بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصَّلَاة والسلام عَلَى نَبِيّنا محمد وعَلَى آله وأصحابه.
أَمَّا بعد: ...
القارئ:
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
الدليل السابع: قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}[النساء/140].
فذكر تبارك وتعالى، أنه نزل على المؤمنين في الكتاب: أنهم إذا سمعوا آيات الله يكفر بها، ويستهزأ بها فلا يقعدوا معهم، حتى يخوضوا في حديث غيره, وأن من جلس مع الكافرين بآيات الله، المستهزئين بها في حال كفرهم واستهزائهم: فهو مثلهم, ولم يفرق بين الخائف وغيره, إلا المكره, هذا وهم في بلد واحد، في أول الإسلام, فكيف بمن كان في سعة الإسلام وعزه وبلاده، فدعا الكافرين بآيات الله المستهزئين بها إلى بلاده، واتخذهم أولياء وأصحابا وجلساء، وسمع كفرهم واستهزاءهم واقرهم، وطرد أهل التوحيد وأبعدهم؟ !!.
شرح الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك عَلَى عبد الله ورسوله نَبِيّنا محمد, وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بعد: ...
فهذا هُوَ الدَّلِيل السابع من الأدلة الَّتِي تدل عَلَى تحريم تولي الكفار وأن تولي الكفار ردة عن الإسلام والعياذ بالله, سبق أن التولي هُوَ محبة الكفار, ثُمَّ ينشأ عن ذلك النصرة والمعاونة, والمظاهرة, وذكر المؤلف رحمه الله ستة أدلة, والأصل في هذا قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة/51].
وسبق أن هناك فرق بين التولي والموالاة, التولي هُوَ محبة الكفار ونصرتهم وإعانتهم, والموالاة معاشرتهم ومصادقتهم, ومن العلماء من قسم الموالاة إِلَى قسمين:
- موالاة كبرى.
- وموالاة صغرى.
فالموالاة الكبرى هي التولي, والموالاة الصغرى هي دون ذلك وهي المعاشرة والمصادقة.
فالدليل السابع عَلَى تحريم تولي الكفار وأنه ردة عن الإسلام قول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}[النساء/140].
هذه الآية فيها دليل عَلَى تحريم الجلوس والقعود في المجلس والمكان الَّذِي يكفر فيه بالله بآيات الله ويستهزئ بها, وأن الواجب عَلَى من رأى .. من كان في مجلس يكفر به ويستهزئ به أن ينكر هذا الكفر والشرك, أن ينكر عليهم, وأن يحذرهم وأن يأمرهم بالتوبة, فإن تابوا فالحمد لله, وإِلَّا قام.
فإن قعد معهم مع قدرته عَلَى القيام فإنه مثلهم, فإنه كافر مثلهم؛ لِأَنَّهُ أقرهم عَلَى الكفر, والراضي كالفاعل, وكذلك لو كان الإنسان في مجلس يفعل فيه معاصي, فيه شيء من المعاصي أو من الكبائر فإنه ينهاهم وينصحهم فإن قبلوا جلس, وإن امتنعوا قام, فإن لم يقم كان شريكًا له في الإثم.
إذا كان في مجلس يشربوا فيه الدخان ينصحهم, فإن قبلوا فالحمد لله, وإِلَّا قام, وإن لم يقم صار حكمه حكمهم في الإثم, حكمه حكم شارب الدخان, أو كان في مجلس يشرب فيه الخمر أو مجلس فيه غيبة أو نميمة ينصحهم, فإن قبلوا فالحمد لله, وإن لم يقبلوا قام عن المجلس وعن المكان, فإن لم يقم مع القدرة كان شريكًا لهم في الإثم, ,صار حكمه حكمهم.
وكذلك إذا كان في المجلس كلام كفر أو فعل كفر فإنه ينهاهم, فإن قبلوا فالحمد لله, وإن لم يقبلوا قام عن المجلس, فإن لم يقم صار كافرًا مثلهم نعوذ بالله, ولهذا قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}[النساء/140].
ولهذا قال المؤلف رحمه الله في بيان وجه دلالة هذا الدَّلِيل: (فذكر الله تبارك وتعالى أنه نزل على المؤمنين في الكتاب: أنهم إذا سمعوا آيات الله يكفر بها، ويستهزأ بها فلا يقعدوا معهم، حتى يخوضوا في حديث غيره, وأن من جلس مع الكافرين بآيات الله، المستهزئين بها في حال كفرهم واستهزائهم: فهو مثلهم, ولم يفرق بين الخائف وغيره, إلا المكره) يعني لا يجوز له البقاء حَتَّى ولو كان خائفًا, كونه خائفًا لا يكون عذرًا له.
إلا المكره الَّذِي إكراهه ملجئ, مع الطمأنينة في قلبه بالإيمان, قال المؤلف رحمه الله: (ولم يفرق بين الخائف وغيره, إلا المكره هذا وهم في بلد واحد، في أول الإسلام, فكيف بمن كان في سعة الإسلام وعزه وبلاده، فدعا الكافرين بآيات الله المستهزئين بها إلى بلاده، واتخذهم أولياء وأصحابا وجلساء، وسمع كفرهم واستهزاءهم واقرهم، وطرد أهل التوحيد وأبعدهم؟ !!) يكون هذا أعظم وأعظم, أعظم كفرًا, فالذي يبقى معهم في المكان ويقرهم عَلَى الكفر يكون كافرًا ولو كانوا في بلد واحد, فإذا لم يكن في بلد واحد ودعا بهم ودعاهم إِلَى بلاده واتخذهم أولياء وأبعد أهل التوحيد, ويكون أعظم كفرًا وأغلظ.
