بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصَّلَاة والسلام عَلَى أشرف الأنبياء والمرسلين.
أَمَّا بعد: ...
القارئ:
اعلم رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم: خوفًا منهم، ومداراة لهم ومداهنة؛ لدفع شرهم. فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين. هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك. فكيف إذا كان في دار منعة، واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال، ووالاهم وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود الشرك والقباب وأهلها، بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله. فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يستثنى من ذلك إلا المكره: وهو الذي يستولي عليه المشركون، فيقولون له: اكفر، أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك. أو يأخذونه، فيعذبونه حتى يوافقهم. فيجوز له الموافقة باللسان، مع طمأنينة القلب بالإيمان.
وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلا أنه يكفر, فكيف بمن أظهر الكفر خوفًا وطمعًا في الدنيا؟ ! وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك، بعون الله وتأييده.
شرح الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك عَلَى عبد الله ورسوله نَبِيّنا محمد, وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بعد: ...
فهذه الرسالة اسمها [حكم موالاة أهل الإشراك] للشيخ: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب, فَهُوَ حفيد الإمام المجدد, والحفيد ابن الابن, حفيد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب, سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله, وهو صاحب كتاب: تيسير العزيز الحميد, وهو صاحب كتاب: فتح المجيد, وهو من علماء أئمة الدعوة ومن أفاضلهم, قتل شابًا رميًا بالرصاص, رماه الجنود الأتراك بواسطة المصريين الذين قدموا إِلَى الدرعية, فقتلوه رحمه الله وهو شاب ابن ثلاث وثلاثين سنة رحمة الله عليه, ولكن الله أعطاه علمًا غزيرًا, ومنّ عليه بالإيمان والتقوى, مع كونه شابًا حصل علمًا غزيرًا, وألف المؤلفات العظيمة, وكان رحمه الله له عناية بالحديث؛ حَتَّى أَنَّهُ كان يقول رحمه الله: إني لأعلم رجال الحديث من رجال أهل الدرعية, يعني أنا برجال الحديث أكثر من رجال أهل الدرعية الذين يعيش بينهم رحمه الله.
هذه الرسالة سماها: [حكم موالاة أهل الإشراك] يعني أهل الشرك بالله عز وجل, وأصل الموالاة معناها المحبة والنصرة, المحبة والنصرة, موالاة أهل الإشراك يعني محبتهم ونصرتهم, ثُمَّ ينتج عن ذلك معاونتهم.
فما حكم موالاة أهل الإشراك؟ موالاة أهل الشرك, تولي أهل الإشراك, التولي هُوَ المحبة والنصرة, وهي ردة عند الإسلام والعياذ بالله, قال الله تعالى:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}[المائدة/51].
فنص الله تعالى عَلَى أن تولي الكفار ردة عن الإسلام, التولي مع محبتهم, محبة الكفار محبتهم لدينهم, ثُمَّ يتبع المحبة للدين النصرة والإعانة بالمال والسلاح والرأي, فمن أحب الكفار لدينهم فَهُوَ كافر مثلهم, أَمَّا الموالاة هي المعاشرة والمصادقة واتخاذ أخلاء يبوح إليهم بالإسرار, ويعاشرهم ويصادقهم من دون المؤمنين, فهذه كبيرة من كبائر الذنوب.
وقد يقال: إن الموالاة تنقسم إِلَى قسمين:
- موالاة بمعنى التولي هذه ردة.
- وموالاة بمعنى المعاشرة والمصادقة.
الموالاة الكبرى وهي التولي هذه ردة عن الإسلام, والموالاة الصغرى وهي المعاشرة والمصادقة وهذه كبيرة من كبائر الذنوب.
فالمؤلف رحمه الله يبين حكم الموالاة الكبرى وهي التولي, ويقول: إن تولي الكفار ردة عن الإسلام, ولكن هذا التولي أو هذه الموالاة تتفاوت, تولي الكفار وموالاة الكفار تتفاوت, بعضها أشد من بَعْض, والكفر يتفاوت والإيمان يتفاوت, الكافر الَّذِي فعل ناقضًا من نواقض الإسلام, الكافر عدو لله ورسوله, سواء كان يهوديًا أو نصرانيًا أو وثنيًا, ولكن الكفرة يتفاوتون.
فالكافر الَّذِي فعل الكفر وفعل الردة يعبد الأصنام والأوثان, يكون وثنيًا أو يهودي أو نصراني لا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهذا كافر, كافر حكمه كافر مخلد في النَّار, وهناك كافر أَيْضًا يهودي أو نصراني أو وثني مع كونه كافرًا يصد النَّاس عن الإيمان, ويؤذي المؤمنين ويفتنهم عن دينهم, ويحملهم عَلَى الكفر هذا أشد, أشد كفرًا وأشد عذابًا.
فالكافر الَّذِي لا يؤذي المؤمنين ولا يفتنهم عن دينهم ولا يصد النَّاس عن دين الله؛ هذا وإن كان كافر لكن كفره أخف, وعذابه أقل الكفر يتفاوت, والكافر الوثني أو اليهودي أو غيره لكنه يؤذي المؤمنين ويصدهم عن دين الله هذا أشد كفرًا وأغلظ كفرًا وأشد عذابًا, قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُون}[النحل/88].
فالمؤلف رحمه الله يبين أن موالاة الكفار أقسام بعضها أشد من بَعْض, موالاة الكفار أو تولي الكفار ردة, لكن موالاة الكفار بعضها أشد من بَعْض وإن كان كلها كفر, تولي الكفار ومحبة الكفار كفر, محبة الكفار لدينهم كفر, ولكنها تتفاوت, فهذا الكفر يتفاوت بعضه أغلظ من بَعْض, وبعضه أشد من بعضه.
فبين رحمه الله التفاوت في تولي الكفار وموالاتهم, فقال: (اعلم رحمك الله) سبق معنى العلم وهو حكم الذهن الجازم, اعلم يعني تيقن رحمك الله, قوله: (رحمك الله) هذا دعاء بالرحمة, رحمك الله خبر بمعنى الدعاء, والمعنى ارحمه يا الله, هذا من لطف المؤلف يعلمك ويدعو لك.
