الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين أجمعين.
(المتن)
قال الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله تعالى:
فصلٌ:
وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم حتى مسجد قباء، يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة ولا يشرع شد الرحل إليه من بعيد، ولذلك كان النبي ﷺ يأتي إليه كل سبتٍ ماشيًا وراكبًا، وكان ابن عمر يفعله كما في الصحيحين، فإنه كما أسس على التقوى.
فمسجده ﷺ أعظم في تأسيسه على التقوى كما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه سُئِل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مَسْجِدِي هَذَا.
فكلا المسجدين أسس على التقوى، ولكن اختص مسجده ﷺ بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي لمسجد قباء يوم السبت.
وإذا كان السفر إلى مسجد غير الثلاثة ممتنعاً شرعاً مع أن قصده لأهل مصره يجب تارة، ويستحب أخرى، وقد جاء في قصد المساجد من الفضل مالا يحصى، فالسفر إلى مجرد القبور أولى بالمنع.
ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة التي أحدثها الملوك وأشباههم.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:...
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم).
سبق في الفصل السابق أن المؤلف رحمه الله ساق الحديث: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
فهذه المساجد الثلاثة تشد إليها الرحال والنبي ﷺ أتى بالحصر قال: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ.
فدل على أن شد الرحل محصور في هذه المساجد الثلاثة لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ يعني إلى بقعة يقصد التقرب فيها إلى الله إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، المَسْجِدِ الْحَرَامِ وهو ما يسمى بمسجد إبراهيم ومسجد الكعبة؛ لأن فيه الحج والعمرة والصلاة فيه بمائة ألف صلاة.
وَمَسْجِدِي هَذَا مسجد النبي ﷺ والصلاة فيها بألف صلاة كما ثبت في الحديث الصحيح.
وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، وهذه المساجد تسمى مساجد الأنبياء.
المسجد الحرام يسمى مسجد إبراهيم ومسجد المدينة يسمى مسجد النبي ﷺ، والمسجد الأقصى بناه يعقوب حفيد إبراهيم.
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «سُئِل النبي أي المساجد أول قال: مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ، يعني مسجد الكعبة، «وبعده؟ قال: مسجد إيليا بناه يعقوب حفيد إبراهيم، وبينهما أربعون سنة. يعني: إبراهيم بنى المسجد الحرام، ثم بنى المسجد الأقصى حفيده يعقوب بعد أربعين سنة، ثم مسجد النبي ﷺ في زمن النبي ﷺ .
يقول المؤلف رحمه الله: (وهذه المساجد لا يشرع السفر إلا إليها باتفاق أهل العلم).
اتفق أهل العلم يعني: أهل العلم العارفون بالله أهل العلم والبصيرة والدين والإيمان اتفقوا على أنه لا يشرع السفر إلى غير هذه المساجد، وأما أهل البدع فبعضهم يرى السفر إلى المساجد وإلى القبور، لا عبرة بهم.
لكن المراد: أهل العلم، أهل العلم الذين هم أهل العلم الشرعي أهل السنة والجماعة، الصحابة والتابعون ومن بعدهم، اتفقوا على أنه لا يشرع في السفر إلى غير هذه المساجد الثلاثة، فلا يشرع السفر إلى مسجد في الرياض أو مسجد في الطائف أو مسجد في الشام أو مسجد في مصر أو في غيرها، إنما يشرع السفر إلى هذه المساجد الثلاثة.
ولهذا قال المؤلف: (وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم حتى مسجد قباء). حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرحل إليه من بعيد، مسجد قباء ما يجوز أن أشد الرحل مسجد قباء من الرياض أو من مكة أو من الطائف لا، لكن يشرع قصده لمن كان في المدينة، من كان في المدينة يشرع له أن يقصده وأن يصلي فيه تأسيًا بالنبي ﷺ فإنه ثبت عنه ﷺ أنه كان يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيًا أو راكبًا.
وثبت عنه في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: مَنْ تَطَهَّرَ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ ركعتين كَانَ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ. فيستحب قصده من المكان القريب ولا يشرع شد الرحال إليه من بعيد.
قال رحمه الله: (ولذلك كان النبي ﷺ يأتي إليه كل سبتٍ ماشيًا وراكبًا، وكان ابن عمر يفعله). يعني: يصلي في مسجد قباء.
(كما في الصحيحين، فإنه كما أسس على التقوى فمسجده ﷺ أعظم في تأسيسه على التقوى كما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه سُئِل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مَسْجِدِي هَذَا.). يعني المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وإذا كان مسجد قباء أسس على التقوى فمسجد النبي ﷺ أولى بهذا ا لاسم، أسس على التقوى من باب أولى، ولهذا لما سُئِل النبي ﷺ عن المسجد الذي أسس على التقوى قال: مَسْجِدِي هَذَا.
والمعنى: أن مسجد قباء أسس على التقوى وإذا كان مسجد قباء أسس على التقوى فمسجد النبي ﷺ أولى منه بهذا الوصف، أولى بأنه أسس على التقوى، فكلٌ من المسجدين أسس على التقوى. مسجد النبي ﷺ أسس على التقوى ومسجد قباء أسس على التقوى وهذا معنى قول الله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة/108] . يعني: مسجد الضرار. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ [التوبة/108] . وهو مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (كما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه سُئِل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مَسْجِدِي هَذَا.). يعني مسجد المدينة.
(فكلا المسجدين أسس على التقوى). يعني مسجد الرسول ﷺ ومسجد قباء.
(ولكن اختص مسجده بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره). يعني يقال: إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى فمسجد النبي ﷺ أولى بهذا الوصف.
(فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي لمسجد قباء يوم السبت). فدل على أن مسجد النبي هو أفضل.
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا كان السفر إلى مسجد غير الثلاثة ممتنعاً شرعاً مع أن قصده لأهل مصره يجب تارة، ويستحب أخرى، وقد جاء في قصد المساجد من الفضل مالا يحصى، فالسفر إلى مجرد القبور أولى بالمنع). يعني: يقول المؤلف رحمه الله : السفر إلى مسجد غير الثلاثة ممنوع شرعًا، لكن إذا كان في البلد يجب عليه أن يصلي الجماعة في نفس المسجد وأحيانًا يستحب، فإذا كان قريب من المسجد وسمع الأذان فيجب عليه أن يقصد المسجد وأن يصلي فيه؛ لأن الجماعة واجبة، وإذا كان بعيد يستحب، ولكن إذا كان خارج البلد لا يجوز له أن يشد الرحل إليه، فإذا كان لا يجوز شد الرحل إلى المسجد من بعيد، فالمنع من السفر إلى القبور أولى وأولى، السفر إلى المسجد ممنوع فالسفر إلى القبور أولى وأشد بالمنع.
قال المؤلف رحمه الله : (ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة التي أحدثها الملوك وأشباههم).
(المتن)
تنبيه: الأحاديث التي رواها الدار قطني في زيارة عليه الصلاة والسلام، كلها مكذوبة موضوعة باتفاق غالب أهل المعرفة، منهم ابن الصلاح، وابن الجوزي، وابن عبد البر، وأبو القاسم السهيلي، وشيخه ابن العربي المالكي والشيخ تقي الدين ابن تيمية وغيرهم. ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل، وكذلك تفرد بها الدار قطني عن بقية أهل السنن، والأئمة كلهم يروون بخلافه.
وأجل حديث روي في هذا حديث أبي بكر البزار، ومحمد بن عساكر، حكاه أهل المعرفة بمصطلح الحديث كالقشيري والشيخ تقي الدين وغيرهما.
وإنما رخص ﷺ في زيارة القبور مطلقاً بعد أن نهى عنها. كما ثبت في الصحيح، لكن بلا شد رحل وسفر إليها، للأحاديث الواردة في النهي عن ذلك كما تقدم.
(الشرح)
قال المؤلف رحمه الله: (الأحاديث التي رواها الدار قطني في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام، كلها مكذوبة موضوعة باتفاق أهل المعرفة).
