بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك عَلَى نبينا محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:...
(المتن)
فهذا القسم الخامس من الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: توجيهات عامة للمسلمين في الاعتقاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
الرسالة السابعة والثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، حفظه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد: ...
فَقَدْ وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب، فيها إنكار وتغليظ عليَّ، وَلَمَّا قيل: إنك كتبت معهم، وقع في الخاطر بعض الشيء؛ لِأَنَّ الله سبحانه وتعالى نشر لك من الذكر الجميل، وأنزل فِي قلوب عباده لك من المحبة ما لَمْ يؤته كثيرًا من الناس، لما يذكر عنك من مخالفة من قبلك من حكام السوء، وأيضًا لما أعلم منك من محبة الله ورسوله، وحسن الفهم، واتباع الحق ولو خالفك فيه كبار أئمتكم؛ لأني اجتمعت بك من نحو عشرين، في المخطوطة: عشر سنين، لِأَنِّي اجتمعت بك من نحو عشرين وتذاكرت أنا وإياك في شيء من التفسير والحديث، وأخرجت لي كراريس من البخاري كتبتها ونقلت عَلَى هوامشها من الشروح.
وقلت في مسألة الإيمان التي ذكرها البخاري في أول الصحيح: هذا هو الحق الذي أدين الله به، فأعجبني هذا الكلام؛ لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين. وذاكرتني أيضًا في بعض المسائل، فكنت أحكي لمن يتعلم مني ما مِّنَ اللَّهِ به عليك من حسن الفهم، ومحبة الله والدار الآخرة. فلأجل هذا، لم أَظُنّ فيك المسارعة في هذا الأَمْر؛ لأن الذين قاموا فيه مخطئون عَلَى كُلّ تقدير؛ لِأَنَّ الْحَقّ إِنْ كان مع خصمهم فواضح، وإنْ كان معهم فيَنبَغِي للداعي إِلَى الله أن يدعو بِالَّتِي هِيَ أحسن، إلا الَّذِينَ ظلموا مِنْهُم.
وَقَدْ أمر الله رسوليه موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى.
وَيَنبَغِي للقاضي، أعزه الله بطاعته، لما ابتلاه الله بهذا المنصب، أن يتأدب بالآداب الَّتِي ذكرها الله فِي كتابه الَّذِي أنزل ليبين للناس ما اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يوقنون؛ فمن ذلك: لا يستخفنه الذين لا يوقنون، ويتثبت عند سعايات الفساق والمنافقين ولا يعجل. وَقَدْ وصف الله المنافقين في كتابه بأوصافهم، وذكر شعب النفاق لتجتنب ويجتنب أهلها أيضًا.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين، وصلى الله وسلم وبارك عَلَى عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعَلَى آله وصحبه أجمعين، أَمَّا بعد.
فهذا الخطاب من الإمام الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دليل عَلَى إمامته، وفضله، وغزارة علمه، ونصحه للأمة، وَإَنَّهُ رَحِمَهُ الله لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ جديد من عند نفسه، وَإِنَّمَا بيَّن ما أمر الله به فِي كتابه، وَعَلَى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اعتقده السلف الصالح، أظهر التوحيد، ودعا إليه، واستدل عَلَيْهِ بكتاب الله، وسُنَّةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، من ذَلِكَ ما بينه هنا فِي هذا الخطاب من أَنَّ الداعية عَلَيْهِ أَنَّ يدعو إِلَى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، واللين، والرق كما قال تعالى: (ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯠ) [النحل/125].
إلَّا من ظلم وتعدى، فَإِنَّهُ ينتقل معه إلى الطريق الآخر؛ وَهُوَ الشدة والقوة، كما قال الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭬ) [العنكبوت/46]؛ فمن ظلم فَإِنَّهُ ينتقل معه من طريق اللين إِلَى طريق الشدة بسبب ظلمه، واستدل أيضًا بقول الله تعالى لرسوليه موسى وهارون، لما بعثهم إلى فرعون، قال سُبْحَانَهُ وتعالى: (ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ) [طه/44]، وإذا كان الله سبحانه وتعالى أمر نبييه أن يقولا لفرعون؛ وهو أكفر أهل الأرض، ادعى الربوبية، وقال للناس: أنا ربكم الأعَلَى ، أمرهم الله تعالى أن يقولا له قولًا لينًا، فإن غيره من باب أولى، طريق الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ الذي يسلكه الداعية هُوَ أن يبدأ أولًا باللين والرق، والحكمة، فإن استفاد المدعو وقبل الحمد لله، ويكرروا عليه أن يسلك هذا الطريق، فإن اعتدى المدعو وظلم، وتجاوز حده؛ فإنه ينتقل معه إلى الطريق الآخر، وهو القوة، والشدة بسبب ظلمه لقول الله تعالى: (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭬ) [العنكبوت/46]؛ فمن ظلم وتعدى فإنَّه ينتقل معه إلى الطريق الآخر، طريق القوة والشدة بسبب ظلمه وعناده.
وفيه أيضًا هَذَا الخطاب بيان الشيخ رحمه الله للقاضي أَنَّ عليه ألا يستخف الذين لا يوقنون، وألا يعجل في الأمور، وأن يتريث وأن يتحرى الحق، ويعمل بالقرائن حتى يتبين له الحق.
(المتن)
وَقَدْ وصف الله الْمُنَافِقِينَ فِي كتابه بأوصافهم، وذكر شعب النفاق لتجتنب ويجتنب أهلها أيضًا, فوصفهم بالفصاحة والبيان وحسن اللسان، بل وحسن الصورة فِي قوله: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[المنافقون:4]، ووصفهم بالمكر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين فِي أول البقرة، ووصفهم بكلام ذي الوجهين، ووصفهم بالدخول في المخاصمات بين الناس بما لا يحب الله ورسوله فِي قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)[المائدة:41] الآية، ووصفهم باستحقار المؤمنين والرضى بأفعالهم، ووصفهم بغير هَـذَا في "البقرة" و"براءة"، و"سورة القتال" وغير ذلك.
كُلّ ذلك نصيحة لعباده ليجتنبوا الأوصاف ومن تلبس بها. ونهى الله نبيه عن طاعتهم في غير موضع, فكيف يجوز من مثلك أن يقبل مثل هؤلاء؟ وأعظم من ذلك: أَنَّ تعتقد أنهم من أهل العلم، وتزورهم في بيوتهم وتعظمهم؛ وأنا لا أقول هذا في واحد بعينه، ولكن نصيحة وتعريف بما في كتاب الله من سياسة الدين والدنيا؛ لأن أكثر الناس قد نبذه وراء ظهره.
(الشرح)
هَـذَا من نصيحة الشيخ الإمام رحمه الله لهؤلاء؛ حيث بيَّن لهم ما بيَّن الله فِي كتابه من صفات المنافقين، فإنَّ الله تعالى جلَّ صفات المنافقين، وأوضحها لعباده؛ وذلك أَنَّ المنافقين عدو يعيش بين المسلمين، المنافق هو كافر في الباطل، ولكنه يظهر الإسلام، فَهُوَ يعمل الحيل ويدبر مكائد للقضاء عَلَى الإسلام والمسلمين وَهُوَ يعيش بين المسلمين، فأمره ملتبس، فَهُوَ أشد من الكافر الظاهر؛ أشد من الكافر الوثني، واليهودي، والنصراني؛ فهذا عدو ظاهر، عدو مكشوف أمامك تأخذ حذرك، وتجتنبه، أَمَّا هذا العدو الذي يعيش بين المسلمين يظهر الإسلام، ويبطن الكفر؛ هذا أمره ملتبس؛ ولذلك جلَّ الله صفاتهم، وبيَّن سبحانه وتعالى أَنَّ المنافقين أعظم إثمًا، وشرًّا، وفسادًا، وأشد عذابًا في الآخرة من الكفار الذين ظهر كفرهم، واتضح للناس كاليهود والنصارى، والوثنين، فقال سبحانه: (ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ) [النساء/145].
فهم في دركة سفلى تحت دركة اليهود والنصارى والعياذ بالله؛ لأنَّهم شاركوا اليهود، والنصارى، والوثنيين في الكفر، وزادوا عليهم بالخداع؛ ولهذا جلَّ الله أوصافهم، قال سبحانه: (ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ) [المنافقون/4].