القارئ:
الدليل الثامن: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}[المائدة/51].
فنهى سبحانه المؤمنين: عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء.
وأخبر: أن من تولاهم من المؤمنين، فهو منهم وهكذا حكم من تولى الكفار من المجوس وعباد الأوثان، فهو منهم.
فإن جادل مجادل: في أن عبادة القباب، ودعاء الأموات مع الله ليس بشرك، وأن أهلها ليسوا بمشركين. بان أمره، واتضح عناده وكفره.
ولم يفرق تبارك وتعالى بين الخائف، وغيره؛ بل أخبر تعالى: أن الذين في قلوبهم مرض يفعلون ذلك خوفا من الدوائر, وهكذا حال هؤلاء المرتدين: خافوا من الدوائر، وزال ما في قلوبهم من الإيمان بوعد الله الصادق بالنصر لأهل التوحيد, فبادروا وسارعوا إلى أهل الشرك، خوفًا أن تصيبهم دائرة، قال تعالى: {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِين}[المائدة/52].
شرح الشيخ:
وهذا هُوَ الدَّلِيل الثامن عَلَى كفر من تولى الكفار المشركين, وهو وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}[المائدة/51].
وجه الدلالة قال المؤلف: (فنهى سبحانه المؤمنين: عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء, وأخبر: أن من تولاهم من المؤمنين فهو منهم) النهي في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} نهى الله المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء من دون المؤمنين, وأخبر أن من تولاهم من المؤمنين فَهُوَ مثلهم.
هذا عام في جميع الكفار, من تولى اليهود أو تولى النصارى, أو تولى المجوس, أو تولى الوثنين عباد القبور, فحكمه حكمهم فَهُوَ منهم, ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وهكذا حكم من تولى الكفار من المجوس وعباد الأوثان، فهو منهم).
قال المؤلف رحمه الله: (فإن جادل مجادل: في أن عبادة القباب، ودعاء الأموات مع الله ليس بشرك، وأن أهلها ليسوا بمشركين. بان أمره، واتضح عناده وكفره) يعني إن جادل مجادل وقال: عبادة القبور, القباب جمع قبة, وهي الَّتِي توضع عَلَى القبر, توضع القباب عَلَى القبور من وسائل الشرك, وعبادة أصحابها بالدعاء والنذر والذبح شرك أكبر, أَمَّا بناء القبة عَلَى القبور هذا من وسائل الشرك, وإذا جادل مجادل وقال: إن عبادة أصحاب القبور ليست شرك, ودعاء الأموات ليست شرك, وأن أهلها ليسوا مشركين بان أمره واتضح عناده وكفره؛ لِأَنَّ عبادة أصحاب القبور بالدعاء أو الذبح أو النذر أدلتها صريحة في الكتاب والسنة, عَلَى أن من صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله فَهُوَ مشرك.
إذا جادل مجادل وقال: هذا ليس شرك, بان أَنَّهُ معاند وأنه مصادم لما دلت عليه النصوص, ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولم يفرق تبارك وتعالى بين الخائف، وغيره) يعني المتولي الكفار سواء كان خائف أو غير خائف.
(بل أخبر تعالى: أن الذين في قلوبهم مرض يفعلون ذلك خوفًا من الدوائر) خوفًا من أن تكون الدائرة عَلَى المسلمين, فَهُوَ يتولى الكفار خوفًا من أن تكون الدائرة عَلَى المسلمين, فإذا كانت الدائرة عَلَى المسلمين صار مع أولئك؛ حَتَّى يسلم ماله وبدنه وأهله بزعمه.
يقول المؤلف رحمه الله: (وهكذا حال هؤلاء المرتدين: خافوا من الدوائر، وزال ما في قلوبهم من الإيمان بوعد الله الصادق بالنصر لأهل التوحيد, فبادروا وسارعوا إلى أهل الشرك، خوفًا أن تصيبهم دائرة، قال تعالى: {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِين}[المائدة/52].) عسى أن يأتي الله بالفتح والنصر لحزبه وأوليائه المؤمنين, فيصبح هؤلاء الذين خافوا الدوائر يصبحوا نادمين عَلَى ما أصروا في أنفسهم من خوف الدوائر.
القارئ:
الدليل التاسع: قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُون}[المائدة/80].
فذكر تعالى: أن موالاة الكفار موجبة لسخط الله، والخلود في العذاب بمجردها، وإن كان الإنسان خائفًا إلا من أكره بشرط , فكيف إذا اجتمع ذلك مع الكفر الصريح، وهو: معاداة التوحيد وأهله، والمعاونة على زوال دعوة الله بالإخلاص، وعلى تثبيت دعوة غيره.
شرح الشيخ:
هذا الدليل التاسع: قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُون}[المائدة/80].
وبعدها قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون}[المائدة/81].
جعلها الدَّلِيل العام, وجه الدلالة يقول المؤلف رحمه الله: (أن موالاة الكفار موجبة لسخط الله، والخلود في العذاب بمجردها) فدل عَلَى أن تولي الكفار ردة, موجبة لعذاب الله والخلود في النَّار, ولهذا قال: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُون}[المائدة/80]. بين الله تعالى أن التولي موجب لسخط والخلود في النَّار.
