بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم، وبارك على عبده، ورسوله نبينا محمد r وعلى آله، وصحبه أجمعين.
(المتن)
قال العلامة حمد بن علي بن عتيق رحمه الله تعالى:
فاعلم أن الذي عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة الأربعة، وجميع أهل السنة والجماعة في جميع الأمصار، والأقطار، أنهم يعتقدون ما دل عليه الكتاب، والسنة من أسماء الرب تعالى، وأفعاله، ويثبتونه لله تعالى على ما يليق بجلاله مع اعتقادهم أنه دال على معان كاملة ثابتة في نفس الأمر من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل يعتقدون أنه لا يشبهه شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله r تشبيهًا.
(الشرح)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله r وعلى آله، وصحبه، ومن والاه؛ أما بعد: ...
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فاعلم أن الذي عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة الأربعة، إلى آخره..), المؤلف رحمه الله تعالى في هذه الرسالة (الفرق المبين بين مذهب السلف وابن سبعين وإخوان الاتحادية الملحدين), ذكر المؤلف رحمه الله: أن بينهما فرقًا عظيمًا، وأنهما لا يلتقيان، ولا يتفقان، وأن من سوى بينهما، فهو أحد أمرين:
- إما أنه ضعيف العقل كالأنعام السارحة، فسوى بينهما لضعف عقله.
- أو لأنه مُلَبِّس، ولأنه منحرف ملحد، يريد أن يُلبِّس على المسلمين، ويُسوي بين توحيد الملاحدة، وتوحيد الأنبياء، والمرسلين.
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى: ينبغي بيان ما عليه الطائفتان بالتفصيل، ما عليه الصحابة، والتابعون، ومن بعدهم، وما عليه الملاحدة الاتحادية، مذهب هؤلاء، ومذهب هؤلاء، يريد أن يُفصِّل، ويبين، ويوضح، فبدأ ببيان مذهب الصحابة، والتابعين، في أي شيء؟ في أسماء الله وصفاته.
قال: (فاعلم) العلم هو: حكم الذهن الجازم، اعلم: أي تيقن واجزم، ولا تشك، ولا تظن، ولا تتوهم.
المدركات والمعلومات أربعة أشياء؛ الذي يدركه الإنسان، إما علم، وإما شك، وإما ظنّ، وإما وهم.
فالعلم هو حكم الذهن الجازم، ويسمى علم اليقين، وأما إذا لم يكن عنده جزم بأن كان هذا الأمر يحتمل أمرين، إذا كان يحتمل أمرين يترجح أحدهما أو لا يترجح، فإن كان يحتمل أمرين أحدهما أرجح من الآخر، فالراجح يسمى ظن، والمرجوح يسمى وهم، وإذا كان على حد سواء لا راجح، ولا مرجوح يسمى شك.
المؤلف يقول: (اعلم)؛ أي: تيقن، واجزم، لا تشك، ولا تظن، ولا تتوهم أن الذي عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة الأربعة، وجميع أهل السنة والجماعة في جميع الأمصار، والأقطار هذا معتقدهم، معتقد الصحابة، معتقد التابعين، معتقد أتباع التابعين، معتقد الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، معتقد جميع أهل السنة والجماعة في جميع الأمصار، وجميع البلدان، والأقطار أنهم يعتقدون ما دلّ عليه الكتاب، والسنة من أسماء الرب تعالى، وأفعاله، ويثبتونه لله على ما يليق بجلاله؛ يعني يثبتون أسماء الله، ويثبتون صفاته، ويثبتون أفعاله على ما يليق بجلال الله، وعظمته.
فيقول مثلًا: (نثبت العلم لله، نثبت الرحمة، نثبت الاستواء، نثبت النزول لله، على ما يليق بجلاله، وعظمته، وأنه حقٌ على حقيقته، ويثبتون لله على ما يليق بجلاله مع اعتقادهم أنه دالٌ على معانٍ كاملة ثابتة في نفس الأمر).
