الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين أجمعين.
(المتن)
قال رحمه الله تعالى:
فصل: فنحن نقول ليس للخلق من دون الله من ولي ولا نصير، وسائر الشفعاء محمد ﷺ سيدهم وأفضلهم، فمن دونه لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة/255] . أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ [الكهف/102] . وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء/28] .
وإذا كان كذلك فحقيقة الشفاعة كلها لله، فلا تُسأل في هذه الدار إلا منه ، وأن يشفع فيهم نبيه ﷺ فجميع الأنبياء والأولياء لا يجعلون وسائل ولا وسائط بين الله وبين الخلق في جلب الخير أو دفع الشر، ولا يُجعل لهم من حقه تعالى شيء، لأنه حقه تعالى وتقدس غير جنس حقهم.
فإن حقه عبادته بأنواعها بما شرع في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ، وحق أنبيائه عليهم السلام الإيمان بهم وبما جاؤوا به، وموالاتهم، وتوقيرهم، وإتباع النور الذي أنزل معهم، وتقديم محبتهم على النفس والمال والبنين والناس أجمعين.
وعلامة الصدق في ذلك إتباع هديهم والإيمان بما جاؤوا به من عند ربهم، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران/31] .
والإيمان بمعجزاتهم، وأنهم بلغوا رسالات ربهم، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وأن محمداً ﷺ خاتمهم وأفضلهم، وإثبات شفاعتهم التي أثبتها الله في كتابه، وهي من بعد إذنه لمن رضي الله عنه من أهل التوحيد.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: فصل: (فنحن نقول ليس للخلق من دون الله من ولي ولا نصير، وسائر الشفعاء محمد ﷺ سيدهم وأفضلهم، فمن دونه لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله) المؤلف رحمه الله يبين عقيدة أهل السنة والجماعة وعقيدة أهل التوحيد في هذا، وأن عقيدة أهل السنة والجماعة كما دلت عليه النصوص أنه ليس للخلق من دون الله ولي ولا نصير، كما قال الله تعالى في كتابه: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة/107].
فليس من دون الله أحد يتولاه المؤمنون، المؤمنون يتولون ربهم، ويتولون الأنبياء ويتولون الصالحين فموالاتهم تبعًا لموالاة الله، والولاية معناها: المحبة والنصرة، فالمحبة لله تعالى هي أصل التوحيد، ومحبة الأنبياء والرسل والمؤمنين تابعة لمحبة الله ، وأما المحبة مع الله فهذه المحبة الشركية، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة/165].
- فإذًا المحبة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: محبة الله، هذه أصل الدين وأساس الدين.
النوع الثاني: المحبة لله، لأجل الله كمحبة الأنبياء والرسل والصالحين هذه تابعة لمحبة الله.
النوع الثالث: المحبة مع الله، وهذه المحبة الشركية.
ولهذا قال المؤلف: (فنحن نقول ليس للخلق من دون الله من ولي ولا نصير، وسائر الشفعاء محمد ﷺ سيدهم وأفضلهم، فمن دونه لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله).
- يعني جميع الشفعاء لا يشفعون إلا بشرطين:
الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفع، ودليله هذه الآية: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. [البقرة/255]. وقوله تعالى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ [الكهف/102].
يعني لا يمكن، استفهام إنكار، يعني: أيظن الكفار أنهم يتخذوا عباد الله من دون الله أولياء؟ لا يمكن؛ لأن هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كفار.
الشرط الثاني: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء/28].
هذا هو الشرط الثاني
فالشفاعة لها شرطان:
الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفع.
الشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له.
وقد جمع الله تعالى بين الشرطين في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم/26]. إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ هذا الشرط الأول.لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى هذا الشرط الثاني.
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا كان كذلك فحقيقة الشفاعة كلها لله، فلا تُسأل في هذه الدار إلا منه ، وأن يشفع فيهم نبيه ﷺ) إذا كان كذلك، يعني: الشفاعة تكون بإذن الله ولا تكون إلا لمن ارتضى.
إذًا الشفاعة لله وهو مالكها كما قال تعالى في الآية الأخرى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر/44]؛ لأن هو مالكها.
إذًا الشفاعة فيها إكرام، إكرام من الله للشافع، فالله تعالى يُكرم بعض عباده وبعض أولياءه فيشفعهم فيكون هذا إكرامٌ من الله تعالى لهم، وإلا فالشفاعة من الله ولا يملكها إلا الله، فهي إكرام للشافعين يشفعون بإذن الله.
قال المؤلف: (فجميع الأنبياء والأولياء لا يجعلون وسائل ولا وسائط بين الله وبين الخلق في جلب الخير أو دفع الشر، ولا يُجعل لهم من حق الله تعالى شيء) يعني: جميع الأنبياء والأولياء، يعني: الصالحين، وإلا الأنبياء هم أعلى الأولياء؛ (لا يجعلون وسائل) يعني يُتوسل بهم، (ولا وسائط بين الله وبين الخلق في جلب الخير أو دفع الشر) جلب الخير ودفع الضر يُسأل من الله، اللهم اشف مريضي، اللهم نجني من النار، اللهم أدخلني الجنة، جلب الخير: اللهم أدخلني الجنة، اللهم ارزقني، ودفع الشر: اللهم نجني من النار، اللهم اشف مريضي، هذا لا يمكن تجعل وسائط بينك وبين الله ما في واسطة، تسأل الله مباشرة.
أما أن تقول: يا رسول الله اشفع لي أن يغفر الله لي، أو في أن يُدخلني الجنة، أو في أن يرزقني، لا ما يجوز، ما تجعل وسائط، ما في وسائط ولا وسائل، وسائل: جمع وسيلة، والوساطة هي واسطة والمشركون إنما جعلوا وسائل ووسائط فبذلك أشركوا، قال الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس/18].
جعلوهم شفعاء، في الآية الأخرى أخبر الله عنهم قال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر/3]، وبذلك أشركوا لما جعلوا وسائط ووسائل مع الله أشركوا مع الله؛ لأن المشركين يتخذون وسائل ووسائط ويعلمون أنهم لا ينفعون ولا يضرون والذي ينفع ويضر هو الله، لكن يقولون: هم أقرب منا إلى الله، هم ليس لهم ذنوب، فهذا جعلهم وسائط ووسائل، فبذلك كانوا مشركين.
