بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن هذه الرسالة التي بين أيدينا المسماة: "الرسالة الدينية في معنى الإلهية" للإمام: "عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله"، موضوعها: الكلام في التوحيد، في توحيد الله وبيان العقيدة الصحيحة السليمة المتلقاة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، والتي درج عليها صحابة النبي ﷺ الكرام وأتباعهم بإحسان من العلماء والأئمة وغيرهم.
وذلك أن التوحيد الذي هو حق الله على العبيد هو أشرف العلوم وأوجبها وأولاها بالاهتمام، وهو أوجب الواجبات وأفرض الفرائض وهو أول الأوامر في كتاب الله كما سبق، فهو أول واجب وآخر واجب وأول ما يدخل به الإنسان في الدنيا وآخر ما يخرج به من الدنيا: ومَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وقال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد/19]. وقال عليه الصلاة والسلام: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
ومن أجل هذا التوحيد أرسل الله الرسل، وأنزل الله الكتب، كل نبيٍ بعثه الله يدعو قومه إلى هذا التوحيد، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف/59]. وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف/65]. وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف/73]. وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف/85]. قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء/25].
وهو دعوة الرسل وأتباعهم، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف/108].
وهذا التوحيد وهو توحيد الألوهية هو الذي بعث الله به الرسل.
- والتوحيد كما هو معلوم ثلاثة أنواع:
- توحيد الربوبية
- توحيد الألوهية.
- توحيد الأسماء والصفات.
توحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله هو كالخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، وإنزال المطر، وتسبيب الأسباب، يعني تعتقد أن الله هو الفاعل وتوحد الله بأفعاله هو، تعتقد أن الله هو الخالق، الرازق، المدبر، المحيي المميت فتوحد الله بأفعاله هو.
أما توحيد الأسماء والصفات: أن تؤمن بالأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة، والأسماء والصفات توقيفية ليس للناس أن يخترعوا لله أسماء وصفات من عندهم، لا، بل الأسماء والصفات توقيفية، فأنت تثبت وتؤمن بالأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة على ما يكون بجلال الله وعظمته.
وأما توحيد الألوهية: والذي هو موضوع هذه الرسالة، وهو الذي بعث الله به الرسل وأنزل الله به الكتب وهو الذي حق الله على عباده هو: أن توحد الله بأفعالك أنت أيها المكلف من صلاة، صيام، زكاة، دعاء، حج، نذر، رغبة، رهبة، استعانة وتوكل، أفعالك هذه توحد الله بها بمعنى أنك تخص الله بها وتُفرد الله بها فلا تدعو إلا الله، ولا تذبح إلا لله، ولا تنذر إلا لله، ولا تصلي إلا لله، ولا تزكي إلا لله، ولا تتوكل إلا على الله وهكذا.
وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات هذان التوحيدان فطر الله العباد عليهما، فهما توحيدان فطريان فطر الله العباد على أن يؤمنوا بأن الله هو الخالق، الرازق، المدبر، المحيي، المميت، العباد فُطروا على هذا، وكذلك الأسماء والصفات.
ولهذا لم تقع الخصومة بين الرسل و بين الأمم في هذين النوعين من التوحيد، ما وقعت الخصومة بين الأنبياء والرسل في توحيد الربوبية ولا في توحيد الأسماء والصفات؛ لأنهما فطريان فطر الله عليهما العباد إلا من شَذ من المجموعة البشرية، المجموعة البشرية كلهم آمنوا بهذين النوعين ولهذا الرسل ما خاصمهم قومهم في هذين النوعين فهما فطريان إلا من شَذ من المجموعة البشرية، هناك بعض الطوائف الذين شذوا من المجموعة البشرية.
ومن هذه الطوائف: "الدهرية"، الدهريون الذين أنكروا الخالق وقالوا: ليس هناك لا رب ولا معاد، لا إله ولا بعث بل بطونٌ تدفع بالولادة وأرضٌ تبلع بالموت ولا رب ولا بعث، قال الله تعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية/24].
وهذا مذهب الشيوعيين في الجانب الفكري هو مذهب الشيوعية لا إله والحياة معادنا، دهريون، ولكن الجانب أيضًا الشيوعيون أشاعوا للناس وجعلوا الناس شركاء في النساء والأموال فأفقروا الأغنياء وجعلوا الناس كلهم فقراء.
وكذلك من المجموعة البشرية شذوا "الطبائعيون" الذين يقولون: إن الطبيعة هي التي أوجدت الإنسان، الطبيعة يصفونها أحيانًا بذات الأشياء، ذات السماع أوجدت السماع، ذات الأرض أوجدت الأرض، ذات النبات أوجدت النبات، طبيعة الأرض أوجدت الأرض، طبيعة السماء أوجدت السماء.
ومنهم من يفسرها بالصفات صفات الأشياء: كالبرودة والحرارة، والرطوبة واليبوسة، والملاسة والخشونة، هذه الأشياء هي التي وجدت الأشياء، وإذا كانت ذات الأشياء عاجزة عن إيجاد نفسها فعجز الصفات من باب أولى.
كذلك أيضًا من الفرق التي شذت عن المجموعة البشرية فأكثر الربوبية من يقول: بأن الأشياء وُجدت صدفة، وهؤلاء أضاعوا عقولهم، لو كان الذي وجد الأشياء الطبيعة لكانت الأشياء كلها متساوية، لكن كونها مختلفة هذا طويل، وهذا قصير.
ومثل من يقول: إن العالم وُجد صدفة مثل من يقول: إن هناك كتاب أريد طبعه فانفجرت المطبعة وتناثرت الحروف وانضم بعضها إلى بعض وجاءت صدفة، جاءت الباء بجوار الشين، بجوار الميم حتى تشكلت بسم الله الرحمن الرحيم وهكذا، هل يقول هذا عاقل؟!
كيف يُقال لهذا العالم العلوي والعالم السفلي، هذا العالم المنتظم البديع المتقن المحسن أنه وُجد صدفة؟!
كذلك أشهر من عُرف بتجاهل إمكان الخلق فرعون، حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات/24]. وكان موقنًا معترفًا به في الباطن لكنه تجاهل الرب تجاهل العارف حينما قال لموسى: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء/23]، تجاهل العارف، ولهذا قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل/14].
وهم "الاتحادية" الذين يقولون بوحدة الوجود اللي هم أكثر خلق الله يقولون: الوجود واحد، الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق، والرب هو العبد والعبد هو الرب، هؤلاء الملاحدة هم أكثر الناس وإلا فالمجموعة البشرية كلها مجمعة على إثبات أن لهذا العالم ولهذا الكون موجد ومدبر ومصرف.
وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد العبادة والألوهية، والتوحيد هو أشرف العلوم؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم، وأشرف العلوم معرفة الله بأسمائه وصفاته، فشرف العلم بشرف المعلوم والمعلوم هو الله ، فأنت تعرف ربك بأسمائه وصفاته وأفعاله، تعرف ربك وأنه تعالى هو المدبر، الخالق، الرازق، المحيي، المميت وأن له الصفات العظيمة.
وأن له الإنعام والفضل والإحسان وهو الذي أوجد العالم، وهو الذي خلقهم ورزقهم والمتصرف فيهم، وهو الذي له الصفات العظيمة، وهو الذي يقبض السموات والأرض والسموات كلها مطوية بيمينه، والسموات السبع والأراضين السبع في كف الرحمن كخردلة في يد أحدنا، هذا الرب العظيم الذي له الصفات العظيمة والذي أوجد المخلوقات والذي له النعم العظيمة معرفته هي أشرف العلوم، فبتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات تعرف ربك، وبتوحيد الإلوهية تعرف حقه الذي أوجدك من أجله.
فأولًا: تعرف ربك من هو؟ هو الرب العظيم الخالق الرازق، المدبر، المحيي، المميت، الذي له الصفات العظيمة، العالم بكل شيء، المحيط بكل شيء، الذي هو بكل شيءٍ عليم وعلى كل شيءٍ قدير، وأنه المدبر لجميع الأشياء، وأنه الخالق، وأنه الرب غيره مربوب، وأنه الخالق غيره مخلوق، وأنه المالك وغيره مملوك، وأنه المدبر وغيره مُدبَر، فإذا عرفت ربك تنتقل من هذا العلم إلى العلم الثاني وهو معرفة حقه وهذا هو توحيد الألوهية وتوحيد العبادة، معرفة حقه الذي أوجدك من أجله، لماذا خلقنا؟ قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات/56].
أوجدنا لعبادته وتوحيده وطاعته، فأوجدنا لهذه الحكمة العظيمة لم يخلقنا عبثًا ولم يتركنا سدىً بل أرسل إلينا رسولًا وسائر الرسل من أطاع الرسل فهو السعيد ومن عصاهم فهو الشقي، وهذا هو النوع الثاني من أنواع العلوم الذي بعث الله به رسله.
النوع الأول: معرفة الله بأسمائه وصفاته.
النوع الثاني: معرفة حقه الذي خلقنا من أجله وهو توحيد العبادة، وهو موضوع الرسالة.
النوع الثالث: معرفة الجزاء يوم القيامة، جزاء من حقق التوحيد ومن وحد الله، وجزاء من خالف التوحيد وأنكر التوحيد وجحد التوحيد.
هذه هي أنواع العلوم الثلاثة التي هي العلم النافع، وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى التوحيد الثاني وهو: توحيد العبادة، توحيد العبادة هو الغاية المحبوبة لله المرضية والذي خلق الخلق من أجلها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات/56].
في حديث معاذ قال ﷺ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ؟ ومَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال له النبي ﷺ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ لَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءًا».
وفرقٌ بين الحقين؟ حق الله: حق إيجاب وإلزام، وحق العباد: حق تفضل وإكرام.
مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ | كَلَّا وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ |
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أَوْ نُعِّمُوا | فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُ |
والله تعالى تكفل لهذه الأمة بحفظ أصل دينها كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر/9].
ومن آثار هذا الحفظ أن الله تعالى جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم ينفون عن دينه غلو الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين كما قال الإمام أحمد رحمه الله في رسالته في الرد على الزنادقة: الحمد لله الذي جعل في كل فترةٍ زمانٍ بقايا من أهل العلم ينفون عن دينه غلو الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وقال: كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، من حملة هذا الدين الصحابة والتابعون والأئمة الأربعة.
ثم حمل هذا الدين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، حمل هذا الدين الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإنه جدد من درس من أعلام هذه الشريعة وأيده الإمام محمد بن سعود رحمه الله.
ثم حمل الراية بعد أبيه الإمام العالم الناصر للسنة: "عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله" في هذه الرسالة التي بين أيدينا.
وأثنى على هذه الرسالة جمع من المعاصرين كالشوكاني، وغيره من المعاصرين، وهذه الرسالة نُبذ واُتهم الإمام بمثل ما اُتهم به إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
قال سماحة الشيخ "عبد العزيز بن باز رحمه الله" عن هذه الرسالة: هذه الرسالة كتبها الإمام عبد العزيز رحمه الله إلى العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وإلى غيرهم من علماء المشرق والمغرب، أبان فيها دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي الحنبلي رحمه الله.
وبين رحمه الله الأمور التي أنكرها الناس على أصحاب هذه الدعوة المباركة وأوضح أدلتها وكشف الشبه التي تعلق بها عباد الأنبياء والأولياء فجاءت بحمد الله رسالةً كافيةً شافية في بيان حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ولعظم شأن هذه الرسالة وكثرة فوائدها ..إلى آخره.
(المتن)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين أجمعين.
قال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله تعالى وتقبله في الشهداء في: "الرسالة الدينية في معنى الإلهية".
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
(الشرح)
افتتح الإمام رحمه الله هذه الرسالة بالحمد لله تعالى اقتداءً وتأسيًا بالكتاب العزيز، فإن الله افتتح كتابه بالحمد لله رب العالمين، والحمد هو الثناء على المحمود بصفاته الجميلة الاختيارية مع حبه وإجلاله وتعظيمه، "ال" للاستغراق ومعناها: جميع المحامد كلها لله وكلها مستحقة لله تعالى وكلها ملكٌ لله، جميع المحامد كلها لله ملكًا واستحقاقًا.
"ال" للاستغراق، والحمد أكمل من المدح، فالمدح هو الثناء على المحمود بصفاته الجميلة مع حبه وإجلاله وتعظيمه، أما المدح فهو ذكر صفات الممدوح وقد لا يكون معه الحب، فأنت قد تمدح الرجل الشجاع وأنت لا تحبه، تمدح الأسد وأنت لا تحبه، بخلاف الحمد فإنه هو: الثناء على المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا الله تعالى امتدح نفسه بالحمد قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة/2]. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام/1]. الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [فاطر/1]. ولم أمدح، ولكن جاء في الحديث: مَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ .
ثم قال المؤلف: (الحمد لله) اللام في لله، الله هو المألوه المعبود الذي تألهه القلوب محبةً وإجلالًا وتعظيمًا، الله أصلها الإله حُذفت الهمزة والتقت اللامان صار الله، إله على وزن فعال بمعنى مفعول، فهو إله بمعنى مألوه يعني تألهه القلوب محبةً لله وإجلالًا وتعظيمًا.
الرب هو المدبر والمتصرف، (رب العالمين) العالمين جمع عالم وهو كل ما سوى الله، كل ما سوى الله عالم، جميع المخلوقات العلوية والسفلية تسمى عالم، والله تعالى رب الجميع، فهو رب لجميع العوالم وجميع المخلوقات.
(والعاقبة) يعني النهاية إنما هي للمتقين.
(للمتقين) وهو الذي اتقى الله بأن وحد الله وأخلص له العبادة واتقى الشرك والمعاصي فصار تقيًا.
(ولا عدوان إلا على الظالمين) الظالم: هو الذي تجاوز الحد واعتدى بالشرك أو بالعدوان على غيره، أو مثلًا بظلم نفسه بالمعاصي هذا هو الذي له العدوان.
(وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين) صلاة الله على أصح ما قيل في صلاة الله تعالى على نبيه هي ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية أنه قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، فأنت عندما تقول: اللهم صل على محمد، تسأل ربك أن يثني على نبيك محمد ﷺ في الملأ الأعلى.
وقيل: هي المغفرة، ولكن أصح ما قيل فيها: أنها ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، والصلاة من الآدميين الدعاء وكذلك من الملائكة هي الدعاء، فأنت تصلي يعني تدعو وتسأل ربك أن يُثني على عبده في الملأ الأعلى.
(وسلم) يعني تسأل ربك السلامة له، وهذا دليل على أن النبي ﷺ عبد وليس إلهًا؛ لأنه يُطلب له السلامة، لو كان إلهًا لما طُلب له السلامة.
(وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين) فيه إثبات نبوة النبي ﷺ وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين وأنه لا نبي بعده، فمن لم يؤمن بالنبي ﷺ فليس بمؤمن، ومن آمن بالنبي ﷺ واعتقد أنه بعده نبي فليس بمؤمن، ومن قال: إن رسالته خاصة بالعرب فليس بمؤمن، فلابد من الإيمان بأن محمدًا رسول الله، ولابد من الإيمان بأن رسالته عامة للثقلين الجن والإنس، ولابد من الإيمان بأنه خاتم النبيين.
- هذه أمورٌ ثلاثة:
الأمر الأول: أن تؤمن بنبوة ورسالة نبينا محمد ﷺ، من لم يؤمن برسالة النبي ﷺ فهو كافر.
الأمر الثاني: أن تؤمن بأن رسالته عامة للثقلين الجنس والإنس، العرب والعجم، فمن قال: إنها ليست عامة فهو كافر.
الأمر الثالث: أن تؤمن بأنه خاتم النبيين ولا نبي بعد، فمن قال: إن بعده نبي فهو كافر.
(خاتم الأنبياء والمرسلين) فليس بعده نبي وليس بعده رسول عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب لما خلفه على أهله في تبوك: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي. وفي الحديث الآخر يقول النبي: أُعْطِيتُ خَمْسًا وذكر منها: أنه خاتم النبيين.
(وعلى آله) آل النبي ﷺ قيل: هم ذريته وأقاربه المؤمنون ويدخل في ذلك أزواجه، وقيل: هم أتباعه على دينه وهذا هو الصواب، أن الآل أتباعه على دينه ويدخل ذريته وأزواجه دخولًا أوليًا، من لم يؤمن كأبي لهب فلا يدخل في هذا وأبي جهل، كذلك يدخل عمه العباس وعمه عبد المطلب.
(وصحبه) وكذلك الصحب، فعطف الصحب على الآل يكون من عطف الخاص على العام، يعني داخل في العام أتباعه على دينه، والصحب هي من صاحب، وأصح ما قيل في تعريف الصحابي: أنه من لقي النبي ﷺ مؤمنًا ومات على الإسلام، وهذا أولى من القول: أن الصحابي هو من رأى النبي ﷺ حتى يدخل العميان؛ لأن عبد الله بن مكتوم صحابي ولم ير النبي ﷺ؛ لأنه أعمى ولكنه لقي النبي ﷺ.
فالقول: بأنه من لقي النبي ﷺ مؤمنًا حتى يدخل فيه العميان، من لقي النبي ﷺ مؤمنًا ولو لحظة ومات على ذلك، ومات على الإسلام فهو صحابي، واشترط بعضهم قول الصحبة والصواب أنه لا، الصحابة يتفاوتون في هذا، لكن الصحابي: هو من لقي النبي ﷺ مؤمنًا ومات على الإسلام، لقي أولى من رأى حتى يدخل العميان.
(وعلى آله وصحبه أجمعين) أجمعين: من ألفاظ التأكيد.
(المتن)
من عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى من يراه من العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وسائر علماء المغرب والمشرق، سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد.
(الشرح)
(من عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى من يراه) هذه رسالة موجهة لجميع الناس، وبدأ بنفسه قال: من فلان إلى فلان تأسيًا بالنبي ﷺ، فإن النبي ﷺ حينما يكتب رسائله للملوك والرؤساء يقول: من محمد رسول الله إلى فلان، كما في: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، فهذا هو الأولى أن يبدأ الكتاب باسمه يقول: من فلان إلى فلان حتى يُعرف، والخطابات عندنا الآن يكتب فيها الكاتب اسمه في الآخر، وعلى كل حال هذا اصطلاح ولكن هذا هو الأولى.
ولذلك أئمة الدعوة والعلماء حتى آخرهم سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمه الله يكتب أحيانًا: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى فلان وفلان أو إلى الناس رسالة عامة تأسيًا بالنبي ﷺ، وإذا كتب رسالة وكتب اسمه في آخرها فلا بأس لكن هذا هو الأولى.
ولهذا قال: (من عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى من يراه) لأن إذا كتبت اسمك في الأول عُرف من أول الأمر تعرف الرسالة من مَن، (من عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى من يراه) هذه رسالة عامة، (من العلماء والقضاة في الحرمين) يعني: الحرم المكي والحرم المدني، (والشام ومصر والعراق وسائر علماء المغرب والمشرق) هي عامة.
ثم قال: (سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته) بدأ بالسلام، الرسالة إذا وُجهت للمسلمين قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإذا وُجهت لغير المسلمين يُقال: سلامٌ على من اتبع الهدى، لذلك النبي ﷺ لما وجه الرسالة إلى هرقل وهو غير مسلم قال: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ،.
