مقدمة:-
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
(المتن)
قال الحافظ بن كثير – رحمه الله تعالى – على قول الله عز وجل: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176) ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177) }.
قال عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأعمش ومنصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها [فأتبعه] } الآية، قال: هو رجل من بني إسرائيل، يقال له: بلعم بن أبر. وكذا رواه شعبة وغير واحد، عن منصور، به.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] هو صيفي بن الراهب.
قال قتادة: وقال كعب: كان رجلا من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين.
وقال العوفي، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] هو رجل من أهل اليمن، يقال له: بلعم، آتاه الله آياته فتركها.
وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى، عليه الصلاة والسلام.
وقال سفيان بن عيينة، عن حصين، عن عمران بن الحارث، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] هو بلعم بن بعر. وكذا قال مجاهد وعكرمة.
وقال ابن جرير: حدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا إسرائيل، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] قال: هو بلعام -وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت.
وقال شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] في قوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه [آياتنا] } الآية, قال: هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت.
وقد روي من غير وجه، عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة، قبحه الله [تعالى].
وقد جاء في بعض الأحاديث: "أنه ممن آمن لسانه، ولم يؤمن قلبه"؛ فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، قال: حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما, في قوله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} قال: هو رجل أعطي ثلاث دعوات مستجابات له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها واحدة. قال: فلك واحدة، فما الذي تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فدعا الله، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه، وأرادت شيئا آخر، فدعا الله أن يجعلها كلبة، فصارت كلبة، فذهبت دعوتان.
فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث، وتسمى البسوس. غريب.
وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو رجل من مدينة الجبارين، يقال له: "بلعام" وكان يعلم اسم الله الأكبر.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره من علماء السلف: كان [رجلا] مجاب الدعوة، ولا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه.
وأغرب، بل أبعد، بل أخطأ من قال: كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها. حكاه ابن جرير، عن بعضهم، ولا يصح.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لما نزل موسى بهم - يعني بالجبارين -ومن معه، أتاه يعني بلعام - أتاه بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه. قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، ذهب دنياي وآخرتي.
فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: {فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان [من الغاوين] }. الآية.
وقال السدي: لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة} [المائدة:26] بعث يوشع بن نون نبيا، فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبي، وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: "بلعام" وكان عالما، يعلم الاسم الأعظم المكتوم، فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين وقال لهم: لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعوا عليهم دعوة فيهلكون! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء، لعظمهن فكان ينكح أتانا له، وهو الذي قال الله تعالى {فانسلخ منها}.
وقوله تعالى: {فأتبعه الشيطان} أي: استحوذ عليه و على أمره، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ ولهذا قال: {فكان من الغاوين} أي: من الهالكين الحائرين البائرين.
وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال: حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا محمد بن بكر، عن الصلت بن بهرام، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا جندب البجلي في هذا المسجد؛ أن حذيفة - يعني بن اليمان، رضي الله عنه - حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداءه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك".
قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك: المرمي أو الرامي؟ قال: "بل الرامي".
هذا إسناد جيد والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وغيرهما.
وقوله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} يقول تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها} أي: لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، {ولكنه أخلد إلى الأرض} أي: مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى.
وقال ابن راهوية في قوله تعالى: {ولكنه أخلد إلى الأرض} قال: تراءى له الشيطان على علوة من قنطرة بانياس، فسجدت الحمارة لله، وسجد بلعام للشيطان. وكذا قال عبد الرحمن بن جبير بن نفير، وغير واحد.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: وكان من قصة هذا الرجل: ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه: أنه سئل عن هذه الآية: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا [فانسلخ منها] }.
فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام، وكان مجاب الدعوة، قال: وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام - أو قال: الشام - قال فرعب الناس منه رعبا شديدا، قال: فأتوا بلعام، فقالوا: ادع الله على هذا الرجل وجيشه! قال: حتى أؤامر ربي - أو: حتى أؤامر - قال: فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له: لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وفيهم نبيهم. قال: فقال لقومه: إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم، وإني قد نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها، ثم راجعوه فقالوا: ادع عليهم. فقال: حتى أوامر ربي. فوامر، فلم يأمره بشيء. فقال: قد وامرت فلم يأمرني بشيء! فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى. قال: فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم، جرى على لسانه الدعاء على قومه، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه دعا أن يفتح لموسى وجيشه -أو نحوا من ذلك إن شاء الله.
