بسم الله الرحمن الرحيم
القارئ
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه " الأصول الثلاثة":
دليل شهادة إِلَّا إله إِلَّا الله قوله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[آل عمران/18].
ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وحد النفي من الإثبات {لا إله} نافيًا جميع ما يعبد من دون الله {إلا الله} مثبتًا العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه ليس له شريك في ملكه.
شرح الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك عَلَى عبد الله ورسوله نَبِيّنا محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين؛ أَمَّا بعد:
فقد سبق أن بين المؤلف رحمه الله معنى الإسلام وأنه الاستسلام لله تعالى بالتوحيد, والانقياد له بالطاعة, والبراءة من الشرك وأهله, هذا هُوَ الإسلام, الإسلام هُوَ الاستسلام, فالمسلم مستسلم لله, منقاد لشرعه ودينه, يوحد لله خاضع لأمره ونهيه.
والإسلام له ثلاث مراتب:
الإسلام, والإيمان, والإحسان.
وكل مرتبة لها أركان, فأركان الإسلام خمسة:
الأصل الأول: شهادة إِلَّا إله إِلَّا الله, وشهادة أن محمد رسول الله.
الثاني: إقام الصَّلَاة.
الثالث: إيتاء الزَّكَاة.
الرابع: صوم رمضان.
الخامس: حج بيت الله الحرام.
وكل ركن من هذه الأركان له دليل, أَمَّا الركن الأول وهو الشهادتان الشهادة لله تعالى بالوحدانية, والشهادة لنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة, هذا الركن هُوَ أصل الدين وأساس الملة, أصل الدين وأساس الملة أن تشهد لله تعالى بالوحدانية, وتشهد لنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة, فمن لم يشهد هاتين الشهادتين فليس بمسلم, ما يدخل في الإسلام إِلَّا بهاتين الشهادتين هما مفتاح الإسلام, ومفتاح دار الإسلام.
مفتاح الإسلام أشهد إِلَّا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله, ومعنى أشهد يعني أقر وأعترف وأرفع صوتي وأتيقن بأنه لا إله يعني لا معبود حقٌ إِلَّا الله, الإله هُوَ المعبود, فمعنى لا إله إِلَّا الله لا معبود بحق إِلَّا الله (لا ) نافية للجنس من أخوت (إن ) تنصب الاسم وترفع الخبر (إله ) اسمها والخبر مذوف تقديره حقٌ, لا إله حقٌ إِلَّا الله (إِلَّا ) أداة استثناء, والاسم الشريف بدل من الخبر المحذوف, وقلت لكم إن بَعْض الصوفية وبعض أهل البدع وبعض أهل الكلام يفسرون الله بالخالق القادر عَلَى الاختراع, فيقولون: معنى لا إله إِلَّا الله لا خالق إِلَّا الله, أو لا موجود إِلَّا الله, أو لا قادر عَلَى الاختراع إِلَّا الله, وهذا تفسير باطل؛ لِأَنه لو كان معنى الإله الخالق لصار كفار قريش مؤمنون موحدون؛ لِأَنَّهُم يقولون: لا خالق إِلَّا الله, قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون}[الزخرف/87].
وليتبين عظمة هذه الكلمة وأَنَّهَا تنفي الشرك, تثبت العبادة لله إِلَّا إذا فسر الإله بالمعبود, لا إله تنفي جميع المعبودات عن غير الله, فتكون كفرت بالطاغوت (إِلَّا الله ) تثبت جمع أنواع العبادة لله فتكون آمنت بالله, فكلمة لا إله إِلَّا الله صدرها تخلية, وعجزها تحيلة, فأنت تتخلى عن الشرك وتتبرأ عن الشرك وأهله, ثُمَّ تتحلى بالتوحيد والإيمان, لا إله إِلَّا الله معناها لا معبود حق إِلَّا الله.
ما الدَّلِيل؟ قول الله تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}[آل عمران/18].
وتفسيرها الَّذِي يوضحها قول الله تعالى عن إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُون}[الزخرف/26].
فتبرأ من جميع أنواع المعبودات واستثنى خالقه سبحانه وتعالى, وكذلك أَيْضًا يفسره قول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون}[آل عمران/64].
{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} خطاب لأهل الكتاب, من هم أهل الكتاب؟ اليهود والنصارى {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ} الكلمة تطلق عَلَى الجملة, وتطلق عَلَى الخطبة الكاملة, يقال: فلان ألقى كلمة, تعالوا إِلَى كلمة ما هي هذه الكلمة؟ كلمة التوحيد لا إله إِلَّا الله {سَوَاء} نصف إنصاف بيننا وبينكم, عادل, سواء نصف وعدل, ما هي كلمة النصف والعدل؟ {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} هذه كلمة السواء {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون}[آل عمران/64].
القارئ
وتفسيرها: الذي يوضحها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَأَىء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف: 26 - 28].
شرح الشيخ
يعني إبراهيم جعلها كلمة باقية في عقبه, عقبه هُوَ ذريته, وعقبه ذريته أنبياء, رزقه الله إسماعيل نبي, ابنان, وإسحاق نبي, قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}[العنكبوت/27]. كل نبي بعث بعد إبراهيم فَهُوَ من سلالته, وكل كتاب نزل فَهُوَ عَلَى واحد من ذريته الأنبياء, عَلَى نَبِيّنا وعليه أفضل الصَّلَاة والسلام.
القارئ
وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 64].
شرح الشيخ
هذا الَّذِي يفسر كلمة التوحيد يفسرها هاتان الآيات.
القارئ
ودليل شهادة أن محمدًا رسول الله: قوله تعالى: {لَقَدْ جَآءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 128].