فوصفهم بالفصاحة، والبلاغة، وحسن البيان، وحسن الصورة، ووصفهم بأنهم يظهرون الإيمان بألسنتهم، ويبطلون الكفر بقلوبهم، يقول سبحانه: (ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ) [البقرة/8]؛يقولون: أمنا بالله وباليوم الآخر؛ يَعْنِي بألسنتهم، وما هم بمؤمنين: بقلوبهم.
وقال سبحانه: (ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ) [المنافقون/1].
ووصفهم بالخداع، قال: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ) [البقرة/9]، ووصفهم بأن لكُلّ واحد منهم وجهين؛ وجه مع الْمُؤْمِنِينَ، ووجه مع الكفار، قال: (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ) [البقرة/14]؛ فلهم وجه مع الْمُؤْمِنِينَ إذا لقوهم قالوا: نحن معكم آمنَّا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنَّا معكم، إنما نحن نستهزئ بهؤلاء، ويسمون الإيمان سفه (ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ) [البقرة/13]، وضرب لهم الأمثال وجلَّها، ومن أوصافهم يسمون الفساد فِي الأرض إصلاحًا (ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ) [البقرة/204-205]، فأوصافهم كثيرة في القرآن الكريم.
السائل: قد يتسمون بأسماء فِي هَـذَا الزمن؟.
الشيخ: نعم، المنافقون كانوا فِي عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يسمون مُنَافِقِينَ، وبعد ذَلِكَ سموا زنادقة، يسمون المنافق زنديق، والزنديق يطلق عَلَى الجاحد، ويطلق عَلَى المعطل، ويطلق عَلَى المنافق، ويسمى فِي هذا الزمان العلمانيين، العلماني هُوَ المنافق الَّذِي يظهر الإسلام ويبطن الكفر يسمون فِي هَـذَا الزمان العلمانيين هم المنافقون هم الزنادقة.
(المتن)
وأما ما ذكر لكم عني، فإني لَمْ آته بجهالة، بل أقول، ولله الحمد والمنة، وبه القوة: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين)[الأنعام/161] .
ولست، ولله الحمد، أَدْعُو إِلَى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أُعظِّمهم مثل ابْنَ القيم والذهبي وَابْنَ كثير وغيرهم، بل أَدْعُو إِلَى الله وحده لا شريك له، وأَدْعُو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم.
(الشرح)
المؤلف رَحِمَهُ الله يبيِّن دعوته، ويكشف للناس التهم الَّتِي ألصقت بالدعوة، فَإِنَّ كثيرًا من خصوم الدعوة السلفية دعوة الإمام شوهوها، وألصقوا بالإمام تهم، وقالوا إِنَّ مذهبه مذهب خامس، وأنَّه يخالف الأئمة الأربعة، وأنَّه يخالف الكتاب والسنة، وأنَّه يكفر الناس عَلَى العموم، وأنَّه يأمر الناس بعدم قراءة كتب أهل العلم إِلَى غير ذَلِكَ من الافتراءات والتهم الَّتِي ألصقوها بالإمام رحمه الله، وبأحفاده وتلاميذه تنفيرًا للناس من التوحيد.
بيَّن لهم رحمه الله أنَّه لا يدعو إِلَى مذهب صوفي، ولا إلى مذهب حنبلي، ولا مذهب الشافعين ولا المذهب المالكي، ولا فلان، ولا علان، ولا شيخ، ولا طريقة، إِنَّمَا يَدْعُو إِلَى الله، وإلى كتاب الله يأمر الناس بأن يعملوا بالكتاب السنة، وبأن يوحدوا الله، ويخلصوا له العبادة، ويستدل عَلَى ذَلِكَ من الكتاب والسنة؛ هذه دعوة الشيخ.
ما هو مذهب خامس، ولا مذهب صوفي، ولا مذهب فلان، ولا فلان حتى الأئمة الَّذِينَ يعظمهم رحمه الله ما يدعو إليهم، ما يقول: اتبعوا ابن القيم، ولا شيخ الإسلام ابْنَ تيمية، ولا أحمد بن حنبل، يقول: اعملوا بكتاب الله، وسنة رسوله، واعتقدوا ما يعتقده النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة في الله، وفي كتابه، وفي رسوله، وفي دينه.
(المتن)
وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني؛ بل أُشهد الله وملائكته وجميع خلقه، إِنْ أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنَّها عَلَى الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكُلّ ما خالفها، من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقول إلا الحق.
وصفة الأمر: غير خاف عليكم ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون وأتباعهم، والأئمة كالشافعي وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الْحَقِّ عَلَى هدايتهم، وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسنى من أتباعهم. وغير خاف عليكم ما أحدث الناس فِي دينهم من الحوادث، وما خالفوا فيه طريق سلفهم.
ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غير وبدل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم وأزهدهم، مثل ابْنَ القيم والحافظ الذهبي والحافظ العماد ابْنَ كثير والحافظ ابْنَ رجب، قد اشتد نكيرهم عَلَى أهل عصرهم الذين هم خير من ابن حجر وصاحب الإقناع بالإجماع.
فإذا استدل عليهم أهل زمانهم بكثرتهم وإطباق الناس عَلَى طريقتهم، قالوا: هذا من أكبر الأدلة عَلَى أَنَّهُ باطل؛ لِأَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته تسلك مسالك اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. وقد ذكر الله في كتابه أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا: هذا من عند الله، وَأَنَّهُمْ تركوا كتاب الله والعمل به، وأقبلوا عَلَى ما أحدثه أسلافهم من الكتب, وأخبر أَنَّهُ وصاهم بالاجتماع، وَأَنَّهُمْ لَمْ يختلفوا لخفاء الدين، بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، فتقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كُلّ حزب بما لديهم فرحون، والزبر الكتب.
(الشرح)
الشيخ رحمه الله بيَّن أنَّه يقبل الحق بمن جاء به، وأنَّه من جاءه بالحق الذي يستدل عَلَيْهِ بالقرآن، أو بالسنة، فَإِنَّهُ يقبل عَلَى الرأس والعين، ويضرب بالحائط كُلّ قول يخالفه حتى ولو كان جاءه من الأئمة الذي يعظمهم، ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا يدل عَلَى أنَّه متبع رحمه الله، وليس بمبتدع، وَإِنَّهُ عَلَى طريق السلف الصالح، استدل رحمه الله بأن ما عليه الأكثر من مخالفة الحق لا يدل عَلَى أن معهم الْحَقّ، بل العبرة بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ حق عَلَيْهِ الدليل من الكتاب والسنة، وإن خالفه الأكثرون، فَإِنَّ الكثرة فِي الغالب تكون هالكة، قال تعالى: (ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯬ) [الأنعام/116]؛ وقال سبحانه: (ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ) [يوسف/103].
وقال سبحانه: (ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [الرعد/1].
(ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ) [يوسف/38].
(ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ) [يوسف/68].
فالكثرة فِي الغالب تكن هالكة، فليست العبرة بالكثرة، العبرة بِالْحَقِّ، فَمِنْ تبع الحق فهو الجماعة، ولو خالفه الأكثر، ومن ذَلِكَ أَنَّ الأئمة رحمهم الله، فِي زمن الإمام أحمد رَحِمَهُ الله، وشيخ الإسلام بن تيمية، وابن القيم في زمانهم يبينون للناس الْحَقّ، ويبينون أن الأكثر خالفوا الحق، فلا عبرة بالأكثرية, العبرة بِالْحَقِّ، وكذلك الحافظ الذهبي، والحافظ بْنَ كثير، وغيرهم من العلماء من أهل السُّنَّةِ الجماعة يتبعون الْحَقَّ، يبينون للناس الْحَقَّ، وإن خالفه الأكثرون.
(المتن)
وأقبلوا عَلَى ما أحدثه أسلافهم من الكتب. وأخبر أنه وصاهم بالاجتماع، وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين، بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، فتقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كُلّ حزب بما لديهم فرحون، والزبر الكتب، فإذا فهم المؤمن قول الصادق المصدوق: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم»، وجعله قبلة قلبه، تبين له أَنَّ هذه الآيات وأشباهها ليست عَلَى ما ظن الجاهلون أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما ورد عن عمر t أنه قال في هذه الآيات: " مضى القوم وما يعنى به غيركم".