قال المؤلف: (ولا يُجعل لهم من حقه شيء، لأن حقه تعالى وتقدس غير جنس حقهم) لا يُجعل للأولياء ولا للأنبياء شيء من حق الله، حق الله تعالى ما هو؟ العبادة، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: الصلاة عبادة، والصوم عبادة، والزكاة عبادة، والحج عبادة، والدعاء عبادة، والذبح عبادة، والنذر عبادة، والتوكل عبادة، والرهبة عبادة، والرغبة عبادة، والرجاء عبادة، والخوف عبادة، والإنابة عبادة، هذا حق الله لا يمكن صرفها لغير الله، إذا صرف الإنسان منها لغيره وقع في الشرك.
لا تدعو إلا الله ولا تصلي إلا لله، ولا تنذر إلا لله، ولا تذبح إلا لله، هذا حق الله، ولا يرضى الله أن يُشرك معه بحقه لا ملكٌ مقرب ولا نبيٌ مرسل، هذا هو توحيد العبادة.
توحيد العبادة: أن توحد الله بأفعالك أنت، دعا، ذبح، نذر.
توحيد الربوبية: أن توحد الله بأفعاله هو، وتوحيد الربوبية أقر به المشركون والمؤمنون كلهم واجتمعت فيه الخلائق.
توحيد الألوهية: هو مفترق الطرق بين هؤلاء وهؤلاء.
ولهذا يقول المقريزي في رسالة "تجريد التوحيد" قال: توحيد الربوبية هو الذي اجتمع فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الألوهية مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين، ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، فلو قال: لا رب إلا الله لما أجزأه عند المحققين.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: أما توحيد الربوبية فأقر به الكافر والمشرك، وأما توحيد الألوهية فهو الفارق بين الكافر والمسلم، فينبغي لكل مسلم أن يميز بين هذا وهذا، الله تعالى له حق، والأنبياء لهم حق، والصالحون لهم حق، لا تخلط بين الحقوق، هناك حق خاص بالله وهو العبادة، وهناك حقٌ مشترك بين الله وبين رسوله وهو: الطاعة والإتباع والمحبة هذه الحقوق المشتركة، وكذلك المؤمنون لهم حق محبتهم والاقتداء بأفعالهم الطيبة، وموالاتهم ونصرتهم.
لا تخلط بين الحقوق فالله له حق لا يُشرك به أحدًا: العبادة، والرسول له حق وهو: التوقير، والإتباع، والمحبة، والطاعة، والإيمان به ﷺ، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتعبد لله بما شرعه.
قال المؤلف رحمه الله: (لأن حقه تعالى وتقدس غير جنس حقهم فإن حقه عبادته بأنواعها بما شرع في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ) هذا حق الله العبادة.
(وحق أنبيائه عليهم السلام الإيمان بهم وبما جاؤوا به، وموالاتهم، وتوقيرهم، وإتباع النور الذي أنزل معهم، وتقديم محبتهم على النفس والمال والبنين والناس أجمعين) بين المؤلف رحمه الله حق الله وحق الرسول، حق الله: العبادة، حق الرسول والرسل: الإيمان بهم، والإيمان بما جاءوا به، (موالاتهم) يعني: محبتهم ونصرتهم، (وإتباع النور الذي أنزل معهم) وهو ما أنزله الله عليهم من الوحي، (وتقديم محبتهم على النفس والمال والبنين والناس أجمعين) لقول النبي ﷺ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
فإذا قدم محبة شيء على محبة النبي ﷺ صار عاصيًا وصار إيمانه ناقصًا، ولكن معه أصل المحبة وأصل الإيمان، فمن لم يحب الله فهو كافر، لكن المحبة الكاملة أن تقدم محبة الله على كل شيء، ولهذا قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة/24].
من قدم شيء من أصناف المحبة الثمانية: والآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والأموال، والعشيرة، والتجارات، والمساكن، من قدم شيئًا منها على محبة الله ورسوله فهو فاسق وضعيف الإيمان متوعد بالوعيد لكن عنده أصل الإيمان.
قال المؤلف: (وعلامة الصدق في ذلك إتباع هديهم والإيمان بما جاؤوا به من عند ربهم) هذا العلامة، علامة الصدق في محبة الله هو إتباع الرسول، والدليل قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران/31].
هذه آية تسمى آية المحنة، آية الامتحان، ادعى قومٌ محبة الله فامتحنهم الله بهذه الآية، هذا دليل، الكل يدعي محبة الله، لكن هات الدليل؟ الدليل اتباع الرسول، من كان متبعًا للرسول فهو صادق في محبة الله، ومن كان مخالفًا للرسول فهو كاذب في دعواه ولا تُقبل الدعاوى إلا بدليل، ولهذا لما ادعى قومٌ محبة الله أنزل الله هذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران/31].
قال المؤلف: (والإيمان بمعجزاتهم) وهي خوارق العادات التي آتاهم الله: كالإسراء والمعراج لنبينا ﷺ ، والعصا واليد لموسى، (وأنهم بلغوا رسالات ربهم) لابد من اعتقاد هذا أنهم بلغوا الرسالة، من اعتقد أن الأنبياء لم يبلغوا رسالة الله أو النبي لم يبلغ رسالة الله فهو كافر، (وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة) لابد من الإيمان بهذا.
(وأن محمداً ﷺ خاتمهم وأفضلهم) لابد من الإيمان بهذا، قال ﷺ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ.
(وإثبات شفاعتهم التي أثبتها الله في كتابه) نعم، إثبات الشفاعة لكنها بشرطين، ولهذا قال المؤلف: (وهي من بعد إذنه لمن رضي الله عنه من أهل التوحيد) من بعد إذنه هذا الشرط الأول، لمن رضي الله عنه من أهل التوحيد هذا الشرط الثاني.
(المتن)
(الشرح)
الوَلاية بفتح الواو: المحبة والنصرة.
أما الوِلاية بالكسر: الإمارة، بالكسر الولاية: نجارة، حدادة، حياكة، إمارة، كلها بالكسر، الوِلاية: هي التولي، الوظيفة تسمى وِلاية، أما وَلاية بالفتح: النصرة، والمراد هنا الفتح.
(المتن)
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: (المقام المحمود الذي ذكر الله في كتابه) في قوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء/79].
(مذكرًا بعظم شأنه فهو خاص لنبينا محمد ﷺ) المقام المحمود شرفٌ عظيم لنبينا ﷺ يغبطه فيه الأولون والآخرون، وهو: الشفاعة، أن الله يشفعه في الخلائق في موقف يوم القيامة حتى يُقضى بين العباد، وهو عام لأهل الموقف مؤمنهم وكافرهم، هذا المقام المحمود، شرف عظيم.