يقول المؤلف رحمه الله: (وإن كان الإنسان خائفًا إلا من أكره بشرط) يعني حَتَّى ولو كان الإنسان خائفًا لا يكون عذرًا له, إلا إذا أكره بشرطه, المراد بالشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان, الشرط الَّذِي شرطه الله بقوله: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل/106].
فإذا أكره وكان قلبه مطمئنًا بالإيمان كان إكراهه ملجئًا فإنه في هذه الحالة يكون معذورًا, أَمَّا الخائف فلا يكون معذورًا, الخائف وغيره والعامل والقاتل والمستهزئ والَّذِي فعل ذلك مشحةً بوطنه أو بماله, أو بأهله.
قال المؤلف رحمه الله: (فكيف إذا اجتمع ذلك مع الكفر الصريح، وهو: معاداة التوحيد وأهله، والمعاونة على زوال دعوة الله بالإخلاص، وعلى تثبيت دعوة غيره) يكون هذا أعظم وأعظم, يكون هذا جمع بين نوعين من الكفر, إذا كان يوالي الكفار وكان مع ذلك معهم كفر صريح, وهو معاداة التوحيد وأهله والمعاونة عَلَى زوال نعمة الله, وعَلَى تثبت دعوة غيره, يكون هذا أغلظ وأغلظ؛ لِأَنَّهُ يكون جمع بين كفرين.
القارئ:
الدليل العاشر: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون}[المائدة/81].
فذكر تعالى: أن موالاة الكفار منافية للإيمان بالله، والنبي وما أنزل إليه. ثم أخبر: أن سبب ذلك، كون كثير منهم فاسقون ولم يفرق بين من خاف الدائرة وبين من لم يخف, وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين، قبل ردتهم كثير منهم فاسقون. فجرهم ذلك إلى موالاة الكفار، والردة عن الإسلام. نعوذ بالله من ذلك.
شرح الشيخ:
هذا الدليل العاشر: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون}[المائدة/81].
وجه الدلالة أن الله تعالى ذكر أن موالاة الكفار منافية للإيمان, جعلهم ضدان, أحدهما ضد للآخر, فالإيمان بالله والنَّبِيّ ضد اتخاذ الكفار أولياء, حيث أن الله سبحانه وتعالى نفى الإيمان عمن اتخذهم أولياء, فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون}[المائدة/81]. فدل عَلَى أن اتخاذ الكفار أولياء ينافي الإيمان بالله والنَّبِيّ وما أنزل إليه.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ( فذكر تعالى: أن موالاة الكفار منافية للإيمان بالله، والنبي وما أنزل إليه. ثم أخبر: أن سبب ذلك، كون كثير منهم فاسقون) .
قال: {وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون}[المائدة/81]. يعني هؤلاء الموالين كانوا قبل ردتهم عندهم فسق, فجرهم هذا الفسق إِلَى الكفر والعياذ بالله, جرهم إِلَى الموالاة, فيكون هؤلاء المرتدون كانوا قبل ذلك عندهم فسق, فجرهم هذا الفسق إِلَى الردة والعياذ بالله.
يقول المؤلف رحمه الله: (ولم يفرق بين من خاف الدائرة) الخائف ليس بمعذور, ما يعذر إلا المكره لشرطه.
قال المؤلف رحمه الله: ( وبين من لم يخف, وهكذا حال كثير من هؤلاء المرتدين، قبل ردتهم كثير منهم فاسقون, فجرهم ذلك إلى موالاة الكفار، والردة عن الإسلام, نعوذ بالله من ذلك).
القارئ:
الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون}[الأنعام/121].
وهذه الآية نزلت، لما قال المشركون: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله. فأنزل الله هذه الآية, فإذا كان من أطاع المشركين في تحليل الميتة مشركًا من غير فرق بين الخائف وغيره، إلا المكره, فكيف بمن أطاعهم في تحليل موالاتهم، والكون معهم ونصرهم، والشهادة أنهم على حق، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، والخروج عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين؟؟. فهؤلاء أولى بالكفر والشرك، ممن وافقهم على أن الميتة حلال.
شرح الشيخ:
هذا الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون}[الأنعام/121]. هذه الآية فيها بيان الشياطين يوحون إِلَى أوليائهم من الكفار ليجادلوا المسلمين, لما حرم الله الميتة وهي الَّتِي تموت حتف أنفها, بين الله سبحانه وتعالى أن بهيمة الأنعام لا تحل إلا بالذبح, فإذا ماتت صارت حلال, صار المشركون يجادلون المؤمنين, بما أوحاه إليهم أوليائهم من الشياطين, يقولون لهم: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ يعني ما تقتلونه أنتم يكون حلال, وما يقتله الله لا يكون حلال؟ هذه شبهة, فأنزل الله هذه الآية {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} يعني في تحليل الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون}[الأنعام/121].
يقول المؤلف رحمه الله: وجه الدلالة: (فإذا كان من أطاع المشركين في تحليل الميتة مشركًا) فالذي يطيع الكفار في موالاتهم ونصرهم ومعاداة أهل التوحيد أعظم كفرًا وأشد, إذا كان الَّذِي يطيع المشركين في تحليل الميتة مشركًا, فالذي يطيع المشركين في موالاتهم و محبتهم ونصرتهم ومعاداة أهل التوحيد أعظم كفرًا وأغلظ.