وإذا وُجهت الرسالة إلى مسلم فإنه يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكذلك إذا مررت بشخص وهو غير مسلم فلا تسلم عليه ولا تبدأه بالسلام، ولكن إذا سلم عليك فترد عليه تقول: وعليكم، يقول النبي ﷺ: لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهَا.
وإذا مررت بمسلم تقول: السلام عليك، وإذا مررت بجماعة مسلمين تقول: السلام عليكم.
وإذا مررت بجماعة فيهم مسلمون وغير مسلمين فتقول: السلام عليكم وتقصد بذلك المسلمين، ثبت في صحيح البخاري أن النبي ﷺ مر في أول الهجرة بأخلاط فيهم مسلمون وعبدة الأوثان فسلم عليهم قال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وفيهم عبد الله بن أُبي قبل أن يُظهر إسلامه.
(أما بعد) هذه يؤتى بها للانتقال من شيء إلى شيء، انتقل من المقدمة إلى الدخول في الصلب، (أما بعد) هذه الكلمة قيل: أن أول من قالها داود وأنها هي فصل الخطاب الذي أوتيه، وقيل قالها غيره، وعلى كل حال فالنبي ﷺ يأتي بها كثيرًا في خطبه وفي رسائله، فكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب الناس يوم الجمعة يقول: أَمَّا بَعْدُ، وإذا كتب رسالة يقول: أَمَّا بَعْدُ، لما كتب إلى هرقل قال: أَمَّا بَعْدُ.
وهي أولى من قول: وبعد، بعض الناس يقولون: وبعد، الأولى: أما بعد، يعني مهما يكون من شيء فبعد هذه المقدمة كذا وكذا، ولذلك دخل المؤلف الآن في صلب الرسالة وفي موضوعها بعد قوله: (أما بعد).
(المتن)
فإن الله شأنه وتعالى سلطانه لم يخلق الخلق عبثًا، ولم يتركهم سدى، وإنما خلقهم لعبادته فأمرهم بطاعته وحذرهم مخالفته، وأخبرهم تعالى أن الجزاء واقعٌ لا محالة إما في ناره بعدله أو في جنته بفضله ورحمته، قد أخبر بذلك في كل كتابٍ أنزله وعلى لسان كل رسولٍ أرسله كما نطقت بذلك الآيات القرآنية، وأخبرتنا بها الأحاديث النبوية، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات/56]، وقال: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا. [النساء/36]. وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ. [الإسراء/23].
فالعبادة التي هي اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال مختصة بجلاله وعظمته فهي الغاية المحبوبة له تعالى شأنه، والمرضية له، وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوحٌ لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ. [المؤمنون/23]. وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم من الرسل كلٌ قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.
وذلك أن الإله يُطلق على كل معبودٍ بحقٍ أو بباطل، والإله الحق هو الله، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. [محمد/19]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ. [النحل/36]. وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون. [الأنبياء/25].
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: (فإن الله شأنه وتعالى سلطانه لم يخلق الخلق عبثًا، ولم يتركهم سدى، وإنما خلقهم لعبادته فأمرهم بطاعته وحذرهم مخالفته) وهذا فيه بيان أن الله تعالى خلق الخلق لحكمة عظيمة وهي: التوحيد والعبادة، وأنه سيجازيهم على أعمالهم في الدار الآخرة، ففيه إثبات الجزاء والبعث والمعاد، قال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة/36]. وقال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون/115].
فالمؤلف أخذ الكلام من هذه الآيات: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا يعني لا تؤمرون في الدنيا ولا تجزون ولا تحاسبون في الآخرة!
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى[القيامة/36]، يعني مهملًا لا يؤمر ولا يُنهى في الدنيا ولا يُحاسب ولا يجازى في الآخرة؟ كلا، بل لابد من إرسال الرسل حتى تقوم الحجة على الناس وحتى تنقطع المعذرة، أرسل الله الرسل تبين للناس الأمر الذي خُلقوا من أجله، تبين للناس حقه وحينئذٍ قامت عليهم الحجة، ثم بعد ذلك الله تعالى يميتهم ثم يحييهم فيجازيهم على أعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
لذلك قال المؤلف رحمه الله: (فإن الله شأنه وتعالى سلطانه لم يخلق الخلق عبثًا، ولم يتركهم سدى، وإنما خلقهم لعبادته فأمرهم بطاعته). وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران/132]، في آيات كثيرة أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء/80]. وحذرهم مخالفته: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة/92] يعني: احذروا مخالفته.
(وأخبرهم تعالى أن الجزاء واقعٌ لا محالة) الجزاء يعني بعد الموت، الجزاء واقع على الأعمال.
(إما في ناره بعدله أو في جنته بفضله ورحمته) يعني الجزاء يكون بالنار للعصاة عصاة الموحدين والكفرة، الكفرة مخلدون في النار والعصاة منهم من يدخل النار ومنهم من يُعفى عنه، عصاة الموحدون الذين ماتوا على التوحيد منهم من يعفو الله عنه كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء/48]. ومنهم من يُطهر من معاصيه بالعذاب في القبر، ومنهم من تصبه الأهوال والشدائد، ومنهم من يُشفع فيه فيشفع الله فيه الشافعين فيطهر بهذا، ومنهم من يدخل النار فيُطهر بالنار، وأما الكفرة فإن النار مثواهم الذين هم أهلها نسأل الله السلامة والعافية.
والكفار عذابهم بالنار تغشاهم من جميع الجهات: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف/41]، وأما الموحدون فلا تغمرهم من جميع الجهات ولا تصيب مواقع الصلاة مواضع السجود لا تأكل النار وجوه المصلين ولا أيديهم ولا تغمرهم من جميع الجهات، وجلوسهم فيها مؤقت حتى وقت التطهير، وأما الكفرة فإنهم مخلدون فيها.
(إما في ناره بعدله أو في جنته بفضله) يعني الموحدون الذين وحدوا الله يدخلون الجنة بفضل الله كما سبق بنص الآية، وكما دل الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ. قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَفَضْلٍ لأن دخول الجنة بالرحمة لا بالعمل، لكن العمل سبب للرحمة، من جاء بالسبب نالته الرحمة ودخل الجنة، والسبب: هو الإيمان والتوحيد والعمل الصالح هذا هو السبب لنيل الرحمة، من أتى بالسبب نالته رحمة الله فدخل الجنة برحمته، ومن لم يأت بالسبب لم تنله الرحمة.
