بسم الله الرحمن الرحيم
(شرح الشيخ)
هذه الأصول دل عليها كتاب الله وسنة رسوله r وأجمع عليها المسلمون، ولم يخالف أحدًا فيها ولم يُنكر أحد شيئًا منها، مَن جحد شيئًا منها خرج عن دائرة الإسلام وصار من الكافرين، هذه الأصول دلت عليها الكتب المنزلة، والسنن الثابتة، وأجمع عليها المسلمون، ولم يُنكر أو يجحد شيئًا منها إلا مَن خرج عن دائرة الإسلام وصار من الكافرين، قال الله تعالى في آية البر: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}[البقرة:177] خمسة أصول ذكرها.
والأصل السابق قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49]، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2].
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:285].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:136]خمسة أصول.
دلت الآية على أن الكفر هو الكفر بهذه الأصول، ودلت بمفهومها على أن الإيمان هو الإيمان بهذه الأصول، الآية دلت على أن الكفر هو الكفر بهذه الأصول، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:136] فدل على أن الإيمان هو الإيمان بهذه الأصول.
ومن السنة حديث جبرائيل، ما رواه الإمام مسلم في صحيحه مطولًا ورواه البخاري، رواه مسلم في صحيحه مطولًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه البخاري مختصرًا من حديث أبي هريرة في قصة مجيء جبرائيل إلى النبي r في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه من الصحابة أحد، فجاء إلى النبي r فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وسأله عن الإسلام أولًا، ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان، ثم سأله عن الساعة، ثم سأله عن أماراتها.
لما سأله عن الإسلام أجاب بالأركان الإسلام الظاهرة الأربعة؛ وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: صدقت، ولما سأله عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» إذًا هذه أصول الإيمان، قال: «قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهكذا إذا اجتمعا الإسلام والإيمان يُفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة.
وإذا أفرد أحدهما جاء الإسلام وحده، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}[آل عمران:19] فيشمل الأعمال الظاهرة والباطنة، يشمل الدين كله، وكذلك إذا جاء الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ءامنوا }[النساء 136] يشمل الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وإذا اجتمعا كان لكل واحدٍ منها تفسير، إذا اجتمع الإسلام والإيمان كما في هذا الحديث فُسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة، وإذا انفرد أحدهما دخل فيه الآخر، فالإسلام يشمل الأعمال الظاهرة والباطنة وحده، والإيمان كذلك، والدين كذلك، والإحسان فسره بعبادة الله على المراقبة، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه» يعني: مشاهدة، «فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
- على مرتبتين:
المرتبة الأولى؛ وهي الأفضل: أن تعبد الله كأنك تراه.
المرتبة الثانية: فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ثم بعد ذلك سأل النبي r أصحابه: «أتدرون مَن السائل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» فدل على أن هذا كله الدين، وأن الدين له ثلاثة مراتب: الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان، كله دين؛ هذا هو الدين.
وهذه الرسالة الصغيرة تفسير لهذه الأركان الستة، أو فيها كلام مختصر عن ماذا؟ عن الأركان الستة، نقرأ.
(قارئ المتن)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهذا درسٌ في كتاب: "هذه عقيدتي عقيدة أهل السنة والجماعة"؛ لفضيلة الشيخ العلامة "عبد العزيز بن عبد الله الراجحي".
قلتم حفظكم الله ورعاكم وسدد خطاكم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:...
فهذه عقيدتي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ عقيدتي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
الإيمان بالله
أؤمن بالله ربًا وملكًا وإلهًا معبودًا بالحق، وأن الله رب كل شيءٍ ومليكه وخالقه، فهو الرب وغيره مربوب، وهو الخالق وغيره مخلوق، وهو المالك وغيره مملوك، وهو المدبر وغيره مدَبر، وأن الله فوق السماوات مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقه، وأن الله له الأسماء الحسنى التي سمى بها نفسه، أو سماه بها رسوله، وأن له الصفات العلى التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رُسله، وأنه المستحق للعبادة دون ما سواه فهو المعبود بالحق، وغيره معبود بالباطل كما قال تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[الحج:62].
(شرح الشيخ)
الإيمان بالله ويشمل: الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى، والإيمان بربوبيته، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بإلاهيته ووصفه للعبادة.
