بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قال الشيخ رحمه الله تعالى: في الرسالة الحادية والثلاثين، التي كتبها إلى أحمد بن إبراهيم مطوع مرات من بلدان الوشم، وكان قد أرسل إليه رسالة فأجابه الشيخ بهذه:
بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد بن عبد الوهاب، إلى أحمد بن إبراهيم هدانا الله وإياه؛ وبعد:
ما ذكرت من مسألة التكفير، وقولك أبسط الكلام فيها، فلو بيننا اختلاف أمكنني أن أبسط الكلام أو أمتنع، وأما إذا اتفقنا في الحكم الشرعي: لا أنت بمنكر الكلام الذي كتبت إليك، ولا أنا بمنكر العبارات التي كتبت إلي، وصار الخلاف في أناس معينين أقروا أن التوحيد الذي ندعو إليه دين الله ورسوله، وأن الذي ننهى عنه في الحرمين والبصرة والحسا هو: الشرك بالله، ولكن هؤلاء المعينون هل تركوا التوحيد بعد معرفته وصدوا الناس عنه؟ أم فرحوا به وأحبوه ودانوا به وتبرؤوا من الشرك وأهله؟ فهذه ليس مرجعها إلى طالب العلم، بل مرجعها إلى علم الخاص والعام.
مثال ذلك: إذا صح أن أهل الحسا والبصرة يشهدون أن التوحيد الذي نقول دين الله ورسوله، وأن هذا المفعول عندهم في الأحياء والأموات هو الشرك بالله، ولكن أنكروا علينا التكفير والقتال خاصة.
والمرجع في المسألة إلى الحضر والبدو والنساء والرجال, هل أهل قبة الزبير وقبة الكواز تابوا من دينهم وتبعوا ما أقروا به من التوحيد، أو هم على دينهم؟ ولو يتكلم الإنسان بالتوحيد فسلامته على أخذ ماله, فإن كنت تزعم أن الكواوزة، وأهل الزبير تابوا من دينهم وعادوْا من لم يتب، فتبعوا ما أقروا به، وعادوْا من خالفه، هذا مكابرة.
وإن أقررتم أنهم بعد الإقرار أشد عداوة ومسبة للمؤمنين والمؤمنات، كما يعرفه الخاص والعام، وصار الكلام في أتباع المويس، وصالح بن عبد الله، هل هم مع أهل التوحيد؟ أم هم مع أهل الأوثان؟ بل أهل الأوثان معهم وهم حزبة العدو وحاملو الراية.
(الشرح)
يَعْنِي حزب كما قال الله تعالى: (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ)[المجادلة:19].
(ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ) [المجادلة:22]
حزب الله وحزب الشيطان.
(المتن)
بل أهل الأوثان معهم وهم حزب العدو وحامل الراية فالكلام في هذا نحيله على الخاص والعام, فودي أنك تسرع بالنفور.
(الشرح)
النفور من الشرك وأهله، تنفر منهم وتكون مع أهل التوحيد.
(المتن)
فتتوجه إلى الله، وتنظر نظر من يؤمن بالجنة والخلود فيها، ويؤمن بالنار والخلود فيها، وتسأله بقلب حاضر أن يهديك الصراط المستقيم.
هذا مع أنك تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة سنة الحبس، لما شكوا عند أهل قبة أبي طالب يوم يكسيه صاية، وجميع من معك من خاص وعام معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس وأتباعه لأهل قبة الكواز، وسية طالب يوم يكسيه صاية، ويقول لهم: طالع الناس ينكرون قببكم، وقد كفروا وحل دمهم ومالهم، وصار هذا عندك، وعند أهل الوشم، وعند أهل سدير والقصيم، من فضائل المويس ومناقبه، وهم على دينه إلى الآن مع أن المكاتيب التي أرسلها علماء الحرمين مع المزيودي سنة الحبس عندنا إلى الآن تتناك.
(الشرح)
(تتناك) يعني: تنتظرك.
(المتن)
وقد صرحوا فيها أن من أقر بالتوحيد كفر وحل ماله ودمه، وقُتل في الحل والحرم، ويذكرون دلائل على دعاء الأولياء في قبورهم.
(الشرح)
شبه المشركين، وإلى الآن المشركون لهم شبه الآن، يشبهون بها على الناس، يستدلون على الشرك وعلى أنه يجوز الدعاء لغير الله, وأنه يجوز دعاء الأموات, وأن هذا محبة للصالحين، يستدلون ويقولون: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ) [يونس:62].