إذًا التوحيد والإيمان سبب والدخول برحمة الله تعالى، ثم بعد ذلك إذا دخلوا الجنة تقاسموا الغرف والدرجات بالأعمال (إما في ناره بعدله أو في جنته بفضله ورحمته).
قال المؤلف: (قد أخبر بذلك في كل كتابٍ أنزله وعلى لسان كل رسولٍ أرسله) يعني قد أخبر الله هذا بأن الله خلق الخلق لعبادته وتوحيده وطاعته وأنه سيجازيهم، وأن الجزاء إما في النار أو في الجنة أخبر الله تعالى بهذا في كل كتاب، في القرآن، في التوراة، في الإنجيل، وفي جميع الكتب التي أنزلها الله، وكذلك على لسان كل رسول.
قال: (كما نطقت بذلك الآيات القرآنية، وأخبرتنا به الأحاديث النبوية) ثم استدل بالآية قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات/56]، دلت الآية على أن الله تعالى خلق الخلق، خلق الثقلين لحكمة عظيمة وهي العبادة لذا فيها الحصر: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات/56]، حصر، يعني: ما خلقتهم لشيءٍ،، لم يخلق الله الخلق ليتكاثر بهم من قلة ولا يصبح بهم عزيزًا من ضعف، ولا خلقهم لأنه يحتاجهم ليتقوى بهم أو يتكثر بهم لا، إنما الحكمة بينها الله: إِلاَّ لِيَعْبُدُون .
وقال: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا. [النساء/36]. وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ. [الإسراء/23] قضى ربك يعني: أمر ووصى: أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ. حصر، وهذا هو معنى: لا إله إلا الله؛ لأن هذا قال: أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ.
- لأن التوحيد مبني على أصلين:
الأصل الأول: البراءة من كل معبودٍ سوى الله، وهذا هو الكفر بالطاغوت.
الأصل الثاني: الإيمان بالله وحده، وهذا هو الإيمان بالله، قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة/265].
كلمة التوحيد فيها الأصلان: "لا إله" هذا هو الأصل الأول وهذا هو البراءة من كل ما سواه وهذا هو الكفر بالطاغوت، والأصل الثاني: "إلا الله".
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء/23] هذه فيها الأصلان وهو معنى الآية: لا تعبدوا إلا إياه.
قال المؤلف رحمه الله: (فالعبادة التي هي اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال) هذا تعريف العبادة وهو تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عرف العبادة بأنها: اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
ما يحبه الله من الأقوال سواءٌ الأقوال: قول القلب هو التصديق والإقرار، و قول اللسان وهو النطق، والعمل: عمل القلب كالنية والإخلاص، وعمل الجوارح: كالصلاة والصيام.
من الأقوال والأعمال الظاهرة: مثل الصلاة والصيام، والباطنة: كأعمال القلوب وأقوال القلوب، اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
والعبادة هي: امتثال الأوامر واجتناب النواهي باختصار، تفعل الأوامر سواء أمر إيجاب كقوله تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّهَ [النساء/36]. أو أمر استحباب: كالأمر بالسواك، وتترك النواهي سواءٌ كان نهي تحريم كقوله تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء/32]. أو نهي تنزيه: كالنهي عن الحديث بعد صلاة العشاء: «كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها».
فهذه العبادة: فعل الأوامر وترك النواهي سواءٌ كان الأمر أمر إيجاب أو أمر استحباب، وسواء كان نهي تحريم أو نهي تنزيه، قال بعضهم: العبادة هي ما أُمر به شرعًا من غير اضطرادٍ عرفي ولا اقتضاءٍ عقلي، ما أُمر به شرعًا من غير أن يضطرد من العرف ومن غير أن يقتضيه العقل، يعني: الأوامر ما يُقال العقل هو الذي اقتضاها أو العرف اضطرد لا، الأوامر هي: الصادرة من الله وهي أمر الله لا تتعلق بالعرف ولا بالعقل.
شيخ الإسلام يقول: العبادة اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قال المؤلف رحمه الله: (فالعبادة التي هي اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال مختصة بجلاله وعظمته) يعني يجب صرفها لله مختصة به.
(فهي الغاية المحبوبة له تعالى شأنه والمرضية له) الغاية المحبوبة هي العبادة، (فهي الغاية المحبوبة له تعالى شأنه والمرضية له) يعني إذا وحد الإنسان ربه وأخلص له العبادة فهذا هو الغاية التي يرضاها الله تعالى ويحبها من العبد أن يوحد الله ويُخلص له العبادة هو الغاية، إذا وحد الإنسان ربه وأدى ما أوجب الله عليه فهذا هو الغاية التي من أجلها يرضى الله ، ومن أجلها يحب الله تعالى العبد، الغاية المحبوبة لله والمرضية له.
قال: (وبها أرسل جميع الرسل) يعني بالعبادة أرسل جميع الرسل، جميع الرسل كلهم أمرهم الله بأن يأمروا قومهم بالعبادة كما سمعنا، ولهذا قال المؤلف: (كما قال نوحٌ لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون/23]). ثم قال: مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون/23] حصر، هذه فيها الركنان وهما: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله.
(وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم من الرسل كلٌ قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وذلك أن الإله يُطلق على كل معبودٍ بحقٍ أو بباطل) الإله هو المعبود بحقٍ أو بباطل.
(والإله الحق هو الله) وما عداه فهو معبودٌ بالباطل كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ [لقمان/30].
الإله الحق هو الله، ولهذا نقول: لا إله إلا الله، هذه كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، معناها: لا معبود بحقٍ إلا الله، لا: نافية للجنس من أخوات إن تنصب الاسم وترفع الخبر، إله: اسمها، والخبر تقديره لا إله حقٌ، لا معبود حقٌ، ثم استثنى: إلا الله، لا معبود بحقٍ إلا الله، والإله هو المعبود.
وقد غلط بها الصوفية وبعض الأشاعرة أهل الكلام ففسروا الإله بأنه الخالق، قالوا: لا إله إلا الله معناها: لا خالق إلا الله، بعضهم قال: لا قادر على الاختراع إلا الله، وهذا باطل، لو كان المعنى: لا خالق إلا الله صار أبو جهل مؤمن، أبو جهل يقول: لا خالق إلا الله، وأبو لهب يكون مؤمن، المشركون يقولون: لا خالق إلا الله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف/87]. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت/63]. قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون/84-89].