(اعلم رحمك الله) كما قال الإمام المجدد رحمه الله (اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله مخلصًا له الدين) .
(اعلم رحمك الله) تيقن رحمك الله (أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم: خوفًا منهم، ومداراة لهم ومداهنة؛ لدفع شرهم. فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين. هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك) إذًا هذا النوع الأول من الكفر, الإظهار, إظهار المسلم للمشركين الموافقة عَلَى دينهم, إذا أظهر لهم أَنَّهُ يوافقهم عَلَى دينهم فَهُوَ كافر مثلهم, ولو كان قصده الخوف, ولو كان بقصد الخوف, ولو كان الَّذِي دفعه إِلَى ذلك الخوف والمداراة والمداهنة لدفع شرهم, فإنه يكون كافرًا, إذا أظهر الكفر, أو أظهر للكفار أَنَّهُ يوافقهم عَلَى دينه فَهُوَ كافر, ولو كان الَّذِي حمله عَلَى ذلك الخوف والمداراة والمداهنة.
فإذا أظهر الموافقة للكفار عَلَى دينهم فَهُوَ كافر, كيف يظهر لهم الموافقة عَلَى دينهم؟ يظهر لهم الموافقة عَلَى دينهم إما بالقول يقول كلمة يوافقهم فيها عَلَى دينهم, يظهر لهم الموافقة قصده المداهنة بسبب الخوف والمداهنة لهم, يتكلم بالكلمة يوافقهم فيها عَلَى دينهم, أو يعمل عمل يوافقهم فيه عَلَى دينهم.
تكلم بكلمة الكفر ليوافقهم عَلَى دينهم وإن كان هُوَ في باطنه يكره الكفر, يكره دينهم ويبغضهم, ويحب الإسلام والمسلمين في الباطن, لكن في الظاهر أظهر الموافقة لهم علانية, كأن يتكلم بكلمة الكفر, كأن يقول مثلاً: اليهودية, والنصرانية, والإسلام كلها من الله, كلها دين, كلها أديان سماوية حق, فيكون كافر, قصده من ذلك المداهنة, يداهنهم حَتَّى يدفع بذلك شرهم.
مداهنة ومداراة وخوفًا منهم, فيقول: أنتم عَلَى دين ونحن عَلَى دين كلها أديان سماوية, هذه ردة عن الإسلام, لكن لَابُدَّ أن يبين لهم أن دينهم عَلَى باطل ويتبرأ من دينهم, فإذا لم يتبرأ من دينهم فإنه يكون كافر {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين}[الكافرون/6].
اليهود عَلَى دين باطل, والنصارى عَلَى دين باطل, والوثني عَلَى دين باطل {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين}[الكافرون/6].
الله تعالى قال في كتابه: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ}[آل عمران/73].
هم عَلَى دين لكنه دين باطل, فالواجب عليه أن يبين لهم أن ما هم عليه من الدين باطل, وأن دين الحق هُوَ دين الإسلام, فإذا أظهر لهم الموافقة عَلَى دينهم فإنه يكون كافرًا مثلهم, ولو كان الَّذِي حمله عَلَى ذلك المداهنة والمداراة والخوف منهم.
ما يعفيه هذا حَتَّى ولو كان خائف, لو كان مداهن, ولو كان في الباطن يكره دينهم ويحب الإسلام والمسلمين, إذا أظهر الموافقة لهم عَلَى دينهم بالقول أو بالفعل, مثلاً بالقول كما سمعنا كأن يقول: أنتم عَلَى دين ونحن عَلَى دين كلها أديان سماوية, كلها حق, من أحب أن يتدين بهذا, أو يتدين بهذا, فَهُوَ عَلَى حق, هذا كفر.
ولو كان في الباطن يحب الإسلام والمسلمين, أو وافقهم عَلَى فعلهم صلى صلاتهم الخاصة في كنائسهم, إظهار الموافقة لهم مثلاً بالفعل, فإذا فعل الكفر أو تكلم بكلمة الكفر كفر, ولو كان خائفًا, وكذلك إذا فعل الكفر أو قال كلمة الكفر إذا قالها جادًا وهازلًا كفر, وإذا فعل الكفر أو قال كلمة الكفر مادحًا هازلًا كفر, وإذا قال كلمة الكفر خائفًا كفر, وإذا قال كلمة الكفر مشحةً بدينه أو وطنه كفر, أو قال كلمة الكفرة مشحةً بأهله, أو ماله, أو وطنه, كفر.
وإذا قال كلمة الكفر أو فعل الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالكفر كفر, وإذا قال كلمة الكفر أو فعل الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالإيمان لا يكفر.
كم حالة يكفر الآن؟ حالات متعددة, إذا أظهر الكفر أو فعل الكفر له حالات, في حالة واحدة لا يكفر, ما هي الحالة الواحدة؟ إذا فعل الكفر أو أظهر الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالإيمان, هذا ما يكون كافرًا.
ما معنى مكره؟ كما بين المؤلف رحمه الله وهو أن يأخذه الكفار ويقولون: له اكفر ولا قتلناك, وإِلَّا فعلنا بك كذا وكذا, كفر ملجئ, فرخص الله في هذه الحالة أن يتكلم وينطق كلمة الكفر أو يفعل الكفر إذا كان قلبه مطمئن بالإيمان.
هذا مكره, وما عدا هذه الصورة يكون كافرًا, هي كم صورة؟
الصورة الأولى: إذا فعل الكفر أو قال كلمة الكفر جادًا, يعني قالها عن جد, مختارًا, قال كلمة الكفر عالمًا عامدًا قاصدًا مختارًا, كفر, إذا قال كلمة الكفر أو فعل الكفر هازلًا لاعبًا كفر, إذا قال كلمة الكفر أو فعل الكفر خائفًا كفر, إذا قال كلمة الفعل أو فعل الكفر مشحةً بماله كفر, إذا قال كلمة الكفر مشحةً بأهله كفر, إذا قال كلمة الكفرة أو فعل الكفر مشحةً بوطنه كفر, إذا قال كلمة الكفر أو فعل الكفر مكرهًا واطمأن قلبه بالكفر كفر.