ويستدل بقوله: (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭶ)[الزمر:34].
لهم ما يشاءون من الثواب، وليس معنى ذلك أنهم يعبدون من دون الله، لكن أهل الشرك يستدلون بأدلة لا تدل لهم إنما هي دليل عليهم.
(المتن)
منها قوله تعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ)[سورة الزمر: 44].
فإن كانت ليست عندك، ولا صبرت إلى أن تجيء، فأرسل إلى ولد محمد بن سليمان في وشيقر، ولسيف العتيقي يرسلونها إليك، ويجيبون عن قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)[سورة الإسراء: 57]، أنهم يدعون على أنهم المعطون المانعون بالأصالة.
(الشرح)
(أنهم يدعون على أنهم المعطون المانعون بالأصالة) كأنهم يدعون بأن لهم التصرف، وهم المانعون وهم المعطون، فهم يعطون ويمنعون، فلهذا يدعون من دون الله.
(المتن)
وأما دعوتهم على أنهم شفعاء فهو الدين الصحيح، ومن أنكره قُتل في الحل والحرم.
(الشرح)
(دعوتهم على أنهم شفعاء) على أنهم يشفعون من دون الله هذا هو الدين الصحيح، مع أنه الشرك، ومن أنكر الشرك يُقتل في الحل والحرم، هذا يدل على أن الشرك في زمن الشيخ رحمه الله طبق الأرض في الحجاز والحرمين، في كل مكان، نسأل الله السلامة والعافية، ولكن الله سبحانه وتعالى مَن على هذه الجزيرة بهذه الدعوة المباركة التي أعاد فيها الشيخ رحمه الله إلى الناس معرفة التوحيد، ومعرفة النصوص وأوصل فيها دين الله عز وجل.
(المتن)
وأيضاً، جاءنا بعض المجلد الذي صنفه القباني، واستكتبوه أهل الحسا وأهل نجد، وفيه نقل الإجماع على تحسين قبة الكواز وأمثالها، وعبادتها، وعبادة سية طالب، ويقول في تصنيفه: إنه لم يخالف في تصنيفه إلا ابن تيمية وابن القيم، وعشرة أنا عاشرهم، فالجميع اثنا عشر، فإذا كان يوم القيامة، اعتزلوا وحدهم عن جميع الأمة. وأنتم إلى الآن على ما تعلم، مع شهادتكم أن التوحيد دين الله ورسوله، وأن الشرك باطل.
وأيضاً مكاتيب أهل الحسا موجودة، فأما ابن عبد اللطيف وابن عفالق، وابن مطلق فحشوا بالزبيل أعني: سبابة التوحيد واستحلال دم من صدق به؛ لأنهم استحلوا دماء الموحدين، أو أنكر الشرك، ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة، ومع هذا صنف مصنفاً أرسله إلينا قرر فيه أن هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله هو الدين الصحيح، واستدل في تصنيفه بقول النابغة:
أيا قبر النبي وصاحبيه |
|
ووا مصيبتنا لو تعلمونا
|
(الشرح)
هذا من العجب، استدل بكلام النابغة الزبياني ويترك كلام الله وكلام رسوله, نسأل الله السلامة والعافية
(المتن)
وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر:
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة |
|
سواك بمغن عن سواد بن قارب |
ولكن الكلام الأول أبلغ من هذا كله، وهو شهادة البدو والحضر والنساء والرجال، أن هؤلاء الذين يقولون: التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، ويسبونهن ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك بالنفس والمال، خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وأما قولك: أبغي أشاور إبراهيم، فلا ودي تصير ثالثاً لابن عباد وابن عيد؛ وأما ابن عباد فيقول: أي شيء أفعل بالعناقر، وإلا فالحق واضح ونصحتهم وبينت لهم. وابن عيد أنت خابره، حاول إبراهيم في الدخول في الدين، وتعذر من الناس أن إبراهيم ممتنع.
يا سبحان الله! إذا كان أهل الوشم وأهل سدير وغيرهم يقطعون أن كل مطوع في قرية لو ينقاد شيخها ما منهم أحد يتوقف، كيف يكون قدر الدين عندكم؟ كيف قدر رضى الله والجنة؟ كيف قدر النار وغضب الله؟ ولكن ودي تفكر فيما تعلم لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى مع أنهم عثوا في دمائهم.
ومعلوم أن كلاً من الطائفتين: أهل العراق وأهل الشام، معتقدة أنها على الحق والأخرى ظالمة؛ ونبغ من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف.