لو كان معناها كما يقول الصوفية وكما يقول أهل الكلام معناها: لا خالق غير الله، لكان المشركون مؤمنون، النبي ﷺ كفر المشركين وقاتلهم واستحل دمائهم وأموالهم وهم يقولون: لا خالق إلا الله، فدل على أن الإله ليس معناه الخالق ولا يتبين عظمة هذه الكلمة وأنها تنفي الشرك إلا إذا فُسر الإله بالمعبود، قال تعالى في الآيات: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود/101].
إذًا الإله معناه هو المعبود وليس معناه الخالق، "لا إله" الإله هو المعبود، فهو يُطلق على كل معبود بحقٍ أو بباطل والإله الحق هو الله، وكل مألوه سوى الله فهو مألوه بالباطل، قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد/19]. بدأ بالعلم، اعلم واعتقد أنه لا معبود بحق إلا الله، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل/36].
- تحقق فيها أصلان:
- اعبدوا الله هذا هو الإيمان بالله.
- واجتنبوا الطاغوت هذا الكفر بالطاغوت.
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء/25]، فلا بد من تحقيق هذين الأصلين.
يعني لو قال الإنسان: أنا أؤمن بالله وأنا أعبد الله، هل يكفي في كونه موحد؟ ما يكفي، نقول: تعبد الله وقد تعبد معه غيره، المشركون يعبدون الله، كذلك أيضًا النفي، من نفى الإطلاق سمي ملحد لكن نفي ثم إثبات وبهذا يكون التوحيد بأمرين: بالنفي والإثبات، النفي: هذا هو الأصل وهو الكفر بالطاغوت، "لا إله إلا الله" لا معبود حقٌ إلا الله.
(المتن)
فصل:
فنحن لما علمنا وفهمنا من كلام الله تعالى وسنة رسوله وكلام الأئمة الأعلام كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم من أئمة السلف.أن لـ"لا إله إلا الله" معنًى يخصها وهي ترك كل معبود مع الله وإخلاص الإلهية له تعالى وحده.
وأن العباد وأفعالهم مما أمرهم به في كتابه، وعلى لسان رسوله وإذا جُعلت لغيره تعالى صار ذلك الغير إلهًا مع الله، وإن لم يعتقد الفاعل ذلك. فالمشرك مشرك شاء أم أبى وليست خاصةً بالإيمان بأفعاله تعالى وتقدس، كخلقه السموات والأرض والليل والنهار، ورزقه العباد وتدبيره أمورهم؛ لأن هذا يسمى توحيد الربوبية الذي أقر به الكفار الأولون كما في سورة: يونس، والزمر، والزخرف وغيرها.
وإنما معناها لغةً: الذل والخضوع.
وشرعاً: ما أمر به من غير اضطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي من أفعال العباد وأقوالهم المختصة بجلال الله تعالى وعظمته، كدعائه تعالى بما لا يقدر عليه إلا هو من جلب نفعٍ أو دفع ضر أو رجائه فيه والتوكل عليه، وذبح النسك والنذر لجلب خير أو دفع شر لا يقدر عليه إلا الله.
والإنابة والخضوع كل ذلك مختص بجلال الله كالسجود والتسبيح والتهليل، فكل ذلك مما قدمناه هو معنى قول "لا إله إلا الله".
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: فصل: (فنحن لما علمنا وفهمنا من كلام الله وسنة رسوله وكلام الأئمة الأعلام كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم من أئمة السلف أن لـ"لا إله إلا الله" معنًى يخصها).
يقول: فهمنا من كلام الله وفهمنا من كلام النبي ﷺ وفهمنا من كلام الأئمة أن كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" لها معنًى يخصها، ما هو هذا المعنى الذي يخصها؟ (وهي ترك كل معبود مع الله) هذا هو الكفر بالطاغوت، (وإخلاص الإلهية له تعالى وحده) هذا هو الإيمان بالله.
يعني أنه ل"لا إله إلا الله" خصوصية وهي: تحقق الأصلين، ما هما الأصلان؟
الأصل الأول: الكفر بالطاغوت، وهذا هو البراءة من كل معبود سوى الله، الكفر بالطاغوت هي: اعتقاد بطلان كل عبادة لغير الله ونفيها وإنكارها والبراءة منها ومن أهلها، هذا هو الكفر بالطاغوت.
الأصل الثاني: إخلاص العبادة لله .
المؤلف رحمه الله يقول: فهمنا من كلام الله وفهمنا من كلام رسول الله ﷺ وفهمنا من كلام الأئمة أن كلمة التوحيد لها معنًى يخصها وهي: تحقق هذين الأصلين، أنها لا تصح ولا تكون صحيحة ولا نافعة ولا متحققة ولا مؤدية للثمرة المرجوة ولا ناقلة لصاحبها من الشرك إلى التوحيد إلا إذا لحقها هذان الأصلان، ما هما الأصلان؟ النفي والإثبات، "لا إله" نفي، وهذا هو الكفر بالطاغوت، والإثبات هو الإيمان بالله.
هذه الخلاصة: أن المؤلف يقول: فهمنا من كلام الله وفهمنا من كلام رسول الله ﷺ وفهمنا من كلام الأئمة أن كلمة التوحيد لا تكون متحققة ولا موجودة ولا نافعة إلا إذا تحقق فيها الأصلان، كلمة التوحيد تقوم على هذين الأصلين وهي: ترك كل معبودٍ مع الله وإخلاص الإلهية لله تعالى وحده.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وأن العباد وأفعالهم مما أمرهم به في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ) يعني العباد وأفعالهم مما أمرهم الله به، يعني: العباد مخلوقون لله وأفعالهم خلقها الله تعالى وأوجدها، (مما أمرهم به في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ).
ذكر في نسخة قال: (وأن توحيد العبادة هو إفراد العباد ربهم بأفعالهم التي أمرهم بها في كتابه وعلى لسان رسوله) هذه النسخة قد تكون أوضح، يعني يقول إن توحيد العبادة وتوحيد الإلوهية ما هو؟ هو أن يُفرد العباد ربهم بأفعالهم، ما هي أفعالهم؟ صلاة، صيام، زكاة، حج، الدعاء، النذر، الذبح، هذا توحيد العبادة وهو: أن يُفرد العباد ربهم بأفعالهم التي أمرهم بها في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ، هذه أوضح من العبارة السابقة.
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا جُعلت لغيره تعالى صار ذلك الغير إلهًا مع الله، وإن لم يعتقد الفاعل ذلك، فالمشرك مشرك شاء أم أبى) يعني يقول المؤلف: إذا صُرفت العبادة لغير الله هذا الشيء الذي صُرفت له العبادة صار إله مع الله، كيف صار إلهًا مع الله؟ بصرف العبادة له، حينما صرف العبادة صار إله سواء اعتقدت أنه إله أو لم تعتقد.