شرح الشيخ
هذا الدَّلِيل الثالث أن محمد رسول الله, قوله تعالى: {لَقَدْ جَآءكُمْ} والخطاب لهذه الأمة {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} يعني من جنسكم من بني آدم ليس من جنسًا آخر, ومن العرب أَيْضًا {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} يعني يشق عليه ما يشق عليكم, يشق عليه مايشق عَلَى أمته, فلذلك هُوَ رؤوف رحيم بأمته عليه الصلاة والسلام {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} يعني حريص عَلَى هدايتكم, وإيصال النفع الدنيوي والأخروي إليكم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} هذا وصفه عليه الصلاة والسلام, كلمة رؤوف رحيم من الأسماء المشتركة, فالله من أسمائه الرؤوف ومن أسمائه الرحيم, والمخلوق يسمى رؤوف ويسمى رحيم, وكلٌ له ما يلق به, فالخالق له الكمال والمخلوق له ما يليق به, والله تعالى رؤوف رحيم, ومحمد رؤوف رحيم؛ لِأَنَّ أسماء الله قسمان:
1.قسم مشترك.
2.وقسم خاص بالله.
الخاص بالله مثل: الله الرحمن, مالك الملك, خالق الخلق, رب العالمين, ذو الجلال والإكرام, القابض الباسط, الخافض الرافع.
والأسماء المشتركة, مثل: الرحيم, والعزيز, والغفور, والرؤوف والرحيم, والعلي, أسماء كثيرة, والملك.
القارئ
ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع.
شرح الشيخ
هذا تفسير شهادة أن محمد رسول الله, يعني ما يشهد الإنسان أن محمد رسول الله باللسان فقط, لا, تقول أشهد أن محمد رسول الله وتطيعه في أوامره, قال: «أعفوا الشوارب وأرخوا اللحى» تطيعه, تعفي لحيتك تأخذ من شاربك, قال لك: لا تقرب الربا, فلا تتعامل بالربا.
طاعته في الأوامر وتصديقه في أخباره, إذا أخبر عن أشراط الساعة وعن القيامة وعن الرسل تصدقه في أخباره, وتجتنب ما نهى عنه, نهى عن الربا, نهى عن الغش, نهى عن عقوق الوالدين, نهى عن قطيعة الرحم, تجتنب ما نهى عنه.
ولا تتعبد إِلى الله إِلَّا بما شرعه الرَّسُوْل عليه الصلاة والسلام, هذا تفسير شهادة أن محمد رسول الله, يعني ما يكفي كون الإنسان يقول: أشهد أن محمد رسول الله باللسان فقط لا؛ بَلْ تطيع الرَّسُوْل في أوامره, وتصدقه في أخباره وتجتنب نواهيه, وتعبد الله بما شرعه, هذا هُوَ الَّذِي يشهد أن محمد رسول الله حقيقة, الَّذِي يشهد أن محمد رسول الله حقيقة هُوَ الَّذِي يطيع الرَّسُوْل صلى الله عليه وسلم في أوامره, ويصدقه في إخباره, ويجتنب نواهيه, ويعبد الله بما شرعه.
أَمَّا شخص يدعي أَنَّهُ يشهد أن محمد رسول الله ولكنه خالف أمر الرَّسُوْل عليه الصلاة والسلام ولا يصدقه في أخباره, ولا يجتنب نواهيه ولا يعبد الله بما شرعه هذا أفعاله تنقض أقواله.
القارئ
ودليل الصلاة، والزكاة، وتفسير التوحيد: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5].
شرح الشيخ
الآن المصنف ذكر دليل للشهادتين شهادة ألا إله إِلَّا الله وأشهد أن محمد رسول الله, سيذكر دليل للصلاة والزَّكَاة وتفسير التوحيد, دليل الصَّلَاة: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ } هذا تفسير التوحيد {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} هذا دليل الصَّلَاة {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ولم يقل: ويصلوا, قال: ويقيموا, فرق بين إقامة الصَّلَاة وبين فعل الصَّلَاة, فعل الصَّلَاة قد يصلي الإنسان ولكن هذه الصَّلَاة الَّتِي صلاها صورية, صلاة صورية, هُوَ ركوع وسجود ولكن ليس فيها حضور قلب, وليس فيها إقامة للأركان والشروط, إقامة الصَّلَاة هُوَ إقامتها ظاهرًا وباطنًا, باطنًا بالإخلاص لله وحضور القلب, وظاهرًا بالإتيان بأركانها وشروطها ووضوئها, ومستحباتها, هذا إقامة الصَّلَاة.
أَمَّا الَّذِي يفعل الصَّلَاة بدون إقامة فهذا لا تنفعه, ولهذا توعد الله المصلين الذين يسهون عن الصَّلَاة, {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون}[الماعون/4-5].
فهم ما أقاموا الصَّلَاة, ولم يقل: فويلٌ للمقيمين الصَّلَاة, قال: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون}[الماعون/4-5].
تصلي مع السهو عن الصَّلَاة, بتأخيرها عن وقتها أو ترك بَعْض الواجبات, فدليل الصَّلَاة {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} ودليل الزكاة {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} وهذه الآية مجملة مفسرة في النصوص الأخرى, يعني يؤتوا الزَّكَاة لمستحقيها, الأصناف الثمانية عن طيب نفس, ما هي الأصناف الثمانية الَّتِي يصرف فيها الزَّكَاة؟
الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل, الله تعالى قسمها من فوق سبع سموات, ما وكل ذلك إِلَى أحد, لا إِلَى نبي ولا غيره, قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم}[التوبة/60].