وشيخ الإسلام رحمه الله ذكر هذا في رده على الإخنائي، قال: وليس في الأحاديث التي رويت بلفظ زيارة قبره حدث صحيح عند أهل المعرفة، ولم يخرج أرباب الصحيح شيئًا من ذلك، ولا أرباب السنن المعتمدة كسنن أبي داود والنسائي والترمذي، ولا أهل المسانيد التي من هذا الجنس كمسند أحمد وغيره ولا في موطأ مالك ولا مسند الشافعي ونحو ذلك شيءٌ من ذلك، ولا احتج إمام من أمام من أئمة المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم بحديث فيه ذكر زيارة قبره، فكيف تكون في ذلك أحاديث صحيحة ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث.
فدل على أن الحديث المروية في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام كلها مكذوبة، ومن ذلك قوله في الأحاديث المكذوبة والضعيفة حديث: «من حج ولم يزرني فقد جفاني»، هذا ضعيف؛ لأن زيارة قبر النبي ﷺ ما لها علاقة بالحج، الحج مستقبل وزيارة قبل النبي ﷺ هذا سنة مستقلة لمن كان قريبًا لمن كان في البلد.
والحديث الثاني: «من زارني وزار قبر أبي إبراهيم ضمنت له على الله الجنة». هذا أيضًا حديث ضعيف، كل هذه أحاديث ضعيفة ومكذوبة وموضوعة لا يُعتمد عليها عند أهل العلم، ولذلك يقول أهل العلم: كلهم بيّنوا ضعفها وأنها موضوعة.
(منهم ابن الصلاح، وابن الجوزي، وابن عبد البر، وأبو القاسم السهيلي، وشيخه ابن العربي المالكي). أبي القاسم السهيلي وهو الإمام المفسر شيخ أبي بكر بن العربي محمد بن عبد الله الأندلسي المالكي، وشيخ ابن العربي المالكي، السهيلي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي وشيخه هو ابن العربي هو الإمام المفسر أبو بكر بن العربي محمد بن عبد الله الأندلسي المالكي.
(والشيخ تقي الدين)، هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيرهم ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل، يعني: بعضهم قال: إنها ضعيفة ولكن أكثرهم قالوا: إنها مكذوبة موضوعة، الأحاديث التي فيها شد الرحل إلى قبر النبي ﷺ وزيارته.
ولهذا السنة للمسلم أن ينوي بالزيارة زيارة المسجد، أو زيارة المسجد والقبر، أما أن ينوي السفر لزيارة قبر النبي ﷺ فهذا بدعة، لكن تنوي زيارة مسجد النبي ﷺ.
ثم إذا زرت مسجد النبي وصليت فيه ركعتين تسلم على النبي ﷺ وعلى صاحبيه، تزور قبر النبي وقبر صاحبيه أو تكون الزيارة مشتركة هذا لا بأس، أما أن تكون الزيارة خاصة بالقبر تسافر من أجل زيارة القبر فهذه بدعة.
قال: (ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل، وكذلك تفرد بها الدار قطني عن بقية أهل السنن، والأئمة كلهم يروون بخلافهم، وأجل حديث روي في هذا حديث أبي بكر البزار، ومحمد بن عساكر، حكاه أهل المعرفة بمصطلح الحديث كالقشيري والشيخ تقي الدين وغيرهما). القشيري هو أبو القاسم عبد الكريم القشيري صاحب الرسالة، وإنما رخص ﷺ في زيارة القبور مطلقًا بعد أن نهى عنها، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةِ. لكن بلا شد رحل.
النبي ﷺ نهى عن زيارة القبور أولًا نهى الرجال والنساء، ثم أذن ورخص قال: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمِ الْآخِرَةَ. ثم نُهي النساء لقوله: لَعَنَ اللهُ زَائِراتِ الْقُبُورِ، فالنساء منهيات عن زيارة القبور، وقال بعض العلماء: إن الرخصة كان أولًا، نهي عن زيارة القبور أولًا للرجال والنساء ثم جاءت الرخصة للرجال فقط، جاءت الرخصة لكن بلا شد رحل، وبلا سفر يزور القبر إذا كان في البلد، أما أن يسافر مسافة قاصد لأجل زيارة القبور فهذا ممنوع.
ولذا قال المؤلف: (بلا شد رحل ولا سفر إليها للأحاديث الواردة في النهي عن ذلك كما تقدم).
(المتن)
فصل
وإذا كان السفر المشروع لقصد مسجد النبي ﷺ للصلاة فيه دخلت زيارة القبر تبعاً لأنها غير مقصودة استقلالاً، وحينئذ فالزيارة مشروعة مجمع على استحبابها بشرط عدم فعل محذور عند القبر، كما تقدم عن مالك.
وما حكاه الغزالي رحمه الله ومن وافقه من متأخري الفقهاء من زيارة القبر فمرادهم السفر المجرد عن فعل العبادة من الصلاة والدعاء عنده، بل يصلي ويسلم عليه ويسأل له الوسيلة، ثم يسلم على أبي بكر، ثم عمر.
ولا يقصد الصلاة عند القبر للعنه ﷺ المتخذين قبور أنبيائهم مساجد، واللعنة في كلام الله، وكلام رسوله ﷺ لا تجامع إلا الحرمة والإثم لا مجرد الكراهة ولقوله ﷺ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبيائهم مساجد.
قال ابن حجر رحمه الله في "الإمداد الموسوم بشرح " الإرشاد " ينوي الزائر المتقرب السفر إلى مسجده ﷺ وشد الرحل إليه، لتكون زيارة القبر تابعة، انتهى.
(الشرح)
هذا الفصل في بيان السفر المشروع أن السفر المشروع في قصد مسجد النبي ﷺ للصلاة فيه، يشرع للمسلم أن يسافر من أجل الصلاة في مسجد النبي ﷺ؛ لأن الصلاة فيه بألف صلاة، وإذا جاز السفر بقصد مسجد النبي ﷺ دخلت زيارة قبر النبي ﷺ وقبر صاحبيه تبعا لا أصل، الأصل زيارة مسجد النبي ﷺ ثم تدخل زيارة قبره ﷺ وقبر صاحبيه تبعا.
ولهذا قال المؤلف: (دخلت زيارة القبر تبعاً لأنها غير مقصودة استقلالاً). يعني: زيارة قبر النبي ﷺ مشروعة تبعًا لزيارة مسجد النبي وليست مشروعة استقلالًا بخلاف مسجد النبي ﷺ فإنها مشروعة استقلالًا.
قال المؤلف رحمه الله: (وحينئذ فالزيارة مشروعة مجمع على استحبابها بشرط عدم فعل محذور عند القبر، كما تقدم عن مالك). يعني: إذا شددت الرحل إل مسجد النبي ﷺ ونويت السفر إلى مسجد النبي ﷺ فإنك تزور قبر النبي ﷺ وقبري صاحبيه تبعًا، وعندئذٍ تكون الزيارة شرعية، بشرط ألا يفعل محذور، محذور مثل أن يتمسح بالقبر أو يتبرك أو يدعو النبي ﷺ هذا شرك، أو يرفع صوته، لا يفعل محذور.
قال: (وما حكاه الغزالي رحمه الله ومن وافقه من متأخري الفقهاء من السفر لأجل زيارة القبر فمرادهم السفر المجرد عن فعل العبادة من الصلاة والدعاء عنده، بل يصلي ويسلم عليه ويسأل له الوسيلة، ثم يسلم على أبي بكر، ثم عمر). يعني: الغزالي وجماعة قالوا: له أن يزور القبر لكن مرادهم السفر، يقولون: ما في مانع أن تسافر لزيارة القبر فقط، لكن فقط لكن مرادهم السفر، يقول: ما في مانع من أن تسافر لزيارة القبر فقط، لكن مرادهم السفر وهو مجرد عن فعل العبادة، ما قال أحدهم أنك تزور القبر وتصلي عند القبر أو تدعو عند القبر لا، بل المقصود هو الزيارة فقط، ولهذا قال: (فليصلي ويسلم عليه ويسأل الله)، أي يسأل الله له الوسيلة (ثم يسلم على أبي بكر وعمر ثم ينصرف). هذه الزيارة المشروعة أما أن يزور القبر ومراده أنه يصلي عنده ويدعو عنده أو يتوسل به أو يرفع صوته هذا ممنوع.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يقصد الصلاة عند القبر للعنه ﷺ المتخذين قبور أنبيائهم مساجد)، وهذا رواه الشيخان البخاري ومسلم. قال رسول الله ﷺ: لَعَنَ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. لا يقصد الصلاة عند القبر ممنوع يقصد القبر للصلاة عنده أو تلاوة القرآن أو الدعاء عنده ممنوع، تسلم وتنصرف فقط.