وذلك أن الناس يوم القيامة يقفون بين يدي الله حفاةً لا نعال عليهم، عراةً لا ثياب عليهم، غرلًا غير مختونين، وتدنو الشمس من الرؤوس ويُزاد الحرارة عليهم ويشتد الكرب على الناس فيموج الناس بعضهم ببعض ويفزعون إلى الأنبياء يطلبون منهم الشفاعة؛ لأنهم أحياء والحي ما في مانع تطلب منه أن يدعو الله، لكن ممنوع تدعو الميت والغائب أما الحي ما في مانع، أحياء يوم القيامة. فيذهب الناس إلى آدم يقولون: يا آدم أصابنا كرب عظيم وشدة وأنت لك منزلة وجاه عن الله خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من هذا الموقف، فيعتذر آدم ويقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني أكلت من الشجرة التي نُهيت عنها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول بعثه الله لأهل الأرض، فيذهبوا إلى نوح يقولون: يا نوح أنت أول رسول بعثك الله للأرض وسماك الله عبدًا شكورًا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه من الشدة والكرب، فيقول نوح: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني دعوت على أهل الأرض دعوةً أغرقتهم، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فإنه خليل الله نفسي نفسي، فيذهبون إلى إبراهيم: يا إبراهيم أنت خليل الله اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه، فيعتذر إبراهيم ويقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله
هذا نص الحديث وفيه إثبات الغضب لله تعالى وأن الغضب يتفاوت.
وإني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات يجادل بها عن دين الله، قال عن زوجته سارة: إنها أختي، ولما كسر الأصنام قال: فعلها هذا، وإني بصير النظر في النجوم.
اذهبوا إلى غيري نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى فإنه كليم الله، فيذهبون إلى موسى: يا موسى أنت كليم الله اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه، فيعتذر موسى ويقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله نفسي نفسي، وإني قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها، يعني قتل القبطي قبل النبوة، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فإنه روح الله وكلمته، فيذهبون إلى عيسى: يا عيسى أنت روح الله وكلمته اشفع لنا عند ربك ألا ترى ما نحن فيه، فيعتذر عيسى ويقول: اتُخذت أنا وأمي إلهين من دون الله نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد فإنه خاتم النبيين.
فيذهبون إلى نبينا ﷺ فيسألونه الشفاعة فيقول نبينا ﷺ: أنا لها أنا لها فيذهب عليه الصلاة والسلام فيسجد تحت العرش ولا يبدأ بالشفاعة إلا بعد الإذن وهو أوجه الناس، إذا كان الله قال عن موسى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب/69].
فنبينا ﷺ أعظم وجاهة، يسجد تحت العرش ويفتح الله عليه من محامده، ويُلهمه أيام في ذلك الموقف ويمدده الله سبحانه وتعالى ويتركه الله ما شاء الله ثم يأتي الإذن من الرب تبارك وتعالى يقول: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فيرفع رأسه ويسأل ربه الشفاعة فيشفعه الله، ويأتي الله تعالى لفصل القضاء ويحاسب الخلائق، وهذا هو المقام المحمود.
وما الحكمة من كون الناس يأتون إلى هؤلاء؟ نحن عرفنا أنه ما يشفع إلا النبي ﷺ، لماذا يأتي الناس إلى آدم وإلى نوح وإلى موسى وعيسى؟ حتى تظهر فضيلة نبينا محمد ﷺ.
يقول المؤلف رحمه الله: (وأما المقام المحمود الذي ذكره تعالى في كتابه مذكرًا بعظم شأنه فهو لنبينا محمدٍ ﷺ وكذلك حق أوليائه محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان بكراماتهم) هذا حق الأولياء، الأولياء الصالحين، الولي من هو؟ هو المؤمن التقي، قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس/62-63] .
أما الولي عند الصوفية فكما يذكره المؤلف، الذي يطيل السبحة ويفعل كذا ويمد يده للتقبيل ويعد أذكار وخرافات، هذا الولي عند الصوفية، لكن الولي في الكتاب والسنة ما هو؟ المؤمن التقي، ما هو حق الأولياء؟
- بين المؤلف حقهم، قال:
- محبتهم.
- والترضي عنهم.
- والإيمان بكراماتهم.
(لا دعاؤهم ليجلبوا لمن دعاهم خيراً لا يقدر على جلبه إلا الله تبارك تعالى) هذا شرك، ليس هذا من حقهم، بعض الناس يظن هذا الدعاة تدعوهم من دون الله، (أو ليدفع عنهم سوءً لا يقدر على دفعه إلا هو ) لماذا؟ قال: (لأن ذلك عبادة مختصة بجلال الله تعالى وتقدس) الدعاء عبادة خاصة بالله.
(هذا إذا تحققت الوَلاية أو رجيت لشخص معين كظهور اتباع سنة، وعمل بتقوى في جميع أحواله وأقواله) يعني إذا علمت أنه تقي أو رُجيت الشفاعة، بماذا يُعلم أنه تقي؟ يُعلم إذا ظهر أنه متبع للنبي ﷺ في أقواله وأفعاله، وظهر أنه يعمل بتقوى الله في جميع أحواله وأقواله، هذا هو الولي.
قال: (وإلا فقد صار الولي في هذا الزمان) في زمن المؤلف من هو؟ هذا ولي الصوفية، الولي الخرافي، من هو؟ (من أطال سبحته) يجعل له سبحة عددها فيها ألف حبة ويسبح أمام الناس ويمدها إذا صلى، يقول: انظروا أنا أسبح هذا التسبيح، (ووسع كمه، وأسبل إزاره، ومد يده للتقبيل، ولبس شكلاً مخصوصاً) لباس خاص أو عمامة خاصة، (وجمع الطبول والبيارق) يعني عندهم غناء وعندهم زمر، (وأكل أموال عباد الله) يعطونه الأموال، هذا هو الولي عند الخرافيين وعند الصوفية، (وأكل أموال عباد الله ظلماً وادعاءاً ورغب عن سنة المصطفى ﷺ وأحكام شرعه) هذا هو الولي عند الصوفية.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه الفرقان: ليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحاً، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحاً، كما قيل: كم من صديق في قباء وكم من زنديق في عباء.
يعني يقول: الأولياء ما لهم شكل خاص ولا لباس خاص، مندمجون مع الناس ولباسهم مثل لباس الناس، ويفعلون ما يفعل الناس من الأمور المباحة، ولهذا بعض الناس يقول: إن لهم شكل خاص، هذه الصوفية.