قال الله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ}[النحل/106-107].
استحبوا الدنيا عَلَى الآخرة, آثروا الدنيا عَلَى الآخرة, الَّذِي يقول كلمة الكفر مشحةً بماله, أو بوطنه, أو بأهله وعشيرته يكون آثر الحياة الدنيا عَلَى الآخرة, استحب الحياة الدنيا عَلَى الآخرة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ}[النحل/107].
هذا يكون كافر ولو لم يدعو الكفار, هناك كفر أشد من هذا وهو أن يكون الإنسان في دار الإسلام, ثُمَّ يستدعي الكفرة ويدخل في طاعتهم ويظهر لهم الموافقة عَلَى دينهم الباطل, ويعينهم عليه بالنصرة والمال, ويواليهم ويقطع الموالاة بينه وبين المسلمين, ويصير من جنود القباب والشرك, يكون هذا كفر أغلظ وأغلظ أشد من الأول.
الأول النوع الأول من الكفر أن يظهر للمشركين الموافقة عَلَى دينهم, يظهر أنهم يوافقهم بالقول أو بالفعل مثل ما سبق, يقول مثلاً: أنتم عَلَى دين ونحن عَلَى دين, والأمر في هذا واسع, كلها أديان سماوية, أو يصلي معهم صلاتهم الخاصة كأنه منهم في كنائسهم مثلاً خوفًا, أو يفعل ذلك مداراة, أو يفعل ذلك مداهنة, أو يفعل ذلك هازلًا, أو لاعبًا, أو مشحةً بماله, أو مشحة بوطنه, أو مشحة بأهله يكفر في هذه الحالة, ولو كان في الباطن يكره دينهم ويبغضه ويحب الإسلام والمسلمين.
حَتَّى ولو كان في الباطن يكره الدين الَّذِي هم عليه ويحب الإسلام والمسلمين, هناك كفر أشد وأغلظ من هذا وهو أن يكون الإنسان في دار منعة, يعني يصير بين مسلمين, في دار منعة يعني بين المسلمين ويعيش بين المسلمين, والمسلمون مستقلون, ملتزمون بدينهم, ثُمَّ يستدعي الكفرة, يستدعيهم وهو في بلادهم, ويدخل في طاعتهم, ويظهر لهم الموافقة عَلَى دينهم الباطل, ويعينهم عَلَى دينهم الباطل بالنصرة والمال, ينصرهم ويؤيدهم بالرأي والمال ويواليهم ويقطع الموالاة بينه وبين المسلمين.
ويصير كأنه منهم, يصير من جنود القباب والشرك, القباب المراد جمع قبة, وهي القبة الَّتِي تجعل عَلَى القبر, وهي من وسائل الشرك, يبني القبة عَلَى القبر فيكون هذا وسيلة للشرك, فإذا رأوا القبة جاءوا وعظموا القبر ودعوه من دون الله, وذبحوا له ونذروا له.
يقول: (فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم) هذا كفر أغلظ, إذا كان الَّذِي يظهر الموافقة للكفار عَلَى دينهم كافر, فالذي يدعوهم وهم في بلادهم ويعينهم ويكاتبهم ويؤيدهم وينصرهم ويعينهم بالمال والرأي والسلاح يكون أشد, لماذا؟ لِأَنَّ الأول إذا كان الأول كافر وهو خائف يفعل هذا من باب الخوف والمداراة, فالذي لا يكون خائفًا وإنما يكون قويًا وعنده منعة وبين المسلمين, ثُمَّ يدعوهم ويعينهم ويساعدهم وينصرهم ويؤيدهم ويكون يعدونه واحدًا منه يكون أشد كفره أغلظ, الأول كافر وهذا كافر, لكن هناك تفاوت, كما أن الإيمان يتفاوت.
فالمؤمنين يتفاوتون في قوة الإيمان, والكفار يتفاوتون في عداوتهم لله ورسوله, وفي بغضهم لله ولرسوله, ولهذا قال الله تعالى في كتابه: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ}[آل عمران/167]. ففي وقتٍ يكون للكفر أقرب من الإيمان وفي وقت يكون للإيمان أقرب من الكفر, نعم اقرأ من الأول.
القارئ:
اعلم رحمك الله: أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم: خوفًا منهم، ومداراة لهم ومداهنة؛ لدفع شرهم, فإنه كافر مثلهم، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم، ويحب الإسلام والمسلمين, هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك.
شرح الشيخ:
هذا النوع الأول من الكفر, هُوَ ضابطه الإظهار, أن يظهر للمشركين الموافقة عليه, إذا أظهر للمشركين أَنَّهُ يوافقهم عَلَى دينهم فَهُوَ كافر مثلهم صار منهم, إذا أظهر للمشركين الموافقة عَلَى دينهم بالقول أو بالفعل, يظهر للمشركين أَنَّهُ يوافقهم عَلَى دينهم, وأن ما هم عليه حق من قول أو فعل, فيكون كافرًا ولا يعفيه ولا يخرجه من دائرة الكفر كونه في الباطن يحب الإسلام والمسلمين, ويكره الكفر والمشركين, ما يقع هذا؛ لِأَنَّهُ أظهر لهم الموافقة عَلَى دينهم بالقول أو بالفعل, النوع الثاني أشد وأغلظ.
القارئ:
هذا إذا لم يقع منه إلا ذلك فكيف إذا كان في دار منعة، واستدعى بهم، ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل، وأعانهم عليه بالنصرة والمال، ووالاهم وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين، وصار من جنود الشرك والقباب وأهلها، بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله, فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ولا يستثنى من ذلك إلا المكره.