لا يصلح الإيمان إلا بهذا، أن تؤمن بأن الله موجود سبحانه وتعالى وأنه فوق السموات (وتؤمن بربوبية الله وأنه الرب سبحانه وتعالى، وغيره مربوب، وأنه الخالق وغيره مخلوق، وأنه المالك وغير مملوك، وأنه المدبر وغيره مُدَبر) تؤمن بأن الله سبحانه تعالى هو الذي بيده الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، وإنزال المطر، وتسبيب الأسباب، إلى غير ذلك من أفعال الربوبية وتنسبها وتضيفها إليه سبحانه وتعالى معتقدًا أنه سبحانه وتعالى هو المدبر والمتصرف دون ما سواه وأن ما سواه من الخلق ليس له من الأمر شيء، ليس له من التدبير تدبير هذا الكون شيء، ومَن ادعى أن أحدًا يتصرف مع الله فهو كافر كما سيأتي.
وكذلك أيضاً الإيمان ب يكون بتوحيد الربوبية، هذا يسمى توحيد الربوبية، الإيمان بربوبية الله وهو توحيد الله في أفعاله هو سبحانه، توحيد الربوبية يسمى توحيد الله في أفعاله هو؛ يعني: توحد الله في أفعاله، أفعاله ما هي؟ الخلق والرزق والإماتة والإحياء وإنزال المطر وتسبيب الأسباب، تعتقد أن الله هو الفاعل دون ما سواه، فأنت توحد الله بأفعاله هو. ثم الإيمان بأسماء الله وصفاته التي وردت في الكتاب العزيز أو في السنة المطهرة، تثبتها لله وتعتقد أن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وتؤمن بأن الله هو الرب وهو الخالق، وهو المالك.
تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى بأنه عالم الغيب والشهادة، بأنه الرحمن، بأنه الرحيم، بأنه الملك، بأنه القدوس، بأنه السلام، بأنه المؤمن، بأنه المهيمن، بأنه العزيز، بأنه الجبار، بأنه المتكبر، تؤمن أن الله هو السميع، هو البصير، هو العليم، هو القدير، هو الغفور، هو الرحيم، هو التواب، هو الحميد، هو الغفور إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي وردت في الكتاب وفي السنة، فتوحد الله بأسمائه وصفاته؛ يعني: تعتقد أن الله تعالى له هذه الأسماء الحسنة، وله هذه الصفات العلى، وهو متصف بها على ما يليق بجلاله وعظمته، كل ما أخبر به عن نفسه أو أخبر به عنه رسولهr نثبتها للهU.
وهذا يسمى توحيد الأسماء والصفات؛ يعني: توحد الله بأسمائه وصفاته، فمَن أنكر اسمًا من أسماء الله أو صفةً من صفاته، أو اعتقد أن أحدًا يشارك الله في أسمائه أو في صفاته فهو كافر.
- ومن المعلوم أن أسماء الله أو صفاته نوعان:
النوع الأول: خاصٌ بالله لا يشاركه فيه أحد؛ مثل: الله، لفظ الجلالة لا يسمى به غير الله، فالله هو الإله وهو المألوه الذي تألهه القلوب محبةً وإجلالًا وخوفًا وتعظيمًا ورجاءً، هذا خاصٌ بالله، الرحمن خاصٌ بالله لا يسمى به غير الله، ولما تسمى مسيلمة الكذاب لما تسمى بالرحمن لصق به اسم الكذب، يقول بردزبه: فلا يُذكر اسمه إلا يوصف بالكذب فيقال: مسيلمة الكذاب؛ لأنه تسمى بالرحمن، الأسود العنسي كذاب لكن ما لصق باسمه الكذب لأنه ما أدعى شيء من أسماء الله، فهذا مسيلمة لما ادعى أنه الرحمن لصق به ولزمه اسم الكذب وقُرن باسمه فلا يُذكر اسمه إلا مقرونًا بالكذب، فيقال: مسيلمة الكذاب، ومعلوم أنه الأسود العنسي كذاب، سجاح كذاب، كل مَن ادعى النبوة كذاب، لكن هذا قرن باسمه الكذب لأنه ادعى أنه الرحمن.
كذلك أيضًا من خصائص الله أنه بكل شيءٍ عليم، ما يقال أن أحدًا بكل شيءٍ عليم إلا الله، وأنه على كل شيءٍ قدير من خصائصه أنه على كل شيء قدير أيضًا، فلا يقال أن أحدًا من الخلق على كل شيءٍ قدير، ومن خصائصه أنه الخافض الرافع، وأنه النافع الضار، وأنه القابض الباسط، هذه من أسمائه الخاصة به.