"كما قيل: كم من صديق في قباء وكم من زنديق في عباء" يعني :كم من صديق في عباء مثل الناس صديق من الصديقين في عباء غير معروف، وكم من زنديق في عباء: زنديق لبس عباءة وشكل ومظهر للناس وهو زنديق، والعبرة بالعمل وليس العبرة بالشكل.
(المتن)
فنحن إنما ندعو إلى العمل بالقرآن العظيم، والذكر الحكيم، الذي فيه الكفاية لمن اعتبر وتدبر وبعين بصيرته نظر وفكر، فإنه حجة الله وعهده، ووعده، ووعيده، وأمانه، وقدره، ومن اتبعه عاملاً بما فيه جد جده، وعلا مجده، وأنار رشده، وبان سعده.
والتوحيد ليس هو محل الاجتهاد، فلا تقليد فيه ولا عناد، ولم نكفر إلا من أنكر أمرنا هذا ونهينا، فلم يحكم بما أنزل الله من التوحيد، بل حكم بضده الذي هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر، كما سنذكر أنواعه، فجعله ديناً، وسماه الوسيلة عناداً وبغياً، ووالى أهله وظاهرهم علينا، ومن لم يقوم أركان الدين ممتنعًا أن دعوناه فامتنع وأصر، وأمرهم أن يبدءونا بقتالنا ليرجعونا عن دين الله الذي وصفنا إلى ما هم فيه وكانوا عليه من الشرك بالله، والعمل بسائر ما لا يرضي رب العباد، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ .
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله في هذا الفصل يبين عقيدة أهل السنة والجماعة وعقيدة الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، قال: (فنحن إنما ندعو إلى العمل بالقرآن العظيم، والذكر الحكيم، الذي فيه الكفاية لمن اعتبر وتدبر وبعين بصيرته نظر وفكر) ندعو الناس للعمل بالقرآن، قال الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف/3]. والعمل بالقرآن والعمل بالسنة، قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن/12].
وهذا الذي ندعو إليه، لا ندعو إلى حزب، ولا ندعو إلى شخص، ولا ندعو إلى عقيدة خاصة إنما ندعو إلى العمل بالقرآن العظيم والذكر الحكيم، فالقرآن فيه كفاية لمن اعتبر وتدبر، وبعين بصيرة نظر.
قال: (فإنه حجة الله وعهده، ووعده، ووعيده، وأمانه، وقدره، ومن اتبعه عاملاً بما فيه جد جده، وعلا مجده، وأنار رشده، وبان سعده) يعني يقول: إن القرآن العظيم هو مصدر السعادة، من عمل به فهو من السعداء، هو حجة الله على عباده، وهو العهد عهد الله لعباده، وهو حبل الله، وفيه الوعد والوعيد، وهو الأمان والعصمة من الفتن، (ومن اتبعه عاملاً بما فيه جد جده) يعني صار له منزلة عالية، (وعلا مجده) الجَد: الاجتهاد، جد جده يعني: ظهر اجتهاده.
- والجَد يُطلق على أنواع:
النوع الأول: الجَد بالفتح يُطلق على أب الأب.
النوع الثاني: ويُطلق كذلك على معاني منها: الارتفاع، مثلما جاء في الحديث: وَتَعَالَى جَدُّكَ يعني ارتفعت عظمتك، فهنا جد جده يعني: ارتفع وعلا شأنه، وعلا مجده.
(وأنار رشده، وبان سعده) هذا المتبع للقرآن.
قال: (والتوحيد ليس هو محل الاجتهاد، فلا تقليد فيه ولا عناد) التوحيد هو أن تعمل وتوحد الله وتُخلص له العبادة ما في اجتهاد، ولا في تقليد، ولا في عناد، التوحيد: هو أن تعمل بطاعة الله وتُخلص العبادة لله .
قال المؤلف رحمه الله يبين عقيدة الإمام محمد بن عبد الوهاب وأتباعه: (ولم نكفر إلا من أنكر أمرنا هذا ونهينا) نحن نأمر بما أمر الله به وننهى عما نهى الله عنه، من أنكر هذا نكفره.
(فلم يحكم بما أنزل الله من التوحيد، بل حكم بضده الذي هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر) هذا الذي نكفره، نكفر من أنكر أمرنا هذا ونهينا ولم يحكم بما أنزل الله، بل حكم بالشرك، هذا هو الذي نكفره.
قال المؤلف: (كما سنذكر أنواعه) يعني: أنواع الشرك، (فجعله ديناً، وسماه الوسيلة عناداً وبغياً، ووالى أهله وظاهرهم علينا) هذا الذي نكفره، نكفر من عمل بالشرك وجعل الشرك دينًا له وسماه وسيلة عنادًا وبغيًا ووالى المشركين وساعدهم على المؤمنين، هذا الذي نكفره.
(ومن لم يوقع أركان الدين ممتنعًا أن دعوناه فامتنع وأصر، وأمرهم أن يبدءونا بقتالنا ليرجعونا عن دين الله الذي وصفنا إلى ما هم فيه وكانوا عليه من الشرك بالله) يعني من لم يوقع أو يوجد أركان الدين، ممتنعًا أن دعونا: ممتنعًا لأننا دعوناه، (فامتنع وأصر) أصر على الشرك، (وأمر الناس أن يبدءونا بقتالنا ليرجعونا عن ديننا إلى ما هم عليه وكانوا عليه من الشرك بالله والعلم بسائر ما لا يرضي رب العباد) هذا هو الذي نقاتله، قال الله: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة/32].
(المتن)
وما حجتهم علينا إلا أن المدعو يكون شفيعاً ووسيلة، ونحن نقول: هؤلاء الداعون الهاتفون بذكره المعتقدون في الأحياء الغائبين المدعوون والأموات يطلبون كشف شدتهم، وتفريج كربتهم وإبراء مريضهم، ومعافاة سقيمهم، وتكثير رزقهم وإيجاده من العدم، ونصرهم على عدوهم براً وبحراً، لم يكفهم الاقتصار على مسألة الشفاعة والوسيلة، وهما من أعظم المخاصمة الجارية علينا ممن قاتلنا وبدعنا، وجعل اليهود والنصارى أخف شرًا منا ومن أتباعنا.
وحقيقة قولنا إن الشفاعة وإن كانت حقاً في الآخرة، فلها أنواع مذكورة في محلها، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته ﷺ بل وغيره من الشفعاء، فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص ماعدا الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة وليس منها ما يقصدون، والوصف من مات لا يشرك بالله شيئاً.