شرح الشيخ:
هذا النوع الثاني وهو أشد وأغلظ, أشد وأغلظ كفرًا من الأول, وإن كان اشتركا في الكفر, لكن الكفر يتفاوت, كما أن الإيمان يتفاوت, فهذا الثاني أشد لماذا؟ لِأَنَّهُ ليس هناك داعيًا يدعوه إِلَى هذا, الأول هناك داعي يدعوه وهو الخوف, الخوف منهم والمداراة, هذا ليس عنده داعي, في دار منعة بين المسلمين, وهو عزيز وقوي, ثُمَّ يدعو الكفرة وهم في بلادهم, ويدخل في طاعتهم, ويظهر الموافقة لدينهم أو يذهب وينضم إليهم ويعدونه واحدًا منهم, ويوافقهم, يكون واحدًا منهم ويوافقهم عَلَى دينهم ويظهر لهم الموافقة ويعينهم بالنصر والمال, ويواليهم ويقطع الموالاة بينهم وبين المسلمين, ويصير واحد منهم, يعدونه واحدًا منهم.
ولهذا قال: (وصار من جنود الشرك والقباب وأهلها، بعدما كان من جنود الإخلاص والتوحيد وأهله, فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر، من أشد الناس عداوة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ولا يستثنى من ذلك إلا المكره) .
المكره الَّذِي يطمئن قبله بالإيمان, ما هُوَ المكره؟ المكره الَّذِي إكراهه ملجئ, ما يكون خائف إِلَى حد الإكراه, الخائف ما يسمى مكره, المكره بينه المؤلف, ما هُوَ المكره؟ قال: المكره هُوَ الَّذِي يلجأ إلجاءً, هُوَ الَّذِي يستولي عليه الكفار ويهددونه بالسلاح, ويقولون: اكفر وإِلَّا قتلناك, هذا يجوز له أن يتكلم بكلمة الكفر, أو يفعل الكفر دفعًا للإكراه, بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان, فإذا اطمأن قلبه بالكفر كفر, ولو كان مكره.
القارئ:
ولا يستثنى من ذلك إلا المكره وهو الذي يستولي عليه المشركون، فيقولون له: اكفر، أو افعل كذا وإلا فعلنا بك وقتلناك, أو يأخذونه، فيعذبونه حتى يوافقهم, فيجوز له الموافقة باللسان، مع طمأنينة القلب بالإيمان.
شرح الشيخ:
هذا المكره, المكره الَّذِي إكراهه ملجئ, الَّذِي يستولي عليه المشركون ويأخذونه ويكون سلطوا عليه وهو بين أيديهم, فيقولوا له: اكفر أو افعل كذا, أو اسجد للصنم مثلاً وإِلَّا قتلناك, أو يأخذوه ويعذبونه حَتَّى يوافقهم, فهذا يقول: (يجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة في القلب بالإيمان) فإذا وافقهم بلسانه أو بفعلهم أَيْضًا وقلبه مطمئن بالإيمان, فإنه لا يكفر في هذه الحالة, يفعل للإكراه, والدليل الآية الكريمة كما قال الله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}[النحل/106].
القارئ:
وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلًا أنه يكفر, فكيف بمن أظهر الكفر خوفًا وطمعًا في الدنيا؟ ! وأنا أذكر بعض الأدلة على ذلك، بعون الله وتأييده.
شرح الشيخ:
(وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلًا أنه يكفر) هازلًا يعني مازح يمزح, يعني ليس جادًا, يتكلم بكلمة الكفر من باب المزح واللعب يكفر, هذا دين ما فيه هزل, إذا تكلم بكلمة الكفر مازحًا يكفر, كما أن الإنسان إذا طلق زوجته وهو يمزح وقع الطلاق, أو راجعها أو أعتق «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة».
وكذلك إذا تكلم بكلمة الكفر وهو يمزح وقع عليه كفر نعوذ بالله, إذا تكلم وهو مازح أو هازل أو لاعب يكفر, أو تكلم كلمة الكفر جاد يكفر, أو تكلم بكلمة الكفر خائف يكفر, أو تكلم بكلمة الكفر مشحة بماله أو دينه أو وطنه أو عشيرته يكفر, أو تكلم بكلمة الكفر مكره واطمئن قلبه بالكفر كفر ولا يستثنى إلا المكره الَّذِي اطمأن قلبه بالإيمان, المؤلف رحمه الله يسوق أدلة عَلَى هذا.
القارئ:
الدَّلِيل الأول: قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة/120].
فأخبر تعالى: أن اليهود والنصارى وكذلك المشركون، لا يرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، ويشهد أنهم على حق.
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير}[البقرة/120].
وفي الآية الأخرى: {إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِين}[البقرة/145].
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لو يوافقهم على دينهم ظاهرًا من غير عقيدة القلب, لكن خوفًا من شرهم ومداهنة, كان من الظالمين، فكيف بمن أظهر لعباد القبور والقباب أنهم على حق وهدى مستقيم؟ ! فإنهم لا يرضون إلا بذلك.
شرح الشيخ:
نعم الدَّلِيل الأول قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة/120].
وجه الدلالة أن الله تعالى أخبر أن اليهود والنصارى ومنهم المشركون لا يرضون عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يتبع ملتهم, ويشهد أنهم عَلَى حق, فإذا أظهر لهم أنهم عَلَى حق صار كافر, ولو كان في الباطن يكرههم ويكره دينهم, ما يعفيه هذا, فإذا أظهر الموافقة عَلَى دينهم في الظاهر صار كافرًا ولا يعفيه ذلك, ولا يمنعه من الكفر كونه في الباطن يكره دينهم.
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة/120] وجه الدلالة: (حَتَّى تتبع ملتهم) حَتَّى تتبع ملتهم في الظاهر, فإذا اتبع ملتهم في الظاهر كفر, ولم يقل الله سبحانه: إلا إذا كان يكره دينهم في الباطن, أو إلا إذا كان يحب الله ورسوله في الباطن, علق ذلك بقوله: (حَتَّى تتبع ملتهم) فهم يرضون لمن يتبع ملتهم وأظهر الموافقة لهم رضوا عنه.
(فأخبر تعالى: أن اليهود والنصارى وكذلك المشركون، لا يرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم، ويشهد أنهم على حق) (...31:21) الأمة كلها, والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك, عصمه الله من الشرك, المقصود أمته, المقصود الأمة, ثُمَّ قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير}[البقرة/120].
وفي الآية الأخرى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِين}[البقرة/145].