معنى إيتاء الزَّكَاة يعني إيتاؤها لمستحقيها عن طيب نفس, وشرح هذه الأصناف الثمانية هذا موجود في كتب الفقه, يعني شرح الفقراء والمساكين والعامين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب هذا يحتاج إِلَى وقت واسع.
القارئ
ودليل الصيام: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 183].
شرح الشيخ
هذا دليل الصيام وهو الركن الرابع من أركان الإسلام, دليله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} كتب بمعنى فرض, فرض عليكم الصيام كما فرض عَلَى الذين من قبلكم لعلكم تتقون, بين الله الحكمة من الصيام, ولعل ليست للترجي؛ بَلْ للتعليل؛ لِأَنَّ الله لا يرجوا أحد ولا يخاف من أحد, والمعنى: كتب عليكم الصيام لكي تتقوا.
لعل هنا للتعليل لكي تتقوا, بين الله الحكمة من الصيام وهي أَنَّهُ وسيلة عظمى لتقواه سبحانه, نادى سبحانه باسم الإيمان{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وهذا فيه أَيْضًا تشجيع لهم وإعانة؛ لِأَنَّ الصيام ليس مفروض عليكم فقط؛ بَلْ عَلَى الأمم السابقة, وقاموا به وأدوه فأنتم مثلهم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} يعني فرض عليكم كما فرض عَلَى الذين من قبلكم, بين الله الحكمة قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكي تتقوا الله, فالصيام وسيلة لتقوى الله U, وتقوى الله أصل التقوى التوحيد, توحيد الله وأداء الواجبات وترك المحرمات, فالصيام وسيلة لتقوى الله U.
القارئ
ودليل الحج: قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97].
شرح الشيخ
هذا دليل الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج, قول الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ولله عَلَى النَّاس تشعر بالوجوب, والمعنى أوجب الله عَلَى النَّاس حج البيت, ولله عَلَى النَّاس يعني أوجب الله عَلَى النَّاس حج البيت, ثُمَّ قال سبحانه: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ذكر الله سبحانه الاستطاعة.
والاستطاعة نوعان:
1.استطاعة بالمال.
2.واستطاعة بالبدن.
استطاعة بالمال بأن يكون عنده مال يحج به يكفيه إيابًا وذهابًا, زائدًا عن نفقة أهله وأولاده, واستطاعة بدنية بحيث يستطيع الثبات عَلَى المركوب, يستطيع يمشي ويركب, ويؤدي المشاعر بنفسه عَلَى قديمه.
أَمَّا إذا فقد إحدى الاستطاعتين فقد مثلاً الاستطاعة البدنية, ما يستطيع أن يركب لكونه كبير السن, أو مريض مرض لا يرجى برؤه, ما يستطيع الثبات عَلَى المركوب, فهذا إن كان عنده مال وجب أن ينيب من يحج عنه, وإن لم يكن عنده مال فلا حج عليه, ودليل ذلك المرأة الخثعمية, ما ثبت في الصحيح «أن امرأةً جاءت إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع, فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله عَلَى عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت عَلَى الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حجي عن أبيك».
أَمَّا إذا كان قادر بالبدن يستطيع الذهاب نشيط قوي يستطيع أن يقفز لكن ما عنده مال, ما يجب عليه الحج حَتَّى يجد مال, الاستطاعة كم نوع قلنا؟ نوعان:
1.استطاعة بالبدن.
2.واستطاعة بالمال.
إذا فقد الاستطاعة بالمال لا يجب عليه الحج , وإذا فقد الاستطاعة بالبدن وعنده الاستطاعة بالمال يجب عليه أن ينيب من يحج عنه بالمال, هذا شرط من شروط الحج وللحج شروط قبل ذلك, للحج شروط من شروطه الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والقدرة أو الاستطاعة خمسة شروط.
الإسلام وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد, وهو أن يوحدالإنسان ربه ويدخل في الإسلام ويشهد ألا إله إِلَّا الله وأن محمد رسول الله, الكافر لا يجب عليه الحج, بمعنى أَنَّهُ لا يصح منه الحج في حال كفره حَتَّى يدخل في الإسلام, ثُمَّ يؤمر بالصلاة, ثُمَّ بالزكاة, ثُمَّ بالصيام, ثُمَّ بالحج.
فلو حج في حال كفره لا يصح منه الحج؛ لَابُدَّ أن يسلم أولًا.
ثانيًا: البلوغ, فالصبي الَّذِي لم يبلغ لا يجب عليه الحج؛ لِأَنَّهُ مرفوع عنه القلم حَتَّى يبلغ.
الثالث: العقل, إذا لم يكن لديه عقل فاقد العقد مجنون أو مخرف بلغ سن الخرف لا يجب عليه الحج, مرفوع عنه القلم, إِلَّا إذا كان قبل الخرف قادر عَلَى الحج فإنه يحج عنه ويتساهل.
الرابع: تمام الحرية, فالعبد الَّذِي يباع ويشترى لا يجب عليه الحج, وإذا سمح له سيده بالحج صح الحج, لكن يكون نافلة, وإذا أعته سديه حج حجة أخرى, كما أن الصبي الَّذِي من دون البلوغ يصح منه الحج, إذا سمح له وليه أن يحج يحج, ولكن إذا بلغ يحج حجة الإسلام, فالصبي والعبد كلٌ منهما لو حج صح حجه, ولكنه لا يجزئ عن حجة الإسلام.
فيجب عليه الحج بعد البلوغ وبعد العتق, وأما الاستطاعة فهي نوعان:
1.استطاعة بالبدن.
2.واستطاعة بالمال.
خمسة شروط للحج: الإسلام, والبلوغ, العقل, والحرية, والاستطاعة بنوعيها, الاستطاعة المالية, والاستطاعة البدنية.