(الشرح)
الآيات الَّتِي فيها تحذير من أخلاق اليهود، أو أخلاق النصارى؛ تحذير مما عَلَيْهِ أهل الباطل يراد بها تحذير هذه الأمة، الله تعالى قصَّ علينا فِي سورة البقرة أخبار بني إسرائيل، وأخبار اليهود، والنصارى وعنادهم، وعتوهم، وعدم استجابتهم لأنبيائهم، وتحريفهم لكتاب الله، وتركهم الْحَقّ؛ والمقصود من هَـذَا التحريم؛ لِأَنَّ هؤلاء مضوا، وماتوا، وهلكوا، فلماذا يذكر الله لنا أوصافهم، وأخلاقهم، وأعمالهم؟ ليحذرنا حتى لا نعمل مثل أعمالهم، فيصيبنا ما أصابهم؛ ولهذا قال عمرt: (مضى القوم وما يعنى به سواهم)، مضى لكن المقصود أنتم، احذروا أَنَّ تفعلوا مثل أفعالهم، فيصيبكم ما أصابهم، احذروا رد الْحَقّ، احذروا العمل ببعض الكتاب دون بعض، الله تعالى فِي حقهم: (ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ) [البقرة/85].
الله تعالى قال في حق اليهود الذين مضوا، وهو تحذير لهذه الأمة، تحذير لها ألا تسلك مسلكهم فيصيبها ما أصابهم، فَمِنْ عمل ببعض الكتاب، وكفر ببعض له العذاب الشديد، من عمل من هذه الأمة بأوصاف اليهود أصابه ما أصابهم، فَهُوَ تحذير لنا، وتحذير لليهود الموجودين فِي زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بهذا يفعل آبائكم، وأجدادكم، والله تعالى يخاطبهم، يخاطب اليهود الموجودين في زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال فعلتم، فعلتم، وأنتم، وهم ما فعلوا، وإنما أجدادهم، لك لما أقروهم عَلَى ما فعلوا صاروا كالفاعلين، حكمهم حكمهم، لما أقروهم ولم ينكروا ما فعلوا، وتبجحوا باتباعهم لآبائهم، وأجدادهم صار الله يخاطبهم كأنهم الفاعلون؛ ولهذا قال عمر: "مضر القول ولم يعنى به سواكم"؛ يَعْنِي هم مضوا وانتهوا، وبعض الناس يَظُنُّ أَنَّ هذه الآيات في قوم مضوا، وبعضهم قال: ما تشملهم، يقول هذه في اليهود، هذه كذا فيغتر، وَيَظُنُّ أَنَّهُ لا يصيبه ما أصابهم إذا فعل مثل فعلهم، فيقول: هذه فِي قوم مضوا فبانوا وانتهى الأمر، لا هي في قوم مضوا، ولكن تحذير لنا، ألا نفعل مثل فعلهم، فيصيبنا ما أصابهم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن؟»؛ يَعْنِي هم.
وفي لفظ: «حتى إن كان فيهم من يأتي أمه علانية؛ يَعْنِي فاحشة، ويكفر الأمة ويفعل ذلك»؛ التحذير، هَـذَا الحديث وأمثاله يفيد أمرين:
الأَمْر الأول: أن هذا واقع في هذه الأمة، وأنه لا بد أن يقع فيها مثل ما وقع في الأمم السابقة.
الأَمْر الثاني: التحذير من هذا الفعل حتى يجتنب المسلم ذلك، وليس معناه كلنا يفعل هذا، لا، بل معناه أَنَّهُ يوجد فِي هذه الأمة من يفعل ذلك، وهذه الأمة لا تزل فيها طائفة عَلَى الحق، باقية عَلَى الحق مستمرة إلى قيام الساعة لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي عَلَى الحق منصورة، لا يضرُّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى»؛ هذه بشارة لا تزال طائفة عَلَى الحق حتى تقوم الساعة، ولكن لابد أَنْ يحصل في هذه الأمة الشرك وعبادة الأوثان، يحصل فيها البدع كما أخبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بذلك لنحذر أن نفعل مثل فعلهم، ولنجاهد أنفسنا حتى نكون من الطائفة المنصورة، مثل قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان»؛ فلا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي المشركين، وحتى تعبد فئام؛ جماعات كثيرة الأوثان، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى»، كما عبدت اللات والعزى في زمان كفار قريش؛ زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس عند ذي الخلصة»، الخلصة: الصنم هَـذَا الموجودة الآن في جهة تبالة، هدم كان فِي عهد النَّبِيّ r، ثُمَّ وجد فِي زمن الشيخ محمد بْنَ عبد الوهاب، ثمَّ أزيل، وقد يرجع، أو يعود مرة ثالثة؛ هَـذَا فيه تحذير لهذه الأمة من الوقوع في الشرك وأسبابه، والبدع، وبيان أَنَّ هَـذَا الأمر واقع في الأمة، فهو تحذير أن لا نفعل مثل فعلهم، لنكون من الطائفة المنصورة الَّتِي تلزم الحق.
(المتن)
بل يفهم ما ورد عن عمر t أنه قال في هذه الآيات: " مضى القوم وما يعنى به غيركم " وقد فرض الله عَلَى عباده في كُلّ صلاة أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، الذين هم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
(الشرح)
هَـذَا دعاء فِي الفاتحة دعاء عظيم، أنفع دعاء، وأعظم دعاء، وأجمع دعاء، وحاجة المسلم إِلَى هَـذَا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الَّذِي يتردد بين جنبيه، حاجة الإنسان إِلَى الهداية, اهدنا الصراط المستقيم؛ يَعْنِي دلنا، وأرشدنا وثبتنا، ووفقنا للحق، والصراط المستقيم، وهو دين الإسلام، وهو ما عليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة، صراط الذين أنعمت عليهم يا الله؛ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين, غير طريق المغضوب عليهم؛ وهم الذين يعلمون ولا يعملون عندهم علم ولا يعملون كاليهود وأشباههم، وغير طريق الضالين الَّذِينَ يتعبدون عَلَى كفر وضلال كالنصارى، وأشباههم، فهذا الدعاء فِي آخر الفاتحة، وهو والفاتحة ثناء عَلَى الله، وتوحيد, (ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ) [الفاتحة/2-4]؛ فيها الخوف، والرجاء، والمحبة.
ثُمَّ بعد ذَلِكَ, (ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ) [الفاتحة/5]؛إخلاص العباد لله، ثُمَّ الدعاء بعد ذَلِكَ بعد الثناء هذا فيه تعليم أيضًا للأمة أن يثني عَلَى الله قبل الدعاء، هذا الدعاء أعظم دعاء من رحمة الله تعالى بعباده أوجب عَلَى كُلّ مصلي أن يقرأ الفاتحة، وفيها هذا الدعاء في اليوم والليلة سبعة عشرة مرة عدا النوافل؛ وذلك لِأَنَّ حاجة الإنسان إِلَى هَـذَا الدعاء حاجة عظيمة، أعظم من الطعام والشراب، والنفس؛ لِأَنَّ الإنسان إذا فقد الطعام والشراب، والنفس مات الجسد، والموت لابد منه، ولا يضر الإنسان أَن يموت, الموت إذا كان مستقيم عَلَى الطاعة وَعَلَى التوحيد، ما يضرُّه؛ لِأَنَّ الموت لا بد منه، لكن إذا فقد الهدية مات الروح والقلب، وصار إِلَى النار، فأيُّهما أشد؟ أَن يموت الجسد وهو مستقيم عَلَى طاعة الله، أو يموت القلب، والروح ويكون في النار؟
وبهذا يتبين أَن حاجة المسلم إِلَى هَـذَا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، وإلى النفس الَّذِي يتردد بين جنبي الإنسان.
(المتن)
فمن عرف دين الإسلام، وما وقع الناس فيه من التغيير له، عرف مقدار هذا الدعاء وحكمة الله فيه.
(الشرح)
اهدنا الصراط المستقيم؛ هذا كلام الإمام رحمه الله، يقول: من عرف دين الإسلام عرف قيمة هذا الدُّعَاء، وحكمة الله فيه، وَهُوَ(اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، الَّذِي يعرف دين الإسلام يعرف قيمة هَـذَا الدُّعَاء، والذي لا يعرف دين الإسلام ما يعرف قيمته.
(المتن)
فَمِنْ عرف دين الإسلام، وما وقع الناس فيه من التغيير له، عرف مقدار هذا الدعاء وحكمة الله فيه.
والحاصل: أَنَّ صورة المسألة: هل الواجب عَلَى كُلّ مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله عَلَى رسوله، ولا يعذر أحد في تركه البتة؟ أم يجب عليه أن يتبع "التحفة" مثلًا؟
في الهامش: التحفة: هي كتاب تحفة المحتاج لشرح المنهاج لابن حجر الهيتمي، وهو غير ابن حجر العسقلاني.