(الشرح)
وهم السبأية الذين غلوا في علي وجعلوه إلهاً، فخد لهم الأخاديد وهي الحفر وأضرمها ناراً وألقاهم فيها، وقال لما رأيت الأمر أمر منكرًا أججت ناري ودعوت قنبرًا، كان ابن عباس يرى أن يقتلوا بالسيف، والصحابة اتفقوا على كفرهم، وأنهم يقتلون، لكن اختلفوا في كيفية القتل، فعلي رضي الله عنه حرقهم بالنار، وابن عباس يرى أن يقتلوا بالسيف.
ويقول لو كنت أنا لقتلتهم بالسيف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يعذب النار إلا رب النار» ولكن علي رضي الله عنه اجتهد ومن شدة غضبه عليهم حرقهم بالنار، والصائب أنه لا يجوز التحريق بالنار ولعله خفي عليه النص أو اجتهد رضي الله عنه، وكذلك أبو بكر الصديق حرق بعض أهل الردة بالنار، وكذلك خالد بن الوليد، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أرسل إلى رجلين أمر بإحراقهما ثم قال: لا, اقتلوهما بالسيف، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، دل على نسخ جواز التحريق بالنار، وأن إذا استحق القتل لا يحرق بالنار وإنما يقتل بالسيف.
(المتن)
أتُرى أهل الشام لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم لو امتنعوا، أتُرى أحداً من الصحابة يشك في كفر من التجأ إليهم، ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان.
(الشرح)
يعني الخلاف الذي حصل بين علي ومعاوية وقتال، اجتهدوا رضي الله عنهم, فعلي رضي الله عنه يرى أنه الخليفة الذي بايعه أهل الحل والعقد، وأنه يجب على معاوية وأهل الشام أن يبايعوه؛ لأنه باعه أكثر أهل الحل العقد، فوجبت له البيعة، ولا يرى أنه من الذين يتألفون، ليس من المؤلفة قلوبهم، يرى وجوب القتال، وانضم أكثر الصحابة إلى علي رضي الله عنه ورأوا أن علي هو الخليفة الراشد، وأن أهل الشام بغاة، وقد قال الله تعالى: (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﯛ) [الحجرات:9].
جمهور أهل الصحابة كانوا مع علي وقاتلوا أهل الشام لأنهم بغاة، وأهل الشام تأولوا؛ اجتهدوا وقالوا إن عثمان رضي الله عنه قُتل مظلوماً شهيداً لابد من أخذ قتلته والاقتصاص منهم، وقد اندسوا في جيش علي رضي الله عنه وطالبوا علي بأخذهم وقتلهم ثم يبايعون له، فاعتذر علي رضي الله عنه بأنه لا يستطيع أخذهم الآن, الوقت وقت فتنة، ولا يعرفون بأعيانهم، اندسوا في الصفوف في الجيش ولا يعلمون بأعيانهم، وهناك من تنتصر له قبيلته لو أُخذ فتحصل الفتنة.
فأمرهم أن ينتظروا ويتمهلوا حتى تهدأ الأحوال الأمور، ثم يأخذون بعد التحقق منهم ومعرفتهم، فامتنع أهل الشام وقالوا لابد من أخذهم الآن؛ لأن معاوية يقول أنه من أولياء عثمان، فلابد من القصاص منهم، ويقتص منهم لأنهم تجرئوا على غيرهم، فحصل خلاف، لكن الحق مع على رضي الله عنه كما دلت النصوص وقال عن عمار تقتله الفئة الباغية، فقتله أهل الشام.
وهناك بعض الصحابة من لم تبين له الحق مع أي الفريقين، فاعتزل الفريقين، كابن عمر وجماعة وأبو بكرة وسلمة بن الأكوع؛ ذهب إلى البادية واعتزل الفريقين وتزوج وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو، والصواب مع علي رضي الله عنه, ولكن هم الآن كلهم مجتهدون رضي الله عنهم ما بين مجتهد مصيب له أجران، وما بين مخطأ له أجر.
علي رضي الله عنه ومن معه اجتهدوا فلهم أجران، ومعاوية وأهل الشام أجتهد وأخطئوا ففاتوا أجر الصواب وحصلوا على أجر الاجتهاد، وعقيدة أهل السنة والجماعة أن يُترضى عن الجميع، ويُترحم عليهم، ونعتقد أنهم مجتهدون، ما بين مجتهد مصيب له أجران، وما بين مجتهد مخطئ له أجر واحد، وهذه الأخبار التي تُنقل عنهم منها ما هو أخبار لا أساس لها من الصحة، كذب عليهم ، ومنا ما لها أصل ولكن زُيد فيه ونُقص وغُير عن وجهه.