قال, فقالوا: ما نراك تدعو إلا علينا. قال: ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم. إن الله يبغض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء يستقبلنهم؛ فإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا. قال: ففعلوا. قال: فأخرجوا النساء يستقبلنهم. قال: وكان للملك ابنة، فذكر من عظمها ما الله أعلم به! قال: فقال أبوها - أو بلعام-: لا تمكني نفسك إلا من موسى! قال: ووقعوا في الزنا. قال: وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل.
الشرح: رأس سبط, يعني رأس قبيلة سبط من أسباط بني إسرائيل مثل قبائل في العرب, يعني كان رئيس قبيلة, هذا رئيس سبط.
(المتن)
وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل فأرادها على نفسه، فقالت: ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى. قال: فقال: إن منزلتي كذا وكذا، وإن من حالي كذا وكذا. قال: فأرسلت إلى أبيها تستأمره، قال: فقال لها: فأمكنيه. قال: ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما. قال: وأيده الله بقوة. فانتظمهما جميعا، ورفعهما على رمحه فرآهما الناس -أو كما حدث -قال: وسلط الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا.
قال أبو المعتمر: فحدثني سيار: أن بلعاما ركب حمارة له حتى أتى المعلولى -أو قال: طريقا من المعلولى - جعل يضربها ولا تقدم، وقامت عليه فقالت: علام تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك؟ فإذا الشيطان بين يديه، قال: فنزل وسجد له، قال الله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} إلى قوله: {لعلهم يتفكرون}.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه الآيات الكريمة واضحة المعنى, وهذه الأخبار كلها من أخبار بني إسرائيل لا يعول عليها, يقول الله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين}[الأعراف:175].
{ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}[الأعراف:176].
{ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون}[الأعراف:177].
هذا رجل من بني إسرائيل من المتقدمين على المشهور من بني إسرائيل, وقيل أمية بن الصلت وقيل .. لكن المشهور أنه من بني إسرائيل, آتاه الله آياته آتاه الله العلم فانسلخ وانحرف, وهذه الآية فيها التحذير للعلماء من الانصراف عن الحق, والانحراف عن الحق, وإيثار الدنيا وزهرتها وإيثار العاجلة عاجلة الدنيا على الآخرة.
فهذه القصة فيها العظة والعبرة قصها الله علينا لكي نأخذ العظة والعبرة ولنتعظ ولنحذر من أن نسلك هذا المسلك, وهو مسلك الانحراف عن الحق, وترك الحق مع وضوحه, وإيثار الدنيا على الآخرة, والاغترار بالدنيا, فيصيبنا ما أصاب بلعام بن باعوراء, الذي ترك الحق, وانحرف عن الحق ...
فهذه عظة وعبر للعلماء وهم مضوا ثم قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعلمنا به سواكم. مضوا لكن ما قصوا علينا أخذ العظة والعبرة لا لمجرد القراءة بل لنعتبر ونتعظ
فنحذر أن نسلك مسلك هذا الرجل الذي انحرف عن الحق, وآثر العاجلة على الآخرة, {بل تؤثرون الحياة الدنيا}[الأعلى:16]^
{والآخرة خير وأبقى}[الأعلى:17]^
أما هذه الأخبار كلها من أخبار بني إسرائيل لا تصح ولا يعول عليها, ولكن الآية معناها واضح أن هذا رجل من المتقدمين, المشهور أنه بلعام -بن باعوراء, وأن الله آتاه العلم وآتاه آياته فترك الحق وانحرف عنه, وآثر الدنيا على الآخرة, فعاقبه الله, وكان من الغاوين, والغاوي هو الذي عرف الحق ثم عدل عنه يقال له غاوي, وهو من المغضوب عليهم, والمغضوب عليهم هم الغاوون, هم الغاوون الذين عرفوا الحق, وعدلوا عنه ولم يعملوا به, وأما الذي لا يعرف الحق ويعمل على جهل وضلال يسمى ضال يسمى هذا على ضلال, وأما الذي يعرف الحق ويعمل به هذا هو الراشد يقال له راشد منعم عليه, وهذه أقسام الناس أقسام الناس إما منعم عليه راشد وهو الذي يعلم الحق ويعمل به, وإما غاوي عرف الحق ثم عدل عنه مغضوب عليه, وإما يعمل على جهل وضلال, فهو ضال.