(الشرح)
الشافعي هل هو محتاج إلى كتاب فقه، ولا محتاج إلى التوحيد؟ محتاج إلى التوحيد.
(المتن)
والحاصل: أن صورة المسألة: هل الواجب عَلَى كُلّ مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله عَلَى رسوله، ولا يعذر أحد في تركه البتة؟ أم يجب عليه أن يتبع "التحفة" مثلًا؟.
(الشرح)
الواجب عَلَى الإنسان أن يطلب علم ما أنزله الله عَلَى رسوله الهدى ودين الْحَقّ، ولا يتبع الَّذِي كتبه فلان، أو فلان، واجب عَلَيْهِ أن يطلب العلم الَّذِي أنزله الله في كتابه وعَلَى رسوله؛ لِأَنَّ الله تعبد المسلمين بالعمل بالكتاب والسنة، ولم يتعبد بقول فلان، ولا بكتاب فلان.
(المتن)
فأعلم المتأخرين وسادتهم، منهم ابن القيم، قَدْ أنكروا هَـذَا غاية الإنكار.
(الشرح)
قَدْ أنكروا كون الناس يقبلون عَلَى الكتب؛ والمؤلفات الَّتِي ألفها بعض الفقهاء، ويتركون الكتاب والسنة.
(المتن)
وَأَنَّهُ تغيير لدين الله، واستدلوا عَلَى ذلك بما يطول وصفه من كتاب الله الواضح، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم البين لمن نوَّر الله قلبه. والَّذِينَ يجيزون ذلك أو يوجبونه يدلون بشبه واهية، لكن أكبر شبههم عَلَى الإطلاق: أنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه، ولا يقدر عليه إلا المجتهد، وإنا وجدنا آباءنا عَلَى أمة وإنا عَلَى آثارهم مهتدون.
(الشرح)
وهنا المؤلف رَحِمَهُ الله يبين حال المقلدين الذين يقلدون أهل المتاعب تجده يقرأ كتب المذهب، يحفظ كتب المذهب إذا كان حنبلي كتب الحنابلة، وإذا كان شافعي كتب الشافعية، كتاب في الفقه الشافعي، وإذا كان مالكي كتاب في الفقه المالكي، وإذا كان حنفي كتاب في فقه الحنيفية، ويحفظ ويقرأ عبارات قد تكون عبارات غامضة وصعبة، والقرآن لا يقرأه، والسُّنَّةِ لا يقرأها، وإذا قيل له كيف تترك الكتاب العزيز قيل ما أعرف هَـذَا ما أفهم هذا، فالقرآن ما يفهمه إلا المجتهد، القرآن يسره الله (ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ) [القمر/17].
(ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ) [يوسف/2].
(ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ) [الشعراء/195].
كيف ما تعرف القرآن؟ يقول: أنا ما أعرف القرآن، يعرفه العالم المجتهد والكبير يقرأه ويعلم، أما أنا ما أعرف، القرآن والسُّنَّةِ ما هم لي أنا أقرأ كتب المتأخرين، كيف ما تقرأ؟ ما تقرأ: (ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ) [النور/56]؛ ما تعرف معناها؟ أمرك الله بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، كُلّ عربي يفهم هذا، بيَّن الله أوصاف الْمُؤْمِنِينَ (ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ) [البقرة/2-5]ما تعرف معناها؟!.
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﰂ) [البقرة/282]؛ أمر الله بكتابة الدين ما تعرف معناها، لكن المصيبة الإعراض عن القرآن بأنه يقول: أنا ما أعرف معناه، هكذا نشأهم بعض شيوخهم عَلَى أن يقرأ كتاب معقد في الفقه ييسر فهمه، ويترك القرآن والسُّنَّةِ الواضح، ويقول: أنا ما أعرف هذا، هذا للعلماء الكبار هم الذين يقرؤون، ويفهمون، ويخبرون، أما أنا أقرأ في كتب المتأخرين هذه الشبهة الملعونة الَّتِي صدت الناس عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(المتن)
ولأهل العلم في إبطال هذه الشبهة ما يحتمل مجلدًا.
(الشرح)
هذه الشبهة الملعونة.
(المتن)
ومن أوضحه: قول الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة/31].
(الشرح)
ديَعْنِي كاليهود، كما أن اليهود اتخذوا أحبارهم علماء، ورهبانهم عباد، اتخذوهم أربابًا يشرعون لهم، فهؤلاء المقلدين اتخذوا شيوخهم أربابًا يقلدونهم، ولا يرجعون إلى الكتاب والسنة، ما قاله لهم شيوخهم عملوا به، وقال أنتم عندما تقرؤوا الكتاب والسُّنَّةِ ما تفهمون؟ لا يفهمونه، مثل اليهود الذين اتخذوا علماءهم، وعبادهم يشرعون لهم.
(المتن)
وَقَدْ فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي حديث عدي بهذا الَّذِي أنتم عليه اليوم في الأصول والفروع، لا أعلمهم يزيدون عليكم مثقال حبة خردل، بل يبين مصداق قوله: "حذو القذة بالقذة " إلخ. وكذلك فسرها المفسرون لا أعلم بينهم اختلافًا، ومن أحسنه: ما قاله أبو العالية.
(الشرح)
المؤلف يبين أَنَّ ما عليه هؤلاء التقليد لعلمائهم في الباطن أَنَّهُمْ مثل ما عليه اليهود سواء بسواء كما أن اليهود يقلدون أحبارهم ورهبانهم في الباطن يشرعون لهم، يخاطبهم الشيخ، يقول: أَنتُمْ لا تزيدون عليهم «حذو القذة بالقذة»، القذة: ريشة السهم، كما تشبه ريشة السهم القذة الأخرى، فَأَنتُمْ تشبهونهم، اتبعوا رؤسائهم بالباطل، وَأَنتُمْ اتبعتم رؤسائكم بالباطل.
(المتن)
وكذلك فسرها المفسرون لا أعلم بينهم اختلافًا، ومن أحسنه: ما قاله أبو العالية: "أما إنهم لم يعبدوهم، ولو أمروهم بذلك ما أطاعوهم; ولكنهم وجدوا كتاب الله، فَقَالُوا : لا نسبق علماءنا بِشَيْءٍ، ما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا ".
(الشرح)
يَعْنِي ما عبدوهم في الركوع والسجود، ما سجدوا لهم، ولا ركعوا لهم، ولو قال لهم العلماء: اسجدوا لنا، واركعوا لنا ما أطاعوهم، لكن أطاعوهم في التشريع؛ يشرعون لهم، ويأمرونهم، ويحلون لهم الحرام، فيقول: هَـذَا حلال، ويحرمون عليهم الحلال، فيقول: هذا حرام؛ يتبعونهم في التحليل والتحريم فصار هَـذَا عبادة، من اتبع من يحلل له ويحرم عليه، من أطاع شخصًا في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذه ربًّا من دون الله، الرب هو المشرع، وهذا جعله مشرع ما يشترط في كونه يجعله ربًّا يسجد له ويركع له، إذا أطاع في التحليل والتحريم، فقد اتخذه ربًّا شاء أم أبى، قال تعالى: (ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯦ) [الشورى/21].
(المتن)
وَهَذِهِ رسالة لا تحتمل إقامة الدليل، ولا جوابًا عما يدلي به المخالف، لكن أعرض عليه من نفسي الإنصاف والانقياد للحق، فَإِذا أردتم علي الرد، في الحاشية: المخطوطة: أردتم الرد علي، فَإِذا أردتم الرد عليَّ بعلم وعدل، فعندكم كتاب أعلام الموقعين.
(الشرح)
الصح إعلام الموقعين، يجوز قيل: أعلام, وقيل: إعلام, إعلام: يَعْنِي إخبار الموقعين عن ربِّ العالمين، العلماء يوقعون عن الله، إعلامهم: إخبارهم، أما أعلام: أشخاص الموقعين، فإعلام أفصح، إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين، كتاب ابْنَ القيم إعلام؛ يَعْنِي ابن القيم يعلم الموقعين عن ربِّ العالمين الموقعين عن ربِّ العالمين: هم العلماء، يعلمهم: يخبرهم؛ يَعْنِي إخبار الموقعين عن ربِّ العالمين، أما إذا فتحت الهمزة تصير أعلام الموقعين, تصير الأشخاص الموقعين عن ربهم.