وعقيدة أهل السنة والجماعة الترضي عن الجميع، والترحم عليهم، واعتقاد فضلهم، وسابقتهم، واعتقاد أنهم مجتهدون وأن لهم من الحسنات ما يغطي ما صدر عنهم من السيئات، وأنهم خير الناس بعد الأنبياء، ما كان ولا يكون مثلهم، آمنوا بالله وبرسوله، وجاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشروا دين الله وفتحوا الأمصار، وبلغ دين الله بنشرهم ودعوتهم المشارق والمغارب، رضي الله عنهم وأرضاهم، ولا يجوز إثارة الخلاف بينهم والبحث عن مساوئهم؛ لأن هذا إنما يحصل ممن في قلبه مرض من الزنادقة والرافضة وغيرهم, نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
ولكن ودي تفكر فيما تعلم لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم أنهم لا يُقال فيهم إلا الحسنى مع أنهم عثوا في دمائهم.
(الشرح)
(لا يقال فيهم) يعني في الفريقين: أهل الشام وأهل العراق، لا يقال فيهم إلا الحسنى، لأنهم كلهم مجتهدون رضي الله عنهم, كلهم ما بين مصيب له أجران: مثل طلحة والزبير وعائشة خرجوا أيضاً واجتهدوا، لما قتل طلحة والزبير، قال أرجو أن أكون وإياهم ممن قال الله فيهم: (ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ)[الحجر:47].
ولما بشر رجل علي بقتل الزبير بشره بالنار, نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
ومعلوم أن كلاً من الطائفتين: أهل العراق وأهل الشام، معتقدة أنها على الحق.
(الشرح)
(معتقدة أنها على الحق) كل طائفة تظن أنها على الحق، كل طائفة على الاجتهاد لكن منهم من أصاب فله أجران ومنهم من أخطأ فله أجر واحد، أهل الشام أخطئوا فلهم أجر الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب، وأهل علي أهل العراق أصابوا فلهم أجر الاجتهاد وأجر الصواب.
(المتن)
ومعلوم أن كلاً من الطائفتين: أهل العراق وأهل الشام، معتقدة أنها على الحق والأخرى ظالمة؛ ونبغ من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف.
أتُرى أهل الشام لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم لو امتنعوا، أتُرى أحداً من الصحابة يشك في كفر من التجأ إليهم.
(الشرح)
يعني يقول أن السبئية الذين غلوا في علي وقالوا: أنه إله، قد يعاقبوا على قتله، لو جاء معاوية وأهل الشام إلى علي رضي الله عنه واعتذروا عن السبئية الذين غلوا في علي وقالوا: أنت الإله وأنت الرب، لو جاءوا واعتذروا عنهم وقالوا اصفح عنهم، وهم ليسوا مخطئين، وما يشك أحد في كفرهم؛ لأنهم لم يكفروهم، فلو جاء أهل الشام إلى علي وقالوا اترك هؤلاء يجتهدون، على حق؛ يعني السبئية الذين غلوا في علي ولم يكفروهم, يقول: لا يشك أحد في كفرهم.
(المتن)
أتُرى أهل الشام لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم لو امتنعوا، أتُرى أحداً من الصحابة يشك في كفر من التجأ إليهم، ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟.
فتفكر في هذه القضية فإنها لا تبقى شبهة إلا على من أراد الله فتنته, وغير ذلك: قولك أريد أماناً على كذا وكذا، فأنت مخالف؛ والخاص والعام يفرحون بجيتك مثل ما فرحوا بجية ابن غنام، والمنقور، وابن عضيب، مع أن ابن عضيب أكثر الناس سباً لهذا الدين إلى الآن، وراحوا موقرين محشومين. كيف لو تجيء أنت كيف تظن أن يجيئك ما تكره؟ فإن أردت تجديد الأمان على ما بغيت فاكتب لي، ولكن تعرف حرصي على الكتب، فإن عزمت على الراضة وعجلتها علي قبلك فتراها على بنو الخير، وإن ما جاز عندك كلها فبعضها، ولو مجموع ابن رجب ترى ما جاءنا، فهو عارية مؤداة وإن لم تأتنا.