يعتقدون أن نصوص الأسماء والصفات دالةٌ على معاني كاملة ثابتة في نفس الأمر, مثلًا: قال الله تعالى: ( ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الشورى/11]، السميع يعتقدون أنه اسم من أسماء الله تعالى، وأن الله سمّى نفسه بهذا الاسم، وأن السمع مشتمل على معنى كامل، وهو صفة السمع، السميع مشتمل على صفة السمع وأن الله متصف بالسمع وله الكمال في ذلك، الذي لا يلحقه نقص، وكذلك البصير، يثبتون هذا الاسم، وأنه من أسماء الله، وأنه مشتمل على معنى كامل ثابت، وهو إثبات صفة البصر؛ لأن أسماء الله مشتقة، وليست جامدة، وكل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة، والله تعالى له الكمال في سمعه، وبصره، وعلمه، وقدرته، بخلاف المخلوق، وإن اتصف بالسمع، والبصر إلَّا أن سمعه، وبصره ناقص محدود، معرضًا للنقص.
قال المؤلف: (دالة على معانٍ كاملة، ثابتة، في نفس الأمر من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل).
التحريف قد يكون لفظيًا، وقد يكون معنويًا؛ نوعان؛ التحريف اللفظي: مثل تحريف بعض الجهمية لآية ( ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ) [النساء/164].
فقرأها: (وكلم اللهَ) حرَّف ( ﭹ ﭺ) الله هو (الـمُكلِم) لموسى، لكن الجهمي يريد أن ينكر كلام الله فقال: (وكلم اللهَ موسى تكليمًا) يعني الله هو (الـمُكلَم) وموسى هو (الـمُتَكلِم)، لماذا حرّفها؟ حتى يفر من إثبات الكلام لله.
قال بعض المعتزلة لبعض السلف: أريد أن تقرأ (وكلم اللهَ موسى تكليمًا)، فقال له: هب يا عدو الله أني قرأت (وكلم اللهَ)، أو هب أنك حرفت هذه الآية، فكيف تقول في قوله تعالى: (ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯼ) [الأعراف/143].
فهذا صريح في أن الله هو (الـمُكلِم)، فحرَّف المعنى فقال: المعنى جرَّحه بأظافير الحكمة أي أن (كَلَّم) ليس من الكلام، وإنما هي من الكَلْم، والجرح، ومنه قولهم: فلان كلْمه يدمع، فمن أراد أن يحرف لا حيلة له، وهذا هو التحريف المعنوي، انتقل من التحريف اللفظي إلى التحريف المعنوي، التحريف المعنوي كتحريف الجهمية لـ (ﭿ ﮕ) [يونس/3]؛ بمعنى (استولى)؛ هذا تحريف معنوي، فالتحريف اللفظي مثل: (كلم اللهَ)، أما التحريف المعنوي مثل تحريفهم الكلام بالجرح، وتحريف الجهمية (ﭿ ﮕ) [يونس/3] باستولى.
(ومن غير تحريف ولا تعطيل)، التعطيل هو: نفي الصفة، وهو مشتق من العاطل، وهو الخلو، والفراغ، ومنه قولهم: امرأة عَطْل، إذا لم يكن عليها حُليّ، وعطَّل البيت من ساكنها، والإبل من راعيها، فإذا لم يكن في البيت سكن يكون معطل، وكذلك الإبل إذا لم يكن لها راعي، والتعطيل معناه، هو ماذا؟ إنكار صفات الله، أو تحريفها، فمن جحد أسماء الله، وصفاته فقد عطل الله من أسمائه، وكذلك من جحد بعضها أو حرَّفها.
(ومن غير تكييف)، التكييف هو: أن يجعل للصفة كيفية، يقال كيفية استواء الله كاستواء المخلوق، يشبه الله بالمخلوق، هذه كيفية،كيفية استواء الله كذا، كيفية علمه كذا، كيفية قدرته كذا.
(ولا تمثيل)، التمثيل هو: أن يمثل الله بخلقه فيقول إن صفات الله مثل صفات المخلوق، وأن قدرة الله مثل قدرة المخلوق؛ كل هذا منفي.
السلف الصالح، الصحابة والتابعين، والأئمة يثبتون الأسماء، والصفات لله مع اعتقادهم أنها دالة على معانٍ كاملة ثابتة في نفس الأمر، لكن يتجنبون التحريف اللفظي، والمعنوي، ويتجنبون التعطيل وهو جحد أسماء الله وصفاته، ويتجنبون التكييف وهو أن يقال أن الصفة على كيفية كذا، وكذا، ويتجنبون التمثيل وهو تمثيلها بصفة المخلوقين، بل يعتقدون أن الله لا يشبهه شيء، الصحابة والتابعون والأئمة يعتقدون أن الله لا يشبهه شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا يشبه الله أحد من خلقه ( ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ) [الشورى/11].