ولهذا قال المؤلف: (وإن لم يعتقد الفاعل ذلك. فالمشرك مشرك شاء أم أبى) شخص يعبد الأصنام يقول: أنا ما أنا مشرك، ينفع هذا؟ يقول: أنا ما مشرك، نقول: أنت مشرك شئت أم أبيت، فكذلك إذا جُعلت العبادة لغير الله صلى شخصٌ لغير الله، تقول: صلى لأي شيء؟ للصنم، تقول: هذا الصنم جعلته إله، قال: أنا ما أعتقد أنه إله، نقول: هو إله شئت أم أبيت؛ لأنك عبدته من دون الله.
وهذا معنى قول المؤلف: (وإن لم يعتقد الفاعل ذلك. فالمشرك مشرك شاء أم أبى) إذا جُعلت العبادة لغير الله، أي عبادة، إذا جُعلت الصلاة عبادة، أو الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج، أو الدعاء، أو الذبح، أو النذر، أي نوع من أنواع العبادة إذا صُرف لغير الله فهذا الشيء الذي صُرف له يكون إله شاء العابد أم لم يشأ.
قال المؤلف: (وليست خاصةً بالإيمان بأفعاله تعالى وتقدس، كخلقه السموات والأرض والليل والنهار، ورزقه العباد وتدبيره أمورهم؛ لأن هذا يسمى توحيد الربوبية) يعني يقول: ليست العبادة خاصة بالإيمان بأفعال الرب سواءً قلنا: إن توحيد الربوبية هو الإيمان وهو توحيد الله بأفعاله هو بأفعال الرب، يقول: ليست العبادة خاصة بالإيمان بأفعال الرب، لا، بل العبادة خاصة بالإيمان بأفعالك أنت توحيد الله بأفعالك أنت أيها العبد، ما هي أفعالك؟ صلاة، زكاة، صيام، حج، أما أفعال الرب كخلق السماوات والأرض، والليل والنهار، ورزقه العباد، وهذا يسمى توحيد الربوبية.
ولهذا قال المؤلف: (وليست خاصةً بالإيمان بأفعاله تعالى وتقدس، كخلقه السموات والأرض والليل والنهار، ورزقه العباد وتدبيره أمورهم؛ لأن هذا يسمى توحيد الربوبية الذي أقر به الكفار الأولون) الكفار الأولون كلهم أقروا بهذا، أقر به الكفار في كل زمان، مشركوا قريش أقروا بهذا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف/87]. قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون/84-85]. قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس/31].
إذًا هو مقر بهذا، (الذي أقر به الكفار الأولون كما في سورة: يونس) يعني كما في هذه الآية التي قرأتها لكم في سورة يونس: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس/31]. وكما في سورة الزمر: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر/38]. وكما في سورة الزخرف: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف/9].
(وغيرها أيضًا) كما في سورة المؤمنون: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون/86-87].
قال المؤلف: (وإنما معناها) يعني العبادة، (لغةً: الذل والخضوع) يُقال: طريقٌ معبد إذا كان مذلل تطأه الأقدام، ومنها الآن الطرق المعبدة نسميها معبدة لماذا؟ مذللة تطأها الأقدام والسيارات والآدميون، كل طريق تطأه الأقدام والحيوانات يسمى معبد، يعني: مذلل، وسمي العبد عبد؛ لأنه خاضع لله متذلل له، ممتثلٌ لأمره، فلماذا سمي العبد عبد؟ لخضوعه وذلك واستكانته لربه .
- والعبادة نوعان:
عبادة عامة: فالناس كلهم معبدون لله مؤمنهم وكافرهم بمعنى أنهم خاضعون لله تعالى تنفذ فيهم أقدار الله ومشيئته.
عبادة خاصة بالمؤمن: وهو الذي يعبد الله باختياره.
وأما العبادة العامة التي تشمل المؤمن والكافر معناها: أنه مذلل ومقهور تنفذ فيه الأقدار شاء أم أبي المؤمن والكافر، إذا أراد الله للمؤمن أو الكافر يموت مات، إذا قدر الله عليه قدر لابد ينفذ فيه القدر، إذا أراد الله أن يكون فقير صار فقير كافر ومؤمن، أراد الله أن يصير غني صار غني، أراد الله له أن يكون طويل كان طويل يكون قصير كان قصير، وهكذا هذه هي العبودية العامة، فالعبودية العامة تشمل المؤمن والكافر.
أما العبودية الخاصة: التي عليها مدار السعادة والتي خص بها المؤمنين هي أن يعبد الإنسان ربه باختياره.
قال المؤلف: (وشرعاً: ما أمر به من غير اضطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي) هذا الذي قلت لكم تعريف بعض العلماء: (ما أمر به من غير اضطراد عرفي) يعني لم يضطرد العرف، نقول: اضطرد عرف الناس على أن الجلسات الآن تكون بعد العشاء الآخر هذا اضطرد العرف بها، هل المسألة أن العبادة إذا اضطرد العرف على شيء يكون عبادة؟ لا، (ولا اقتضاء عقلي) العقل يقتضي مثلًا أن الواحد نصف الاثنين هذا اقتضاه العقل مثلًا، هل العبادة هذه ناتجة عن اقتضاء العقل؟ لا، ليست ناتجة عن اقتضاء العقل ولا اضطراد العرف، وإنما العبادة ما أُمر به شرعًا من غير أن يتدخل العرف ولا العقل.
(ما أمر به من غير اضطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي من أفعال العباد) يعني ما أُمر به شرعًا من أفعال العباد، كلمة (من أفعال العباد) ما أُمر به شرعًا من أفعال العباد مثل الدعاء، والذبح، والنذر، والصلاة. (وأقوالهم) كتلاوة القرآن والذكر، (المختصة بجلال الله تعالى وعظمته، كدعائه تعالى بما لا يقدر عليه إلا هو من جلب نفعٍ أو دفع ضر) مثل: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم إني أسألك مثلًا أن توفقني للخيرات، (أو دفع ضر) اللهم أسألك أن تكشف ضري، اللهم أسألك أن تُهلك عدوي، هذا دعاء الله تعالى بما لا يقدر عليه إلا هو من جلب نفعٍ أو دفع ضر. (أو رجائه فيه) ترجو الله أن يدخلك الجنة بعد العمل الصالح، (والتوكل عليه) تتوكل عليه وتعتمد عليه وتفوض الأمر إليه بعد فعل الأسباب، (وذبح النسك) تذبح لله الضحايا والهدايا، (والنذر لجلب خير أو دفع شر) لئن شفى الله مريضي لأتصدقن بكذا وكذا، أو إن نجح ولدي في الامتحان لأصلي لله عشرين ركعة أو أتصدق بكذا أو أذبح كذا، هذا النذر بجلب نفع أو دفع ضر، (لا يقدر عليه إلا الله). (والإنابة) الرجوع إلى الله والتضرع إليه، (والخضوع كل ذلك مختص بجلال الله كالسجود) السجود خاصٌ بالله لا يجوز أن أسجد لغير الله، (والتسبيح) سبحان الله، لا تقول: سبحان فلان أو سبحان الملك الفلاني، لا، التسبيح خاص بالله، (والتهليل) لا إله إلا الله، (فكل ذلك مما قدمناه هو معنى قول "لا إله إلا الله").