قال ابن القيم في النونية:
يا فرقة جهلت نصوص نبيها |
|
وقصوده وحقائق الإيمان |
فسطوا على أتباعه وجنوده |
|
بالبغي والتكفير والطغيان |
لله حق لا يكون لغيره |
|
ولعبده حق هما حقان |
لا تجعلوا الحقين حقا واحداً |
|
من غير تمييز ولا فرقان |
المراد: تعريفك لما صدقتك، وأن لك نظراً في الحق أن في ذلك الزمان من يكفر العلماء إذا ذكروا التوحيد، ويظنونه تنقيصاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بزمانك هذا؟ وإذا كان المكفرون ممن يعدون من علمائهم، فما ظنك بولد المويس وفاسد وأمثالهما، يوضحه تسجيلهم على جواب علماء مكة، ونشره وقراءته على جماعتهم ودعوتهم إليه.
ذكر ابن عبد الهادي في مناقب الشيخ، لما ذكر المحنة التي نالته بسبب الجواب في شد الرحل، فالجواب الذي كفّروه بسببه ذكر أن كلامه في هذا الكتاب أبلغ منه. فالعجب إذا كان هذا الكتاب عندك، والعلماء في زمن الشيخ كفّروه بكلام دونه، فكيف بالمويس وأمثاله لا يكفروننا بمحض التوحيد؟ وذكر ابن القيم في النونية ما يصدق هذا الكلام لما قالوا له: إنك مثل الخوارج، رد عليهم بقوله: من لي بمثل خوارج قد كفّرو بالذنب تأويلاً بلا إحسانِ.
ثم ذكر في البيت الثاني أن هؤلاء لا يكفّروننا بمحض الإيمان، والخوارج يكفرون بالذنوب, وكلامي هذا تنبيه أن إنكار التوحيد متقدم، وكذلك التكفير لمن اتبعه، وأنت لا تعتقد أن الزمان صلح بعدهم، ولا تعتقد أن المويس وأمثاله أجل وأورع من أولئك الذين كفروا الشيخ وأتباعه.
وعد ابن عبد الهادي من كتبه كتاب "الاستغاثة" مجلد، ولفانا من الشام مع مربد, وسببه أن رجلاً من فقهاء الشافعية يقال له ابن البكري عثر على جواب للشيخ في الاستغاثة بالموتى، فأنكر ذلك، وصنف مصنفاً في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله فيه، وصرح بتكفير الشيخ في ذلك الكتاب، وجعله مستنقصا للأنبياء، وأورد فيه آيات وأحاديث.
فصنف الشيخ كتاب "الاستغاثة" رداً على ابن البكري، وقرر فيه مذهب الرسل وأتباعهم، وذكر أن الكفار لم يبلغ شركهم هذا، بل ذكر الله عنهم أنهم إذا مسهم الضر أخلصوا ونسوا ما يشركون.
والمقصود أن في زمن الشيخ ممن يدعي العلم والتصنيف مَن أنكر التوحيد، وجعله سباً للأنبياء والأولياء، وكفّر من ذهب إليه، فكيف تزعم أن عبدة قبة الكواز وأمثالها ما أنكروه؟ بل تزعم أنهم قبلوه ودانوا به وتبرؤوا من الشرك، ولا أنكروا إلا تكفير من لا يكفر.
وأعظم وأطم: أنكم تعرفون أن البادية قد كفروا بالكتاب كله، وتبرؤوا من الدين كله، واستهزئوا بالحضر الذين يصدقون بالبعث، وفضلوا حكم الطاغوت على شريعة الله، واستهزئوا بها مع إقرارهم بأن محمداً رسول الله، وأن كتاب الله عند الحضر؛ لكن كذبوا وكفروا واستهزئوا عناداً، ومع هذا تنكرون علينا كفرهم، وتصرحون بأن من قال: "لا إله إلا الله" لا يكفر.
ثم تذكر في كتابك أنك تشهد بكفر العالم العابد الذي ينكر التوحيد، ولا يكفّر المشركين، ويقول: هؤلاء السواد الأعظم ما يتيهون.
فإن قلتم: إن الأولين وإن كانوا علماء فلم يقصدوا مخالفة الرسول، بل جهلوا، وأنتم وأمثالكم تشهدون ليلاً ونهاراً أن هذا الذي أخرجنا للناس من التوحيد وإنكار الشرك أنه دين الله ورسوله، وأن الخلاف منا، والتكفير والقتال، ولو قدرنا أن غيركم يعذر بالجهل فأنتم مصرحون بالعلم, والله أعلم.