قال المؤلف: (فمن شبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر)؛ وهذا مروي عن السلف شيخ البخاري نعيم بن حماد الخزاعي ورد عنه أثر أنه قال: من شبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله r بذلك تعطيل؛ يعني تشبيه, وليس فيما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله r تشبيهًا، تشبيهًا: خبر ليس، واسم ليس أين هو؟ ما الموصولة.
(المتن)
ويعتقد أن الله مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن العرش فوق جميع المخلوقات، ويؤمنون بعموم مشيئة الرب، وسبق قضائه لقدره، وأن جميع ما في الكون من خير وشر كله بقضاء الله، وقدره، وداخلٌ تحت مشيئته الكونية القدرية، وأنه أمر بالإيمان به، وطاعه، وطاعة رسوله r، ويحب الإيمان، والمؤمنين، ويحب المتقين، ويحب الصابرين، ونحو ذلك، ويبغض الكفر، والمعاصي، وينهى عنها، ورتب على ذلك الثواب، والعقاب، وهذا حاصل معتقد أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الصراط المستقيم.
(الشرح)
بعد أن بيَّن المؤلف رحمه الله المعتقد، هذا تكملة بيان المؤلف لمعتقد أهل السنة والجماعة، قال:(ويعتقد) يعني الصحابة، والتابعون، والأئمة، وجميع أهل السنة يعتقدون (أن الله مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، ليس في المخلوقات شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته), هكذا يعتقدون أن الله مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله، وعظمته، والاستواء علو خاص الله أعلم بكيفيته.
وأما العلو على جميع المخلوقات؛ فهذا من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الباري، فلم يزل الله تعالى قط عاليًا، ولا يكون في وقت ساقط تعالى الله، فالله متعالي على جميع المخلوقات ومنهم العرش، وأما الاستواء على العرش؛ فهذا فعل يفعله الله تعالى الله أعلم بكيفيته.
فيعتقد أهل السنة والجماعة أن الله مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقه؛ أي منفصل؛ ولذلك قال ليس في المخلوقات شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل هو منفصل، والعرش سقف المخلوقات، وأعلاها وأرفعها, إذا انتهت المخلوقات التي سقفها عرش الرحمن ليس هناك شيء من المخلوقات، فوق العرش فضاء، والله فوق الجميع، فوق العرش بعد أن تنتهي المخلوقات، ليس فوق العرش شيء من المخلوقات انتهت المخلوقات، فسقفها عرش الرحمن، والله فوق العرش بعد أن تنهي المخلوقات؛ هذا معنى قوله: (ويعتقد أن الله مستوٍ على عرشه، بائنٌ من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن العرش فوق جميع المخلوقات).
ولهذا سُئل الإمام أبو حنيفة رحمه الله عمن أنكر أن الله مستوٍ على عرشه، قال: كفر؛ لأن الله قال: (ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮕ) [يونس/3]
قيل له: فإذا قال: أنا لا أدري العرش في السماء، أو في الأرض، قال: كفر؛ لأن العرش في السماء فوق المخلوقات، وأن العرش فوق جميع المخلوقات؛ لأنه سقف المخلوقات العرش.
قال المؤلف: (ويؤمنون بعموم مشيئة الرب وسبق قضائه لقدره)؛ أهل السنة والجماعة يؤمنون بعموم مشيئة الرب، وأن مشيئة الله عامة لكل شيء، فكل شيء في هذا الكون لا يقع إلا بمشيئة الله من خير أو شر، طاعة أو معصية، فلو كان لشيء أن يقع بدون مشيئته لكان الله عاجز تعالى الله، ولكان مغلوب تعالى الله، فلا يقع في هذا الكون شيء إلا وقد سبقته المشيئة، وسبق به قضاؤه، وقدره, إن الله قدّر ذلك قدرًا, قدر أن هذا المولد يولد في الوقت الفلاني فلا بد أن يولد، قدّر أن هذا يموت في الساعة المحددة بسبب من أسباب الموت، فلابد أن يقع، ولا يتخلف، ومشيئة الله سابقة لذلك.