قال المؤلف رحمه الله: (فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لو يوافقهم على دينهم ظاهرًا من غير عقيدة القلب, لكن خوفًا من شرهم ومداهنة, كان من الظالمين، فكيف بمن أظهر لعباد القبور والقباب أنهم على حق) يكون أشد, قال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِين}[البقرة/145].
يعني لو أظهرت لكم ذلك, لو وافقتهم عَلَى دينهم في الظاهر من غير عقيدة القلب, لكن خوفًا من شرهم ومداهنة كان من الظالمين, فكيف بمن أظهر لهم أنهم عَلَى حق؟! إذا كان من يوافقهم عَلَى دينهم ظاهرًا من غير عقيدة القلب, لكن خوفًا من شرهم ومداهنة كان من الظالمين, فالذي يظهر للمشركين أنهم عَلَى حق لا يرضون إلا بذلك, يبين المؤلف رحمه الله أن في زمانه أن الكثير من عباد القبور الذين يعبدون القبور من دون الله, يذبحون لهم وينذرون لهم ويطوفون بقبورهم تقربًا إليهم, بَعْض النَّاس يوافقهم ويداهنهم ويقول: إن عباد القبور ليسوا مشركين, فيوهم أَنَّهُ معهم وأنه من أنصارهم, يقول: هذا كافر, هذا مشرك في إسلامه, عباد القبور الذين يذبحون لهم ويدعون لهم ويطلبون منهم مدد, يا فلان أغثني, يا فلان فرج كربتي, هؤلاء مثلهم, إذا أظهروا لبعاد القبور أنهم عَلَى حق, وأن ما يفعلون ليس بشرك, وأن دعاء لغير الله, أو الذبح لغير الله, أو النذر لغير الله ليس شركًا وأنهم عَلَى حق وأن هذه محبة للصالحين كما يقولون وتشفع محبة فهم مشركون؛ لِأَنَّهُم يرضون إلا بذلك, عباد القبور لا يرضون إلا بذلك.
إذا أظهر أنهم عَلَى حق وأن هذا ليس بشرك, وأن ما يفعلونه إِنَّمَا هُوَ محبة للصالحين, وإعطاء لهم حقوقهم, أن هذا حقٌ لهم, وأنه يعطيهم حقوقهم, فيكون كافرًا؛ لِأَنَّ المشركين يرضون منهم بذلك.
القارئ:
الدليل الثاني: قول الله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}[البقرة/217].
فأخبر تعالى: أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا, ولم يرخص في موافقتهم خوفًا على النفس والمال والحرمة، بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوه ليدفع شرهم أنه مرتد, فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون، فإنه من أهل النار الخالدين فيها, فكيف بمن وافقهم من غير قتال؟ ! فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه، لا عذر له، عرفت أن الذين يأتون إليهم ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهم أولى بعدم العذر، وأنهم كفار مرتدون.
شرح الشيخ:
هذا الدَّلِيل الثاني وهو قول الله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}[البقرة/217].
يقول الله مؤلف رحمه الله: (فأخبر تعالى: أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا) الكفار هذا دأبهم وهذه صفتهم لا يزالوا يقاتلون المسلمين حَتَّى يردوهم إِلَى الكفر, حَتَّى يكونوا مثلهم, كما في الدَّلِيل الأول: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة/120].
فهم لا يزالوا يقاتلون المسلمين حَتَّى يردهم عن دينهم إن استطاعوا, فإذا قاتلوا الكفار المسلمين, ثُمَّ وافقوهم عَلَى دينهم خوفًا عَلَى النفس والمال والأهل, لدفع شرهم فإن هذا كفر ردة, نوع من الردة{وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}؛ يعني بعد أن قاتلوه فَهُوَ كافر, وجه الدلالة أخبر الله تعالى أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حَتَّى يردوهم عن دينه, فمن قالته الكفار ليردوه عن دينه فأظهر الموافقة لهم خوفًا عَلَى نفسه أو ماله أو خوفًا عَلَى حرمته فإنه يكون كافرًا ولا يعفيه.
لا يعفيه لماذا؟ لِأَنَّهُ أظهر الكفر, والَّذِي حمله عَلَى إظهار الكفر ما هُوَ؟ الخوف, الخوف ما يعفيه, متى يسلم من الكفر؟ إذا وجد الإكراه الملجىء واطمأن قلبه بالإيمان, أَمَّا الخوف فلا, حَتَّى ولو كانوا يقاتلوهم {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}؛ يعني بعد القتال فيظهر الموافقة لهم فَهُوَ كافر.
ولهذا بين المؤلف رحمه الله وجه الدلالة فقال: (فأخبر تعالى: أن الكفار لا يزالون يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا, ولم يرخص في موافقتهم خوفًا على النفس والمال والحرمة، بل أخبر عمن وافقهم بعد أن قاتلوه ليدفع شرهم أنه مرتد, فإن مات على ردته بعد أن قاتله المشركون، فإنه من أهل النار الخالدين فيها, فكيف بمن وافقهم من غير قتال؟ !) إذا كان الَّذِي يوافقهم بعد القتال دفعًا لشرهم كافر, فكيف الَّذِي يوافقهم وهم لم يقاتلونه؟! يكون أشد كفر, الَّذِي يوافقهم وهم يقاتلونه دفعًا لشرهم حَتَّى يسلم منهم خوفًا منهم يكفر, فالذي يوافقهم من دون قتال أشد كفرًا, ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فكيف بمن وافقهم من غير قتال؟ ! فإذا كان من وافقهم بعد أن قاتلوه، لا عذر له، عرفت أن الذين يأتون إليهم ويسارعون في الموافقة لهم من غير خوف ولا قتال، أنهم أولى بعدم العذر) فالذي يوافقهم بعد أن يقاتلونه خوفًا منهم لا عذر له, والَّذِي يسارع إليهم ويوافقهم من دون قتال من باب أولى أَنَّهُ لا عذر له.
القارئ:
الدليل الثالث: قوله تبارك وتعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِير}[آل عمران/28].
الله تعالى نهى المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين, يعني يتخذوهم نهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء وأصدقاء وأصحابًا من دون المؤمنين, ولو كان الحامل لهم عَلَى ذلك الخوف.