وبين الله أن من أطاع المشرك في تحليل الميتة يكون مشركًا ولم يفرق بين الخائف وغيره إلا المكره, ولهذا قال: (فكيف بمن أطاعهم في تحليل موالاتهم، والكون معهم ونصرهم، والشهادة أنهم على حق، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، والخروج عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين؟؟. فهؤلاء أولى بالكفر والشرك، ممن وافقهم على أن الميتة حلال).
القارئ:
الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين}[الأعراف/175].
وهذه الآية: نزلت في رجل عالم عابد، في زمان بني إسرائيل يقال له: بلعام, وكان يعلم الاسم الأعظم, قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: لما نزل بهم موسى عليه السلام, يعني: بالجبارين أتاه بنوا عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة, وأنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه. قال: إني إن دعوت ذهبت دنياي وآخرتي, فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه؛ فذلك قوله: {فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين}[الأعراف/175].
وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني: الذين حاربوا موسى وقومه, فذكر تعالى: أمر هذا المنسلخ من آيات الله بعد أن أعطاه الله إياها، وعرفها وصار من أهلها، ثم انسلخ منها, أي: ترك العمل بها، وذكر في انسلاخه منها، ما معناه: أم مظاهرة المشركين ومعاونتهم برأيه، والدعاء على موسى عليه السلام ومن معه أن يردهم الله عن قومه؛ خوفًا على قومه وشفقة عليهم, مع كونه يعرف الحق ويقطع به، ويتكلم به ويشهد به، ويتعبد. ولكن صده عن العمل به: متابعة قومه وعشيرته وهواه، وإخلاده إلى الأرض. فكان هذا انسلاخًا من آيات الله.
وهذا هو الواقع من هؤلاء المرتدين، وأعظم. فإن الله أعطاهم آياته التي فيها الأمر بتوحيده ودعوته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك به ودعوة غيره، والأمر بموالاة المؤمنين ومحبتهم ونصرتهم، والاعتصام بحبل الله جميعًا، والكون مع المؤمنين، والأمر بمعاداة المشركين وبغضهم وجهادهم وفراقهم، والأمر بهدم الأوثان، وإزالة القحاب, واللواط والمنكرات, وعرفوها وأقروا بها، ثم انسلخوا من ذلك كله. فهم أولى بالانسلاخ من آيات الله والكفر والردة من بلعام، أو هم مثله.
شرح الشيخ:
وهذا الدليل الثاني عشر, استدل بقصة بلعان؛ الَّذِي أخبر الله عنه في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُون}[الأعراف/175-177].
هذه القصة ذكرها المفسرون, ذكرا قصة بلعام عَلَى هذه الآية, وقالوا: إن هذه الآية نزلت في شخص عابد من علماء بني إسرائيل وعبادهم في زمن موسى, وكان يسمى بلعان وكان يعلم الاسم الأعظم, فذكروا ذلك رووه عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس, ففيه انقطاع, ولكن هذه القصة مشهورة يتناقلها أهل التفسير, وأن موسى عليه الصلاة والسلام لما نزل بهم, لما نزل بالجبارين أتى بلعام بنو عمه وقومه, وقالوا: إن موسى جاء في جنود كثيرة, وإِنَّهُ إن يظهر علينا يهلكنا, فادع الله أن يرده علينا؛ لأنك يا بلعام تعرف اسم الله الأعظم, فامتنع بلعام في أول الأمر, وقال لهم: إن دعوت الله ذهبت دنياي وآخرتي.
يعني كيف يدعو عَلَى نبي كريم؟! فلم يزالوا به حَتَّى دعا, فسلخه الله من الآيات؛ لِأَنَّهُ اتبع هواه, وآثر الدنيا عَلَى الآخرة, آثر قومه وعشيرته عَلَى محبة الله ورسوله, فانسلخ من آيات؛ لِأَنَّهُ شح بقومه وعشيرته وقدمهم عَلَى محبة الله ورسوله, فلذلك سلخه الله والعياذ بالله, سلخه الله مِمَّا كان عليه, قال تعالى: {فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين}[الأعراف/175].
قال المؤلف رحمه الله: وإذا كان هذا في بلعام فإن هؤلاء المرتدين الذين أعطاهم الله التوحيد وأمرهم بالتوحيد ونهاهم عن الشرك ودعوة غير الله, وأمرهم بموالاة المؤمنين ومحبتهم ونصرتهم, وأمرهم بمعاداة المشركين, وأمرهم بهدم الأوثان, ثُمَّ انسلخوا من ذلك ووالوا الكفار وعادوا الله ورسوله والمؤمنين, يقول: إن هؤلاء أولى بالانسلاخ من أولئك.
فإذا كان بلعام انسلخ أَنَّهُ آثر محبة قومه وعشيرته عَلَى محبة الله ورسوله, فكذلك هؤلاء الذين يوالون الكفار أولى بالانسلاخ؛ لِأَنَّهُم قدموا محبة الكفار ورفقتهم عَلَى محبة الله ورسوله والمؤمنين.
فالمؤلف استفاد من هذه القصة بقطع النظر عن كونها قصة بلغام وكذا, وسواء كان هذا الرجل أو غيره, فالآية صريحة في أن هذا الرجل أتاه الله الآيات فانسلخ منها فكان من الغاووين.