كما في البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا.
وحديث أنس بن مالك الذي في الشفاعة بطوله، وحديث الذراع الذي رواه أبو هريرة المتفق عليه، وإذا كانت بالوصف فرجاؤها أن يشفع فيه نبيه هو المطلوب.
(الشرح)
قول المؤلف: (وما حجتهم علينا) يعني: على أهل الدعوة، الدعوة السلفية للشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، (إلا أن المدعو يكون شفيعاً ووسيلة، ونحن نقول: هؤلاء الداعون الهاتفون بذكره المعتقدون في الأحياء الغائبين المدعوون والأموات يطلبون كشف شدتهم، وتفريج كربتهم) يعني هذا شركي وهم احتجوا علينا، والمدعو من دون الله، هم يقولون: يكون شفيعًا ووسيلة، ونحن نقول: هذا شرك، يدعو الغائب يقول: يا فلان اشف مريض، اردد غائبي، اشفع لي عند الله، ويقول: هذا شفاعة ووسيلة، ونحن نقول: هذا شرك كما قال الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس/18].
هذا هو الفرق بيننا، هم يسمونها شفاعة ووسيلة، ونحن نسميه شرك، حجتهم علينا يقول: هذا المدعو شفيع ووسيلة ونحن نقول: هذا شرك، هذا بنص القرآن: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس/18].
هم يقولون: هو شفيع، ونحن نقول: (هؤلاء الداعون الهاتفون بذكره المعتقدون في الأحياء الغائبين المدعوون والأموات يطلبون كشف شدتهم، وتفريج كربتهم، وإبراء مريضهم، ومعافاة سقيمهم، وتكثير رزقهم وإيجاده من العدم، ونصرهم على عدوهم براً وبحراً) هذا هو الشرك.
(لم يكفهم الاقتصار على مسألة الشفاعة والوسيلة) بل زادوا،ليس مسألة الشفاعة فقط يدعونهم لكشف الشدة، وتفريج الكربة، وإبراء المريض، ومعافاة السقيم، وتكثير الرزق، وإيجادهم من العدم، ونصرهم على العدو، ويقولون: هذه شفاعة، وهذه وسيلة، وهذه محبة للصالحين، وهذا هو الشرك بعينه.
ولهذا قال المؤلف: (لم يكفهم الاقتصار على مسألة الشفاعة والوسيلة وهما من أعظم المخاصمة الجارية علينا ممن قاتلنا وبدعنا) يقول: هذا هو الخصومة بيننا وبينهم، هم الآن قاتلونا وبدعونا، (وجعلوا اليهود والنصارى أخف شرًا منا ومن أتباعنا) بسبب أننا نقول: هذا شرك وهو يقول: لا، هذا وسيلة ومحبة للصالحين.
قال المؤلف: (وحقيقة قولنا) حقيقة قول أتباع محمد بن عبد الوهاب السلفيون وأتباع أهل السنة والجماعة، نقول: (أن الشفاعة وإن كانت حقاً في الآخرة، فلها أنواع مذكورة في محلها) أعظمها الشفاعة العظمى، الشفاعة لأهل الجنة في إذنهم لدخولها، الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، الشفاعة فيمن استحق دخول النار أن يخرج منها، هذه متواترة، يقول المؤلف: لها أنواع مذكورة في محلها، منها الشفاعة العظمى، منها الشفاعة في قومٍ تساوت حسناتهم وسيئاتهم، والشفاعة في رفع درجات بعض أهل الجنة، الشفاعة في قوم يدخلون الجنة بغير حساب، الشفاعة في تخفيف العذاب عن أبي طالب، والشفاعة في أهل الكبائر، هذه هي محل النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع.
قال: (ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته ﷺ بل وغيره من الشفعاء، فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص) يعني ليست شفاعة لفلان إنما ثابتة بوصف، ما هو الوصف؟ أهل التوحيد، خاصة بالموحدين العصاة، فالموحدين العصاة تنالهم الشفاعة، أما الكفار من وقع في الشرك ليس له نصيب من الشفاعة، هذا بالوصف: أهل التوحيد.
قال: (ماعدا الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة) للمؤمن والكافر؛ لأنها شفاعة في إراحة الناس من الموقف، (وليس منها ما يقصدون، والوصف) ما هو الوصف الذي تناله الشفاعة؟ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ هذا الوصف.
قال: (كما في البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا.) وهذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه، وفي البخاري زيادة: فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا..
(وحديث أنس بن مالك الذي في الشفاعة بطوله) رواه البخاري وهو حديث طويل، (وحديث الذراع) النبي ﷺ نهش الذراع ثم قال: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ثم ذكر الشفاعة، (حديث أبو هريرة المتفق عليه) قال: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ هذا حديث أبو هريرة.
قال: (وإذا كانت بالوصف فرجاؤه من الله أن يشفع فيه نبيه هو المطلوب) إذا كانت بالوصف ما هي بالشخص، بالوصف: من مات لا يشرك بالله شيئًا، إذا كانت بالوصف تطلبها من الله، تقول: يا ربي شفع فيَ نبيك، ما تقول: يا رسول الله اشفع لي، اطلبها من الله واسأله أن يشفع فيك نبيه، إذا قال المشرك لك: أليس النبي ﷺ هو الشفيع في المحشر؟ نعم، قال: طيب لماذا لا أطلبها؟ تقول: اطلبها من الله؛ لأن الله هو مالكها: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر/44].
قل: يا ربي شفع فيَ نبيك، قال: طيب الرسول هو الشافع والمشفع في المحشر، ما تؤمن أنه هو الشافع والمشفع في المحشر؟ تقول: نعم أؤمن، قال: طيب لماذا لا نقول: يا رسول الله اشفع لي؟ نقول: لأن الله نهاك عن هذا وهذا دعاء غير الله، إذًا ماذا أعمل؟ اطلبها من الله قل: يا ربي شفع فيَ نبيك، ما تقول: يا رسول الله اشفع لي؛ لأن الله يقول: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر/44]، ولهذا قال المؤلف: (وإذا كانت بالوصف فرجاؤه من الله ودعاه أن يشفع فيه نبيه هو المطلوب).
(المتن)
فصل:
فالمتعين على كل مسلم صرف همته وعزائم أمره إلى ربه تبارك وتعالى، بالإقبال إليه والاتكال عليه، والقيام بحق العبودية لله ، فإذا مات موحداً استشفع لله فيه نبيه.