(المتن)
فعندكم كتاب إعلام الموقعين لابن القيم عند ابْنَ فيروز في مشرفه، فقد بسط الكلام فيه عَلَى هذا الأصل بسطًا كثيرًا، وسرد من شبه أئمتكم ما لا تعرفون أَنتُمْ ولا آباؤكم، وأجاب عنها واستدل لها بالدلائل الواضحة القاطعة؛ منها: أمر الله ورسوله عن أمركم هَـذَا بعينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفوه من قبل أن يقع، وحذروا الناس منه، وأخبروا أَنَّهُ لا يصبر عَلَى الدين إلا الواحد بعد الواحد.
(الشرح)
يَعْنِي ما يصبر ويثبت عَلَى الدين إلَّا القليل، والباقي ما يكون عنده الصبر عَلَى الأوامر، والنواهي، والالتزام؛ هذا صعب لا يصبر عَلَيْهِ إلَّا من ثَبِّتْ الإيمان فِي قلبه، ورسخ الإيمان في قلبه، والكثير لا يصبر، بل يتفلت من الأوامر والنواهي، نسأل الله العافية.
(المتن)
وأخبروا أَنَّهُ لا يصبر عَلَى الدين إلا الواحد بعد الواحد، وأن الإسلام يصير غريبًا كما بدأ.
وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة في أول الإسلام: من معك عَلَى هذا؟ قال: "حر وعبد "؛ يَعْنِي أبا بكر وبلالًا. فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ، فما أجهل من استدل بكثرة الناس وإطباقهم!.
(الشرح)
يَعْنِي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء»، رواه الإمام مسلم، بدأ غريب: يَعْنِي بدأ هذا الإسلام ليس عليه أحد إلَّا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هو أول مؤمن هذه الأمة، ثم آمن به حر وعبد؛ أبو بكر، وبلال، ثُمَّ آمن به زوجه خديجة من النساء، أول ما آمن النساء، ومن الصبيان أول من آمن علي بن أبي طالب، ثُمَّ دخل الناس شيئًا بعد شَيْءٍ، وفي آخر الزمان أيضًا يعود غريبًا كما بدأ يخرج الناس من دين الله ولا يبقى عليه إلَّا الأفراد، وبعض الناس يستدل بالكثرة، الكثرة ما هِيَ دليل، قَدْ تكون الكثرة هالكة، العبرة بالحق، ما كان عَلَى الحق ولو كان واحد، أو اثنان؛ وهو الجماعة؛ ولهذا قال بعض السلف: إذا كنت عَلَى الحق فأنت الجماعة ولو كنت وحدك.
(المتن)
فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ، فما أجهل من استدل بكثرة الناس وإطباقهم! أشباه هَذِهِ الشبهة الَّتِي هي عظيمة عند أهلها، حقيرة عند الله وعند أولي العلم من خلقه، كما قال تعالى: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ)[المؤمنون/81].
فلا أعلم لكم حجة تحتجون بها، إلا وَقَدْ ذكر الله في كتابه أن الكفار استدلوا بها عَلَى تكذيب الرسل، مثل إطباق الناس، وطاعة الكبراء، وغير ذلك. فَمِنْ مَنَّ الله عليه بمعرفة دين الإسلام الَّذِي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرف قدر هذه الآيات والحجج وحاجة الناس إليها.
فَإِنَّ زعمتم أن ذكر هؤلاء الأئمة لمن كان من أهله، فقد صرحوا بوجوبه عَلَى الأسود والأحمر والذكر والأنثى، وأن ما بعد الحق إلا الضلال، وأن قول من قال: ذلك صعب، مكيدة من الشيطان كاد بها الناس عن سلوك الصراط المستقيم الحنيفية ملة إبراهيم. وإن بان لكم أنهم مخطئون، فبينوا لي الحق حتى أرجع إليه؛ وإنما كتبت لكم هذا، معذرة من الله، ودعوةً إلى الله، لأحصل ثواب الداعين إِلَى الله، وإلا أنا أَظُنُّ أنكم لا تقبلونه وَإِنَّهُ عندكم من أنكر المنكرات، من أن الَّذِي يعيب هَـذَا عندكم، في المخطوطة: وأنه عندكم من أنكر المنكرات، وأن الَّذِي يعيب هذا عندكم.
(الشرح)
نعم لعلها أحسن.
(المتن)
وَإِنَّهُ عندكم من أنكر المنكرات، وأن الَّذِي يعيب هذا عندكم مثل من يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
لَـكِنَّ أنت من سبب ما أظن فيك من طاعة الله، لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم، ويشرح قلبك للإسلام. فَإِذا قرأته، فإن أنكره قلبك فلا عجب؛ فإن العجب ممن نجا كيف نجا؟ فَإِنَّ أصغى إليه قلبك بعض الشيء، فعليك بكثرة التضرع إلى الله والانطراح بين يديه، خصوصًا أوقات الإجابة كآخر الليل، وأدبار الصلوات، وبعد الأذان، وكذلك بالأدعية المأثورة خصوصًا الَّذِي ورد في الصحيح أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
فعليك بالإلحاح بهذا الدعاء بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه، وبَالَّذِي هدى إبراهيم لمخالفة الناس كلهم، وقل: يا معلم إبراهيم علمني. وإن صعب عليك مخالفة الناس، ففكِّر في قول الله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية:19]
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[الأنعام:116].
وتأمل قوله في الصحيح: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريبًا كما بدأ ".
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم ...», إلخ.
وقوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي».
(الشرح)
«إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا»؛ يَعْنِي العلم إِنَّمَا يقبض بموت العلماء واحدًا بعد واحد ثُمَّ يقبض العلم، لا يقبض العلم من صدر الرجال، لا، الله تعالى حفظه في صدور الرجال، لكن الرجال يموتون، العلماء يموتون واحدًا بعد واحد، فلا يبقى إلَّا الجهال، فيكثر الجهل ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.
(المتن)
وقوله: «وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كُلّ بدعة ضلالة»؛ والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، أفردت بالتصنيف, فإني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي، وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لا تقبل، وتسلك مسلك الأكثر، ولكن لا مانع لما أعطى الله، والله لا يتعاظم شيئًا أعطاه. وما أحسنك تكون في آخر هذا الزمان فاروقًا لدين الله، كعمر t فِي أوله، فإنك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا.
(الشرح)
هَـذَا النصح نصح الإمام رَحِمَهُ الله كتابته رغبةً ورهبة, فِي ترغيب وترهيب رحمه الله, فيه نصح وإخلاص وَأَنَّهُ يدعو له في صلاته، وأمره أَن يتضرع إِلَى الله، ويسأل في أوقات السحر أَن يهدي قلبك، وأيضًا حثَّ، ورغَّب، وشجعه عَلَى أَن فاروقًا كالفاروق t, فالعلماء هم أنصح الناس للناس.
(المتن)
وَأَمَّا هذا الخيال الشيطاني الَّذِي اصطاد به الناس، أَنَّ من سلك هَـذَا المسلك فقد نسب نفسه للاجتهاد، وترك الاقتداء بأهل العلم، وزخرفه بأنواع الزخارف، فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه.
(الشرح)
يقولون: من اتبع الكتاب والسنة، قَالُوا :هَـذَا يدعى الاجتهاد، خالف ما عَلَيْهِ الناس، خالف ما عَلَيْهِ الفقهاء، ادعى الاجتهاد، هَـذَا خيال شيطاني تلبيس من الشيطان.
(المتن)
وَأَمَّا هَـذَا الخيال الشيطاني الَّذِي اصطاد به الناس، أَن من سلك هذا المسلك فقد نسب نفسه للاجتهاد، وترك الاقتداء بأهل العلم، وزخرفه بأنواع الزخارف، فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه، كما قال تعالى: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)[الأنعام:112].
فَإِنَّ الَّذِي أنا عليه وأدعوكم إليه هو في الحقيقة الاقتداء بأهل العلم، فإنهم قَدْ وصوا الناس بذلك؛ ومن أشهرهم كلامًا في ذلك، إمامكم الشافعي، قال: لا بد أن تجدوا عني ما يخالف الحديث، فكُلُّ ما خالفه فأشهدكم أني قد رجعت عنه.
وأيضًا أنا في مخالفتي هذا العالم، لَمْ أخالفه وحدي؛ فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلًا فِي أبوال مأكول اللحم، وقلتُ: القول بنجاسته يخالف حديث العرنيين، ويخالف حديث أنس أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلى فِي مرابض الغنم، فقال هذا الجاهل الظالم: أنت أعلم بالحديث من الشافعي؟ قلت: أنا لَمْ أخالف الشافعي من غير إمام اتبعته، بل اتبعت من هو مثل الشافعي أو أعلم منه، قَدْ خالفه واستدل بالأحاديث.