قال المؤلف رحمه الله: (واللعنة في كلام الله، وكلام رسوله لا تجامع إلا الحرمة والإثم لا مجرد الكراهة). يعني: في قول النبي ﷺ: «لَعَنَ اللَّهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.. يدل على أن هذا محرم ولا يدل على أنه مكروه كراهة تنزيه لا، بل يدل على أنه محرم وأن فيه إثم، ويدل على ذلك قول النبي ﷺ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبيائهم مساجد.
(قال ابن حجر رحمه الله في "الإمداد الموسوم بشرح " الإرشاد " ). ابن حجر هو أحمد بن حجر الهيثمي المكي الشافعي، له كتاب اسمه " الإمداد الموسوم بشرح الإرشاد.
قال رحمه الله: (ينوي الزائر المتقرب السفر إلى مسجده ﷺ وشد الرحل إليه، لتكون زيارة القبر تابعة). يقول ابن حجر: الذي يريد أن يسافر إنما ينوي بالسفر الزيارة زيارة المسجد، ثم إذا زار المسجد وصلى فيه ركعتين زار قبر النبي ﷺ وقبور الصحابة تبعًا؛ ينوي بالسفر زيارة مسجد النبي ﷺ لتكون زيارة القبر تابعة.
(المتن)
واتخاذ قبور الأنباء والصالحين مساجد هو الموقع كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك الأصغر، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، كوَدّ، وسواع، ويغوث، وتماثيل طلاسم الكواكب ونحو ذلك يزعمون أنها تخاطبهم وتشفع لهم.
والشرك بقبر النبي ﷺ أو الرجل المعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو بحجر.
ولهذا تجد أهل الشرك كثيراً ما يتضرعون ويخشعون عندها ما لا يخشعون لله في الصلاة، ويعبدون أصحابها بدعائهم ورجائهم، والاستغاثة بهم، وسؤال النصر على الأعداء وتكثير الرزق، وإيجاده، والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ويبذلون لهم النذور لجلب ما أملوه، أو دفع ما خافوه، مع اتخاذهم أعياداً، والطواف بقبورهم، وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على أتربتها، وغير ذلك من أنواع العبادات، والطلبات التي كان عليها عباد الأوثان يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم، فهؤلاء يسأل كل منهم حاجته وتفريج كربتهم، ويهتفون عند الشدائد باسمه كما يهتف المضطر بالفرد الصمد، ويعتقدون أن زيارته موجبة للغفران، والنجاة من النيران وأنها تجب ما قبلها من الآثام، بل قد وجد هذا الاعتقاد في الأشجار والأحجار والغيران، يهتفون باسمها، واسم من ينسبونها إليه من المعتقدين بما لا يقدر عليه إلا رب العالمين، وأكثر ما يكون ذلك عند الشدائد.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: (واتخاذ قبور الأنباء والصالحين مساجد هو الذي أوقع كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك الأصغر). يعني اتخاذ القبور مساجد معنى اتخاذ القبور مساجد هو المكث عنها وإطالة المكث والبقاء عندها، والصلاة عندها والدعاء عندها وقراءة القرآن عندها، هذا يوقع الإنسان إما في الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، إما في الشرك الأكبر إذا دعاها من دون الله أو ذبح لها أو نذر لها أو صلى لها، أو الشرك الأصغر إذا اعتقد أن الدعاء عندهم مستجاب، ولو كان يدعو الله أو يصلي لله أو يقرأ القرآن عنده لله فهذا من البدع، وهذا يكون من الشرك الأصغر.
قال رحمه الله: (فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، كوَدّ، وسواع، ويغوث، وتماثيل طلاسم الكواكب). يعني: قد حصل الشرك بتماثيل القوم الصالحين، مثل قوم نوح لما مات رجال صالحين هذه أسمائهم ود، وسواع، كما في حديث ابن عباس، ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كان ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرًا، أسماء رجال صالحين في قوم نوح فماتوا في زمن متقارب فحزنوا عليهم فصوروا تماثيلهم ليتذكروا عبادتهم ثم عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمل فعبدوها.
قال المؤلف: (فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، كوَدّ، وسواع، ويغوث، وتماثيل طلاسم الكواكب ونحو ذلك يزعمون أنها تخاطبهم وتشفع لهم). يزعمون أن هذه تشفع لهم وأنها تخاطبهم وهذا الشرك بعينه، إذا اعتقدوا أنها تنفع وتضر.
قال رحمه الله: (والشرك بقبر النبي ﷺ أو الرجل المعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر). صحيح كون الإنسان مثلاً يأتي إلى قبر النبي ﷺ أو رجل يأتي إلى قبر يعتقد صلاحه أقرب هذا إلى النفوس من كونه يأتي إلى خشبة أو حجر، النفس تميل إلى هذا يرى أن هذا ينفعه هذا قبر النبي وقبر الرجل الصالح.
قال رحمه الله: (ولهذا تجد أهل الشرك كثيراً ما يتضرعون ويخشعون عندها مالا يخشعون لله في الصلاة). هذا واقع في عباد القبور حينما يأتي إلى القبر الفسيح ويبكي ويتضرع ويحضر قلبه ولا تأتيه الوساوس أبدًا، الشيطان يجعله يخلص للوثن، ما في وساوس، أنت لما تأتي تصلي تأتيك الوساوس، لكن هو ما تأتيه الوساوس؛ لأن الشيطان يحبه الآن، أنت الآن يأتيك الشيطان كالسارق يسرق منك كاللص، لص يريد أن يسرق قلبك يصرفك، أما هو خلاص اللص متمكن منه، فلذلك هم يخشعون.
انظر إلى الرافضة الآن حينما يأتون إلى القبر انظر الدموع تجري على الخدين، بكاء وعويل لكن لغير الله في سبيل الشيطان، قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية/1-5] . على غير هدى ما ينفع البكاء على غير هدى، فهؤلاء يجد نفسه إذا كان عند قبر رجل صالح أو عند قبر النبي ﷺ يجد نفسه خاشع متضرع يعتقد أن هذا النبي أو هذا الولي يشفع له و أنه يقربه إلى الله، فيتضرع ويشفع يبكي وتجد الدموع على خديه ويحصل من حضور القلب والاستكانة الخضوع ما لا يحصل للمصلي في صلاته وهذا على الحق وهذا على الباطل.
قال رحمه الله: (ويعبدون أصحابها بدعائهم ورجائهم، والاستغاثة بهم، وسؤال النصر على الأعداء وتكثير الرزق، وإيجاده، والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات). كل هذا شرك يعبدون أصحاب القبور بالدعاء، الدعاء شرك ورجاء، رجاء العبادة، والاستغاثة، الاستغاثة من الملهوف المكروب، وسؤال النصر على الأعداء، ويطلبون تسهيل الرزق وإيجاز الرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات.
قال رحمه الله: (ويبذلون لهم النذور لجلب ما أملوه، و دفع ما خافوه). ينذر النذر حتى يجلب له ما يحبه ويدفع عنه ما يخافه.
قال رحمه الله: (مع اتخاذهم أعياداً، والطواف بقبورهم-يطوفون بها- وتقبيلها-يقبل التراب-واستلامها)، يستلم كما يستلم الطائف الحجر الأسود هؤلاء يستلمون الوثن، حتى إن عباد القبور من الشيعة وغيرهم جعلوا حج للمشاهد والقبور، حتى ألف النعمان المفيد كتاب سماه " حج المشاهد " جعلوا للقبور حج كما يحج البيت الحرام.