النوع الثاني: مشترك؛ مثل: الرحيم، مثل السميع، مثل البصير، مثل الملك، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[الإنسان:2] فيسمى المخلوق سميع وبصير والله سميع وبصير.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}[يوسف:50] والله من أسمائه الملك، وهكذا: الحي، العزيز من الأسماء المشترك، فإذا سمي الله به فله الكمال، وإذا سمي به المخلوق فله ما يليق به، المخلوق ملك لكن ملكه محدود وناقص ومسبوقٌ بالعدم يسبق به وإما أن يمت عنه وإما أن يُخلع، أما ملك الله فهو تام كامل، والعزيز كذلك فالمخلوق له عزة تناسبه، والله تعالى له العزة الكاملة، وهكذا السميع البصير، المخلوق سميع لكن سمعه محدود والله تعالى له الكمال، البصير؛ فالمخلوق بصير ولكن الخالق له الكمال، وهكذا.
إذًا أسماء الله وصفاته نوعان: نوعٌ خاصٌ بالله لا يسمى به غيره، ونوعٌ ماذا؟ مشترك فإذا سمي الله به فله الكمال، وإذا سمي به المخلوق فله ما يليق به، وهذا يسمى توحيد الأسماء والصفات.
والنوع الثاني: توحيد الألوهية والعبادة؛ وهو أن يعتقد المسلم أن الله هو المعبود بالحق، وأنه لا يستحق العبادة غيره، وكل معبودٍ سواه فهو معبود بالباطل، الشمس عُبدت لكن بالباطل، والقمر عُبدت بالباطل، والنجوم عُبدت بالباطل، والأشجار عُبدت بالباطل، والأصنام عُبدت بالباطل، والآدميون عُبدوا بالباطل، وهكذا المعبودات كثيرة، في الهند يقال ما يقرب من مئة معبود أو أكثر من معبود حتى الفرج عُبد، وهناك مَن عبد الشيطان، وهناك مَن عبد الخيل والإبل والبقر، كلها معبودات بالباطل، أما والعبادة بالحق هي لله U، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[الحج:62].
وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد العبادة والألوهية، توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات تعرف به ربك، معرفة الله أولاَ، تعرف ربك بأسمائه وصفاته وأفعاله، فإذا عرفت هذا المعبود العظيم الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والذي هو المنعم سبحانه، والذي أوجد الخلق من العدم؛ وما من خلق إلا.. من الله عرفت هذا المعبود العظيم فبعد ذلك تعبده بحق وهو توحيد العبادة والألوهية، فإذًا توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد العبادة والألوهية.
وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات هذا أمرٌ فطري أقر به المشركون ولم يُنكره أحدٌ من الأمم، أمرٌ فُطر عليه العباد، إنما النزاع والخصومة بين الأنبياء والرسل في أي شيء؟ في توحيد العبادة والألوهية، في قديم الدهر وحديثه النزاع بين الأمم والرسل في توحيد العبادة والألوهية، وكذلك الآن في يومنا هذا الناس مقرون بربوبية الله، ومقرون بأسمائه وصفاته، لكن في العبادة أشرك كثيرٌ من الناس، فالذين يعبدون القبور يقرون بربوبية الله ويقرون بأسمائه وصفاته، لكن في العبادة فقد عبدوا غيره وصرفوا العبادة لغير الله، ذبحوا لغير الله، ونذروا لغير الله، وطافوا لغير بيت الله وهكذا وسجدوا لغير الله.
إذًا توحيد العبادة والألوهية هذا هو الذي فيه الخصومة والنزاع بين الرسل وبين أممهم، أما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات هذا أقر به المشركون، لا أثر للخصومة، وليس في هذا ولا نزاع بين الرسل وبين الأمم؛ لأنه أمرٌ فطر الله عليه الخلق ولم ينكر هذا النوع من التوحيد وهو توحيد الربوبية والألوهية إلا مَن شذ، [19:37] مجموعة بشرية شذوا فأنكروا توحيد الربوبية كالدهريين الذين أنكروا الخالق، وقالوا: ليس للناس رب، وليس هناك خالق ولا بعث ولا نشور، قالوا: بطونٌ تدفع بالولادة وأرضٌ تبلع بالموت ولا رب ولا شيء، نعوذ بالله، وقد رد الله عليهم بأن هذه المقالة، أو فكل قول لابد له من مستند، لابد له من دليل، وهؤلاء ليس عندهم دليل لا من الحس ولا من السمع، ولا من العقل ولهذا قال تعالى: {30:20} {ومَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يظنون}[الجاثية:34] ما عندهم علم، والقول المرسل الذي لا يُبنى على العلم باطل مردود، لابد لهم من علم.