وأخبر الله تعالى أن من فعل ذلك: (فليس من الله في شيء) أي: لا يكون من أولياء الله, إلا في حالة واحدة, وهو أن يتقي منهم تقاه, وذلك بأن يكون الإنسان مقهور, استولى عليه كفار لا يقدر على عداوتهم, فيظهر لهم المعاشرة باللسان, والقلب مطمئن بالبغضاء والعداوة لهم, فهذا هُوَ المستثنى.
الله تعالى نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء, يعني أصدقاء وأولياء وأصحاب, يتخذون أولياء وأصدقاء وأصحاب من دون المؤمنين, ولو كان خائفًا منهم لا يجوز له أن يتخذهم أصدقاء ولا أولياء ولو كان خائفًا منهم.
إلا في حالة واحدة, وهو إذا كان الإنسان مقهور استولى عليه كفرة, فإنه في هذه الحالة يجوز له المعاشرة, إظهار المعاشرة باللسان والقلب مطمئن بالبغضاء والعداوة, هذا إذا كان مقهورًا, فكيف إذا اتخذهم أولياء وليس لهم عذر؟! فهذا من باب أولى, إذا كان الله نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء وأصدقاء من دون المؤمنين وإن كان خائفًا منهم, فالذي يتخذهم أولياء من دون المؤمنين وليس له عذر من باب أولى, الَّذِي يفعله لاستحباب الحياة الدنيا عَلَى الآخرة, يعني آثر الحياة الدنيا عَلَى الآخرة خوفًا من المشركين وعدم الخوف من الله فالله تعالى ما جعل الخوف عذر, وإنما العذر هُوَ الإكراه الملجىء إذا اطمأن قلبه بالإيمان.
القارئ:
الدليل الرابع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِين}[آل عمران/149].
فأخبر تعالى: أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار، فلابد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام؛ فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر, وأخبر: أنهم إن فعلوا ذلك، صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة. ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفًا منهم.
وهذا هو الواقع؛ فإنهم لا يقتنعون ممن وافقهم إلا بشهادة أنهم على حق، وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين، وقطع اليد منهم.
ثم قال: {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين}[آل عمران/150]. ففي ولايته وطاعته، غنية وكفاية عن طاعة الكفار, فيا حسرة على العباد الذين عرفوا التوحيد، ونشئوا فيه، ودانوا به زمانًا, كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين، وخير الناصرين إلى ولاية القباب وأهلها، ورضوا بها بدلًا عن ولاية من بيده ملكوت كل شيء ... ؟ !! بئس للظالمين بدلًا.
شرح الشيخ:
نعم الدَّلِيل الرابع قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِين}[آل عمران/149].
ماذا الدلالة؟ قال: (فأخبر تعالى: أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار، فلابد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام؛ فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر) أخبر الله تعالى أ نهم إذا أطاعوا الكفار فإن الكفار لا يقنعون, فَإِنَّهُمْ لَابُدَّ أن يردوهم عَلَى أعقابهم عن الإسلام(فأخبر تعالى: أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار، فلابد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام؛ فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر).
أخبر الله تعالى أن المسلمين إن أطاعوا الكفار فَإِنَّهُمْ يردوهم عَلَى أعقابهم عن الإسلام, لماذا؟ لِأَنَّ الكفار لا يرضيهم شيء من التنازلات, مهما تنازل المسلم للكافر لا يرضيه حَتَّى يصل إِلَى الكفر, فإن وصل إِلَى الكفر قنع عنه الكافر.
ولهذا قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِين}[آل عمران/149].
يعني لا يرضون ولا يقنعون إلا بوصول المسلم إِلَى الكفر, فإذا وصل إِلَى الكفر قنعوا من ذلك ورضوا منه, كما في الآية: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة/120].
وأخبر تعالى أَنَّهُ من فعل ذلك صار من الخاسرين في الدنيا والآخرة, إن فعلوا ذلك ووافقوا الكفار عَلَى الكفر صاروا خاسرين في الدنيا والآخرة.
(ولم يرخص في موافقتهم وطاعتهم خوفًا منهم) كما سبق أَنَّهُ لا يعفى أو لا يستثنى إلا من كان كفره ملجئ واطمأن قلبه بالإيمان.
يقول المؤلف رحمه الله: (وهذا هو الواقع؛ فَإِنَّهُمْ) يعني الكفار (لا يقتنعون ممن وافقهم إلا بشهادة أنهم على حق) لا يرضون الكفار من المؤمنين حَتَّى يشهد أنهم عَلَى حق وأنهم عَلَى دين حق, وأنهم هم أهل الحق, وهذا هُوَ الَّذِي يرضيهم, فَإِنَّهُمْ لا يقنعون ممن وافقهم إلا بشهادة أنهم عَلَى الحق (وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين، وقطع اليد منهم, ثم قال: {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين}[آل عمران/150].) فأخبر الله تعالى أن الله مولى المؤمنين وناصرهم, وهو خير الناصرين.
(ففي ولايته وطاعته، غنية وكفاية عن طاعة الكفار) {بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين}[آل عمران/150].
قال المؤلف: (فيا حسرة على العباد الذين عرفوا التوحيد، ونشئوا فيه، ودانوا به زمانًا, كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين، وخير الناصرين إلى ولاية القباب وأهلها) بَعْض النَّاس كانوا موحدين وكانوا عَلَى التوحيد ثُمَّ وافقوا عباد القبور, وافقوهم عَلَى شركهم وحسنوا لهم الشرك, وقالوا: أنتم عَلَى حق, وأصحاب القبور يدعونهم من دون الله, ويذبحون لهم وينذرون لهم, فوافقوهم عَلَى ما هم عليه وقالوا: هذه محبة للصالحين ولم ينكر عليهم شركهم, يقول: إن هذا (...48:35)(فيا حسرة على العباد الذين عرفوا التوحيد، ونشئوا فيه) نشئوا عَلَى التوحيد (ودانوا به زمانًا) كان يدين لله بالتوحيد (كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين، وخير الناصرين إلى ولاية القباب وأهلها) قباب جمع قبة, وهي القبة الَّتِي تبنى عَلَى القبر, فإذا بنيت القباب عَلَى القبور وأضيء فيها الأنوار والرياحين والزهور, هذه دعوة للناس إِلَى الشرك تعظيمًا لها.