القارئ:
الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُون}[هود/113].
فذكر تعالى: أن الركون إلى الظلمة من الكفار والظالمين موجب لمسيس النار، ولم يفرق بين من خاف منهم، وغيره. إلا المكره.
فكيف بمن اتخذ الركون إليهم دينا ورأيًا حسنًا، وأعانهم بما قدر عليه من مال ورأي، وأحب زوال التوحيد وأهله، واستيلاء أهل الشرك عليهم ... ؟!! فإن هذا من أعظم الكفر والركون.
شرح الشيخ:
هذا الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُون}[هود/113].
وجه الدلالة: أن الله تعالى ذكر الركون إِلَى الظلمة من الكفار موجب لمسيس النَّار, وهذا عام في كل من ركن إِلَى الكافر, ولا يستثنى من هذا إلا المكره, بشرط أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان, حَتَّى الخائف فإنه داخل في ذلك, ومن ركن إِلَى الكفار ووالهم واتخذ موالاتهم دينًا, وأحبهم ونصرهم, وأحب زوال التوحيد فهذا أعظم الكفر والركون.
وهذا من باب قياس الأولى, إذا كان الركون إِلَى الظلمة موجب لمسيس النَّار, فالذي يتخذهم أولياء ويحبهم وينصرهم عَلَى المؤمنين هذا أعظم الكفر والركون إليهم.
القارئ:
الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل/106-107].
فحكم تعالى حكمًا لا يبدل: أن من رجع عن دينه إلى الكفر، فهو كافر, سواء كان له عذر , خوف على نفس، أو مال أو أهل ـ أم لا. وسواء كفر بباطنه وظاهره، أم بظاهره دون باطنه, وسواء كفر بفعاله ومقاله، أم بأحدهما دون الآخر. وسواء كان طامعًا في دنيا ينالها من المشركين أم لا. فهو كافر على كل حال، إلا المكره، وهو في لغتنا: المغصوب.
شرح الشيخ:
المغصوب الَّذِي غصب يعني, المكره الَّذِي غصب.
القارئ:
فإذا أكره الإنسان على الكفر، وقيل له: أكفر وإلا قتلناك، أو ضربناك, أو أخذه المشركون فضربوه، ولم يمكنه التخلص إلا بموافقتهم, جاز له موافقتهم في الظاهر، بشرط أن يكون قلبه مطمئنًا بالإيمان. أي: ثابتًا عليه، معتقدًا له, فأما إن وافقهم بقلبه: فهو كافر، ولو كان مكرهًا, وظاهر كلام أحمد رحمه الله: أنه في الصورة الأولى لا يكون مكرهًا حتى يعذبه المشركون؛ فإنه لما دخل عليه يحيي بن معين وهو مريض، فسلم عليه: لم يرد عليه السلام، فما زال يعتذر، ويقول: حديث عمار وقال الله: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} فقلب أحمد وجهه الى الجانب الآخر. فقال يحيى: لا يقبل عذرًا !! فلما خرج يحيي. قال أحمد: يحتج بحديث عمار, وحديث عمار: مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني, وأنتم قيل لكم: نريد أن نضربكم. فقال يحيى: ما رأيت والله تحت أديم سماء الله أفقه في دين الله منك.
ثم أخبر تعالى: أن على هؤلاء المرتدين، الشارحين صدورهم بالكفر, وإن كانوا يقطعون على الحق، ويقولون ما فعلنا هذا إلا خوفًا غضب من الله ولهم عذاب عظيم, ثم أخبر تعالى: أن سبب هذا الكفر والعذاب ليس بسبب الاعتقاد للشرك أو الجهل بالتوحيد، أو البغض للدين أو محبه للكفر؛ وإنما سببه: أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين وعلى رضا رب العالمين، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل/107].
فكفرهم تعالى، وأخبر أنه لا يهديهم مع كونهم يعتذرون بمحبة الدنيا, ثم أخبر تعالى: أن هؤلاء المرتدين لأجل استحباب الدنيا على الآخرة, هم الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وأنهم الغافلون, ثم أخبر خبرًا مؤكدًا محققًا: أنهم في الآخرة هم الخاسرون.
شرح الشيخ:
هذا الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل/106-107].
وجه الدلالة أن الله تعالى أخبر أن من كفر بالله من بعد إيمانه فإنه يكون كافرًا, وهذا عام في جميع الأحوال ولم يستثني تعالى إلا المكره, بشرط أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان.
قوله: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} عام يشمل من كفر بالله جادًا, وهازلًا, أو خائفًا, ولم يستثني إلا المكره بشرط أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان, ثُمَّ بين الله سبحانه وتعالى أن سبب الكفر ليس هُوَ الجهل ولا الاعتقاد ولا التأويل, وإنما سببه أن له حظًا من حظوظ الدنيا, في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} فدل عَلَى أن من والى الكفار وأحبهم ونصرهم أَنَّهُ يكون كافرًا, ولا يكون معذورًا؛ حَتَّى لو ادعى أَنَّهُ خائف, إلا إذا كان مكرهًا, بشرط أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فحكم تعالى حكمًا لا يبدل: أن من رجع عن دينه إلى الكفر، فهو كافر, سواء كان له عذر) أو لا (سواء كان له عذر خوف على نفس، أو مال أو أهل ـ أم لا. وسواء كفر بباطنه وظاهره) يعني في الباطن اعتقد الكفر, أو في الظاهر بأن تكلم كلام فيه كفر أو وافقهم عَلَى الكفر في الظاهر, سواء كفر بباطنه أو بظاهره دون باطنه.