ومن ذلك من الفرق التي شذت وأنكرت توحيد الربوبية الطبائعيون، الذين يقولون أن الطبيعة هي التي أوجدت الأشياء، الطبيعة هي ذات الأشياء يقول: ذات الأرض أوجدت الأرض، ذات السماء أوجدت السماء، ذات النبات أوجدت النبات، وقد يقولون: إن الطبيعة صفات الأشياء، كالبرودة، والحرارة، والرطوبة، واليبوسة، والملاسة، والخشونة، يقولون: هذه الأشياء هي التي أوجدت الأشياء، كيف الصفات توجد الذات؟! هذا من جهلهم وضلالهم.
ومن المجموعة التي شذت، ومن الطوائف التي شذت عن المجموعة البشرية بإنكار الربوبية من يقولون بالصدفة، {20:22}قالوا: إن العالم وُجد صدفةً، كيف وُجد صدفة؟ يقولون: وُجد صدفة، وهذا من ضلال ترده العقول والفطر فلا يمكن أن يوجد الشيء نفسه، وهل يقول عاقل إن هناك مطبعة انفجرت ولما انفجرت تطايرت الحروف وانضم بعضها إلى بعض وشكلت كتاب، تطايرت الباء بجوار السين وجاءت السين بجوارها و الميم والهمزة واللام حتى تكون بسم الله الرحمن الرحيم، وهكذا، هل يقول هذا عاقل؟! حتى وُجد ومَن يقول: إن العالم وُجد صدفة، الله تعالى رد عليهم بقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] هل خُلقوا من غير شيء، أو هم الخالقون لأنفسهم؟!
لا يمكن أن يكون الإنسان مخلوقًا من دون شيء، لابد له من موجد، ولا يمكن أن يوجد الإنسان نفسه، الإنسان كان عدم والعدم لا يوجد شيئًا، العدم لا يوجد شيء، فإذًا لم يكونوا أوجدوا أنفسهم، وإذا لم يكونوا وجدوا من غير موجد، تعين أن لهم خالق وأن لهم موجد أوجدهم وهو الله، ولهذا قال سبحانه، هذه الآية فيها بيان هذه الأمور الثلاثة: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] فإذا لم يكونوا خُلقوا من غير شيء ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقًا يخلقهم، ولهذا لما جاء جُبير بن مطعم قبل أن يُسلم في الهدنة التي بين النبي r وبين المشركين وجاء من مكة إلى المدينة ومر بمسجد وسمع النبي r ذكر هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور:35] قال: "كاد قلبي أن يطير" دبت الحياة فيه، قال: كاد قلبي أن يطير، وهو مشرك. ثم أسلم
{25:04}كان كافر وقال: "كاد قلبي أن يطير" فتأمل، عقلاء يفهمون هم ليسوا كأمثال كثير من الناس اليوم جهال؛ لا، ولهذا المشركون قال لهم النبي r: «قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا» فرفضوا؛ لأنهم يعرفون معناها، معناها: ترك الأصنام والأوثان، {25:30} قال لهم النبي r: لما قال لأبي جهل «كلمة إذا قلتموها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم، كلمة واحدة، فقال أبو جهل: ما هي؟ كلمة واحدة لنعطينكها وعشرة أمثالها، فقال النبي r: لا إله إلا الله، فرفض ونكس على عقبيه وجعل يقول: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشيءٌ عجاب» عرف معنى هذه الكلمة: لا إله إلا الله؛ لا معبود بحق إلا الله، عرف أن هذه الكلمة تبطل ما عبد من دون الله فرفض.
فلا يقولها المشرك حقيقة إلا إذا آمن حقيقة ودخل الإسلام في قلبه، يؤمن، لكن كثير من الناس لا يفهم معناها اليوم، تجده يقولها بلسانه ولا يعتقدها بأفعاله، يطوف بالقبر وهو يقول: لا إله إلا الله، ما يعرف معناها، {26:19} لكن العرب، الأعراب يفهمون المعاني.
فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أمرٌ فطر الله عليه الخلق، هو وسيلة إلى توحيد العبادة والألوهية، وأشهر وأظهر مَن عُرف تجاهله وإنكاره للخالق فرعون، فرعون هو أشهر مَن عُرف تجاهله وإنكاره للخالق، وكان مستيقنًا به في الباطن لكنه أنكره جحدًا للحق، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل:14].