فَإِذا قَالَ: أنت أعلم من الشافعي؟ قل: أنت أعلم من مالك وأحمد؟ فقد عارضته بمثل ما عارضني به، وسلم الدليل من المعارض، واتبعت قول الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء:59]، الآية، واتبعت من اتبع الدليل في هذه المسألة من أهل العلم؛ لم أستدل بالقرآن أو الحديث وحدي، حتى يتوجه علي ما قيل، وهذا عَلَى التّنَزل، وإلا فمعلوم أن اتباعكم لابن حجر في الحقيقة.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يرد عَلَى المقلدين الَّذِينَ ينفرون عن الأخذ بالدليل من الكتاب والسنة، فقد ذكر المؤلف رحمه الله مثالًا: أبوال الإبل، هل هِيَ طاهرة، أو نجسة؟ بعض العلماء كالشافعي يرى أنها نجسة؛ أبوال الإبل، ومالك، وأحمد يرون أنها طاهرة، فالمقلد للشافعي، يقول: بول الإبل نجس.
فلما كان الشيخ الإمام رحمه الله يرى طهارة أبوال الإبل، فَإِذا قال المقلد للشافعي: الشافعي يَقُولُ نجسة، أنت أعلم، أما الشافعي؟ الشافعي أعلم منك، الشافعي يرى أن أبوال الإبل نجسة، وأنت ترى طهارة الإبل، تخالف الأئمة أنت؟ أنت تخالف الأئمة؟ قَالَ: لا، أنا ما أخالف الأئمة، أنت اتبعت إمام ما يَقُولُ بطهارة الإبل، وأنا اتبعت الإمام الآخر يقول بطهارتها.
هذا إمام مقابل إمام، الَّذِي خالف الشافعي إمام مثله أو أحسن منه, وأنا أخذت قول الإمام؛ لِأَنَّهُ قد وافق الدليل، لِأَنَّ العرانيين الذين أمرهم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، ولم يأمرهم بغسل أفواههم، لَمْ يقل: إنها نجسة، ولو كانت نجسة لأمرهم بغسل أفواههم دلَّ عَلَى طهارتها.
فأنا اتبعت إمام، وأنت اتبعت إمام، لكن أنا اتبعت الإمام الَّذِي تبع الدليل؛ وبهذا تبطل شبهة الذي يقول: تخالف الأئمة، أنت تخالف الشافعي، ماذا تعلم عن الشافعي؟ يقول: أنا ما أخالف الشافعي، لكن أنا وافقت إمام، وأنت وافقت إمام، إمام مثل إمامك، لكن أنا اتبعت الإمام الَّذِي يأخذ بالدليل؛ وبهذا تبطل حجة المقلدين الذين يقولون: يجب أن نتبع الأئمة في مذاهبهم، ولو خالفوا الدليل، فَإِذا خالف الإمام الدليل لا يأخذ بقوله، كُلّ إمام يقول: إذا قلت قولًا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا، فاضربوا بقولي عرض الحائط وخذوا بقول رسول الله.
(المتن)
واتبعت من اتبع الدليل في هذه المسألة من أهل العلم؛ لَمْ أستدل بالقرآن أو الحديث وحدي، حتى يتوجه عليَّ ما قيل، وهذا عَلَى التّنَزل، وإلا فمعلوم أن اتباعكم لابن حجر في الحقيقة، ولا تعبؤون بمن خالفه من رسول أو صاحب أو تابع حتى الشافعي نفسه.
(الشرح)
يَعْنِي يقول: مع التنزل وإلا هم ما يتبعون الشافعي، يتبعون المتأخرين كابن حجر وغيره الهيثمي، يأخذون بقولهم، ولو خالف حتى قول الشافعي، ليتهم أخذوا قول الشافعي بل أخذوا بأقوال المتأخرين يقلدونهم.
(المتن)
ولا تعبؤون بكلامه إذا خالف نص ابن حجر، وكذلك غيركم إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا للأئمة؛ فهؤلاء الحنابلة من أقل الناس بدعة، وأكثر الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصِّه، يعرف ذلك من عرفه.
(الشرح)
يَعْنِي يقول: إن الآن المقلدين ما يقلدون الأئمة ليتهم يقلدون الأئمة، فمثلًا المالكية ما يقلدون الإمام مالك، يقلدون المتأخرين, المتأخرين في زمانهم، والشافعية ما يقلدون الشافعي، بل يقلدوا المتأخرين من الشافعية، والأحناف ما يقلدون الإمام أبو حنيفة، بل يقلدون المتأخرين منهم، والحنابلة ما يقلدون الإمام أحمد، بل يقلدون المتأخرين، وتجد أقوال المتأخرين مخالفة لأقوال الأئمة، والحنابلة من أقل الناس ومع ذَلِكَ يعتمدون عَلَى ما في المنتهى والإقناع، وما فِي المنتهى أكثر ومخالف لنصوص الإمام أحمد، فضلا عن المخالفة عن نصوص الكتاب والسنة.
(المتن)
ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إِذَا أجمعوا وجب اتباعهم، وَإِنَّمَا الشأن إِذَا اختلفوا، هل يجب عليَّ أن أقبل الحق ممن جاء به، وأرد المسألة إلى الله والرسول مقتديًا بأهل العلم، أو أنتحل بعضهم من غير حجة.
(الشرح)
يَعْنِي إِذَا أجمع العلماء عَلَى شيء لا يجوز الخلاف حينئذ، فالإجماع حجة، وهذه الأمة معصومة أن تجمع عَلَى ضلالة، والإجماع مستند إِلَى نص كتاب الله وسُنَّةَ رسوله، الإجماع لا بد له من دليل، إِذَا جاءك الإجماع فاعلم أن عَلَيْهِ دليل من الكتاب والسنة، لكن إذا كانت المسألة خلافية بين أهل العلم ما فيها إجماع، ما الواجب عَلَى الإنسان؟ قَالَ بعض العلماء بقول، وقال الآخرون بقول آخر، ما موقفي الآن؟ قَالَ بعض الأئمة: هذا حال، وقال الآخر: هذا حرام، قَالَ بعض الأئمة بول الإبل نجس، وقال الآخر: طاهر، هذا إمام يَقُولُ: بول الإبل نجس، وإمام آخر يَقُولُ: طاهر، ماذا أعمل؟ ما موقفي؟
قال الله تعالى: (ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰓ) [النساء/59]؛ تنازع العلماء، بعضهم يَقُولُ طاهر ماذا أعمل ؟ أرده إلى الكتاب والسنة، أبحث في الكتاب والسُّنَّةِ وجدت أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حكم بأن أبوال الإبل طاهرة، إذًا آخذ بقول من قال إِنَّهُ طاهر؛ لأني ردت النزاع إلى الكتاب والسنة؛ هَـذَا هو موقف المسلم.
(المتن)
وَإِنَّمَا الشأن إذا اختلفوا، هل يجب عليّ أن أقبل الحق ممن جاء به، وأرد المسألة إِلَى الله والرسول مقتديًا بأهل العلم، أو أنتحل بعضهم من غير حجة، وأزعم أن الصواب في قوله.
(الشرح)
يَعْنِي هل الواجب أن الإنسان يرد النزاع إِلَى الكتاب والسنة، أو يأخذ بقول أحدهما من غير حجة ومن غير دليل؟ لا، يجب الإنسان أن يأخذ بالدليل، البعض يَقُولُ: أنا أغمض عيني وآخذ بأحد القولين؛ آخذ بقول من يقول: طاهر، أو بقول: من يَقُولُ: نجس، نقول له: ما يجوز، العمل بالهوى ما يجوز رد النزاع إلى الكتاب وَالسُّنَّةِ، أبحث في الكتاب وَالسُّنَّةِ وما يؤيده الدليل خذ به، وما يخالف الدليل لا تأخذ به.
(المتن)
أو أنتحل بعضهم من غير حجة، وأزعم أن الصواب في قوله، فأنتم عَلَى هذا الثاني، وهو الذي ذمه الله وسماه شركًا.
(الشرح)
(فَأَنتُمْ عَلَى هذا الثاني)؛ يَعْنِي تنتحلون بعض الأقوال، وتأخذون بغير دليل.