وسواء كان كفره بالفعل أو بالقول, أو بأحدهما دون الآخرة (
وسواء كان طامعًا في دنيا ينالها من المشركين أم لا, فهو كافر على كل حال، إلا المكره، وهو في لغتنا: المغصوب) يعني يسمه العامة المغصوب؛ لِأَنَّهُ غصبه الكفار, يعني قهروه, المغصوب هُوَ المقهور, قهروه وأكرهوه, هذا يستثنى إذا كان قلبه مطمئن بالإيمان, فإن أكره واطمأن قلبه بالكفر فَهُوَ كافر نعوذ بالله.
وبين الله سبحانه وتعالى أن سبب هذا الكفر أن لهم حظ من حظوظ الدنيا, قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} ولم يعذرهم.
وذكر قصة الإمام أحمد رحمه الله في المحنة في زمن المأمون لما أكره عَلَى القول بخلق الْقُرْآن, وأنه امتنع, وأنه أنكر عَلَى يحيى بن معين كونه يترخص, ولما جاء إليه يعتذر وقال له .. حديث عمار, حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أَنَّهُ لما عذب, لما سب المشركون النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فنهاهم, فضربوه, يعني أَنَّهُ عذب فكان ذلك عذرًا له.
ويحيى بن معين ترخص وأنكر عليه الإمام أحمد رحمه الله, وقال: أنتم هددتم ولم تضربوا, بخلاف عمار, فإنه ضُرب وعذب.
المقصود أن هذه الآية صريحة في أن من فعل الكفر فإنه يكون كافرًا في جميع الأحوال إلا المكره بالشرط, ولا يكون عذرًا له, كونه آثر محبة المال, أو الأهل, أو مشحة بالمال أو بالوطن أو بالعشيرة لا يعفيه ذلك, يقول: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} لا يكون عذرًا له, ولا يكون العذر إلا للمكره بشرطه.
القارئ:
الدليل الخامس عشر: قوله تعالى عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف/20].
فذكر تعالى عن أهل الكهف أنهم ذكروا عن المشركين: إن قهروكم وغلبوكم، فهم بين أمرين: إما أن يرجموكم. أي: يقتلوكم شر قتلة بالرجم, وإما أن يعيدوكم في ملتهم ودينهم، ولن تفلحوا إذا أبدًا, أي: وإن وافقتموهم على دينهم بعد أن غلبوكم وقهروكم، فلن تفلحوا إذًا أبدًا, فهذا حال من وافقهم بعد أن غلبوه, فكيف بمن وافقهم وراسلهم من بعيد، وأجابهم إلى ما طلبوا من غير غلبة ولا إكراه ... ؟! ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون.
شرح الشيخ:
وهذا الدليل الخامس عشر: ذكر فيه قصة أصحاب الكهف, لما فروا بدنيهم كانوا شباب وكان لا يعرف بعضهم بعضًا إلا أنهم اجتمعوا عَلَى التوحيد, ففروا من المشركين في زمانهم, وآووا إِلَى الكف, وذكر بعضهم لبعض, قالوا: إن المشركين إن قهروكم وغلبوكم، فهم بين أمرين: إما أن يرجموكم بالقتل, وإما أن يعيدوكم إِلَى الكفر, وحينئذٍ لن تكونوا مفلحين.
فدل عَلَى أن المشرك لا يكون مؤمن, ليس من أهل الفلاح, قال المؤلف رحمه الله: فالذي يوافق المشركين ويراسلهم من بعيد ويجيبهم إِلَى ما طلبوا من النصرة والمحبة والركون إليهم هذا أشد كفرًا ممن غلبه المشركون وقهروه, فإن غلبه المشركون وقهروه فإنه يكون مشركًا إذا وافقهم, إذا وافقهم واطمأن قلبه بالكفر, أَمَّا إذا أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فإنه يكون عذرًا له كما ذكر الله تعالى.
القارئ:
الدليل السادس عشر: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين}[الحج/11].
فأخبر تعالى: أن (من النَّاس من يعبد الله عَلَى حرف) أي على طرف, (فإن أصابه خير) أي: نصر وعز وصحة، وسعة وأمن وعافية ونحو ذلك (اطمأن به) أي: ثبت، وقال: هذا دين حسن, ما رأينا فيه إلا خيرًا (وإن أصابته فتنة) أي: خوف ومرض وفقر ونحو ذلك (انقلب على وجهه) . أي: ارتد عن دينه، ورجع إلى الشرك.
فهذه الآية مطابقة لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء؛ فإنهم قبل هذه الفتنة يعبدون الله على حرف أي: على طرف. ليسوا ممن يعبد الله على يقين وثبات, فلما أصابتهم هذه الفتنة، انقلبوا عن دينهم وأظهروا موافقة المشركين، وأعطوهم الطاعة، وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين, فهم معهم في الآخرة، كما هم معهم في الدنيا. فخسوا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
هذا مع أن كثيرًا منهم في عافية، ما أتاهم عدو, وإنما ساء ظنهم بالله، فظنوا: أنه يديل الباطل وأهله على الحق وأهله.