(كيف خرجوا عن ولاية رب العالمين، وخير الناصرين إلى ولاية القباب وأهلها) صاروا ينادون أصحاب القبور الذين يعبدونهم من دون الله.
(ورضوا بها بدلًا عن ولاية من بيده ملكوت كل شيء ... ؟ !! بئس للظالمين بدلًا).
القارئ:
الدليل الخامس: قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير}[آل عمران/162].
فأخبر تعالى: أنه لا يستوي من اتبع رضوان الله، ومن اتبع ما يسخطه ومأواه جهنم يوم القيامة. ولا ريب أن عبادة الرحمن وحده ونصرها، وكون الإنسان من أهلها: من رضوان الله. وأن عبادة القباب والأموات ونصرها والكون من أهلها: مما يسخط الله. فلا يستوي عند الله من نصر توحيده ودعوته بالإخلاص، وكان مع المؤمنين. ومن نصر الشرك ودعوة الأموات وكان مع المشركين.
فإن قالوا: خفنا!!. قيل لهم : كذبتم وأيضًا: فما جعل الله الخوف عذرا في اتباع ما يسخطه، واجتناب ما يرضيه.
وكثيرًا من أهل الباطل: إنما يتركون الحق خوفًا من زوال دنياهم، وإلا فيعرفون الحق ويعتقدونه, ولم يكونوا بذلك مسلمين .
شرح الشيخ:
الدليل الخامس: قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير}[آل عمران/162].
الله تعالى يبين فريقين يقول: لا يستوي هؤلاء وهؤلاء, كما قال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُون}[الحشر/20].
هنا قال: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ}[آل عمران/162]. لا يستوي من اتبع رضوان الله, ومن باء بسخط من الله.
(فأخبر تعالى: أنه لا يستوي من اتبع رضوان الله، ومن اتبع ما يسخطه ومأواه جهنم يوم القيامة, ولا ريب أن عبادة الرحمن وحده ونصرها، وكون الإنسان من أهلها: من رضوان الله, وأن عبادة القباب والأموات ونصرها والكون من أهلها: مما يسخط الله) القباب جمع قبة, وهي القبة الَّتِي يبنيها المشركون عَلَى الأموات دعوةً للشرك, حَتَّى يدعوا النَّاس إِلَى الشرك, دعاء المقبور من دون الله, والذبح له والنذر له.
(وأن عبادة القباب والأموات ونصرها والكون من أهلها: مما يسخط الله, فلا يستوي عند الله من نصر توحيده ودعوته بالإخلاص، وكان مع المؤمنين, ومن نصر الشرك ودعوة الأموات وكان مع المشركين) لا يستوي هؤلاء, من نصر توحيد الله, ومن نصر دعوة الله بالإخلاص وكان مع المؤمنين, ومن نصر الشرك ودعوة الأموات وكان مع المشركين.
(فإن قالوا: خفنا!!. قيل لهم : كذبتم) لستم خائفين (وأيضًا: فما جعل الله الخوف عذرًا في اتباع ما يسخطه) الخوف ليس عذرًا (واجتناب ما يرضيه, وكثيرًا من أهل الباطل: إنما يتركون الحق خوفًا من زوال دنياهم، وإلا فيعرفون الحق ويعتقدونه, ولم يكونوا بذلك مسلمين).
يعني يقول المؤلف: الكثير من أهل الباطل يتركون الحق خوفًا زوال دنياهم, مشحة بدنياهم, ولا يكونوا معذورين في هذا, وإِلَّا فَإِنَّهُمْ يعرفون الحق ويعتقدونه ولم يكونوا بذلك مسلمين, يعني ما يكفي كون الإنسان يعرف أن هذا حق حَتَّى يتبع الحق ويعمل به, ويترك الباطل, بَعْض النَّاس إذا قلت يا فلان: هذا حق, قال: أنا أعرف أن هذا حق, تقول: ما يكفي أن تعرف هذا, اعمل بالحق واتبع الحق.
كونك تعرف أن هذا باطل وهذا حق ما يكفي, إبليس يعرف الحق من الباطل, وفرعون يعرف الحق من الباطل, ولم يخرجهم من الكفر أنهم يعرفون الحق من الباطل, إبليس يعلم الحق وأن الحق في اتباع أمر الله, ولكنه أبى واستكبر وكان من الكافرين.
لما أمره الله بالسجود أبى, وفرعون كذلك يعرف أَنَّهُ عَلَى الباطل{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين}[النمل/14].
المعرفة ما تكفي لَابُدَّ من الاتباع والانقياد, اتباع شرع الله والانقياد له, كل إنسان يعرف أن هذا حق, اليهود والنصارى يعرفون أن المسلم عَلَى حق, ما يعرفون هذا؟ يعرفون, هذه المعرفة هذه أدخلتهم في الإسلام؟ لا, لَابُدَّ من أن الانقياد, ويدين لله بالتوحيد وينقاد له.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وكثيرًا من أهل الباطل: إنما يتركون الحق خوفًا من زوال دنياهم، وإلا فيعرفون الحق ويعتقدونه, ولم يكونوا بذلك مسلمين) .
القارئ:
الدليل السادس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النساء/97].
أي: في أي فريق كنتم، أفي فريق المسلمين أم في فريق المشركين؟. فاعتذروا عن كونهم ليسوا في فريق المسلمين: بالاستضعاف. فلم تعذرهم الملائكة، وقالوا لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النساء/97].
ولا يشك عاقل: أن [أهل] البلدان الذين خرجوا عن المسلمين، صاروا مع المشركين وفي فريقهم وجماعتهم. هذا مع أن الآية نزلت: في أناس من أهل مكة. أسلموا، واحتبسوا عن الهجرة. فلما خرج المشركون إلى بدر، أكرهوهم على الخروج معهم، فخرجوا خائفين. فقتلهم المسلمين يوم بدر؛ فلما علموا بقتلهم تأسفوا، وقالوا: قتلنا إخواننا, فأنزل الله فيهم هذه الآية.