(المتن)
فَأَنتُمْ عَلَى هذا الثاني، وهو الذي ذمه الله وسماه شركًا، وهو اتخاذ العلماء أربابًا, وأنا عَلَى الأول، أَدْعُو إليه وأناظر عليه, فَإِنَّ كان عندكم حق رجعنا إليه وقبلناه منكم، وإن أردت النظر في إعلام الموقعين، فعليك بمناظرة في أثنائه.
في الحاشية: فعليك بالمناظرة التي في أثناءه عقدها بين مقلد وصاحب حجة, وإن ألقي في ذهنك أن ابْنَ القيم مبتدع، وأن الآيات التي استدل بها ليس هذا معناها، فاضرع إِلَى الله، واسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق، وتجرد إلى الله ناظر أو مناظر.
في المخطوطة: وتجرد إلى الله ناظرًا ومناظر، واطلب كلام أهل العلم في زمانه.
(الشرح)
يَعْنِي تجرد عن الهوى، إِذَا تغلب عليه الهوى تجرد إلى الحق؛ يَعْنِي ليكن قصدك الحق، أبعد الهوى عن نفسك سواء كنت ناظر، أو مناظر، سواء في جانب ناظرًا أنت؛ مستدلًا، أو غير مستدل، أو تناظر غيرك، أو يناظرك غيرك، تجرد عن الهوى، واجعل في نفسك أنك تريد الْحَقّ وتقبل الْحَقّ؛ بهذا يقبل الإنسان الحق، أما إذا كان يتكلم الإنسان سواء يستدل سواء كان مناظر، أو ناظر وهو في ذهنه أنه يتبع قولًا معينًا ما يقبل الحق، ما تجرد، ما يقبل الحق من لم يتجرد عن الهوى.
(المتن)
واطلب كلام أهل العلم فِي زمانه، مثل الحافظ الذهبي وابن كثير وابن رجب وغيرهم، ,مما ينسب للذهبي، رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله |
|
قال الصحابة ليس خلف فيهِ |
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة |
|
بين الرسول وبين رأي فقيه |
(الشرح)
هَـذَا العلم فِي كتاب الله وسُنَّةَ رسوله هذا العلم الصحيح، وما عداه زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والعلماء حينما يؤلفون يستدلون بالكتاب والسنة، ما يبتعدوا عن الكتاب والسنة، لا يكون قولهم صواب إلا إذا استدلوا بالكتاب والسنة، العلماء حينما يتكلمون ويشرحون، ويبينون النصوص، إِنَّمَا هما يبينون كلام الله، وكلام رسوله، والحجة كلام الله، وكلام رسوله.
(المتن)
فَإِنَّ لَمْ تتبع هؤلاء، فانظر كلام الأئمة قبلهم، كالحافظ البيهقي في كتاب "المدخل" والحافظ ابن عبد البر والخطابي وأمثالهم، ومن قبلهم كالشافعي وابن جرير وابن قتيبة وأبي عبيد؛ فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله وكلام رسوله وكلام السلف. وإياك وتفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه وشروحهم، فإنها القاطعة عن الله وعن دينه. وتأمل ما في كتاب "الاعتصام" للبخاري، وما قال أهل العلم في شرحه.
وهل يتصور شَيْءٌ أصرح مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق عَلَى أكثر من سبعين فرقة، أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها الَّتِي عَلَى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وأنتم مقرون أنكم عَلَى غير طريقتهم، وتقولون: ما نقدر عليها، ولا يقدر عليها إلا المجتهد، فجزمتم أَنَّهُ لا ينتفع بكلام الله وكلام رسوله إلا المجتهد، وتقولون: يحرم عَلَى غيره أن يطلب الهدى من كلام الله وكلام رسوله وكلام أصحابه، فجزمتم وشهدتم أنكم عَلَى غير طريقتهم، معترفين بالعجز عن ذلك. وإِذَا كنتم مقرين أن الواجب عَلَى الأولين: اتباع كتاب الله وسُنَّةَ رسوله، لا يجوز العدول عن ذلك، وأن هذه الكتب والتي خير منها لو تحدث فِي زمن عمر بن الخطاب لفعل بها وبأهلها أشد الفعل.
(الشرح)
هم معترفون بأن الأولين عَلَى الْحَقّ، والمتأخرين ما يأخذون بقول الله، وكلام رسوله؛ يَعْنِي يقول: كتب المتأخرين الَّتِي فيها تعصب للأئمة، لو تحدث في زمن الصحابة حرفوها.
(المتن)
وإِذَا كنتم مقرين أن الواجب عَلَى الأولين: اتباع كتاب الله وسُنَّةَ رسوله، لا يجوز العدول عن ذَلِكَ، وأن هَذِهِ الكتب والَّتِي خير منها لو تَحْدُثُ في زمن عمر بن الخطاب لفعل بها وبأهلها أشد الفعل، ولو تحدث في زمن الشافعي وأحمد لاشتد نكيرهم لذلك.
(الشرح)
لِأَنَّ الكتب يتعصبون أهلها لأقوال أئمتهم وإن خالفوا الْحَقّ، الأئمة ينهون عن التعصب للأقوال كلهم يأمرون باتباع الدليل، أما المتأخرون يأخذون بأقوال من قلدوهم، ويتعصبون لهم ولا يخرجون عنها ولو خالفها الدليل، يقول: هذه الأقوال لو كانت في زمن الأئمة لأنكروها.
(المتن)
فليت شعري متى حرم الله هذا الواجب، وأوجب هذا المحرم؟.
(الشرح)
هَـذَا الواجب هو العمل بالكتاب والسنة، قراءة النصوص والعمل بها، والمحرم: العمل بأقوال المقلدين الَّذِينَ يقلدون أئمتهم وإن خالفوا الدليل.
(المتن)
فليت شعري متى حرم الله هذا الواجب، وأوجب هذا المحرم؟ ولما حدث قليل من هذا، لا يشبه ما أَنتُمْ عَلَيْهِ في زمن الإمام، اشتد إنكاره لذلك، ولما بلغه عن بعض أصحابه أنه يروي عنه مسائل بخراسان، قَالَ: أشهدكم أني قد رجعت عن ذلك، ولما رأى بعضهم يكتب كلامه، أنكر عليه وقال: تكتب رأيًا لعلّي أرجع عنه غدًا.
(الشرح)
هذا الإمام أحمد رحمه الله ينهى الناس عن كتابة كلامه، ويقول للناس: خذوا بكلام الله وسُنَّةَ رسوله، عندكم القرآن وَالسُّنَّةِ، إذا أراد أحد أن يكتب كلامًا، لا تكتبوا كلامي، ولا كلام غيري، كلامي أنا أخطئ وأصيب، فأقول قولًا وأرجع عنه غدًا، قال ابن القيم رحمه الله: كان ينهى أشد النهي عن كتابة أقواله وفتاويه, ويقول: خذوا بالكتاب والسنة، قال ابن القيم: فعلم الله حسن نيته، فجمع من فتاويه وأقواله ما يبلغ حمل كذا وكذا من الإبل.
كُلّ هَـذَا حرص من الأئمة عَلَى الأخذ بالكتاب وَالسُّنَّةِ, ينهون الناس عن تقليدهم والأخذ بأقوالهم حتى يرجعوا إلى الكتاب والسنة، يتدبروا النصوص، ويأخذوا بما دلت عليه.
(المتن)
اطلبوا العلم مثلما طلبناه, وَلَمَّا سُئِلَ عن كتاب أبي ثور قال: كُلّ كتاب ابتدع فهو بدعة, ومعلوم أن أبا ثور من كبار أهل العلم، وكان أحمد يثني عليه. وكان ينهى الناس عن النظر في كتب أهل العلم الذين يثنى عليهم ويعظمهم. وَلَمَّا أخذ بعض أئمة الحديث كتب أبي حنيفة، هجره أحمد، وكتب إليه: إِن تركت كتب أبي حنيفة، أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك. ولما ذكر له بعض أصحابه أَنَّ هذه الكتب فيها فائدة لمن لا يعرف الكتاب والسنة، قال: إِنْ عرفتَ الحديث لم تحتج إليها، وإنَّ لم تعرفه لَمْ يحل لك النظر فيها, وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان.
(الشرح)
فهم عرفوا الحديث وأن سنده إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صحيح, يتركون الحديث ويأخذون بقول سفيان، وسفيان عالم من الأئمة الكبار، لَـكِن يريد منهم أن يعملوا بالكتاب والسُّنَّةِ (وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته)؛ عرفوا إسناد الحديث، وأنه صحيح، وَأَنَّهُ ثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يتركونه، ويأخذون بقول سفيان.