القارئ
المرتبة الثانية: الإيمان وهو: بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إلاه إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.
شرح الشيخ
هذه المرتبة الثانية من مراتب الإسلام, مرتبة الإيمان, قلنا: الإسلام ثلاث مراتب:
1.الإسلام.
2.الإيمان.
3.الإحسان.
وعرفنا مراتب الإسلام وأن له خمسة مراتب الشهادتان والصَّلَاة والزَّكَاة والصوم والحج, وعرفنا الأدلة.
المرتبة الثانية: مرتبة الإيمان, والإيمان يقول المؤلف: (بضع وسبعون شعبة, فأعلاها قول لا إله إِلَّا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ).
يشير إِلَى الحديث, الحديث الصحيح الَّذِي رواه البخاري ورواه مسلم أَيْضًا, رواية مسلم: «إيمان بضعٌ وسبعون شعبة» ورواية البخاري: «الإيمان بضعٌ وستون شعبة» والبضع من ثلاثة إِلَى تسعة, أعلى هذه الشعب كلمة التوحيد لا إله إِلَّا الله, وأقلها إماطة الأذى عن الطريق, أعلاها أعلى شعب الإيمان كم؟ كلمة التوحيد لا إله إِلَّا الله, وأقل شعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق, تجلس في الطريق عظم ولا شوك ولا زجاج تبعده عن الطريق, هذا من الإيمان, أقل شعب الإيمان وأعلاه كلمة التوحيد لا إله إِلَّا الله, وبين الأعلى والأدنى شعب كثيرة, مثلاً: الصَّلَاة شعبة, والزَّكَاة شعبة, والصوم شعبة, والحج شعبة, والأمر بالمعروف شعبة, والنهي عن المنكر شعبة, والجهاد في سبيل الله شعبة, وبر الوالدين شعبة, وصلة الأرحام شعبة, والإحسان إِلَى النَّاس شعبة, والإحسان إِلَى البهائم شعبة, والإحسان إِلَى الجار شعبة, كف الأذى عن النَّاس شعبة, شعب الإيمان كثيرة.
والعلماء تتبعوا هذه الشعب, كلمة بضع من ثلاثة إِلَى تسعة, بضعٌ وسبعون يحتمل ثلاثة وسبعين أو أربعة وسبعين أو خمسة أو ست أو سبع إِلَى التسع.
والإمام البيهقي رحمه الله تتبع هذه الشعب من النصوص, وألف كتاب سماه " شعب الإيمان " وذكر فيه وأوصل الشعب إِلَى أعلى البضع, أوصلها إِلَى تسع وسبعين شعبة, تتبعها من النصوص, البيهقي رحمه الله تتبع الشعب من النصوص وأوصلها إِلَى تسعٍ وسبعين شعبة, ومعروف كتاب البيهقي " شعب الإيمان " معروف ومطبوع ومحقق.
تسمعون المحدثون يقولون: رواه البيهقي في شعب الإيمان, رواية البخاري «بضع وستون شعبة» ورواية مسلم: «بضع وسبعون» فأيهما أرجح؟
من العلماء من رجح رواية البخاري ومنهم من رجح رواية مسلم؛ لِأَنَّ فيها زيادة, وهذا فيه دليل عَلَى أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان, إذا كان الإيمان كم شعبة؟ تسع وسبعين شعبة, ففيه رد عَلَى المرجئة الذين يقولون: الأعمال ليست من الإيمان, المرجئة يقولون: الإيمان في القلب, والنطق باللسان فقط, والأعمال ليست من الإيمان, وهذا مذهب باطل, مذهب المرجئة مذهب فاسد.
فالنصوص من الكتاب والسنة تدل عَلَى أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان, من ذلك هذا الحديث ردًا عَلَى المرجئة «الإيمان بضع وسبعون شعبة» فأعلاها أعلى الشعب كلمة التوحيد لا إله إِلَّا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياة شعبة من الإيمان.
فذكر شعبة قولية وهي شعبة الشهادة, وشعبة فعلية وهي إماطة الأذى عن الطريق, وشعبة قلبية وهي الحياء, إذًا الإيمان يدخل فيه أعمال القلوب وأقوال اللسان وأعمال الجوارح.
ومن الأدلة عَلَى أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون (2)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون (3) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم}[الأنفال/2-4].
فأخبر الله من هم المؤمنون, ذكر أعمال قلبية وأعمال جوارح {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وجل القلب عند ذكر الله, هذه شعبة قلبية, وزيادة الإيمان عند تلاوة الْقُرْآن شعبة قلبية {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون} شعبة قولية التوكل عَلَى الله {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} شعبة فعلية {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} شعبة فعلية{أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}.
وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون}[الحجرات/15].
هم الصادقون في إيمانهم آمنوا بالله ولم يشكوا وجاهدوا في سبيل الله فهؤلاء هم المؤمنون.
ومن الأدلة عَلَى دخول الأعمال في مسمى الإيمان الحديث المشهور, حديث وفد بني عبد القيس, وفد بني عبد القيس يسكنون في المنطقة الشرقية في الأحساء, وكانوا أسلموا قديمًا؛ حَتَّى إن أول جمعة جمعت بعد مسجد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جامع بني عبد القيس (... 29:01) في الأحساء, جاءوا وأسلموا قديمًا, وجاءوا إِلَى الرَّسُوْل صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله إننا ما نستطيع أن نأتيك يحول بيننا الكفار, إِلَّا في الشهر الحرام, في الأشهر الحرم كانوا في الجاهلية يوقفون الحرب, ذو القعدة وحرم ورجب, قالوا: لا نستطيع أن نأتيك من أجل الكفار إِلَّا في الشهر الحرام, فأمرنا بأمر فصل نعمل به ونبلغ من وراءنا, قال: «أؤمركم بالإيمان بالله وحده, أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة ألا إله إِلَّا الله وأن محمد رسول الله, وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وصوم رمضان وأنت تؤدوا خمس ما غنمتم» رواه البخاري في الصحيح.