فأرداهم سوء ظنهم بالله؛ كما قال تعالى فيمن ظن به ظن السوء{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِين}[فصلت/23].
فأنت يا من من الله عليه بالثبات على الإسلام: احذر أن يدخل قلبك شيء من الريب، أو تحسين أمر هؤلاء المرتدين، وأن موافقتهم للمشركين وإظهار طاعتهم رأي حسن؛ حذرا على الأنفس والأموال والمحارم. فإن هذه الشبهة: هي التي أوقعت كثيرا من الأولين والآخرين في الشرك بالله، ولم يعذرهم الله بذلك. وإلا فكثير منهم يعرفون الحق ويعتقدونه بقلوبهم، وإنما يدينون بالشرك للأعذار الثمانية التي ذكرها الله في كتابه، أو لبعضها.
فلم يعذر بها أحدًا ولا ببعضها؛ فقال :{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين}[التوبة/24].
شرح الشيخ:
هذا الدليل السادس عشر: وهو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين}[الحج/11].
هذه الآية نزلت في ضعيفي الإيمان, ضعيف الإيمان من يعبد الله عَلَى حرف عَلَى طرف, ليس عنده يقين ولا ثبات, فإن أصابه خير سعة ورخاء ومال وأمن وطمأنينة بقي عَلَى دينه, وإن أصابته فتنة أصابته شدة وفقر وعدو نزل به ارتد عن دينه؛ لِأَنَّهُ ليس عنده ثبات ليس عنده طمأنينة وقال: هذه الآية منطبقة عَلَى حال كثير من النَّاس؛ الذين يوالون الكفار وينصرونهم ويؤيدونهم خوفًا منهم, فهم عندهم إيمان ضعيف, وهذا الإيمان الضعيف يكون سببًا إِلَى الردة والإسراع إليها والعياذ بالله, بأدنى سبب.
فيقول: هذه الآية منطبقة عَلَى الكثير من النَّاس الذين يوالون الكفار وينصرونهم ويؤيدونهم خوفًا من الدوائر.
والمؤلف رحمه الله يحذر يقول: أنت يا منّ الله عليك بالثبات عَلَى الإسلام احذر أن يدخل في قلبك شيء من الريب, أو تحسين أمر هؤلاء المرتدين أو أن موافقة المشركين رأي حسن, انحاز مع الأنفس والأموال والمحارم, فإن هذه الشبهة هي الَّتِي أهلكت كثيرًا من الأولين, ولم يعذرهم الله, فلم يعذر الله تعالى بذلك, وكثير ممن يعرفون الحق ويعتقدونه بقلوبهم وهم لا ينقادون لله ودينه لا يكون هذا عذرًا لهم.
وذكر الله أن الله لم يعذر .. ذكر في كتابه الأمور الثمانية الَّذِي يدين بواحد من الأعذار الثمانية فإنه لم يعذره الله, لقوله:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} تقديم محبة الله عَلَى محبة الآباء أو الأبناء أو الإخوان أو الأزواج أو العشيرة أو الأموال أو التجارة أو المساكن, فلا يكون عذرًا له.
القارئ:
الدليل السابع عشر: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُم (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُم (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم}[محمد/25-28].
فذكر تعالى عن المرتدين على أدبارهم: أنهم من بعد ما تبين لهم، ارتدوا على علم, ولم ينفعهم علمهم بالحق مع الردة، وغرهم الشيطان بتسويله وتزيين ما ارتكبوه من الردة.
وهكذا حال هؤلاء المرتدين في هذه الفتنة: غرهم الشيطان وأوهمهم أن الخوف عذر لهم في الردة، وأنهم بمعرفة الحق ومحبته والشهادة به لا يضرهم ما فعلوه. ونسوا أن كثيرًا من المشركين يعرفون الحق، ويحبونه ويشهدون به: ولكن يتركون متابعته والعمل به؛ محبة للدنيا، وخوفًا على الأنفس والأموال والمأكل والرياسات.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْر}[محمد/26].
فأخبر تعالى: أن سبب ما جرى عليهم من الردة وتسويل الشيطان، والإملاء لهم، هو قولهم للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر.
فإذا كان من وعد المشركين الكارهين لما نزل الله بطاعتهم في بعض الأمر كافرا، وإن لم يفعل ما وعدهم به. فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما نزل الله من الأمر: بعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والطواغيت والأموات، وأظهر أنهم على هدى، وأن أهل التوحيد مخطئون في قتالهم، وأن الصواب مسالمتهم والدخول في دينهم، الباطل؟!.
فهؤلاء أولى بالردة من أولئك الذين وعدوا المشركين بطاعتهم في بعض الأمر, ثم أخبر تعالى عن حالهم الفظيع عند الموت ثم قال: (ذلك) أي: الأمر الفظيع عند الوفاة{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم}[محمد/28].
ولا يستريب مسلم، أن اتباع المشركين والدخول في جملتهم والشهادة أنهم على حق، ومعاونتهم على زوال التوحيد وأهله، ونصرة القباب والقحاب واللواط: من اتباع ما يسخط الله وكراهة رضوانه، وإن ادعوا أن ذلك لأجل الخوف. فإن الله ما عذر أهل الردة بالخوف من المشركين. بل نهى عن خوفهم. فأين هذا ممن يقول: ما جرى منا شيء، ونحن على ديننا!!!.