ذكر ابن القيم وصور هذا فإنهم يأتون مقبلين على القبور لهم ضجيج كالحجيج الذين يلبون، فإذا وصلوا إلى هذا الوثن استلموه كما يستلم الطائف الحجر الأسود، ثم يطوفون به سبعًا، سبع أشواط، ثم إذا طاف بالوثن بالقبر صلى ركعتين، ثم إذا صلى ركعتين حلق رأسه، وهكذا ثم يسلم بعضهم على بعضًا ويهنئ بعضهم بعضًا، يهنئه ويسأل له القبول، فإذا قيل لأحدهم: تبيع حجك يا هذا إلى القبر بالحج إلى بيت الله الحرام؟ قال: لا، ولا بألف حجة، هكذا الشياطين والعياذ بالله استولت عليهم وتطورت بهم الحال إلى أنهم يدعون الناس إلى هذا الشرك، في الأول الشيطان يحسن لهم الشرك يقعون في الشرك، الأول يقعون في البدعة ثم يحسن لهم الوقوع في الشرك ثم بعد ذلك يجعلهم دعاة إلى الشرك يدعون الناس إلى الشرك هذه الغاية، ما هو يشرك فقط بل يشرك ويدعو الناس إلى الشرك صار داعية من دعاة الضلال، داعية للشيطان، فهذه كلها الأنواع التي ذكرها المؤلف رحمه الله كلها شرك.
قال المؤلف: (يعبدون أصحابها). بأي شيء؟ كلها عبادة، إما بدعائهم ورجائهم والاستغاثة بهم وسؤال النصر على الأعداء وتكثير الرزق وإيجاده والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ويبذلون لهم النذور لجلب ما أملوه، أو دفع ما خافوه، مع اتخاذهم أعياداً، والطواف بقبورهم، كل هذه من أنواع العبادة، وتقبيلها واستلامها .
(وتعفير الخدود على أتربتها، وغير ذلك من أنواع العبادات، والطلبات التي كان عليها عباد الأوثان). وقع فيها عباد القبور.
(يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم، فهؤلاء يسأل كل منهم حاجته وتفريج كربته، ويهتفون عند الشدائد باسمه كما يهتف المضطر بالفرد الصمد). يهتف باسمه يا علي يا حسين يا عبد القادر الجيلاني يهتف باسمه كما يهتف المضطر بالفرج كما يهتف المؤمن يقول: يا رب يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا قريب مجيب يا سميع الدعاء يا صمد، أنت تهتف باسم الله وهذا يهتف باسم الوثن يا علي يا حسين يا ابن علوان يا عبد القادر الجيلاني وهكذا نسأل الله السلامة والعافية.
قال رحمه الله: (ويعتقدون أن زيارته موجبة للغفران، والنجاة من النيران). هذه المصيبة يعتقد أنه إذا زار القبر وأشرك بالله غفر ذنبه ونجا من النار وهكذا حتى إن بعض الشيعة والرافضة يعطون صكوك للغفران، يعطيك صك بأنك مغفور لك وأنك تذهب إلى الجنة، صكوك الغفران يوزعونها عليهم صك للغفران وأنك مغفور لك وأنت سائر إلى الجنة وهم يشجعونه على الشرك والعياذ بالله نسأل الله السلامة والعافية.
قال رحمه الله: (ويعتقدون أن زيارته موجبة للغفران، والنجاة من النيران وأنها تجب ما قبلها من الآثام). نعم يعتقد أنه إذا زار القبر وذبح له نزره خلاص غفرت الذنوب، ومحت الذنوب السابقة، تجب ما قبلها.
قال رحمه الله: (بل قد وجد هذا الاعتقاد في الأشجار والأحجار والغيران). وجد هذا بعض الناس تعتقد في الشجر أنه إذا دعاه الشجر غفر له أو الحجر أو الغيران، الغيران هو: الغار الذي يكون في الجبل.
قال رحمه الله: (يهتفون باسمها، واسم من ينسبونها إليه من المعتقدين بما لا يقدر عليه إلا رب العالمين، وأكثر ما يكون ذلك عند الشدائد). إذا اضطر أصابته مصيبة أو شدة ركب البحر وتلاطمت به الأمواج وصارت شدة من فقر أو ضرر يهتف باسم هذا الوثن نسأل الله السلامة والعافية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رده على الإخنائي: وهؤلاء الذين يعتقدون أن القبور تنفعهم وتدفع البلاء عنهم قد اتخذوها أوثانًا من دون الله، وصاروا يظنون فيها ما يظنه أهل الأوثان في أوثانهم، فإنهم كانوا يرجونها ويخافونها ويظنون أنها تنفع وتضر.
وقال أيضًا الشيخ سليمان بن عبد الله: فهؤلاء المعظمون للقبور المتخذونها أعيادًا الموقدون عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله ﷺ محاجون لما جاء وأعظم ذلك اتخاذهم المساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر.
ومن يزعم أننا نكفر بمجردها فهو كاذب جائر، وإنما نكذب بالشرك الذي لا يغفر وهو دعاؤها ورجاؤها والاستغاثة بها وذبح القربان والنذر لها لتدفع سوءً أو تجلب خيرًا أو تكون واسطةٌ في ذلك.
(المتن)
فصل:
والله تعالى عز شأنه، قد فسر هذا الدعاء في مواضع أخرى بأنه عبادة محضة، كقوله: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُون مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُون [الشعراء/92-93] . وقوله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُون [الأنبياء/98]. والأنبياء والملائكة والصالحون كل معبود من هؤلاء داخل في عموم قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون [الأنبياء/101] . كما هو سبب النزول.
وقوله عز شأنه: لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون [الكافرون/2] . فدعاؤهم آلهتهم هو عبادتهم لها، ولأنهم كانوا إذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها، ومع هذا فهم يسألونها بعض حوائجهم بواسطة قربهم من الله ويطلبونها منهم بشفاعتهم لهم. فأمر الله العباد بإخلاص تلك العبادة له وحده، فلا يدعونهم ولا يسألونهم الشفاعة، فإن ذلك من المشركين. قال الله تعالى فيهم: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير [سبأ/22] . وقال تعالى: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا [الإسراء/56] .
وإنما ذكر الله تعالى ذلك عنهم لأنهم يدعون الملائكة والأنبياء ويصورون صورهم ليشفعوا لهم فيما دعوهم فيه وذلك بطرق مختلفة.
"ففرقة" قالت ليس لنا أهلية مباشرة دعاء الله ورجائه، بلا واسطة تقربنا إليه وتشفع لنا لعظمته.
"وفرقة" قالت الأنبياء والملائكة لهم وجاهة ومنزلة عند الله فاتخذوا صورهم من أجل حبهم لهم ليقربوهم إلى الله زلفى. "وفرقة" جعلتهم قبلة في دعائهم وعبادتهم.
"وفرقة" اعتقدت أن لكل صورة مصورة على صورة الملائكة والأنبياء وكيلاً موكلاً بأمر الله، فمن أقبل على دعائه ورجائه وتبتل إليه، قضى ذلك الوكيل ما طلب منه بأمر الله، وإلا أصابته نكبة بأمر الله تعالى.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله هنا: (فصل: والله تعالى عز شأنه، قد فسر هذا الدعاء في مواضع أخرى بأنه عبادة محضة). يعني: الدعاء عبادة سماه الله عبادة، الدعاء عبادة من دعا غير الله فقد عبده شاء أم أبى، ثم أنه أخبر أنه عبادة محضة.
قال المؤلف رحمه الله: (كقوله: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُون مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُون [الشعراء/92-93]). مَا كُنتُمْ تَعْبُدُون يعني: تدعونهم من دون الله فسمى دعاءهم عبادة.
قال رحمه الله: (وقوله: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُون [الأنبياء/98] ). إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ يعني الذي تدعونهم سماها عبادة.