فسر الإيمان بأي شيء؟ بالشهادتين والصَّلَاة والزَّكَاة وصوم رمضان وأداء الخمس, فهذه نصوص قوية تبطل مذهب المرجئة الذين يرون أن الإيمان مجرد تصديق القلب, الإيمان قول باللسان.
مذهب المرجئة انتشر الآن في المكان وفي الشبكات وفي كل مكان, يقولون: إن الإيمان هُوَ التصديق بالقلب, وبعضهم يقول: الإقرار باللسان, والمرجئة طوائف, أخبث المرجئة الجهمية الذين يرون أن الإيمان معرفة الرب بالقلب, والكفر جهل الرب بالقلب, وهذا مذهب جهم بن صفوان وهو مذهب كفري, أفسد ما قيل في الإيمان: الإيمان معرفة الرب بالقلب, والكفر جهل الرب بالقلب, قال الجهم: فإن عرف ربه بقلبه فَهُوَ مؤمن, ولو فعل جميع نواقض الإسلام, لو هدم المساجد وقتل الصالحين وقتل الأنبياء وهو يعرف ربه يكون مؤمن, هذا أفسد ما قيل, مذهب كفري, مذهب الجهم وأبو الحسين الصالحي.
وعَلَى هذا المذهب يكون إبليس مؤمن؛ لِأَنَّهُ عرف ربه بقلبه, قال: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون}[الحجر/36].
وعَلَى هذا يكون فرعون مؤمن, قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}[النمل/14].
ويكون اليهود مؤمنون {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون}[البقرة/146].
وأبو طالب مؤمن: ولقد علمت .. من خير أديان البرية دينًا, فهذا المذهب مذهب فاسد, حَتَّى إن العلماء كفروا الجهم بهذا التعريف, قالوا: هُوَ كافر بتعريفه؛ لِأَنَّهُ أجهل النَّاس بربه.
المذهب الثاني من المرجئة مذهب الكرامية الذين يقولون: الإيمان هُوَ النطق باللسان, فإذا نطق بالشهادتين فَهُوَ مؤمن, ولو ما صلى ولو ما صام, الإيمان هُوَ النطق باللسان, قالوا: إن كان مصدقًا بقلبه هذا لا يعذب, وإن كان مكذبًا بقلبه فيخلد في النَّار, فإذا نطق بلسانه كان كامل الإيمان, وإذا كذب بقلبه كان مخلدًا في النَّار, فيجمعون بين قولين متناقضين, يلزم معنى قولهم أن المؤمن كامل الإيمان يخلد في النَّار, هكذا قالوا, قالوا: النطق بالشهادتين فَهُوَ مؤمن كامل الإيمان, وإذا كان مكذبًا خلد في النَّار, هذا مذهب الكرامية المذهب الثاني.
المذهب الثالث: مذهب المَاتُرِيْديَّة والأشعرية, وهو رواية عن الإمام أبو حنيفة أن الإيمان هُوَ التصديق بالقلب فقط, ولو لم ينطق بلسانه, ولو لم يعمل بجوارحه, إذا صدق فَهُوَ مؤمن, وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: يعصر التفريق بين التصديق والمعرفة, إذا كانت تصديق مجرد والمعرفة, ما في فرق بينه وبين مذهب الجهم, وهذه رواية عن الإمام أبي حنيفة, قالوا: الإيمان هُوَ التصديق, وقول اللسان مطلوب لكنه ليس من الإيمان ركن زائد عن الإيمان.
المذهب الرابع: مذهب مرجئة الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه, الإيمان شيئان, الإقرار باللسان والتصديق بالقلب, والأعمال مطلوبة ولكن ليست من الإيمان, طائفة من أهل السنة هم, الصَّلَاة مطلوبة والزَّكَاة مطلوبة, والصوم مطلوب, والحج مطلوب, والواجبات واجبات والمحرمات محرمات, لكن ما نسميها إيمان, تسموها إيش؟ قالوا: نسميها بر, نسميها تقوى.
فالإيمان هُوَ الإقرار باللسان والتصديق بالقلب والأعمال مطلوبة, الواجبات واجبات, ومن فعل الواجبات أثابه الله, ومن فعل الكبيرة يعاقب ومستحق للوعيد, لكن ما نسميه إيمان, نسميه بر, نسميه تقوى, هذه أربعة مذاهب المرجئة, لكن المذهب الرابع طائفة من أهل السنة أبو حنيفة وأصحابه, هُوَ الَّذِي عليه جماهير أصحابه.
وأما الَّذِي عليه جماهير أهل السنة الإيمان الإمام مالك والشافعي وأحمد وجماهير أهل السنة والصَّحَابَة والتابعون والأئمة والعلماء أن الإيمان مكون من أربعة أشياء:
الأول: تصديق القلب وهو الإقرار والاعتراف.
الثاني: عمل القلب, كالمحبة والخوف والخشية والرغبة والرهبة.
الثالث: النطق باللسان.
الرابع: العمل بالجوارح كالصلاة والصيام كلها داخلة في مسمى الإيمان.
ولهذا يقول أهل السنة: الإيمان قول باللسان, وتصديق الجنان يعني القلب, وعمل بالأركان يعني الجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, وقال بعضهم: الإيمان قولٌ وعمل, وبعضهم قال: الإيمان قول وعمل ونية, وقال بعضهم: الإيمان قول وعمل ونية وسنة.