وهذه الأقسام الثلاثة كما ذكرت في سورة الفاتحة قسم الله الناس إلى ثلاثة أقسام:
(اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم), الذين أنعم عليهم هم الذين علموا وعملوا, (غير المغضوب عليهم), وهم الذين يعلمون ولا يعملون, (ولا الضالين), وهو طريق الضالين وهم الذين يعبدون الله على جهل وضلال, وهذا بلعام من الغاوين نسأل الله السلامة والعافية, هذا الرجل الذي ذكره الله من الغاوين الذين انحرفوا عن الحق, وعدلوا عنه, ×××بمعرفته , فعاقبه الله, قال الله: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}, يعني في جميع الأحوال إن حمل عليه يلهث, وإن ترك يلهث, وهذا الرجل كذلك يوعظ أو لم يوعظ فلم يستجيب, كما قال الله تعالى: {وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}[يس:10].
نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
قال: فحدثني بهذا سيار، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره.
قلت: هو بلعام -ويقال: بلعم -بن باعوراء، ابن أبر. ويقال: ابن باعور بن شهتوم بن قوشتم ابن ماب بن لوط بن هاران -ويقال: ابن حران - بن آزر. وكان يسكن قرية من قرى البلقاء.
قال ابن عساكر: وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه، له ذكر في القرآن. ثم أورد من قصته نحوا مما ذكرنا هاهنا، وأورده عن وهب وغيره، والله أعلم.
(الشرح)
نعم وأورده عن وهب وغيره, وكلها عن بني إسرائيل منقولة عن بني إسرائيل, ولا يجزم الإنسان بشيء لأن أخبار بني إسرائيل لا يعول عليها, أخبار بني إسرائيل كما ذكر الحافظ أنها على ثلاثة أقسام:
قسم جاء شرعنا بموافقته يفسره فهذا حق.
وقسم جاء شرعنا بإبطاله ومثل هذا باطل.
وقسم سكت عنه شرعنا, فهذا يحدث به ولا يصدق ولا يكذب.
كما في الحديث: حدث عن بني إسرائيل ولا حرج منهم قوم قد تأتي منهم الأعاجيب. وفي لفظ: لا تصدقوهم ولا تكذبوهم.
(المتن)
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم أبي النضر؛ أنه حدث: أن موسى، عليه السلام، لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام، أتى قوم بلعام إليه فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم. قال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم؟! قالوا له: ما لنا من منزل! فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه، حتى فتنوه فافتتن، فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حسبان، فلما سار عليها غير كثير، ربضت به، فنزل عنها فضربها، حتى إذا أذلقها قامت فركبها. فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم: أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها يضربها، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك.
فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف به لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا! قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه! قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كفيتموهم، ففعلوا. فلما دخل النساء العسكر، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها "كسبى ابنة صور، رأس أمته" برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو "زمرى بن شلوم"، رأس سبط بني سمعان بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، فقام إليها، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى، عليه السلام، فقال: إني أظنك ستقول هذا حرام عليك؟
قال: أجل، هي حرام عليك، لا تقربها. قال: فوالله لا نطيعك في هذا. ثم دخل بها قبته فوقع عليها. وأرسل الله، عز وجل، الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون، صاحب أمر موسى، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها، ثم دخل القبة وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحييه -وكان بكر العيزار -وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك. ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا -والمقلل لهم يقول: عشرون ألفا - في ساعة من النهار. فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى - لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحييه - والبكر من كل أموالهم وأنفسهم؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار.
ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها [فأتبعه الشيطان] } إلى قوله: {لعلهم يتفكرون}.
وقوله تعالى: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} اختلف المفسرون في معناه فأما على سياق ابن إسحاق، عن سالم بن أبي النضر: أن بلعاما اندلع لسانه على صدره - فتشبيهه بالكلب في لهيثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك. وقيل: معناه: فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء، كالكلب في لهثه في حالتيه، إن حملت عليه وإن تركته، هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه؛ كما قال تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة:6]، {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة:80] ونحو ذلك.
وقيل: معناه: أن قلب الكافر والمنافق والضال، ضعيف فارغ من الهدى، فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره.