بخلاف من أهمل ذلك وتركه، وارتكب ضده من الإقبال إلى غير الله بالتوكل عليه، ورجائه فيما لا يمكن وجوده إلا من عند الله، والالتجاء إلى ذلك الغير، مقبلاً على شفاعته متوكلاً عليها، طالبها من النبي ﷺ أو غيره، راغباً إليه فيها، تاركاً ما هو المطلوب المتعين عليه المخلوق لأجله، فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم، ولا نشأت فتنة في الوجود إلا بهذا الاعتقاد، فصار شقيًا بالإرادة الكونية والعاقبة الغوية؛ لأن الإرادة الدينية أصلٌ في إيجاد المخلوقات، والإرادة الكونية أصلٌ فمن كُتبت عليه الشقاوة فلا يُيسر إلا لها، ولا يعمل إلا بها قال تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود/118-119] .
فهذه هي الإرادة الكونية وهي لا تعارض الإرادة الدينية التي هي الأصل في إيجاد المخلوقات، مع بقائه مختارًا مدركًا للأشياء، فمن كان هذا وصفه فلا ينالها؛ لأن الله تعالى ليس له شريكٌ في الملك كما أنه ليس له شريكٌ في استحقاق العبادة، بل هو المختص بها، ولا تليق إلا بجلاله وعظمته.
(الشرح)
المؤلف رحمه الله يقول: (فصل: فالمتعين على كل مسلم صرف همته وعزائم أمره إلى ربه تبارك وتعالى) لأن الله تعالى هو المستحق للعبادة والتوحيد، (بالإقبال إليه والاتكال عليه، والقيام بحق العبودية لله ) من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وأمر بالمعروف، ونهي عن منكر، (فإذا مات موحداً هنا شفع الله فيه نبيه استشفع فيه نبيه) يعني شفع فيه نبيه، وفي بعض النسخ: (سيشفع الله فيه نبيه)، وفي بعض النسخ: (شفع الله فيه نبيه) وهذا أحسن.
(بخلاف من أهمل ذلك وتركه) من أهمل التوحيد والعمل بطاعة الله، (وارتكب ضده من الإقبال على غير الله بالتوكل عليه، ورجائه فيما لا يمكن وجوده إلا من عند الله، والالتجاء إلى ذلك الغير، مقبلاً على شفاعته متوكلاً عليها، طالبها من النبي ﷺ و غيره راغبًا فيها) هذا لا تحصل له الشفاعة، الذي يتوكل على غير الله، ويرجو غير الله ويلتجئ إلى غير الله ويُقبل على غير الله ويطلبها من النبي ﷺ أو غيره راغبًا إليه فيها، هذا لا يجوز، لا تقول: يا رسول الله اشفع لي، اطلبها من الله.
(تاركاً ما هو المطلوب المتعين عليه الذي المخلوق لأجله، فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم) فعل المشركين اللي يدعون غير الله، (ولا نشأت فتنة في الوجود إلا بهذا الاعتقاد) لم تأت فتنة إلا بهذا الاعتقاد، اعتقاد أن غير الله يُسأل ويستحق الدعاء، الشفاعة وغيرها.
(فصار شقيًا بالإرادة الكونية والعاقبة الغوية) يعني الله تعالى أراد كونًا وقدرًا أن يكون هذا الشخص شقيًا، الإرادة الكونية عامة لجميع المخلوقات، تشمل المؤمن والكافر، الإرادة الدينية خاصة بالمؤمن، فالشقي شقي بأي شيء؟ بالإرادة الكونية، الله قدر عليه أن يكون شقيًا.
قال: (لأن الإرادة الدينية أصلٌ في إيجاد المخلوقات) الصواب: لأن الإرادة الكونية، أصلٌ في إيجاد المخلوقات، ليست الدينية، (فمن كُتبت عليه الشقاوة فلا يُيسر إلا لها، ولا يعمل إلا بها) إذًا هنا؛ لأن الإرادة الدينية أصل في إيجاد المخلوقات، والإرادة الكونية هنا كأنها زائدة للعبارة، قال تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود/118-119] .
(فهذه هي الإرادة الكونية وهي لا تعارض الإرادة الدينية) هي تجتمع الإرادة الدينية والكونية في حق المؤمن وتنفرد الكونية في حق الكافر، فأبو بكر أراد الله منه الإيمان كونًا وقدرًا، وأراد منه الإيمان دينًا وشرعًا فوقعتا، وأبو لهب أراد الله منه الإيمان دينًا وشرعًا، وأراد منه الكفر كونًا وقدرًا فوقعت الإرادة الكونية دون الإرادة الدينية، إذًا يجتمعان في حق المؤمن وتنفرد الكونية في حق الكافر.
(التي هي الأصل في إيجاد المخلوقات) التي هي تعود إلى من؟ الإرادة الكونية، (مع بقائه مختارًا مدركًا للأشياء) يعني الإنسان له اختيار والله تعالى لا يكلف إلا القادر، ولهذا من فقد العقل لا يكلفه الله.
قال: (فمن كان هذا وصفه فلا ينالها) يعني من كان متبعًا لهواه ومشركًا بالله لا ينالها؛ (لأن الله تعالى ليس له شريكٌ في الملك كما أنه ليس له شريكٌ في استحقاق العبادة) الله تعالى هو المالك لكل شيء وليس له شريك، كذلك هو مستحق للعبادة وليس له شريك، (بل هو المختص بها، ولا تليق إلا بجلاله وعظمته) فلا إله إلا هو وحده لا شريك له.
(المتن)
ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذنه إلا له وحده، فلا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، لا ملك ولا نبي ولا غيرهما؛ لأن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب لتأثيره فيه بشفاعته، ولاسيما إن كانت من غير إذنه، فجعله يفعل ما طلب منه، والله تعالى إذ لا شريك له بوجه من الوجوه، وكل من أعان غيره على أمرٍ فقد شفعه فيه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه، ولهذا قال عز من قائل: قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر/44]. وقال: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].
وطلبها من غير الله في هذه الدار، زعم بعدم تعليقها بالإذن الله والرضا عن المشفوع له، وقال تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [السجدة:4] وقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51]، والعبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع ملاحظته وعدم القصور عليه.
(الشرح)
المؤلف يقول: (ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذنه) فقال: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة/255] ، حسم، ما في أحد يشفع إلا بإذن الله وحده.