(المتن)
وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]،قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك, ومعلوم أن الثوري عنده غاية، وكان يسميه: أمير الْمُؤْمِنِينَ.
فإذا كان هذا كلام أحمد في كتب نتمنى الآن أن نراها، فكيف بكتب قد أقر أهلها؟.
(الشرح)
زالت وضاعت سفيان الثوري وَهُوَ إمام يسمى أمير الْمُؤْمِنِينَ فِي الحديث, ومع ذَلِكَ يقول الإمام في هذا المقال: الَّذِينَ يأخذون بأقواله ويتركون الحديث يَقُولُ: هؤلاء يخشى عليهم من الزيغ؛ لِأَنَّ الله يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]؛ والفتنة: الشرك، قال: لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شَيْءٌ الفتنة فيهلك، فالإمام أحمد خاف عَلَى الذين يأخذون بقول سفيان، وَهُوَ من الأئمة أمير الْمُؤْمِنِينَ فِي الحديث ويتركون الحديث، خاف عليهم من الزيغ، فكيف بمن هو دون سفيان الثوري بمراحل.
(المتن)
فإذا كان هذا كلام أحمد في كتب نتمنى الآن أن نراها، فكيف بكتب قد أقر أهلها عَلَى أنفسهم أنهم ليسوا من أهل العلم، وشُهْدَ عليهم بذلك.
في المخطوطة: وشهدوا عَلَى أنفسهم وهو الصواب.
وشُهْدَ عليهم بذلك، ولعل بعضهم مات وَهُوَ لا يعرف ما دين الإسلام الَّذِي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم: أنكم لا تقدرون عَلَى فهم كلام الله ورسوله والسلف الصالح، وقد قدمنا أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة ... إلخ». فتأمل هَذِهِ الشبهة، أعني: قولكم لا نقدر عَلَى ذَلِكَ، وتأمل ما حكى الله عن اليهود في قوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ)[البقرة:88] ، وقوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ) [البقرة:99].
(الشرح)
قلوبنا غلف: يَعْنِي فيها غلاف فلا يصل إليهم شيء من الحق، والله تعالى قال في الآية الأخرى: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭹ) [فصلت/5]؛ يَعْنِي في غلاف.
إذا تأملت قول الكفار: (ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭹ) [فصلت/5] .
يَعْنِي ما نسمع ما تقول يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم، يقولون: قلوبنا فيها غلاف، وفيها أكنة ما نأخذ شيء من كلامك، إذا جمعت بين هذا وبين قول هؤلاء وهو أننا ما نقدر نفهم الكتاب والسنة، هذا ما يفهمه إلا العلماء الكبار، نأخذ بقول أئمتنا تبين لك أن هذا يشابه قول المشركين الذي حكى الله في قوله تعالى: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ)[البقرة:88]؛ قلوبنا في أكنة، محجوبة، ممنوعة من كلامك، وهؤلاء يقولون: نحن محجوبون ما نفهم الكتاب والسنة، ما نعرف الكتاب والسنة، والكتاب والسُّنَّةِ للعلماء، أما نحن ما نفهم الكتاب والسنة، نأخذ بقول من نقلدهم، قال: هذا مشابه لقول الكفار سواء بسواء؛ ولهذا فإن المقلدين الذين يتعصبون لأقوال مقلديهم، ولو ترك الدليل يخشى عليه أن يكون اتخذ ربًّا من دون الله مثل المشركين، واليهود والنصارى الذي قال الله فيهم: (ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯱ) [التوبة/31]، إذا جعلوا قولهم حجة يقبلوه ولو خالف الحق؛ فهذا يخشى عليه من الكفر والعياذ بالله.
(المتن)
وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الزخرف:3].
وقوله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[القمر:17].
واطلب تفاسير هذه الآيات من كتب أهل العلم، واعرف من نزلت فيه، واعرف الأقوال والأفعال التي كانت سببًا لنُزول هذه الآيات، ثُمَّ اعرضها عَلَى قولهم: لا نقدر عَلَى فهم القرآن وَالسُّنَّةِ، تجد مصداق قوله: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم», وما في معناه من الأحاديث الكثيرة.
(الشرح)
إذا كان اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله وتركوا الكتب التي أنزلها الله عليهم، وأخذوا بأقوال أحبارهم، ورهبانهم، فكذلك هؤلاء الذين يقلدون مقلديهم ولو خالف الحق، ولا يأخذوا بالكتاب والسُّنَّةِ شابهوهم؛ وهذا مصداق لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم»؛ شابهوهم، فاليهود والنصارى أخذوا بأقوال مقلديهم وتركوا ما أنزل الله من الكتب، والمقلدين تركوا كتاب الله وسنة رسوله، وأخذوا بقول مقلديهم فشابهوهم، فصدق فيهم قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة».
(المتن)
فلتكن قصة إسلام سلمان الفارسي منكم عَلَى بال، ففيها أنه لم يكن عَلَى دين الرسل إلا الواحد بعد الواحد، حتى إن آخرهم قال عند موته: لا أعلم عَلَى وجه الأرض أحدًا عَلَى ما نحن فيه، ولكن قد أظل زمان نبي.
(الشرح)
قصة سلمان معروف قصته الطويلة جاء أن عُمِّرَ مائة وخمسين في الجاهلية ومائة وخمسين في الإسلام ثلاث مائة، سلمان الفارسي معروف قصته جاء من فارس يطلب الدين الحق فأُرشد إِلَى راهب من الرهبان من علماء بني إسرائيل فلزمه حتى حضره الموت، قال من توصيني؟ ما أعلم إلا فلان في البلد الفلان، فذهب إليه ولزمه مدة حتى حضره الموت، قال: بمن توصيني؟ قال أوصيك إلى فلان، وهكذا حتى آخرهم لما لزمه ولما حضره الموت، قال: بمن توصيني؟ ما أعلم عَلَى هذه الأرض أحد هذا الوقت كان في زمان النبي، سوف يخرج يبعث وتكون مهاجرة إِلَى أرض فيها نخيل؛ وهي المدينة، فعرف الأوصاف، ثمَّ جاء بعد ذَلِكَ وطلب ما يعرف المدينة ولا العرب حتى جاء وجد ناس من العرب في الشام، فقال لهم: احملوني معكم إِلَى بلاد العرب، فحملوه بأجرة، وأعطاهم ما عنده من أجرة، ثُمَّ غدروا به وسرقوه وباعوه، وتعرف قصته حتى بعد ذلك أعتق صار عند رجل من اليهود سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يشتغل بالنخل فوقف يتسمع عن أخبار النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فلطمه اليهودي لَمَّا سأله, قال له: اعمل واترك هذا ليس من شأنك، فالقصة معروفة، والشاهد منها: أنه ما يكون عَلَى الْحَقّ إلا الواحد بعد الواحد.
(المتن)
لا أعلم عَلَى وجه الأرض أحدًا عَلَى ما نحن فيه، ولكن قد أظل زمان نبي واذكر مع هذا قول الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ)[هود:116].
فحقيق لمن نصح نفسه وخاف عذاب الآخرة أن يتأمل ما وصف الله به اليهود في كتابه، خصوصًا ما وصف به علماءهم ورهبانهم، من كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، وما وصفهم الله أي: علماءهم من الشرك، والإيمان بالجبت والطاغوت، وقولهم للذين كفروا: (هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) [النساء:51]؛ لِأَنَّهُ عرف أن كُلّ ما فعلوا لا بد أن تفعله هذه الأمة، وقد فعلتْ.
وإن صعب عليك مخالفة الكبراء، ولم يقبل ذهنك هَـذَا الكلام، فأحضر بقلبك أَنَّ كتاب الله أحسن الكتب، وأعظمها بيانًا، وأشفى لداء الجهل، وأعظمها فرقًا بين الحق والباطل، والله سبحانه قد عرف تفرق عباده واختلافهم قبل أَن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً)[النحل:64].
وأحضر قلبك هذه الأصول وما يشابهها في ذهنك، واعرضها عَلَى قلبك، فإنه إِنْ شاء الله يؤمن بها عَلَى سبيل الإجمال. فتأمل قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)[البقرة:170]، وتكرير هذا الأصل في مواضع كثيرة، وكذلك قوله: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)[الأعراف:71]؛ فكُلّ حجة تحتجون بها تجدها مبسوطة في القرآن، وبعضها في مواضع كثيرة.
(الشرح)
بركة نقف عَلَى هذا.