(الشرح)
محمد بن إسحاق ... لكنها من أخبار بني إسرائيل لا يعول عليها, إلا ما ثبت عن المعصوم عليه الصلاة والسلام, فالمؤلف ينقلها على عادته وأحيانا يبين, تكلم المؤلف أن هذا لا يعتمد عليها.
(المتن)
وقوله تعالى: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فاقصص القصص لعلهم} أي: لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده عن رحمته، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه -في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب -في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، وشعب الإيمان، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران، [عليه السلام].
ولهذا قال: {لعلهم يتفكرون} أي: فيحذروا أن يكونوا مثله؛ فإن الله قد أعطاهم علما، وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة.
وقوله: {ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون} يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، أي: ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه، صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه".
وقوله: {وأنفسهم كانوا يظلمون} أي: ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم، بإعراضهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.
(الشرح)
واضح الآن معناها واضح المراد بها التحذير تحذير العلماء من الانحراف عن الحق, والاغترار بالدنيا, فيصيبهم ما أصاب بلعام, كما قال سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون}[المائدة:63].
تحذير للأمة أن تسلك مسلك المنحرفين فيصيبها ما أصابهم, ولهذا قال سبحانه: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}[الأعراف:176].
لعلهم, لعلهم يتعظون, وشبه بالكلب هذا الرجل إما تشبيها حسيا أو معنويا, إما تشبيها حسيا لأنه قال اندلع لسانه, وأنه صار مثل الكلب والكلب يلهث في جميع الحالات إن حمل عليه وإن ترك, أو المراد أنه أمر معنوي, وأن هذا الرجل انحرف عن الحق ولم ينتفع بما أعطي, وإذا دعي إلى الحق لم يقبله سواء دعي أو لم يدعى, كما أن الكلب يلهث سواء حمل عليه أو لم يحمل عليه, نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
{من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (178) }.
يقول تعالى: من هداه الله فإنه لا مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة، فإنه تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا جاء في حديث ابن مسعود: "إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".
الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وغيرهم.
(الشرح)
وهذه الآية وهي قوله تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون}[الأعراف:178]^
لأن الله هو الهادي وهو المفضل, وفيه الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن العبد هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه, فقوله سماه الله مهتديا يعني قوله فهو المهتدي يعني من باب التسمية, وإلا فالإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه يهدي نفسه ويضل نفسه, قالوا هذا بزعمهم فرارا من نسبة الظلم إلى الله, قالوا لو قلنا إن الله هو يهدي ويضل, لكان ظالما, فالأقرب أن يقال أن العبد هو الذي يهدي نفسه, وهو الذي يضل نفسه, لأنه هو الذي يخلق أفعال نفسه, هو الذي يخلق أفعال نفسه خيرا أم شرا طاعة أم معصية, ولهذا قالوا يجب على الله أن يثيب المطيع, والمطيع يستحق الثواب على الله كما يستحق الأجير أجرته.....لأن هذا فعله
وقوله أنه يجب على الله أن يعذب العاصي, وليس له أن يعفو عنه, هكذا قالوا, وقالوا هو الهادي لنفسه وهو المضل لنفسه, فلما أشكلت عليهم هذه الآية أجابوا عنها قالوا هذا من باب التسمية فقط هذا تسمية من اهتدى سماه مهتديا, ومن يضل سماه ضالا, وإلا فالعبد هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه, وهذا من أبطل الباطل, فالله هو الهادي وهو المضل, ولا حول ولا قوة إلا بالله, {ونفس وما سواها}[الشمس:7]^
{فألهمها فجورها وتقواها}[الشمس:8]^
فعلى العبد أن يلجأ إلى الله عز وجل, ويضرع إليه بأن يهدي قلبه, وأن يعيذه من الانحراف والضلال, ومن عرف جاءه الحق ورده فإنه يعاقب
من جاءه الحق ووضح له الحق
كما قال في هذه الآية: {ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون}[الأعراف:177]^
ظلموا أنفسهم بالمعاصي, وما ظلمهم الله, ولكن ظلموا أنفسهم, فالله سبحانه تعالى أعذر إلى الخلق, وأرسل الرسل, وأنزل الكتب, وأعطاهم الأسماع والأبصار والأفئدة, وأعطاهم العقول, يعرفون, ولهم اختيار, ولهم قدرة, فالله خالق وخالق قدرتهم, ولهذا فإنه من فقد العقل وغشاه فإنه لا يكلف لا يكلف الله إلا من عنده عقل وفهم.
(انتهى)