( فلا أحد يشفع أحد عنده إلا بإذنه، لا ملك ولا نبي ولا غيرهما) لماذا؟ قال: (لأن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب) من شفع بغير إذن هو مؤثر صار شريك، (لتأثيره فيه بشفاعته، ولاسيما إذا كانت من غير إذنه، فجعله يفعل ما طلب منه، والله تعالى إذ لا شريك له بوجه من الوجوه، وكل من أعان غيره على أمرٍ فقد شفعه فيه) من أعان شخص على هذا صار اثنان، الثاني يشفع للأول.
(والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه) إِنَّ اللهَ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ.
(ولهذا قال عز من قائل: قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر/44]) اللام للملك يعني هو مالكها، (وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ [الأنعام:94]) هذا الشاهد، الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ انقطع التواصل، وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94]).
(وطلبها من غير الله في هذه الدار، زعم بعدم تعليقها بالإذن الله والرضا عن المشفوع له) من يطلبها في هذه الدار من غير الله، معناه: زعم أنها ليست بإذن الله، ولا يُشترط فيها الرضا عن المشفوع له، (ولهذا وقال تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [السجدة:4]، وقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:51]) الشاهد نفي الشفاعة عن غير الله في الآيتين.
(والعبرة في النصوص بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع ملاحظته وعدم القصور عليه) ملاحظة السبب يعني.
(المتن)
قال رحمه الله:
فصل:
وأما دعاء الله للغير، فقد مضت السنة أن الحي يُطلب منه سائر ما يقدر عليه.
ودعوة المسلمين بعضهم لبعض مستحبة، قد وردت بها الآثار الصحيحة في مسلم وغيره، فإن كانت للميت فهي آكد، وكان النبي ﷺ يقف على القبر بعد الدفن فيقول: سَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ.
فالميت أحوج بعد الدفن إلى الدعاء، فإذا قام المسلمون على جنازته دعوا الله له لا به، وشفعوا له بالصلاة عليه لا استشفعوا به، فبدل أهل الشرك والبدع قولًا غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه نائيًا كان عنهم أو قريبًا، والاستغاثة به والهتف باسمه عند حلول الشدة، وتركوا من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجار عليه.
وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله ﷺ إحساناً إلى الميت، وتذكيراً بالآخرة، فبدلوا ذلك سؤال الميت نفسه وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب وخشوعه عندها، أعظم منه في الصلاة والمساجد ووقت الأسحار.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: (فصل: وأما دعاء الله للغير، فقد مضت السنة أن الحي يُطلب منه سائر ما يقدر عليه) يعني: كأنه يقول: وأما دعاء غير الله ، الحي يُطلب منه سائر ما يقدر، يعني دعاء غير الله متى يكون شرك؟ إذا كان دعاء للميت أو للغائب، لكن الحي الحاضر تسأله ما يقدر عليه، يا فلان أعني على إصلاح مزرعتي، أعني على إصلاح سيارتي، أقرضني، لا بأس هذا ما هو شرك ما دام حيًا قادر ويستطيع، لكن دعاء الميت أو الغائب هذا هو الشرك.
(ودعوة المسلمين بعضهم لبعض مستحبة قد وردت بها الآثار الصحيحة في مسلم وغيره، فإن كانت للميت فهي آكد) الدعاء للميت، (وكان النبي ﷺ يقف على القبر بعد الدفن فيقول: سَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ.).
(فالميت أحوج بعد الدفن إلى الدعاء، فإذا قام المسلمون على جنازته دعوا الله له لا به، وشفعوا له بالصلاة عليه لا استشفعوا به) لكن هم يشفعون له، هو محتاج إليهم وليسوا محتاجين إليه، (فبدل أهل الشرك والبدع قولًا غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء للميت بدعائه هو نائيًا كان عنهم أو قريبًا) يعني قريب أو بعيد، (والاستغاثة به والهتف باسمه عند حلول الشدة، وتركوا من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجار عليه).
(وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله ﷺ إحساناً إلى الميت، وتذكيراً بالآخرة، فبدلوا ذلك بسؤال الميت) لماذا شُرعت الزيارة للميت؟ مصلحة للحي أن يتذكر الآخرة، ومصلحة للميت أن يُدعى له، هم بدلوا هذا بدل أن يدعو للميت دعوا الميت نفسه، قال: اشفع لي، (وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب وخشوعه عند الميت، أعظم منه في الصلاة والمساجد ووقت الأسحار) هكذا المشركون.
(المتن)
(الشرح)
وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم، (وإذا شُرع الدعاء لسائر المؤمنين، فالنبي ﷺ أحق الناس بأن يصلى ويسلم عليه) بعد الأذان ونقول: اللهم صل على محمد، اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ هو أولى من غيره عليه الصلاة والسلام.
(المتن)
واستشفاع العبد في الدنيا إنما هو فعل السبب لحصول شفاعته له يوم القيامة كما عُد فيما جاء به قولاً وعملًا واعتقاداً.
وإنما سئلت له الوسيلة مع تحققها تنويهاً بقدره، ورفعاً لذكره، ويعود ثواب ذلك إلينا. فهذا هو الدعاء المأثور وهو الفارق بين الدعاء الذي أحبه والذي نهى عنه.
(الشرح)
المؤلف يقول: (واستشفاع العبد في الدنيا إنما هو فعل السبب لحصول شفاعته له يوم القيامة) وهو التوحيد والإيمان، (كما عُد فيما جاء به قولاً وعملًا واعتقاداً).
(وإنما سئلت له الوسيلة مع تحققها) لماذا نقول: اللهم آتِ محمد الوسيلة والفضيلة وهي متحققة؟ أليست له الوسيلة؟! الوسيلة أعلى درجة في الجنة لماذا نسألها للرسول وهي متحققة له؟ قال: (تنويهاً بقدره، ورفعاً لذكره، و ثواب ذلك يعود إلينا، فهذا هو الدعاء المأثور وهو الفارق بين الدعاء الذي أحبه والذي نهى عنه).
(المتن)
(الشرح)
يعني: ما أحد ذكر من السلف أن النبي يُقال له: يا رسول الله استغفر لي ربك، لا ما أحد ذكر هذا.
