ومنهم دون ذلك} أي: فيهم الصالح وغير ذلك، كما قالت الجن: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا} [الجن:11].
الشرح: تفرقوا في الأرض وانقسموا أقسام منهم الصالح ومنهم الطالح, مثل ما قال تعالى في الآية الأخرى {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون}[آل عمران:113].
والصالحون لا يدخلون في هذا الوصف الذي وصفهم الله { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} المؤمنون والصالحون لا يدخلون في هذا, لأن يدخل من بقي على كفره بقي على كفره وعناده هم الذين لهم هذا الوصف {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم}[الأعراف:167].
أما من آمن وأسلم فهذا له أجره مرتين كما في الحديث أجر مقابل آمن بنبيه, وأجر آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما من بقي على كفره وعناده هم الذين لهم هذا الوصف, نسأل الله السلامة والعافية, والله تعالى بين أن منهم من آمن قال: {وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك}[الأعراف:168], مثل ما قال الجن {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك}[الجن:11], فالجن فيهم الصالح والفاسق الكافر والمؤمن, والمبتدع والسني والمطيع والعاصي, وكذلك اليهود.
(المتن)
{وبلوناهم} أي: اختبرناهم {بالحسنات والسيئات} أي: بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء، {لعلهم يرجعون}.
ثم قال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} يقول تعالى: فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح، خلف آخر لا خير فيهم.
الشرح: والخلف هو العقب الفاسد الخلف بسكون اللام الخلف هو العقب الفاسد, والخلف بفتح اللام العقب الصالح,العقب الصالح يقال له خلف كونوا خير خلف لخير سلف, هذا العقب الصالح, وأما العقب الفاسد خلف, {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات}[مريم:59], {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب}[الأعراف:169].
فهذا الخلف عقب فاسد جاء بعد الجيل السابق الذي فيه الصالح والطالح عقبهم جيل فاسد, آثروا الدنيا على الآخرة ويعتاضون عن الآخرة يعتاضون عن الدنيا يعني يأخذون الدنيا عوضا عن الآخرة, وعن الإيمان, يعتاضون عن الإيمان بعرض الدنيا.
(المتن)
وقد ورثوا دراسة [هذا] الكتاب وهو التوراة -وقال مجاهد: هم النصارى -وقد يكون أعم من ذلك، {يأخذون عرض هذا الأدنى} أي: يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعرض الحياة الدنيا، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه.
الشرح: وهذا فيه التحذير من صنيعهم تحذير هذه الأمة بعض الناس والعياذ بالله يعتاض عن نشر الحق, وبذله, والكلام بالحق وغير الحق بالدنيا فيؤثر الحياة الدنيا على الآخرة يعطى مثلا منصب أو جاه أو مال, حتى يسكت عن الحق, ويتكلم بالباطل, فيعتاض عن نشر الحق وبيان الحق وإيضاحه في الدنيا, والدنيا كلها عرض قليل لو أعطى الدنيا كلها فهي قليل, {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى}, نسأل الله السلامة والعافية, ويجب على المسلم وطالب العلم أن يبذل الحق وأن ينشره وأن لا يخاف في الله لومة لائم, وأن لا يعتاض عن الحق وبذله ونشره بالدنيا كلها.
(المتن)
ولهذا قال: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} كما قال سعيد بن جبير: يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله منه، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه.
وقول مجاهد في قوله: {يأخذون عرض هذا الأدنى} قال: لا يشرف لهم شيء في الدنيا إلا أخذوه، حلالا كان أو حراما، ويتمنون المغفرة، ويقولون: {سيغفر لنا} وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه.
وقال قتادة في قوله: {فخلف من بعدهم خلف} أي: والله لخلف سوء.
الشرح: أي والله نعم يعني هذا جواب بمعنى نعم, نعم والله أنه خلف فاسد عقب فاسد, نعم.
(المتن)
أي: والله لخلف سوء، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم، ورثهم الله وعهد إليهم، وقال الله في آية أخرى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم:59].
قال {يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا} تمنوا على الله أماني، وغرة يغترون بها، {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} لا يشغلهم شيء عن شيء، ولا ينهاهم شيء عن ذلك، كلما هف لهم شيء من [أمر] الدنيا أكلوه، ولا يبالون حلالا كان أو حراما.
الشرح: نسأل الله العافية, ذكر كثير من الناس الحلال ما حل بيده والحرام ما عجز عنه, لا يبالي, كل ما حل بيده فهو حلال, ولا يكون عنده حرام إلا الشيء الذي يعجز عنه نسأل الله العافية, هؤلاء أثروا الدنيا على الآخرة, ولا يبالون بأوامر الله ونواهيه.
(المتن)
وقال السدي قوله: {فخلف من بعدهم خلف} إلى قوله: {ودرسوا ما فيه} قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم، وإن خيارهم اجتمعوا، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشي، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى، فيقال له: ما شأنك ترتشي في الحكم، فيقول: "سيغفر لي"، فيطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات، أو نزع، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه، فيرتشي. يقول: وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه.
قال الله تعالى: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه} يقول تعالى منكرا عليهم في صنيعهم هذا، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس، ولا يكتمونه كقوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} [آل عمران:187].
وقوله تعالى: {والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه، ويحذرهم من وبيل عقابه، أي: وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم، وترك هوى نفسه، وأقبل على طاعة ربه.
{أفلا تعقلون} يقول: أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير؟ ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى {والذين يمسكون بالكتاب} أي: اعتصموا به واقتدوا بأوامره، وتركوا زواجره {وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}.
قال تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (171)}.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم} يقول: رفعناه، وهو قوله: {ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم} [النساء:154].
وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رفعته الملائكة فوق رءوسهم.
الشرح: وهو جبل الطور لما عتوا ولم يمتثلوا وعارضوا وتعنتوا أمرهم نبيهم أن يأخذوا الكتاب التوراة وأن يعملوا بما فيه فعاندوا, وقالوا أنها تكاليف شقة فرفع الله الجبل فوق رؤوسهم {وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة}.
(المتن)
وقال القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ثم سار بهم موسى، عليه السلام، متوجها نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمره الله تعالى [به] -أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، وأبوا أن يقربوها حتى ينتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، قال: رفعته الملائكة فوق رءوسهم. رواه النسائي بطوله.
(الشرح)
وهذا يدل على عتوهم وعنادهم وهؤلاء الخلاصة الذين جاءوا وشاهدوا إهلاك الله لعدوهم فرعون ومع ذلك هذه حالهم, نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
وقال سنيد بن داود في تفسيره، عن حجاج بن محمد، عن أبي بكر بن عبد الله قال: هذا كتاب، أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم، وما أمركم وما نهاكم؟ قالوا: انشر علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرة، وحدودها خفيفة قبلناها. قال: اقبلوها بما فيها. قالوا: لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها؟ فراجعوا موسى مرارا، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربي، عز وجل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا الجبل. قال: فحدثني الحسن البصري قال: لما نظروا إلى الجبل خر كل رجل ساجدا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل، فرقا من أن يسقط [عليه] فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة.
قال أبو بكر: فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده،
الشرح : أن الله خط التوراة لموسى بيده
(المتن )
لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير، ولا كبير، تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه. [أي: حول كما قال تعالى: {فسينغضون إليك رءوسهم} [الإسراء:51] أي يحركونها].
الشرح: نسأل الله السلامة والعافية, وهذا من عتوهم وعنادهم.
(المتن)
قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ...
(انتهى)