قال المؤلف: (ويؤمنون بعموم مشيئة الرب وسبق قضائه لقدره، وأن جميع ما في الكون من خير، وشر كله بقضاء الله، وقدره وداخل تحت مشيئته الكونية القدرية)؛ هذا كله يعتقده أهل السنة والجماعة، ويعتقدون أن جميع ما في الكون من خير أو شر كله بقضاء الله وقدره وداخل تحت مشيئة الله الكونية القدرية.
ويعتقد أهل السنة والجماعة: (أن الله أمر بالإيمان به، وطاعته، وطاعة رسوله r)؛ يعني شرعًا، (وأن الله يحب الإيمان والمؤمنين، ويحب المتقين، ويحب الصابرين، ونحو ذلك)؛ كما أخبر الله تعالى في القرآن الكريم، (ويبغض الكفر، والمعاصي، وينهى عنها، ورتب على ذلك الثواب، والعقاب)؛ ورتب الثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصي.
قال المؤلف: (وهذا حاصل معتقد أهل السنة والجماعة)؛ هذه عقيدتهم، فالعقيدة واضحة الآن، اعتقاد صحيح، يثبتون أسماء الرب، ويثبتون أفعاله على من يليق بجلاله وعظمته، ويعتقدون أن النصوص دالة على معاني كاملة، وهي الصفات التي اشتملت عليها الأسماء، ولا يحرفون، ولا يعطلون، ولا يكيفون، ولا يمثلون، ويعتقدون أن الله لا يشبهه شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ومن شبّه الله بخلقه كفر، ومن جحد ووصف الله في نفسه فقد كفر.
ويعتقدون أن الله مستوٍ على العرش بائنٌ من خلقه، وأن العرش فوق المخلوقات ليس في الأرض، ويؤمنون بعموم مشيئة الرب، وسبق قضائه بقدره، وأن جميع ما في الكون، داخل تحت مشيئة الله، ويعتقدون أن الله أمر بالإيمان به، وطاعته، وطاعة الرسول r شرعًا وأن الله يحب الإيمان، والمؤمنين، ويحب المتقين، ويحب الصابرين، ونحو ذلك، ويبغض الكفر، والمعاصي، وينهى عنها، ويرتب على ذلك الثواب، والعقاب، هذا حاصل عقيدة أهل السنة والجماعة وهم الفرقة الناجية، لماذا؟ لأنهم ناجون من الوعيد الذي توعد به الله الطوائف المنحرفة.
قال r في الحديث الصحيح: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما عليه أنا اليوم وأصحابي، وفي نص وهي الجماعة».
هذه هي الفرقة الناجية، نجت من الوعيد «كلها في النار إلا واحدة»، ويسمون الفرقة الناجية ويسمون أهل السنة والجماعة؛ وهم أهل الصراط المستقيم, الصراط الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه؛ هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
ثم يذكر المؤلف بعد ذلك عقيدة الاتحادية أهل البدعة، والضلالة وهي مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، ثم تكلم عن عقيدة الاتحادية الذين يقولون: إن الوجود واحد، وأن الخالق اتحد في المخلوق، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
(المتن)
وأما من خالفهم من أهل البدع، والضلالات، فلهم أهواء مختلفة، وآراء متشتتة، وهيكما قال الله تعالى فيها: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه)[الأنعام:153].
والكلام الآن فيما عليه أهل وحدة الوجود، كابن عربي، وابن الفارضي، والتلمساني، وإخوانهم؛ لأنه تضمنه سؤاله، فنقول مذهب أهل هذه الطائفة الملعونة أن الرب تعالى وتقدس هو عين وجود السماوات، والأرض، والجبال، والبحار، وجميع الموجودات هي عين الرب عندهم، فليس عندهم رب وعبد، ولا خالق ومخلوق.
(الشرح)
هذه عقيدة أهل البدعة الذين خالفوا أهل السنة والجماعة، لهم أهواء مختلفة، وآراء متشتتة، فهم أصحاب سبل ملتوية، فمثلًا عقيدة المعتزلة، عقيدة الخوارج، عقيدة القدرية، عقيدة الجهمية، عقيدة السالبية، عقيدة الماتريدية، كلها بدع وضلالات بسبب الأهواء المختلفة، والآراء المتشتتة.
قال المؤلف:(كما قال الله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه) [الأنعام/153]).