شرح الشيخ:
هذا الدليل السابع عشر: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُم} بين الله تعالى أن من ارتد عن دينه بعد بيان الهدى أن هذا من تسويل الشيطان, فالذي يوالي الكفار ويحبهم وينصرهم ويؤيدهم بعد معرفته للتوحيد ممن سول لهم الشيطان.
ثُمَّ بين سبحانه وتعالى السبب في ذلك وهو أنهم وعدوا الكفار بالطاعة, قالوا: سنطيعكم في بَعْض الأمر, فإذا كان الَّذِي يعد الكفار بالطاعة يكون كافرًا, إذا كان وعد المشركين الكارهين لما أنزل الله في بَعْض الأمور كافرًا وإن لم يفعل, فكيف بمن وافق المشركين الكارهين لما أنزل الله؟! ووافقهم عَلَى عبادة القبور وأصحابها, وحسن فعلهم وأظهر أنهم عَلَى هدى, وأن أهل التوحيد هم المخطئون, يكون كفر هذا أعظم من باب أولى.
ولهذا قال المؤلف: (ولا يستريب مسلم، أن اتباع المشركين والدخول في جملتهم والشهادة أنهم على حق، ومعاونتهم على زوال التوحيد وأهله، ونصرة القباب) من اتباع ما يسخط الله, ومن كراهة رضوانه, ولهذا قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم}[محمد/28].
فمن وافق المشركين وعباد الأوثان ونصرهم عَلَى التوحيد, فقد اتبع ما يسخط الله وكره رضوانه.
القارئ:
الدليل الثامن عشر: قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون}[الحشر/11].
فعقد تعالى الأخوة بين المنافقين وبين الكفار. وأخبر أنهم يقولون لهم في السر: (لئن أخرجتم لنخرجن معكم) أي: لئن غلبكم محمد صلى الله عليه وسلم وأخرجكم من بلادكم لنخرجن معكم، (ولا نطيع فيكم أحدًا أبدًا) أي: لا نسمع من أحد فيكم قولا ، ولا نعطي فيكم طاعة (وإن قوتلتم لننصرنكم) ونكون معكم. ثم شهد تعالى: أنهم كاذبون في هذا القول.
فإذا كان وعد المشركين في السر - بالدخول معهم ونصرتهم والخروج معهم إن جلوا - نفاقًا وكفرًا وإن كان كذبًا, فكيف بمن أظهر لهم ذلك صادقًا، وقدم عليهم، ودخل في طاعتهم، ودعا إليها، ونصرهم وانقاد لهم، وصار من جملتهم وأعانهم بالمال والرأي ... ؟! هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفا من الدوائر؛ كما قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ}[المائدة/52].
واضع للولاية في غير محلها، مستبدل بولاية الله ورسوله والمؤمنين _ المقيمين للصلاة المؤتين الزكاة ولاية أهل الشرك والأوثان والقباب.
ثم أخبر تعالى: أن الغلبة لحزبه، ولمن تولاهم؛ فقال: {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُون}[المائدة/56].
شرح الشيخ:
الشيخ: قفزت صفحة كاملة, لم تقرأ: وهكذا حال كثير من المرتدين.
القارئ:
وهكذا حال كثير من المرتدين ، في هذه الفتنة: فإن عذر كثير منهم، هو هذا العذر الذي ذكره الله عن الذين في قلوبهم مرض. ولم يعذرهم به؛ قال الله تعالى: {فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِين (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِين}[المائدة/52-53].
ثم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة/54].
فأخبر تعالى، أنه لابد عند وجود المرتدين: من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين. ووصفهم بالذلة والتواضع للمؤمنين، والعزة والغلظة والشدة على الكافرين.
بضد من كان تواضعه وذله، ولينه: لعباد القباب، وأهل القحاب واللواط. وعزته، وغلظته: على أهل التوحيد والإخلاص!!!.
فكفى بهذا دليلاً على كفر من وافقهم, وإن ادعى أنه خائف؛ فقد قال تعالى: {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}[المائدة/54].
وهذا بضد من يترك الصدق، والجهاد: خوفا من المشركين, ثم قال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ}[المائدة/54].
أي: في توحيده، صابرين على ذلك ابتغاء وجه ربهم؛ لتكون كلمته هي العليا {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} أي لا يبالون بمن لامهم وآذاهم في دينهم. بل يمضون على دينهم مجاهدين فيه، غير ملتفتين للوم أحد من الخلق ولا لسخطه ولا رضاه وإنما همتهم وغاية مطلوبهم رضى سيدهم ومعبودهم، والهرب من سخطه.
وهذا بخلاف من كانت همته وغاية مطلوبه: رضى عباد القباب، وأهل القحاب واللواط ورجاءهم، والهرب مما يسخطهم!!!. فإن هذا غاية الضلال والخذلان.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم}[المائدة/54].
فأخبر تعالى: أن هذا الخير العظيم، والصفات الحميدة لأهل الإيمان الثابتين على دينهم عند وقوع الردة, والفتن: ليس بحولهم ولا بقوتهم، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء؛: {وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}[البقرة/105].
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون}[المائدة/55].
فأخبر تعالى خبرًا بمعنى الأمر: بولاية الله ورسوله والمؤمنين، وفي ضمنه النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
ولا يخفى: أي الحزبين أقرب إلى الله ورسوله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.