فالعمل جزء من الإيمان, فمن قال: إن العمل خارج من الإيمان فَهُوَ من المرجئة, الَّذِي يكون يقول: إن العمل شرطٌ في الوجوب أو شرط في الكمال معناه أخرج العمل من الإيمان وهذا مذهب المرجئة, بَلْ نقول: العمل جزء من الإيمان ليس شرط, جزء من الإيمان, العمل جزء والنطق جزء, والتصديق جزء من الإيمان, وأعمال القلوب جزء كلها أجزاء, لا تتجزأ.
فالذي يقول: إن الإقرار باللسان ليس من الإيمان هذا من المرجئة, والَّذِي يقول: العمل ليس من الإيمان هذا من المرجئة, والَّذِي يقول: إن العمل شرط, شرط كمال وشرط صحة أخرجه من العمل هُوَ من المرجئة, وهذه النصوص الَّتِي سمعتم كلها تبطل مذهب المرجئة الفاسد.
القارئ
وأركانه ستة: كما في الحديث: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
شرح الشيخ
هذه أركان الإيمان ستة, أن تؤمن بالله وملائكته:
الركن الأول: الإيمان بالله.
الركن الثاني: الإيمان بالملائكة.
الركن الثالث: الإيمان بالكتب المنزلة.
الركن الرابع: الإيمان بالرسل.
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر.
الركن السادس: الإيمان بالقدر.
وهذه الأركان شرحها هُوَ الدين كله, والإسلام كله, شرح هذه الأصول الستة هُوَ الدين كله, ولهذا جميع المؤلفات والنصوص والأحاديث كلها في بيان هذه الأصول, بين هذه الأصول الستة, فالإيمان بالله هُوَ الإيمان بوجوده أَنَّهُ موجود, والإيمان بربوبيته, والإيمان بأسمائه وصفاته, والإيمان بإلوهيته واستحقاقه للعبادة.
توحيد الله في ربوبيته وفي إلوهيته وفي أسمائه وصفاته, والإيمان بالملائكة, الإيمان بشرفهم ووظائفهم, و(... 37:53) وأنهم مخلوقون من نور, وأن لهم أعمال ووظائف, والإيمان بشرفهم ومكانتهم عند الله.
ومن قال: إنهم أشخاص وأشكال كالفلاسفة فَهُوَ كافر, الفلاسفة المتأخرون ما آمنوا بالله, ما أثبتوا أسماء الله وصفاته, ولا آمنوا بالملائكة, قالوا: الملائكة عبارة عن أشكال أشبه نورانية, والإيمان بالكتب المنزلة الإيمان بما أخبر الله به من كتابه من التوراة والإنجيل والْقُرْآن وصحف إبراهيم وصحف موسى, والإيمان بأن لله كتب وأسماء لا يعلم عددها إِلَّا الله.
والفلاسفة الملاحدة لا يؤمون بالكتب, يقولون: الكتب عبارة عن فيض, يفيض من العقل الفعال عَلَى النفس الفاضلة الزكية, فيض يفيض من العقل الفعال جبريل عَلَى النفس الفاضلة الزكية نفس النَّبِيّ.
والرسل الإيمان بهم إجمالًأ وتفصيلاً, تفصيلاً فيمن سمى الله منهم في الْقُرْآن, وإجمالًا فيمن لم يسم منهم, الإيمان بأن الرَّسُوْل اختارهم واصطفاهم لإيقاظ النَّاس, وتبليغهم دين الله, والفلاسفة يقولون: النبوة ليست هبة من الله؛ بَلْ هي صنعة من الصنعات وحرفة وسياسة من السياسات كل واحد يمكن يصل إليها, بالمران والتجربة وطول الخبرة يصل إِلَى النبوة, فهؤلاء كفرة فقالوا: النَّبِيّ رجل عبقري عنده صفات متميزة, قوة الإدراك وقوة التخيل, وقوة التخييل, هؤلاء كفرة.
والإيمان باليوم الآخر الإيمان بالبعث والجزاء والحساب والصراط والميزان والكتب والْجَنَّة والنَّار, وقبل ذلك الإيمان بالبرزخ عذاب القبر ونعيمه, وضغطة القبر, والإيمان بمنكر ونكير, والفلاسفة الملاحدة لا يؤمنون باليوم الآخر, يقولون: ما في بعث ولا جزاء ولا نشور ولا جنة ولا نار, وإنما هذا الرجل النَّبِيّ العبقري يكذب للناس, يكذب لهم حَتَّى يسوسهم, ويتعايسوا بسلام وإِلَّا ما في جنة ولا نار, لكن يكذب لهم, قالوا: فرق بين من كذب لك ومن كذب عليك, فالأنبياء كذبوا للناس ولم يكذبوا عَلَى النَّاس, وكذبوا للناس من أجل مصلحتهم, إذا سمع أن في جنة ونار وحساب صار كل واحد يقف عند حده ولا يعتدي أحد, وإِلَّا ما في جنة ولا نار, هم كفرة.
كذلك ما آمنوا بالقدر, القدر له أربع مراتب: العلم والكتابة والإرادة والمشيئة والخلق والإيجاد, أن الله علم الأشياء وكتبها وأراد كل شيء وقوعه في الوقت المحدد وخلق كل شيء, هذه أركان الإيمان الستة, وقلت لكم: شرحها يحتاج إِلَى إيش إِلَى مؤلفات ومجلدات.
القارئ
والدليل على هذه الأركان الستة: قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَ-كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177].