إذًا أهل البدع، والضلالات لهم سبل، وطرق متعددة، ولهم أهواء مختلفة، فالأشعرية يعتقدون سبع صفات، وينفون الباقي، المعتزلة يثبتون الأسماء، وينفون الصفات، الجهمية ينفون الأسماء والصفات، القرامطة ينفون النقيضين, غلاة الجهمية يقولون: لا نقول عليم ولا ليس بعليم، ولا موجود، ولا ليس بموجود، ولا رحيم، ولا ليس برحيم، ينفون هذا وهذا، فإذا قيل لهم لماذا؟ قالوا: ننفي صفات الإثبات حتى لا يلزمنا التشبيه بالموجودات، وننفي صفات النفي(العدم) حتى لا يلزمنا التشبيه بالمعدومات نسلم.
يقول: أني لو قلت عليم شبهته بالمخلوقات، سميع، فالمخلوقات تسمع، والله ليس كمثله شيء، إذا قلت الله سميع، والمخلوق سميع فهناك مشابهة، إذًا أنفي جميع صفات الإثبات، أنفي صفة السمع، والبصر، والعلم، والقدرة، لماذا؟ حتى لا يلزمنا التشبيه بالموجودات، وأنفي صفات النفي أيضًا فأقول: عليم لا ليس بعليم، رحيم لا ليس برحيم، قدير لا ليس بقدير، فأنفي صفات النفي حتى لا يلزمنا التشبيه بالمعدومات، فأنفي صفات الإثبات، حتى لا يلزمنا التشبيه بالموجودات، وأنفي صفة النفي حتى لا يلزمنا التشبيه بالمعدومات؛ خوفًا من التشبيه.
لكنه فرّ من شيء فوقع في شرٍ منه، قيل: يلزمك التشبيه بالمستحيلات، والممتنعات، فالمستحيل هو الذي ينفي عنه النفي والإثبات، والتشبيه بالمستحيل أقبح من التشبيه بالموجود، والمعدوم، ففروا من التشبيه بالموجودات، والمعدومات فوقعوا في التشبيه بالممتنعات، والمستحيلات؛ وهذا أقبح.
وهكذا كل من فرّ من شيء لا بد أن يقع في مثله أو أشر منه، ولا مفر، ولا نجاة إلا أن تثبت الأسماء، والصفات على ما يليق بجلاله، وعظمته، من أول الأمر، فاثبت الصفات، وانفي المماثلة وتستريح، قل: الله سميع، عليم، قدير، لكن لا يماثل المخلوقين وتنتهي، لا حيلة لنا إلا هذا، وإلا فلا يزال ينفي الأسماء، ينفي الصفات، ينفي الأفعال، حتى يصل إلى القول بوحدة الوجود نعوذ بالله.
ولهذا قال المؤلف (وأما من خالفهم من أهل البدع، والضلالات فلهم أهواء مختلفة، وآراء متشتتة وهي كما قال الله تعالى فيها: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه)[الأنعام:153])؛ لا تتبعوا الطرق الملتوية فتفرق بكم عن سبيله، وحّد الله السبيل؛ لأن سبيل الله واحد لا يتعدد، وجمع السبل؛ لأن طرق الباطل متشعبة.
قال المؤلف: (والكلام الآن فيما عليه أهل وحدة الوجود), مقصد المؤلف: نحن نريد أن نتكلم على طائفة من أهل البدع، فأهل البدع كثيرون؛ خوارج، معتزلة، جهمية، قدرية، سالمية، ماتريدية، لكن المؤلف يقول: نوحد الكلام على طائفة واحدة فقط، ما هي هذه الطائفة؟ أهل وحدة الوجود، ويقال لهم الاتحادية، لماذا سموا بهذا الاسم؟ لأنهم يقولون: الوجود واحد، ولا يوجد تعدد، مثالهم: كابن عربي هذا رئيس وحدة الوجود، وابن الفارض، والعفيف التلمساني، وإخوانهم؛ لأنه يتضمن سؤالهم.
قال المؤلف: (لأنه تضمنه سؤاله), أي نريد أن نتكلم في أهل وحدة الوجود لأن هؤلاء كابن العربي، وابن الفارضي تضمنه سؤال السائل.
قال المؤلف: (مذهب أهل هذه الطائفة الملعونة), من هي؟ الاتحادية، ويقال لهم أيضًا: أهل وحدة الوجود، اتحادية؛ لأنهم يقولون: اتحد الخالق بالمخلوق، اتحد الرب بالمربوب، يقال لهم: اتحادية، وأهل وحدة الوجود؛ لأنهم يرون أن الوجود واحد.