قال رحمه الله: (والأنبياء والملائكة والصالحون كل معبود من هؤلاء داخل في عموم قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون [الأنبياء/101]). الآية التي قبلها قال الله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء/98] . فأخبر أن العابدين والمعبودون في النار، العابد والمعبود في النار، لكن هل كل معبود في النار؟ استثنى الله، فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله عيسى عُبد كيف يكون في النار؟ فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون [الأنبياء/101] . يعني الذين سبقت لهم منا الحسنى مثل الأنبياء والصالحين الذين ما يرضون بالشرك، ما يرضون بالعبادة، يعبدوهم ليرضون هؤلاء ليسو في النار إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء/98] . يعني العابدون والمعبودون الذين يرضون بالعبادة، وكذلك الأشجار والأحجار والشمس والقمر توضع في النار مع من عبدها، يعني أن الشمس عُبدت من دون الله والقمر من دون الله يجعل في النار مع عبيدهم، هو وهي الشمس والقمر تكون مع عابديها وكذلك الأشجار والأحجار تكون مع عابديها. طيب والصالحين والأنبياء الذين عبدوا ولم يرضوا، يكون المعبودون في الجنة والعابدون في النار، ولهذا قال الله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون [الأنبياء/101] .
قال رحمه الله: (وقوله عز شأنه: لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون [الكافرون/2] فدعاؤهم آلهتهم هو عبادتهم لها). يعني سمى الدعاء عبادة.
(ولأنهم كانوا إذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها). إذا جاءت الشدائد للكفار تلاطمت الأمواج في البحار خلاص أخلصوا لله يا الله يا الله، فإذا زالت الشدائد رجعوا إلى الشرك هؤلاء المشركون القدامى، المشركون المتأخرون أشد وأغلظ من شرك المتأخرين إذا جاءت الشدائد عند المتقدمين لجأوا إلى الله أخلصوا، إذا زالت الشدائد وجاء الرخاء أشركوا، قال الله: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) [العنكبوت/65] . قال تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء/67] . لكن المتأخرين إذا جاءت الشدائد زادوا في الشرك زادوا لهج لمعبوديهم، فإذا تلاطمت الأمواج قالوا: يا علي يا علي، يا حسين يا حسن، يا بدوي يا بدوي، يا عبد القادر يزدادون لهجًا. فصار شركهم أغلظ من الأولين، الأولين أعقل منهم، أحسن عقول، هؤلاء يشركون في الشدة وفي الرخاء المتأخرون.
قال المؤلف رحمه الله: (ولأنهم كانوا إذا جاءتهم الشدائد دعوا الله وحده وتركوها ومع هذا فهم يسألونها بعض حوائجهم بواسطة قربهم من الله –يعني بزعمهم- ويطلبونها منهم بشفاعتهم لهم). يعني: هم المتقدمون لا يشركون في الشدة لكن مع ذلك يسألونها الحوائج ويزعمون أنها أقرب إلى الله.
(فأمر الله العباد بإخلاص تلك العبادة له وحده، فلا يدعونهم ولا يسألونهم الشفاعة، فإن ذلك من المشركين، قال الله تعالى فيهم: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير [سبأ/22]). هذه الآية يقال: قطعت عروق الشرك، قطعت الأسباب التي يتعلق بها عباد الشرك؛ لأن العابد إنما يعبد المعبدون لما يحصل له من النعيم أليس كذلك لماذا يعبده؟ يريد النفع.
والنفع محصور في أمورٍ أربع:
الأمر الأول: أن يكون المعبود يملك ما يريده العابد منه.
الأمر الثاني: إذا لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك.
الأمر الثالث: إذا لم يكن شريك كان معينًا مساعدًا.
الأمر الرابع: إذا لم يكن معينًا ولا مساعدًا صار شفيعًا عنده.
وهذه الأربع كلها نفيت نفيًا مرتبًا فقال الله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ [سبأ/22]. تعبد من لا يملك، شو الفائدة؟ ما يملك الذي تريد لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ [سبأ/22].
ثم قال: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ [سبأ/22]. هذا الثاني نفى الشركية.
ثم قال: وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير [سبأ/22]. نفى المساعدة.
ثم قال: وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ/23]. فانقطعت جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون فبهذا قال العلماء: هذه الآية قطعت عروق الشرك.
قال رحمه الله: (وقال تعالى: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا [الإسراء/56]. وإنما ذكر الله تعالى ذلك عنهم لأنهم يدعون الملائكة والأنبياء ويصورون صورهم ليشفعوا لهم فيما دعوهم فيه). يعني يصورون صورهم ويزعمون أنهم يشفعون لهم.
(وذلك بطرق مختلفة "ففرقة" قالت ليس لنا أهلية مباشرة دعاء الله ورجائه، بلا واسطة تقربنا إليه وتشفع لنا لعظمته). يقولون: نحن مذنبون ما يمكن أن نكلم الله مباشرة ندعو الله مباشرة، لا، لازم نجيب واسطة مثل الملوك، أنت تستطيع أن تدخل على الملك لوحدك ما تستطيع، لازم لك من واسطة، فقاسوا الرب على الملوك. كما أنك إذا جئت إلى الملك أو رئيس الجمهورية من غير واسطة ما تقدر أن تدخل عليه، كذلك نحن ما يمكن أن ندخل على الرب من غير واسطة، شجر أو حجر أو إنسان نجعله واسطة، هذا قياس فاسد، الله تعالى قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة/186] .ما قال ادعوا لي فلان. فطائفة قالوا: نحن ما نستطيع أن نسأل الله مباشرة لازم نجيب له واسطة مثل الملوك.
("وفرقة" قالت الأنبياء والملائكة لهم وجاهة ومنزلة عند الله فاتخذوا صورهم من أجل حبهم لهم ليقربوهم إلى الله زلفى). فرقة صوروا صور الملائكة قالوا: حتى يشفعون لنا عند الله.
("وفرقة" جعلتهم قبلة في دعائهم وعبادتهم). جعلوهم قبلة في الدعاء وفي العبادة.
("وفرقة" اعتقدت أن لكل صورة مصورة على صور الملائكة والأنبياء وكيلاً موكلاً بأمر الله، فمن أقبل على دعائه ورجائه وتبتل إليه، قضى ذلك الوكيل ما طلب منه بأمر الله، وإلا أصابته نكبة بأمر الله تعالى). هذه الفرقة قالت يعني كل صورة من صور الملائكة فيها وكيل موكل بأمر الله، فمن أقبل على دعاء هذه الصورة وهذا الوثن قضى ذلك الوكيل حاجته، وإلا أصابته نكبة وهذا كله من الخرافات.
(المتن)
فالمشرك إنما يدعوا غير الله بما لا يقدر عليه إلا هو تعالى ويلتجئ إليه فيه ويرجوه منه بما يحصل له في زعمه من الدفاع، وهو لا يكون إلا فيمن وجدت فيه خصلة من أربع:
إما أن يكون مالكاً لما يريد منه داعيه، فإن لم يكن مالكاً كان معيناً، فإن لم يكن شريكاً كان ظهيراً، فإن لم يكن كان شفيعاً. فنفى الله هذه المراتب الأربع عن غيره، الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي لأجلها وقعت العداوة والمخاصمة بالآية المتقدمة وبقوله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء/111] . وقوله: قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون [المؤمنون/88] . وقوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران/26] . وقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر/16] . وقوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار/19] . وقوله مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة/4] . وقوله: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه/108] .
وأثبت ما لا نصيب فيه لمشرك البتة، وهي الشفاعة بإذنه لمن رضي عنه وهو سبحانه يعلم السر وأخفى ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ولهذا لما قالت الصحابة : أربنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ أنزل الله سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة/186].
وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر/43].
(الشرح)
يقول: (فالمشرك إنما يدعوا غير الله بما لا يقدر عليه إلا هو تعالى). يعني يدعو المشرك بأن يغفر له وأن ينجيه من النار أن يدخله الجنة، هذا ما يقدر عليه إلا الله.
(ويلتجئ إليه فيه ويرجوه بما يحصل له في زعمه من الانتفاع، وهو لا يكون إلا فيمن وجدت فيه خصلة من أربع)، هذا الذي قلت لكم خصلة من أربع، يعني: إما أن يكون مالكًا لما يريد منه داعيه، يعني العابد لماذا يعبد؟ يريد النفع، والنفع محصور في أمورٍ أربع:
- إما أن يكون مالكاً لما يريد منه داعيه.
- فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً.
- فإن لم يكن شريكاً كان ظهيراً.
- فإن لم يكن كان شفيعاً.
(فنفى الله هذه المراتب الأربع عن غيره، الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي لأجلها وقعت العداوة والمخاصمة بالآية المتقدمة وبقوله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء/111]). ليس له شريك سبحانه في الملك. (وقوله: قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون المؤمنون/88] . وقوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران/26] ). فإذًا الله هو المالك وليس له شرك. (وقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر/16] . وقوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار/19] . وقوله مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة/4] . وقوله: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا همسا [طه/108] . وأثبت مالا نصيب فيه لمشرك البتة، وهي الشفاعة). الشفاعة أثبتها الله لكن الشفاعة لا نصيب فيها للمشرك الشفاعة خاصة بأهل التوحيد الذين ماتوا على التوحيد.
(وهي الشافعة بإذنه لمن رضي عنه). هذه التي أخطأ فيه المشرك الشفاعة بإذنه لمن .
(وهو سبحانه يعلم السر وأخفى ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. لهذا لما قالت الصحابة : أربنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ أنزل الله سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة/186]. وقال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر/43]).
وثبت في حديث أبي موسى أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا في سفر فارتفعت أصواتهم بالتكبير لما صعدوا، الله أكبر، الله أكبر. فقال النبي ﷺ: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، يعني أرفقوا على أنفسكم، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب من أحدكم من عنق راحلته.
(المتن)
فصل
الموحد من اجتمع قلبه ولسانه على الله مخلصاً له تعالى الألوهية المقتضية لعبادته في محبته وخوفه ورجائه ودعائه والاستعانة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك، والمعاداة فيه، وأمثال هذا ناظراً إلى حق الخالق والمخلوق من الأنبياء والأولياء مميزاً بين الحقين.
وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، ومحبته، وموالاته وطاعته وهذا من تحقيق معنى شهادة "لا إله إلا الله" لأن معنى "الإله" عند الأولين ما تألهه القلوب بالمحبة، كحب الله والتعظيم، والإجلال والخضوع والرجاء بما هو مختص من عند الله وذبح النسك له ونحو ذلك مما لا يكون إلا الله. قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة/165].
فالمحبة التي لله غير المحبة التي مع الله، وقالوا لمن أحبوه كحب الله: تاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء/97-98].
(الشرح)
نعم هذا الفصل بيّن فيه المؤلف رحمه الله الموحد من المشرك، فقال: (الموحد من اجتمع قلبه ولسانه على الله مخلصاً له تعالى الألوهية المقتضية لعبادته في محبته وخوفه ورجائه ودعائه والاستعانة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك، والمعاداة فيه). هذا هو الموحد، الموحد: من اجتمع قلبه ولسانه على الله، مخلصًا له الإلوهية، يعني مخلصًا له العبادة، كالصلاة اجتمع قلبه ولسانه على الله وأخلص له الصلاة، أخلص له الزكاة، أخلص له الصوم، أخلص له الحج، أخلص له الدعاء، أخلص له النذر، أخلص له التضرع، هذا هو الموحد.
(مخلصاً له تعالى الألوهية المقتضية لعبادته في محبته وخوفه ورجائه –أي الله- ودعائه والاستعانة به، والتوكل عليه). كل هذه من أنواع العبادة.
(وحصر الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك، والمعاداة فيه، وأمثال هذا ناظراً إلى حق الخالق والمخلوق من الأنبياء والأولياء مميزاً بين الحقين). يعني تميز بين حق الله وحق الخلق، حق الله العبادة وحق الرسول الطاعة والاتباع والمحبة، ولذا قال: (مميزًا بين الحقين).
(وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، ومحبته). يعني يجب على الإنسان أن يميز بين حق الله وهو العبادة وحلق المخلوق، حق الرسول وهي الطاعة يميز يعلم أن الحق هذا يختلف عن الحق هذا، ويشهد بهذا ويذكر هذا ويكون معروفًا لديه، ويحب ويوالي ويطيع.
ولهذا قال المؤلف: (ناظراً إلى حق الخالق والمخلوق من الأنبياء والأولياء مميزاً بين الحقين، وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، ومحبته).
قال: (وموالاته وطاعته قال وهذا من تحقيق"لا إله إلا الله" لأن معنى "الإله" عند الأولين ما تألهه القلوب بالمحبة، التي كحب الله والتعظيم، والإجلال والخضوع والرجاء بما هو مختص من عند الله وذبح النسك له ونحو ذلك مما لا يكون إلا الله). كل هذا من تحقيق شهادة ألا إله إلا الله؛ لأن معنى الإله الذي تألهه القلب بالمحبة، وتألهه القلوب بالتعظيم والإجلال الخضوع والرجاء، لما هو مختصٌ من عند الله وذبح النسك له.
(قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة/165].فالمحبة التي لله غير المحبة التي مع الله). المحبة هنا المحبة فيها محبة لله ومحبة مع الله، وفي محبة الله، فتكون المحبة: محبة الله هي أصل الدين وأساس الملة، محبة الله هي أصل الإيمان والتوحيد، من لم يحب الله فهو كافر.
الثاني: المحبة لله، كمحبة الأنبياء والصالحين، تحبهم لله؛ لأنهم مطيعون لله.
الثالثة: المحبة مع الله هذه المحبة الشركية، تحب مع الله غيره، وهذه التي تضمنت تسوية آلهة المشركين برب العالمين، كما قال تعالى عنهم لما ألقوا في النار: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء/94-98] .
اعترفوا وهم في النار يقولون: في ضلال مبين، يقول بعضهم لبعض: كنا في ضلال حيث نسويكم برب العالمين، كيف نسويكم؟ يعني: نساويكم نجعلكم ورب العالمين سواء، في أي شيء؟ هل سواهم قالوا: إنهم يخلقون أو يرزقون أو يميتون؟ لا، سووهم في المحبة والتعظيم.
- واضح الآن محبة الله هي أصل الدين وأساس الملة.
- المحبة لله محبة الأنبياء والصالحين لاستقامتهم على طاعة الله.
- المحبة مع الله هذه المحبة الشركية، كمحبة المشركين لأندادهم وآلهتهم مع الله.
(المتن)
(الشرح)
نعم المؤلف رحمه الله يبين أن المشركين ما سووا معبوداتهم بالله في الصفات، ما قالوا صفتهم مثل صفات الله، ولا سووهم في الذات، ما قالوا: ذاتهم مثل ذات الله، وما ساووهم في الأفعال، ما قالوا: أفعالهم مثل أفعال الله كما حكى الله عنهم هم شهدوا بأن الله لا إله إلا هو، وإنما سووهم بأي شيء، سووهم به في المحبة والتعظيم.
قال رحمه الله: (والشاهد لله بأنه لا إله إلا هو، وقائلها نافيا قلبه ولسانه لألوهية كل ما سوا الله من الخلق، ومثبتًا به الإلوهية لمستحقها وهو الله المعبود بالحق، فيكون معرضاً عن ألوهية جميع المخلوقات لا يتألههم بما لا يقدر عليه إلا الله، مقبلاً على عبادة رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب في عبادته ومعاملته على الله ومفارقته في ذلك كل ما سواه). إذًا هذه العبادة تتضمن أي شيء؟ اجتماع القلب في عبادته ومعاملته على الله، ومفارقته في ذلك كل ما سواه.
(فيكون مفرقًا في علمه، وقصده، وشهادته، وإرادته، ومعرفته، ومحبته بين الخالق والمخلوق). يفرق بين الخالق والمخلوق بأي شيء؟ بالعلم يعلم من الخالق؟ هو الرب العظيم، وأن المخلوق مخلوقٌ بعد أن كان عدمًا في علمه وقصده، يقصد الله بالعبادة ولا يقصد المخلوق، والشهادة يشهد بأن الله هو المعبود الحق، وإرادته كذلك ومعرفته ومحبته التي تضمن العمل بين الخالق والمخلوق.