فكيف بأهل البلدان: الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، ودخلوا في طاعتهم، وآووهم ونصروهم، وخذلوا أهل التوحيد، واتبعوا غير سبيلهم، وخطئوهم، وظهر فيهم: سبهم، وشتمهم، وعيبهم، والاستهزاء بهم، وتسفيه رأيهم في ثباتهم على التوحيد والصبر عليه، وعلى الجهاد فيه ـ وعاونوهم على أهل التوحيد طوعًا لا كرها، واختيارا لا اضطرارًا. فهؤلاء أولى بالكفر والنار من الذين تركوا الهجرة شحًا بالوطن، وخوفًا من الكفار، وخرجوا في جيشهم مكرهين خائفين.
فإن قال قائل: هلا كان الإكراه عذرًا للذين قتلوا يوم بدر على الخروج؟. قيل: لا يكون عذرًا لأنهم في أول الأمر لم يكونوا معذورين, إذا أقاموا مع الكفار، فلا يعذرون بعد ذلك بالإكراه؛ لأنهم السبب في ذلك، حيث أقاموا معهم وتركوا الهجرة.
شرح الشيخ:
هذا الدَّلِيل السادس قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النساء/97].
هذه الآية نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذين بقوا في مكة فلم يهاجروا, الله تعالى أوجب الهجرة عَلَى من آمن قبل فتح مكة, الهجرة من مكة إِلَى المدينة, كل من آمن عليه أن يهاجر من مكة إِلَى المدينة نصرةً لله ولرسوله, وتكثيرًا لسواد المسلمين, فكل من أسلم هاجر, وبقي جماعة مستضعفون بمكة لم يهاجروا, فتوعدهم الله بهذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ظالمي أنفسهم بأي شيء؟ بالبقاء بين أظهر الكفار, بالبقاء بين المشركين {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} هذا السؤال والمحاورة بين الملائكة والمشركين عند الموت, من جاءه الموت تقول له الملائكة: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} أي في أي فريق كنتم, أفي فريق المسلمين أم في فريق المشركين؟ ماذا قالوا؟
{قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} من القائل؟ المؤمنون الذين حضرهم الموت, فاعتذروا عن كونهم ليسوا في فريق المسلمين للاستضعاف{قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} قال المؤلف: فلم تعذرهم الملائكة, وقالوا لهم: {قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} أرض الله واسعة اخرجوا من بين أظهر الكفار, الله تعالى لم يعذرهم إلا العاجز قال: {فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النساء/97] اللي بقوا بين أظهر المشركين, توعدهم الله بالنار, هذه كبيرة من كبائر الذنوب, ولم يعذر الله إلا العاجز الَّذِي لا يستطيع, قال الله: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلا (89) فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء/98-99].
هذا معذور, يقول المؤلف رحمه الله: (ولا يشك عاقل: أن [أهل] البلدان الذين خرجوا عن المسلمين، صاروا مع المشركين وفي فريقهم وجماعتهم) يعني الذين خرجوا عن المسلمين وانفصلوا عنهم وانضموا إِلَى الكفار صاروا منهم.
قال المؤلف: (هذا مع أن الآية نزلت: في أناس من أهل مكة. أسلموا، واحتبسوا عن الهجرة) أناس من أهل مكة أسلموا وبقوا في مكة ولم يهاجروا (فلما خرج المشركون إلى بدر، أكرهوهم على الخروج معهم) أكرهوهم, لَابُدَّ أن تخرجوا (فخرجوا خائفين) خائفين من الكفار (فقتلهم المسلمين يوم بدر؛ فلما علموا بقتلهم) يعني المسلمون (تأسفوا، وقالوا: قتلنا إخواننا, فأنزل الله فيهم هذه الآية) توعدهم.
يقول المؤلف: (فكيف بأهل البلدان: الذين كانوا على الإسلام، فخلعوا ربقته من أعناقهم، وأظهروا لأهل الشرك الموافقة على دينهم، ودخلوا في طاعتهم، وآووهم ونصروهم، وخذلوا أهل التوحيد، واتبعوا غير سبيلهم، وخطئوهم، وظهر فيهم: سبهم، وشتمهم، وعيبهم، والاستهزاء بهم، وتسفيه رأيهم في ثباتهم على التوحيد والصبر عليه، وعلى الجهاد فيه, وعاونوهم على أهل التوحيد طوعًا لا كرهًا، واختيارًا لا اضطرارًا, فهؤلاء أولى بالكفر والنَّار) من أولئك, هذا من باب أولى, إذا كان المستضعفين لم يعذرهم الله إلا العاجز, فكيف الَّذِي يختار الكفر باختياره؟ كيف بمن كان عَلَى الإسلام ثُمَّ خلع الإسلام, وأظهر لأهل الشرك الموافقة عَلَى دينهم, ودخل في طاعتهم وآووهم ونصرهم وخذل أهل التوحيد, وخطئوا أهل التوحيد, وسبوا أهل التوحيد, وشتموهم وعابوهم, واستهزئوا بهم وسفهوا رأيهم في ثباتهم عَلَى التوحيد والصبر عليه، وعلى الجهاد فيه, وعاونوهم على أهل التوحيد, هؤلاء أولى بالكفر والنَّار (من الذين تركوا الهجرة شحًا بالوطن، وخوفًا من الكفار، وخرجوا في جيشهم مكرهين خائفين) .
قال: (فإن قال قائل: هلا كان الإكراه عذرًا للذين قتلوا يوم بدر على الخروج؟. قيل: لا يكون عذرًا لأنهم في أول الأمر لم يكونوا معذورين, إذا أقاموا مع الكفار، فلا يعذرون بعد ذلك بالإكراه) لِأَنَّهُم لا يكونوا معذورين إذا قاموا مع الكفار؛ لِأَنَّهُم أقاموا بينهم من دون عذر, فلما أخرجوهم بعد ذلك مكرهين صاروا لا يعذرون.
قال: (لأنهم السبب في ذلك، حيث أقاموا معهم وتركوا الهجرة).
نقف عَلَى هذا وفق الله الجميع لطاعته.