يقول المؤلف: (فنقول: مذهب أهل هذه الطائفة الملعونة)، الملعونة، اللعن هو الطرد والبعد عن رحمة الله؛ لأنهم وقعوا في أغلظ الكفر، أغلظ الكفر: هو القول بوحدة الوجود؛ لأنه إنكار لوجود الله.
قال المؤلف: (مذهب هذه الطائفة الملعونة أن الرب تعالى، وتقدس، هو عين وجود السماوات، والأرض، والجبال، والبحر، وجميع الموجودات، فهي عين الرب عندهم، فليس عندهم رب وعبد، ولا خالق ولا مخلوق).
إذًا مذهب هذه الطائفة أن الله هو عين وجود السماوات، السماوات هي الله، وأنت الرب وأنت العبد، نعوذ بالله، يقولون: أن الرب تعالى هو عين وجود السموات والأرض، وهو عين وجود الجبال، والبحار، وجميع الموجودات هي عين الرب عندهم، إذًا هل في رب وعبد عندهم؟! ما في, هل هناك خالق ومخلوق؟! لا يوجد، فليس عندهم رب وعبد، ولا خالق ومخلوق، فالرب هو العبد، والعبد هو الرب، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق.
(المتن)
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
فالقوم ما صانوه عن إنس ولا ... جن ولا شجر ولا حيوان
لكنه المطعوم والملبوس والـ ... مشموم والمسموع بالآذان
وكذاك قالوا إنه المنكوح والـ ... مذبوح بل عين الغوي الزاني
والكفر عندهم هدى ولو أنه ... دين المجوس وعابدي الأوثان
قالوا وما عبدوا سواه وإنما ... ضلوا بما خصوا من الأعيان
ولو أنهم عموا وقالوا كلها ... معبودة ما كان من كفران
قالوا ولم يك كافرا في قوله ... أنا ربكم فرعون ذو الطغيان
بل كان حقا قوله إذ كان عيـ ... ـن الحق مضطلعا بهذا الشان
قالوا ولم يك منكرا موسى لما ... عبدوه من عجل لذي الخوران
إلا على من كان ليس بعابد ... معهم وأصبح ضيق الأعطان
ولقد رأى إبليس عارفهم فأهـ ... ـوى بالسجود هوي ذي خضعان
قال له ماذا صنعت فقال هل ... غير الإله وأنتما عميان
ما ثم غير فاسجدوا إن شئتم ... للشمس والأصنام والشيطان
فالكل عين الله عند محقق ... والكل معبود لذي عرفان
هذا هو المعبود عندهم فقل ... سبحانك اللهم ذا السبحان
واحتج يومًا بالكتاب عليهم ... شخص فقالوا الشرك في القرآن
تالله ما بعد البيان لمنصف ... إلا العناد ومركب الخذلان
(الشرح)
نقل المؤلف عن ابن القيم مذهب الاتحادية، وابن القيم رحمه الله تعالى له منظومة تسمى الكافية الشافية في الرد على المعطلة، وهي كالشهب الصاعقة في الرد على الصوفية، والاتحادية، والجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وغيرهم من أهل الضلال، وهذه المنظومة عظيمة تقارب الستة آلاف بيت شرحها ابن عيسى في مجلد، وشرحها محمد بن خليل هراس، وهذا المجلد شرحها قد حُقق الآن في رسالة دكتوراه، في جامعة الإمام، في أربعة مجلدات، وهو الآن يعد للمناقشة، كما أن النونية قُسمت على أربعة من الطلاب كلًا منهم قدم لها رسالة ماجيستير، والمنظومة الشافية الكافية عظيمة، قد يُكتب فيها بحوث قد لا نجدها في المؤلفات الأخرى.