(بحيث يكون عالما بالله، ذاكراً له، عارفاً به، وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم)، مباين يعني منفصل.
قال: (وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم بعبادته، وأفعاله، وصفاته، فيكون محبًا فيه)، يعني: محبًا في الله (مستعينًا به لا بغيره، متوكلاً عليه لا على غيره).
(المتن)
وهذا المقام هو المعني في إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة/5] وهي من خصائص الألوهية التي يشهد له بها تعالى عباده المؤمنون. كما أن رحمته لعبيده، وهدايته إياهم وخلقه السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من الآيات، من خصائص الربوبية التي يشترك في معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، حتى إبليس عليه اللعنة معترف بها في قوله تعالى: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص/79] وقوله: بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ الحجر/39]. وأمثال هذا الخطاب الذي يعرف فيه بأنه ربه وخالقه ومليكه، وأن ملكوت كل شيء في يده تعالى وتقدس، وإنما كفر بعناده وتكبره عن الحق وطعنه فيه وزعمه أنه فيما ادعاه وقاله محق.
وكذلك المشركون الأولون يعرفون ربوبيته تعالى، وهم له بها يعترفون، قال تعالى: قلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سيَقُولُونَ لِلَّهِ [ المؤمنون/84-85]. وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [المؤمنون/ 61] . وقال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت/65] فمن دعا غيره تعالى لم يكن مخلصاً. وقال تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون/81-88]. وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء/69-74] والآيات في هذا الباب كثيرة جداً.
(الشرح)
يقول المؤلف رحمه الله: (وهذا المقام هو المعني في إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة/5]). إِيَّاكَ يعني: نخصك يا الله بالعبادة هذا حصر تفيد النفي والإثبات وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهي من خصائص الألوهية، من خصائص الألوهية العبادة.
(وهو من خصائص الألوهية التي يشهد له بها تعالى عباده المؤمنون. كما أن رحمته لعبيده، وهدايته إياهم وخلقه للسموات والأرض وما بينهما وما فيهما من الآيات، من خصائص الربوبية التي يشترك في معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر). يعني: إن العبادة من خصائص الألوهية، العبادة والاستعانة من خصائص الألوهية التي يشهد بها المؤمنون، كما أن ربوبية الله رحمة الله وهدايته وخلقه السموات والأرض وما بينهما من خصائص الربوبية التي يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، يعني: أن المؤمن والكافر والبر والفاجر كلهم يشتركون في إثبات الربوبية لله يثبتون أن الله له الخلق والرزق والإماتة والإحياء، هذا يشترك فيه المؤمن والكافر، توحيد الربوبية يقر به المؤمن والكافر.
لكن المؤمنون من خصائصهم أنهم يخصون الله بالألوهية والعبادة وحده، خصائص الألوهية يشهدون بها لله، أما خصائص الربوبية يشهد بها المؤمن والكافر والبر والفاجر.
حتى إبليس لعنه الله يشهد لله بالربوبية حتى إبليس وهو رئيس كل كافر وقائد كل كافر إلى النار يشهد لله بالربوبية لكن هل يكفي؟ في الإسلام لا يكفي.
(حتى إبليس عليه اللعنة معترف بها في قوله تعالى: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص/79]). اعترف بالربوبية إبليس.
(وقوله: بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ الحجر/39] وأمثال هذا الخطاب الذي يعرف بأنه ربه). يعني: إبليس يعرف بأن الله ربه وخالقه ومليكه (وخالقه ومليكه، وأن ملكوت كل شيء في يده تعالى وتقدس). هذا يعرفه إبليس وغيره.
(وإنما كفر بعناده وتكبره عن الحق وطعنه فيه وزعمه أنه فيما ادعاه وقاله محق). هذا إبليس معترف بروبية الله ولكن إنما كفره بالعبادة والتكبر على الحق والعبادة، تكبر على الحق وعبادة الله، وطعن في ذلك، وزعم فيما ادعاه وقال هو محق.
(وكذلك المشركون الأولون يعترفون ربوبيته تعالى، وهم له بها يعترفون). ما هو الدليل على أن المشركون يعترفون بربوبية الله؟ (قال تعالى: قلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سيَقُولُونَ لِلَّهِ [ المؤمنون/84-85]). قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف/87] . قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون/84-89]. (وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [المؤمنون/ 61] . وقال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت/65].
فمن دعا غيره تعالى لم يكن مخلصاً وقال تعالى:قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون/81-88]. وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء/69-74] والآيات في هذا الباب كثيرة جداً). هذا كله دليل على أن المشركين أقروا بالربوبية.
(المتن)
والآيات في هذا الباب كثيرة جدًا وروى الإمام أحمد في مسنده والترمذي من حديث حصين ابن عبيد أن رسول الله ﷺ قال: يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ؟ قال سبعة ستة في الأرض وواحداً في السماء. قال: فمن ذا الذي تعد لرغبتك؟ قال الذي في السماء. فقال له رسول الله ﷺ: أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها فأسلم فقال له قل: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَقِنِي شَرِّ نَفْسِي.
فمجرد معرفتهم بربوبيته تعالى واعترافهم بها لم تنفعهم ولم تدخلهم في الإسلام مع جعلهم مع الله آلهة أخرى يدعونها ويرجونها لتقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم عنده، فبذلك كانوا مشركين في عبادته ومعاملته. ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
والدعاء مخ العبادة كما أن الإله اسم المعبود.
وروى النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: إن الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةِ -وفي رواية- مُخُّ العِبَادَةِ ثم قرأ رسول الله ﷺ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر/60] رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً النسائي، وابن ماجه والحاكم والإمام أحمد وابن أبي شيبة بهذا اللفظ.
وهذه الصفة تفيد حصر الدعاء على العبادة فلا يخرج عنها لأنها من الصفات اللازمة التي ليس لها مفهوم يخالف المنطوق كقوله تعالى وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون/117] إذ كل مدعو فهو إله قصد الداعي أن يكون مدعوه إلهاً أم لا، اتخذه المشركون الأولون أم لا، وليس ثم دعاء إله آخر له برهان.
(الشرح)
يقول: (والآيات في هذا الباب كثيرة جدًا)، تدل على أن المشركين إنما يعبدون أوثانهم يدعونها في الشدة وفي الرخاء يوحدون.
قال: (وروى الإمام أحمد في مسنده والترمذي من حديث حصين ابن عبيد أن رسول الله ﷺ قال: يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ؟ قال سبعة ستة في الأرض وواحداً في السماء. قال: فمن ذا الذي تعد لرغبتك؟ قال الذي في السماء. فقال له رسول الله ﷺ: أسلم ). وفي اللفظ الآخر: اعبد الذي في السماء واترك الذي في الأرض. (حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها فأسلم فقال له قل: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَقِنِي شَرِّ نَفْسِي.). والحديث صحيح أخرجه الترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم.
(فقال له رسول الله ﷺ: أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها فأسلم فقال له قل: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَقِنِي شَرِّ نَفْسِي.).
قال المؤلف رحمه الله: (فمجرد معرفتهم بربوبيته تعالى واعترافهم بها لم تنفعهم ولم تدخلهم في الإسلام مع جعلهم مع الله آلهة أخرى يدعونها ويرجونها لتقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم عنده، فبذلك كانوا مشركين في عبادته ومعاملته). يعني: كون الإنسان يعرف ربه ويعترف بها فهذه لا تنفعه وحده ولا تدخله في الإسلام إذا كان يشرك بالله ويجعل مع الله آلهة أخرى، يعني المؤلف يقول: بمجرد المعرفة ما تكفي، معرفة الربوبية، اعترافهم بها لا تنفعهم ولا تدخلهم في الإسلام إذا كانوا يعبدون مع الله آلهة أخرى، ويتقربون بها لتشفع لهم عنده، فبذلك كانوا مشركين.
يعني: بعبادتهم غير الله والتقرب إليها لتشفع لهم كانوا مشركين في عبادتهم ومعاملاتهم.
(ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك).هذا من جهلهم ينفون لله الشريك ومملوكٌ له، فكان النبي ﷺ إذا أرادوا قول: لبيك لا شريك لك، يقول: قفوا عند هذا، أي: لا تقولوا: إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك.
الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ. أي خالص العبادة، وجاء في حديث لكن فيه ضعف الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ.
قال رحمه الله: (الدعاء مخ العبادة كما أن الإله اسم المعبود). الإله اسم للمعبود والدعاء هو اسم العبادة.
قال رحمه الله: (وروى النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: إن الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةِ )، هذا رواه الإمام (...) وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان وهو أصح من حديث الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ. الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةِ. أصح.
وروى النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: إن الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةِ -وفي رواية- مُخُّ العِبَادَةِ ثم قرأ رسول الله ﷺ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ غافر/60] رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً النسائي، وابن ماجه والحاكم والإمام أحمد وابن أبي شيبة بهذا اللفظ).
قال المؤلف رحمه الله: (وهذه الصفة تفيد حصر) ما هي هذه الصفة؟ الدعاء هو العبادة، حصر العبادة في الدعاء؛ لأن الدعاء هو أغلبها أكثر ما يكون الدعاء أكثر ما يصدر من العبد الدعاء،
(وهذه الصفة تفيد حصر الدعاء على العبادة فلا يخرج عنها لأنها من الصفات اللازمة التي ليس لها مفهوم يخالف المنطوق كقوله تعالى وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون/117] إذ كل مدعو فهو إله قصد الداعي أن يكون مدعوه إلهاً أم لا، اتخذه المشركون الأولون أم لا، وليس ثم دعاء إله آخر له برهان). يعني الآية: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون/117]، كلمة: لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، هل هي قيد؟ هي وصف لبيان ما بعدها الواقع أنه لا برهان له، طيب مفهومها أنه إذا دعاء الإنسان مع الله إلهًا له برهان يجوز؟.
الآية تقول: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون/117]، لا يجوز دعاء ما ليس له برهان، فإذا قال إنسان: أنا عندي برهان أدعو إله عند له برهان، يقال: لا، باطل ما في برهان يدل على أن هناك إله يستحق العبادة ما في برهان.
طيب يقال: إيش معنى الآية لا برهان له به؟ يقال: معناها لبيان الواقع، الواقع أنهم يدعون إلهًا مع الله وليس لهم عندهم برهان، هذا المراد بالواقع، وليس المراد أن لها مفهوم وأنه إذا دعا إنسان إلها له برهان أنه يجوز لا، ليس المراد هذا، هذا لبيان الواقع.
فكذلك إذا كان الدعاء هو العبادة، ليس معنى ذلك أنه حصر وأنه خاص، هنا تفيد الحصر والدعاء على العبادة فلا يخرج عنها لأنها من الصفات اللازمة التي ليس لها مفهوم تخالف المنطوق، ليس لها مفهوم، الدعاء هو العبادة ليس معناه أن غير الدعاء ما يكون عبادة.
قال: (إذ كل مدعو هو إله»، كل مدعو هو إله قصد الداعي أن يكون إله أم لا، فإذا دعا شخص غير الله نقول: جعلته إله قال: أنا ما قصدت إله، ما دام دعوته فهو إلهٌ لك، يقول: أنا ما أريده إليه، نقول: هو إله شئت أم أبيت، ما دام دعوته جعلته إليه، هذا معنى قوله: (إذ كل مدعو فهو إله قصد الداعي أن يكون مدعوه إلهاً أم لا، اتخذه المشركون الأولون أم لا، وليس ثم دعاء إله آخر له برهان).
ما في دعاء لإله آخر له برهان، فكذلك أيضًا العبادة من دعا غير الله فقد عبده.
(المتن)
فصل: وضح ما قدمنا أن الله وصف دين المشركين بقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الزمر/3] الآية: فبين في هذه الآية أن قصدهم الشفاعة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أنه قال سألت رسول الله ﷺ أي الذنب أعظم؟ قال: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تصديقها وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان/68].
فبين النبي ﷺ أن أعظم الذنوب الشرك بالله الذي هو جعل الأنداد واتخاذهم من خلقه ليقربوهم إليه وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ.
فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
(الشرح)
يقول المؤلف في هذا الفصل: (وصف الله دين المشركين بقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الزمر/3] الآية). بيّن في هذه الآية أن قصدهم الشفاعة ما قصده إلا الشفاعة وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر/3].
الآية فيها تقدير والتقدير القائلين، والذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إذًا إيش قصدهم من نعبدهم؟ أنهم يقربوهم إلى الله، في الآية الأخرى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس/18] .
المشركون حينما يدعون إلى الأصنام والأوثان أو يبعدون الأشجار إيش قصدهم؟ الشفاعة، قصدهم أنهم يشفعون لهم عند الله وأنهم يقربوهم إلى الله ويقضون حوائجهم عند الله، ما قصدهم أنهم ينفعون أو يضرون لا أو يتصرفون في الكون لا، يقولون: ما يتصرفون في الكون ولا يضرون، لكن هم أقرب منا إلى الله يشفعون لنا فقط، فصار عملهم شرك بهذا القصد، تجد بعض الناس يدعو إلى صاحب القبر تقول له: هذا شرك، يقول: يا أخي أنا أؤذن وأصلي وأصوم تجعلني مثل المشركين، كيف تجعلني مثل المشركين؟. هذه من الشبهة التي أوردها شيخ الإسلام في كشف الشبهات، نقول: نعم أنت إذا فعلت هذا تكون مشرك ما تنفعك الصلاة ولا الصيام.
أرأيت إذا شخص توضأ وأحسن الوضوء ثم خرج منه بول أو غائط يبطل الوضوء ولا يزول؟ أين الوضوء؟ بطل، فكذلك أيها الموحد تصوم وتصلي ثم أشركت، بطل التوحيد، الشرك يبطل التوحيد كما أن البول والغائط يبطل الوضوء فيقول: أنتم مشركون بهذا القصد.
(وفي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال سألت رسول الله ﷺ أي الذنب أعظم؟ قال: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ).تجعل له ند أي مثيل، تجعل له مثيل تدعوه كما تدعو الله، تتقرب له كما تتقرب إلى الله.
(قال: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ). هذا الذنب الثاني قتل الولد خشية الفقر جمع بين الأمرين خطيئة قطع الرحم بقتل الولد، وأيضًا سوء الظن بالله في الرزق، قتل الولد وقطع الرحم وأساء الظن بالله.
(قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ). الزنا حرام، لكن الزنا بحليلة جارك أعظم وأعظم؛ لأنه زنا وخيانة للجار.
(فأنزل الله تصديقها وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان/68])، هذا الشرك وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان/68])، هذا القتل. وَلا يَزْنُونَ
قال: (فبين النبي ﷺ أن أعظم الذنوب الشرك بالله الذي هو جعل الأنداد واتخاذهم من خلقه ليقربوهم إليه). أعظم الذنب الشرك الذي يجعل لله ند يعني مثيل، مثل صاحب القبر يجعلوه مثيل لله، كيف يجعلوه مثيل؟ يدعوه كما يدعو الله، الدعاء لله، فإذا دعوته جعلته مثيل له، صار ند لله.
(واتخاذهم من خلقه ليقربوهم إليه وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، هذه العبادة حق الله. وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، تعتصم يعني تلزموا الكتاب والسنة ولا تتفرقوا تكونوا يدًا واحدة تجتمعون على الإسلام. وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ. تناصحوا ولاة الأمور.
قال المؤلف: (فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه)، الغالي الذي زاد عن الحد، الغالي: الذي يكفر من لم يشرك بالله يكفر الموحدين، هذا الغالي.
والجافي: الذي يقول عن المشركين أنهم مسلمون.
هذا غالي وهذا جافي والحق وسطٌ بينهم، فدين الله وسط بين هذا وبين هذا، لا يغالي الإنسان فيكفر من لا يستحق التكفير ولا يجفوا فلا يكفر من يستحق التكفير، بل يكون وسط، لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، هذا دين الله وسطٌ بين الغالي والجافي.
وفق الله الجميع لطاعته وصلى الله على محمد وآله وصحبه.