ودليل القدر: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
شرح الشيخ
دليل هذه الأركان الستة آية البر, آية البر وحديث جبريل, آية البر وهو قوله تعالى: {وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} كم أصل؟ خمسة أصول, {وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ} هذا الأصل الأول {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} هذا الخامس {وَالْمَلآئِكَةِ} هذا الثاني {وَالْكِتَابِ} هذا الثالث {وَالنَّبِيِّينَ} الرابع, بقي الخامس وهو قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر}[القمر/49].
ودليل القدر: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
هذا دليل الركن السادس, ودليل هذه الأركان الستة حديث جبريل كما سبق, لما سأل عن الإيمان قال:الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره, إذًا عندنا آية البر مع قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
وعندنا حديث جبريل وكذلك قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير}[البقرة/285].
القارئ
المرتبة الثالثة: الإحسان وله ركن واحد. كما في الحديث: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
شرح الشيخ
الإحسان هذا المرتبة الثالثة من مراتب الإسلام, سبق أن الإسلام ثلاث مراتب: الإسلام, ثُمَّ الإيمان, ثُمَّ الإحسان.
والإسلام كم ركن؟ خمسة أركان, والإيمان كم ركن؟ ستة أركان, والإحسان ركن واحد, لكن واحد لكنه عَلَى مرتبتين:
الرتبة الأولى: وهو أن تعبد الله عَلَى المشاهدة, المرتبة الأولى وهي الأكمل أن تعبد الله كأنك تراه, تعبد الله عن المشاهدة, فإن ضعفت عن هذه المرتبة تتنقل إِلَى المرتبة الَّتِي بعدها.
المرتبة الثانية: فإن لم تكن تراه فإنه يراك, تعبد الله عَلَى أَنَّهُ يراك.
المرتبة الأولى أن تعبد الله عَلَى أنك تراه, والمرتبة الثانية تعبد الله عَلَى أَنَّهُ يراك, أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
القارئ
والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتَّقَوا وَّالّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}[النحل:128]. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217 - 220].
شرح الشيخ
نعم وقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتَّقَوا وَّالّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} وهذه المعية معية خاصة, من صفات الرب المعية وهي نوعان:
معية عامة تكون للمؤمن والكافر.
فالله معهم باطلاعه وإحاطته ونفوذ قدرته ومشيئته, وهذه تأتي في سياق المحاسبة والموجزات والتخويف, لقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير}[الحديد/4].
والنوع الثاني من المعية المعية الخاصة, هي خاصة بالمؤمنين والأنبياء, لقوله تعالى عن موسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه/46]. هذه معية خاصة {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}[النحل/128].
هُوَ مع المتقين مع المحسنين{إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}[البقرة/153]. فَهُوَ معهم بعونه وتأييده وتسديده وهو فوق العرش سبحانه وتعالى, وهو مع المؤمن والكافر بإحاطته واطلاعه وهو فوق العرش سبحانه وتعالى{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}[النحل/128].
وقوله تعالى في سورة الشعراء: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم}[الشعراء/218].
الشاهد: يراك, يعني تعبد الله وهو يراك{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}[الشعراء/218-220].
القارئ
وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}[يونس: 61].
شرح الشيخ
هذا الدَّلِيل الثالث من الأدلة عَلَى مرتبة الإحسان.
الدَّلِيل الأول: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون}[النحل/128].
الدَّلِيل الثاني: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم}[الشعراء/218].
الدَّلِيل الثالث: قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ} أي شأن من شؤونك {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين }[يونس: 61] .
هذا الإحسان{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} هذا الشاهد إِلَّا كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه, فالله هُوَ شاهدك عَلَى أي عمل تعمله, أي شأن من شئونك, سواء قرأت قرآن أو تعمل أي عمل فالله شاهد عليك {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} سبحانه وتعالى, فهذه مرتبة عظيمة مرتبة الإحسان.
القارئ
والدليل من السنة: حديث جبريل المشهور: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حَتَّى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: أخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: أخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: أخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: فمضى، فلبثنا مليًا، ثُمَّ قال لي: يا عمر أتدرون من السائل؟. قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم».
شرح الشيخ
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيح مطولًا من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه, ورواه البخاري من حديث أبي هريرة مختصرًا, وفيه بيان وهو دليل لأركان الإسلام وأركان الإيمان, وأركان الإحسان, فإنه سأل عن الإسلام, فذكر الأركان الخمسة, فقال: صدقت, فتعجب الصحابة, كيف يسأله ويصدق, هذا سؤال العارف, وجبريل أرسله الله يسأل حَتَّى يعلم النَّاس, وفي رواية أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال للناس: «سلوني, سلوني» فلم يسألوه, فأرسل الله جبريل يسأل, فجاء في صورة رجل رآه الصَّحَابَة, إذًا الملك تشكل تصور في صورة رجل رآـه الصَّحَابَة, شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر, وهذا غريب في ذلك الزمان, الأسفار كانت في ذلك الزمان عَلَى الإبل واللي يأتي من السفر ثيابه متسخة, ما تكون ثيابه جميلة نظيفة, وهذا رجل ليس من أهل البلد وجاء ثيابه نظيفة وشعره أَيْضًا كذلك نظيف فتعجبوا, شديد بياض الثياب, شديد سواد الشعر, من أين جاء هذا الرجل؟ مسافر أين الشعث؟ أين الغبار؟ كيف ثيابه نظيفة, الأسفار في ذلك الوقت متعبة, ما في سيارات ولا طائرات ولا مراكب, عَلَى الإبل أيام, الرَّسُوْل عليه الصلاة والسلام لما خرج من مكة للحج في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة, وصل مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة, تسعة أيام في الطريق.