(المتن)
(الشرح)
(ولا يغني أحد التوحيدين) يعني توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، لا يُغني أحدهما عن الآخر، ويدخل في توحيد الربوبية توحيد الأسماء والصفات.
(بل صحة أحدهما مرتبطة بوجود الآخر) فمن آمن بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لا يكفي حتى يوحد الله ويعبد الله، ومن عبد الله فإنه لا يكفي أن يعبد الله بل لابد أن يؤمن بأنه هو الخالق الرازق، المدبر، المحيي المميت، ولكن توحيد الربوبية داخل في ضمن توحيد الألوهية، من وحد الله وأخلص العبادة في ضمن ذلك اعتقاده أنه هو الخالق، لكن من آمن بأن الله هو الخالق هذه يستلزم أن يعبد الله لكن قد يلتزم بما لزمه وقد لا يلتزم، فهما لابد من الأمرين، لابد إليهما لتوحيد الربوبية، يعني ما يصح الإيمان حتى يؤمن الإنسان بربوبية الله وبأسمائه وصفاته وبألوهيته وعبادته، فهذه كلها متلازمة لابد من توحيد الله بالربوبية والأسماء والصفات والألوهية، فلا يصح أحد الأنواع بدون الآخر مرتبطة ولا يصح الإيمان ولا التوحيد إلا بها مجتمعة.
لهذا يقول العلماء: توحيد الألوهية متضمنٌ لتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية مستلزمٌ لتوحيد الألوهية، ما معنى هذا الكلام؟
- الدلالات الآن هي ثلاثة أنواع:
- دلالة الاقتضاء.
- دلالة الالتزام.
- دلالة التضمن.
دلالة التضمن: هي أن يكون الشيء في ضمن الشيء.
الطالب: دلالة المطابقة؟.
الشيخ: دلالة المطابقة هي: دلالة الشيء على جميع معناه، الآن دلالة مطابقة، ودلالة التزام، ودلالة تضمن.
دلالة المطابقة: دلالة الشيء على جميع معناه.
دلالة التضمن: دلالة الشيء على بعض معناه.
دلالة الالتزام: دلالة الشيء على خارج معناه.
الكلام مثلًا مكون من شيئين: اللفظ والمعنى، أليس كذلك؟! فدلالة الكلام على اللفظ والمعنى نسميها دلالة مطابقة، دلالة الكلام على اللفظ وحده أو على المعنى وحده دلالة تضمن، دلالة الكلام على وجود إنسان هذه دلالة التزام؛ لأنه خارج عن الكلام.
هنا توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، يعني: إذا وحدت الله وأخلصت له العبادة في ضمن ذلك أنك تؤمن بأنه هو الرب، أما توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، من آمن بأن الله هو الخالق الرازق يلزمه أن يوحد الله، لكن ما كل أحد يلتزم بما لزمه، قد يلتزم وقد لا يلتزم.
(المتن)
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: (فلما فهمنا ذلك وعلمنا به) يعني التوحيد، (قام علينا أهل الأهواء فخرجونا) يعني جعلونا خوارج، قالوا: خوارج، وهابية، مذهب خامس، (وبدعونا) قالوا: مبتدعة خالفوا الناس وخالفوا الأئمة، أهل بدع، (وجعلوا اليهود والنصارى أخف منا شراً) يعني بعضهم الآن يبغض أهل التوحيد أشد من بغضه اليهود والنصارى، يقولون: الوهابية أبغض الناس يجب قتال الوهابية قبل قتال اليهود والنصارى، الوهابية ما جاءوا بشيء من عند أنفسهم، الوهابية نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن عبد الوهاب في كل كتبه الآن كلمة ودليل من كتاب وسنة ما جاء بشيء من عند نفسه.
(وجعلوا اليهود والنصارى أخف منا شراً ومن أتباعنا) لأنهم جهلوا، (ولم نتنازع مع العدو في سائر المعاصي بأنواعها ولا المسائل الاجتهادية) يقول: ما حصل بيننا وبينهم العداء في المعاصي: في السرقة أو في الزنا لا، ولا في المسائل الاجتهادية ما جرى بيننا الخلاف إلا في العبادة فقط وأنواعها والشرك بأنواعه هذا هو النزاع الذي بيننا وبينهم، نحن الآن نقرر التوحيد ونقرر أنواع العبادة ونأمر بأصل الوحيد وننهاهم عن الشرك هذا هو الخلاف بيننا وبينهم، نحن متفقين ومعهم أن الزنا حرام وأن الخمر حرام، وأن عقوق الوالدين حرام، وأن الربا حرام، وأن الصلاة واجبة والزكاة واجبة هذا كله متفقون عليه، ما هو الخلاف الذي بيننا وبينهم؟ التوحيد وأنواعه والشرك وأنواعه فقط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وليس النزاع بيننا وبين هؤلاء الغلاة في المسائل النظرية الخفية الاجتهادية التي يخفى دليلها، إنما النزاع في صرف خالص حق الله تعالى للأولياء والصالحين من الدعاء والحب والخوف والرجاء، والاستغاثة وغير ذلك من أنواع العبادة فإن هذا مما يُعلم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا يستحقه إلا الله تعالى، وأن من صرف شيئًا من هذه الأنواع لغير الله فهو كافر مشرك.
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: وهذا الدين الذي ندعو إليه قد ظهر أمره وشاع وذاع وملأ الأسماع من مدة طويلة، وأكثر الناس بدعونا وخرجونا، بدعونا: يعني قالوا مبتدعة، خرجونا: قالوا خوارج، وعادونا عنده وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد. كما قال الله تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج/8].
ما هو ذنبنا إلا أننا نوحده خرجونا وبدعونا وعادونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد والنهي عن دعوة غير الله والاستغاثة بغيره، وما أُحدث من البدع والمنكرات.
وفق الله الجميع لطاعته.