(المتن)
(الشرح)
هذا هو السنة يقول مالك، لا يقف عند قبره طويلًا، يقول: السلام عليك يا رسول الله أشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة، ثم السلام عليك يا أبا بكر الصديق أسأل الله أن يرحمك ويغفر لك ويجزيك عن أمة محمدٍ خيرًا، ثم يترحم على عمر ويمضي، ما في وقوف وجلوس وإطالة
(المتن)
(الشرح)
هذا ذكره المؤلف نقله عن شيخ الإسلام في قاعدة: الوسيلة والتوسل، يعني الإمام مالك يقول: (لا بأس لمن قدم من السفر أو خرج إليه يقف عند قبر النبي ﷺ ويصلي ويسلم عليه) إذا قدمت من السفر سلم، وإذا أردت تنصرف سلم، (فقيل له: إن ناساً كل يوم يأتون) مثل ما تجدون الآن الناس اللي يذهبون للقبر يسلم ويرجع ثانية وهكذا، أربعة وعشرين ساعة هذا من البدع، يقول الإمام مالك: (ما بلغنا هذا) الذي قدم من سفر مرة وإذا أراد أن ينصرف مرة.
(قيل له: إن ناسًا يكررون، لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، وهم يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر يأتون عند القبر فيسلمون عليه ويدعون ساعة فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه في بلدنا لا من الصحابة ولا غيرهم، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك: ويكررون المجيء إلى القبر، بل كانوا يكرهونه إلا لمن جاء من سفر أو أراده) جاء من سفر أو أراد سفرًا، أما كل يوم يكرر هذا يقول الإمام مالك: هذا مكروه ولا بلغنا عن السلف.
(المتن)
قال رحمه الله:
(الشرح)
يقول المؤلف: (وتلاوة الآية في قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا [النساء/64]) هذه بعض الناس إذا جاء يسلم عليه يقرأها، هذا إنما هو في حياته لكن بعد وفاته لا، يصير تقول: يا رسول الله استغفر لي؟ هذا في حياته.
قال: (والاستغفار بحضرة القبر، وإن قال به جماعة من متأخري الفقهاء كلهم لم يقولوا يدعى صاحب القبر، ولا يُدعى الله به إذ المحفوظ عنهم أن الميت والغائب لا يُسأل منه شيء) والرسول ميت، قال الله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر/30] .
(لا استغفار ولا غيره، واستغفارهم الله لا الرسول ﷺ) وإنما يستغفر الإنسان ربه، ولا يقول: يا رسول الله اغفر لي، أو اسأل الله أن يغفر لي لا، إنما يستغفر ربه.
(المتن)
وحياته في قبره برزخية ولا تقتضي دعاءه، وأصحابه أعلم بها منا، ولم يأت أحدهم إلى القبر فيسأله أو يستغيث به، وقد ثبت النهي منه عليه الصلاة والسلام أن يتخذ قبره عيداً، قال أبو يعلى الموصلي في مسنده عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ أنه قال: لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته.
وروى سعيد بن منصور في السنن عن أبي سعيد مولى المهري أنه قال: قال رسول الله ﷺ: لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي فقد روى هذا الحديث أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا، ورواه سعيد بن منصور في سننه من حديث أبي سعيد مولى المهري، ورواه أيضاً من حديث الحسن بن الحسن بن علي .
وهذان الحديثان وإن كانا مرسلين فهما يقويهما حديث أبي هريرة المرفوع.
(الشرح)
يقول المؤلف: (وحياته في قبره برزخية) والحياة البرزخية ليست مثل حياة الدنيا، حياة الإنسان في حياة الدنيا الآن، وحياة البرزخ ما بعد الموت، وحياة يوم القيامة، أكمل الحياة في الأنواع الثلاثة: حياة بعد البعث، الحياة في الدنيا الأحكام على الجسد أكثر من الروح، ولهذا إذا ضُرب الإنسان يتألم الجسد أكثر، وحياة البرزخ بالعكس الألم على الروح أكثر من الجسد، والحياة بعد يوم القيامة على الروح والجسد على حدٍ سواء، فهي أكمل حياة.
ولهذا قال: (وحياته في قبره برزخية) لأنه لو كان حيًا غير الحياة البرزخية كان ما طُلقت نساءه، وكان يكلم الناس، لكن الله قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر/30] فهو حي حياة برزخية وهو ميت، الحياة البرزخية الله أعلم بكيفيتها.
قال: (ولا تقتضي الحياة البرزخية أن يدعى، وأصحابه أعلم بها منا، ولم يأت أحدهم إلى القبر فيسأله أو يستغيث به، وقد ثبت النهي منه عليه الصلاة والسلام أن يتخذ قبره عيداً، قال أبو يعلى الموصلي في مسنده عن علي بن الحسين رضي الله عنهما قال أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ) هذا حديث متصل، عن أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ،عن علي بن الحسين عن أبي الحسين عن جدي علي عن رسول الله، (أنه قال: لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته) هذه المختارات يقول شيخ الإسلام: أنها جيدة وأحاديثها جيدة.
ثم ذكر أثران مرسلان فال: (وروى سعيد بن منصور في السنن عن أبي سعيد مولى المهري أنه قال: قال رسول الله ﷺ: لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي ) وفي لفظ: قبري عيدًا، يعني لا تكرروا المجيء إليه كالعيد، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا لا تعطلوها من الصلاة فتكون بمنزلة القبور، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي.
هذا مرسل قال: (فقد روى هذا الحديث أبو داود عن أبي هريرة مرفوعًا، ورواه سعيد بن منصور في سننه من حديث أبي سعيد مولى المهري، ورواه أيضاً من حديث الحسن بن الحسن بن علي ، وهذان الحديثان وإن كانا مرسلين فهما يقويهما حديث أبي هريرة المرفوع إلى النبي ﷺ) فيُحتج بهما، ففيه دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يمكث عند القبر وأن يصلي عليه في أي مكان.
(المتن)
(الشرح)
نعم هذا الحديث في الصحيحين كما ذكر المؤلف عن أبي هريرة قال: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى مسجد من المساجد الثلاثة: وفي اللفظ الآخر: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، يعني لا تشد الرحال لبقعة للعبادة، لكن يشد الرحال للتجارة، للزيارة، لطلب العلم، إنما هنا: لا تشد الرحال إلى بقعة للتعبد فيها إلا إلى ثلاثة مساجد: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا .
قال المؤلف رحمه الله: (فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة إنما هو للصلاة فيها) الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في المسجد النبوي بألف، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة ، وكذلك (والدعاء والذكر وقراءة القرآن، والاعتكاف) وهذه كلها من الأعمال الصالحة وما عداها فلا، ولهذا لو نذر الإنسان أن يصلي في مسجد في الرياض أو في الشام أو في مصر، نقول له: صل في المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى يكفيك؛ لأنك انتقلت من المفضول إلى الفاضل.
وفق الله الجميع لطاعته وصلى الله وسلم على نبينا محمد.