فالذي مثل هذا تكون ثيابه نظيفة؟ ما تكون ثيابه نظيفة, ولا في حاجة عندهم ولا شيء, ولا في الطرق غسالين ولا كذا, ولا في بقالات ولا في غسالين يغسلون مثل الآن, تعجب الصَّحَابَة كيف الرجل المسافر يأتي شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر, ولا يعرف, ثُمَّ لما سأل قال: صدقت, سؤال العارف, صدقت إذًا هُوَ عارف, ولما سأله عن الإيمان قال: صدقت, تعجبت الصَّحَابَة.
فتعجبوا, قالوا: «فعجبنا له يسأله ويصدقه» عجبنا له يسأله ويصدقه, سأل عن الإيمان أخبره بأركان الإيمان الستة, سأل عن الإحسان أخبره بمرتبة أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك, ثُمَّ قال: «أخبرني عن الساعة» فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: أنا وأنت سواء علمنا واحد, ما المسئول بأعلم من السائل, أنت السائل وأنا المسئول أنا ليس عندي علم زيادة عَلَى علمك أنت, علمي وعلمك سواء, الساعة لا يعلم وقت قيامها إِلَّا الله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي}[الأعراف/187].
قال: أخبرني عن أماراتها العلامات, ذكر من العلامات قال: «أن تلد الأمة ربتها» وفي لفظ: «أنت تلد الأمة ربها» قيل: المعنى أن الملوك يتسرون الإيماء, يتسرون الإيمان فإذا تسرى الملك الأمة ولدت له ابنًا فصار سيدًا عَلَى أمه؛ لِأَنَّهُ ابن الملك, فالأمة تلد سيدها, تلد الأمة ربتها, وإذا ولدت أثنى فهي سيدة عَلَى أمها؛ لِأَنَّهَا بنت الملك «أن تلد الأمة ربتها» وفي لفظ: «أنت تلد الأمة ربها» يعني ولدًا يكون سيدًا لها؛ لِأَنَّ ابن الملك ملك, وهذا من أشراط الساعة, أشراط الساعة كثيرة.
«وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» أن ترى الحفاة يعني أهل البادية الذين لا نعال عليهم في الغالب, العراة لا ثياب عليهم خرقة ثيابهم, رعاء الشاء الذين يرعون الغنم يتطاولون في البنيان, يتحضرون في البدن ويبنون البيانات ويتطالون فيها, بدل ما كانوا في البرية يرعون الغنم وكانوا حفاة عراة سكنوا في المدن فترفهوا وتنعموا وصاروا يبنون العمارات والبيوت والأدوار.
« وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان, قال عمر: فلبثنا مليًا» يعني مدة, وفي لفظ: قال: «ردوا السائل» فذهبوا فلم يجدوا أحدًا, لما راح ما شافه أحد, جبريل هذا ملك من الملائكة, فقال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» وفي لفظ: «أمر دينكم» وهذا هُوَ الشاهد من الحديث, سمى الإسلام والإيمان والإحسان دين, فدل عَلَى أن الدين له ثلاثة مراتب.
يقول: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» فديننا له ثلاثة مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان.
والساعة لها أشراط كثيرة غير هذه جاءت في أحاديث أخرى, لكن هذه من أشراطها, وفيه دليل عَلَى أن الملك يتشكل بصوت آدمي ويراه النَّاس وكان جبريل يأتي النَّبِيّ في صورة دحية الكلبي وكان رجلاً جميلاً, ورآه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في صورته الَّتِي خلق عليها له ستمائة جناح مرتين, مرة في الأرض عند النبوة في غار حراء, والمرة الثانية في السَّمَاء ليلة المعراج, ما هي الصورة الَّتِي خلق عليها؟ له ستمائة جناح, كل جناح يملأ ما بين السَّمَاء والأرض, هذا صورته الَّتِي خلق عليها, كم رآه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى هذه الصورة؟
مرتين, مرة في الأرض لما نبأ, ولهذا غط النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم غطات, قال: اقرأ, قال: ما أنا بقارئ, حَتَّى ذهب إِلَى زوجته خديجة وقال: إِنَّهُ يرتجف من رؤية الملك, وقال: خفت عَلَى عقلي, فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا, رأى صورة عظيمة بين السَّمَاء والأرض, فرعب رعبًا شديد, ثُمَّ أَيْضًا قال له: اقرأ, فقال: ما أنا بقارئ, أنا أمي ما تعلمت القراءة, ليس امتناع, يعني يقول: ليست قارئ ما تعلمت القراءة, فأخذه وغطه حَتَّى بلغ منه الجهد, فقال: اقرأ, قال: ما أنا بقارئ, يعني أنا أمي ما تعلمت القراءة, كيف أقرأ وأنا ما تعلمت؟ فغطه المرة الثانية والثالثة, قال العلماء: هذا للتوطئة, هذا تحمل للدعوة والنبوة والرسالة, يتهيأ كما أن راعي الغني الأنبياء يرعون الغنم أولًا حَتَّى ينتقلوا من سياسة الغنم إِلَى سياسة الأمم والدول «ما من نبي إِلَّا رعى الغنم» في الحديث الصحيح «قالوا يا رسول الله وأنت؟ قال: وأنا, كنت أراعاها لأهل مكة عَلَى قراريط».
إذًا الملك يتشكل له صور متعددة, وجاء جبريل ومن معه إِلَى إبراهيم ولوط في شباب حسان ما عرفهم إبراهيم ولا عرفهم لوط حَتَّى أخبروهم بذلك.
القارئ
الأصل الثالث
معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيًا رسولًا, نبئ بـ {اقرأ}، وأرسل بـ {المدثر}، وبلده مكة.