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} مستيقن بالباطن لكنه جحد عنادًا، هؤلاء الطوائف الذين شذوا من المجموعة البشرية وإلا فإن الإقرار بربوبية الله وبأسمائه وصفاته أمرٌ فطر الله عليه الخلق، ولهذا الرسل ما احتاجوا إلى أن يدعو أممهم إليه؛ لأنهم مؤمنون بذلك، إنما الخصومة والنزاع في أي شيء؟ في توحيد العبادة والألوهية، توحيد العبادة هو حق الله، والعبادة اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، من الأوامر والنواهي، الأوامر تعبد الله بها، والنواهي تعبد الله بتركها.
- والأوامر نوعان:
النوع الأول: أمر إيجاب؛ مثل: أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، قوموا لله قانتين. أوامر وجوب.
وهناك أوامر استحباب؛ مثل قوله r: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» فهو الأمر استحباب.
فأنت تفعل الأوامر سواء أمر إيجاب أو استحباب لإرضاء الله U، تعبد الله بذلك، تعبد الله بالصلاة {28:45}، تعبد الله بالزكاة {28:48}، تعبد الله بالسواك؛ لأن النبي r أمرك به أمر استحباب، وكذلك النواهي تتركها تعبدًا لله، وأعظم النواهي الشرك، لا تشرك بالله شيئًا؛ مثل: لا تقتلوا النفس، لا تقربوا الزنا، وهكذا النهي عن الزنا، عن شرب الخمر، عن قطيعة الرحم، هذه نواهي، عن الغيبة، عن النميمة، يتركها المسلم نهي تحريم، يتركها تعبدًا لله U وخوفًا منه، وقد يكون النهي نهي تنزيه أيضًا يتركه طاعةً لله ورسوله؛ مثل: النهي عن الحديث بعد صلاة العشاء، هذا كراهة تنزيه ليس كراهة تحريم، «وكان يكره النوم قبلها النبي r؛ والحديث بعدها» العشاء، فهذا كراهة تنزيه، فإذا تركه مسلم يصبح عبادةً لله.
فهذه العبادة: الأوامر يفعلها المسلم سواءٌ كان أمر إيجاب أو أمر استحباب، والنواهي يتركها المسلم سواء كانت نواهي تحريم أو نواهي تنزيه، هذه هي العبادة، وهي حق الله U، يجب صرفها لله U، وإذا صرف منها شيئاً لغير الله وقع في الشرك، واختلت العقيدة، إذا صلى لغير الله فسدت العقيدة، ووقع في الشرك، إذا ذبح لغير الله اختلت العقيدة، شرك اثبت لله، إذا نذر لغير الله، إذا طاف لغير بيت الله تقربًا لذلك الغير، وهكذا إذا صام لغير الله أو حج لغير الله أو ركع لغير الله أو سجد لغير الله؛ اختلت العبادة، هذا حق الله U.
فإذا وحد الإنسان ربه في ربوبيته، ووحد الإنسان ربه في أسمائه وصفاته، ووحد ربه في ألوهيته وعبادته وآمن بالملائكة، وبالكتب، وبالرسل، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وآمن برسالة نبينا محمد r، ولم يفعل ناقضًا من نواقض الإسلام، ولم يشركه في العبادة فإنه يكون مؤمن؛ هذا هو المؤمن، وهذا هو الإيمان، وهذا هو الموحد، والموحد ما جزاءه؟ ما جزاء الموحد؟ عن النبي r في حديث معاذ في الصحيحين أن النبي r قال: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العبادة على الله أن لا يعذب مَن لا يشرك به شيئًا» يعني: حق العباد على الله إذا وحدوه أن لا يعذب مَن لا يشرك به شيئًا.
لكن هناك فرقٌ بين الحقين؟ حق الله حق إيجاب؛ العبادة ملزمون بعبادة الله، وأما حق العباد فهو حق تفضلٍ وإكرام، تفضل به سبحانه وأوجبه على نفسه لم يوجبه عليه أحد؛ هو ليس {32:49} بل هو الذي أوجبه من نفسه على نفسه، ولهذا يقول ابن القيم:
ما للعباد عليه حقٌ واجب كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع
إذًا الموحد الذي مات على التوحيد جزائه أن يدخله الله الجنة، وألا يعذبه، لكن أهل الجنة وأهل التوحيد ثلاثة أصناف...