يقول المؤلف: (فالقوم) مقصوده: الاتحادية الذين قالوا بوحدة الوجود، (ما صانوه عن إنس ولا ... جن ولا شجر ولا حيوان)؛ يعني قالوا: الخالق هو المخلوق ما صانوه عن إنس، أو جن، أو شجر، أو حيوان، فقالوا: الخالق هو المخلوق سواء كان من إنس أو من شجر أو من حيوان, وقالوا: إن الله هو الإنس، هو الجن، هو الشجر، هو الحيوان (لكنه المطعوم والملبوس والـ ... مشموم والمسموع بالآذان), ما دام الوجود واحد قالوا: هو المطعوم، كل شيء يؤكل هو الخالق، معبودهم يأكلونه عياذًا بالله، الفاكهة التي نأكلها هي الرب عندهم، نعوذ بالله، والملبوس؛ الثوب الذي تلبسه هو الرب، والمشموم؛ الذي تشمه بأنفك هو الرب، والمسموع؛ الذي تسمعه بأذنك هو الرب، لماذا؟! لأن الوجود واحد، لا فرق بين الشجر، والحجر، والمطعوم، والملبوس، والمشموم.
وهذا المذهب فيه فساد الأديان، فساد الدنيا، فساد العقول، (وكذاك قالوا إنه المنكوح والـ ... مذبوح بل عين الغوي الزاني), والعياذ بالله، وهذا كله متفرع عن هذا المذهب الملعون أن الوجود واحد، والكفر عند هذه الطائفة الملعونة ما هو؟ هم أكفر من أكفر خلق الله، لكن يزعمون أنهم أهل التوحيد، ويسمون أنفسهم أهل التحقيق والتوحيد والمعرفة؛ الاتحادية، وهم أهل الشرك والضلالة، يسمون أهل التحقيق، أين التحقيق والعياذ بالله؟!.
ما هو الكفر عندهم؟ الكفر عندهم هدى، ولو أنه دين المجوس، وعبدة الصلبان وهم النصارى، وعبدة الأوثان، قال: (وما عبدوا سواه وإنما ضلوا بما خصوا من الأعيان)، فالكفر عندهم هو الهدى والهدى هو الكفر، لا فرق حتى ولو كان دين المجوس، فهذا هو الهدى عندهم حتى ولو كان دين عابد الأوثان، والعابد الذي يعبد الأوثان قالوا إنه ما عبد إلا الله، وإنما ضلوا بما خصوا من الأعيان، أي أن الاتحادي يقول: إن كل عابد ما عبد إلا الله، فمن عبد الشجر فقد عبد الله، ومن عبد الحجر فقد عبد الله، ومن عبد الصلبان فقد عبد الله، ومن عبد النار فقد عبد الله، ما هو الكفر عندهم؟ الكفر عندهم الذي يخصه بشيء هذا هو الكافر, فالذي يقول لا تجوز إلا عبادة هذا الشيء، هو الكافر عندهم؛ التخصيص هو الكفر عندهم.
فالذي يقول إن هذا الشيء هو الذي يُخص بالعبادة هذا هو الكفر، وسيأتي بيان مذهبهم فيما أقره القرآن الكريم من كفر فرعون، فالكفر عندهم هو الهدى ولو كان دين المجوس، ولو كان دين عبّاد الأوثان، ومن عَبَدَ شيئًا فإنما عَبَدَ الله عندهم، من عبد الوثن فقد عبد الله، ومن عبد النار فقد عبد الله، ومن عبد الكوكب فقد عبد الله، ومن عبد الشجر فقد عبد الله، ومن عبد الحجر فقد عبد الله، لماذا؟ لأن الوجود واحد.
وإنما ضلوا بما خصوا من الأعيان، إذا خصوا شيئًا وقالوا: لا يجوز إلا عبادة هذا الشيء، فإن هذا هو الكفر؛ ولذلك كما سيأتي يقولون: إن فرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى خص نفسه، يقولون أنت بس رب؛ بل كل الناس أرباب، ولذلك لما ظنّ وتوهم أنه الرب وحده أُغرق تطهيرًا له حتى يزول الحسبان، وحتى يزول هذا الوهم، نعوذ بالله.
هذا هو مذهب الاتحادية الذي يقول هؤلاء إنه لا فرق بينه وبين مذهب الصحابة والتابعين، نعوذ بالله.
فالكفر عندهم هو الهدى ولو كان دين المجوس، ولو كان دين عبّاد الأوثان، فكل عابد إنما عبد الله عندهم، ومن ضل إنما ضلاله بالتخصيص، فمن خصص شيء، وقال لا تتجاوزه ولا تعبد غيره، هذا هو الكفر، والذي يقول اعبد ما تشاء هذا هو الموحد عندهم، تعالى الله عما يقولون علوً كبيرًا.